يناير 1982 – ليلة العيد

مجلة الإنسان والتطور

عدد يناير 1982

ليلة العيد

وفاء خليل

البكاء عار يا حسن …. وماذا تفعل والكلابة الحديدية الباردة الصلدة تمسك روحك منذ الصباح، والتى لم تفلح كل تكبيرات العيد أن تنقذك سمنها، أو حتى تخفف من قسوة قبضتها عليك. ماذا تفعل والثقب الذى تمر منه أيام حياتك يتسع يوما بعد يوم

هكذا حدث حسن نفسه وهو مسند ظهره الى سور حديقة الحيوان التى عين شرطيا حارسا لها ضغط بظهره على السور ليتأكد من وجود جسده ولم يمنعه سوى وخز الأشواك الناتئة من أشجار الحديقة فى ظهره من الاستمرار فى الضغط. مرت نسمة باردة واقترحت النسمة عليه أن يرتب أفكاره. وبقوة عارمة وجد نفسه منجذبا أمام السؤال الذى يقصم ظهره والذى تخرج منه كل الأسئلة كالحيات النادرة فى الصحراء المتاخمة لقريته النائية.

البكاء عار يا حسن، عار، أين العدو الذى قالوا له أنه المعتدى علينا وأننا مظلومون  معه. لم يستطيع حسن أن يصارح نفسه بأنه حلم أن يمكر على كل أساليب الصدام بالقوة، ويدعو ذلك العدو ليشاهد روعة الغروب ووفرة المحاصيل فى قريته وليتصالحا ويصطادا السمك سويا من الترعة ويشويا الذرة ويلاعبه العصا أمام الشهود. للجبان والخائن السحق وللمجنون الضرب بالحجارة حتى الموت. كان من السهل اقتطاع الحلم والقائه بعيدا لكى تدوم الأيام. تداخلت أعداء حسن مع اعداء أسرته مع العدو الذى كان يترقب قتاله وكان يحلم بمصالحته وبالانتصار عليه فى حضور الرجال الأشداء. لم يستطيع حسن أن يركز أبصاره على عدو واحد فلم يتأكد من عداوة حقيقية، ولأن الحبيب والصديق يظهران فى المعركة مع العدو، وعدوه غامض، فقد افتقد الصديق وأفتقد العدو وأصبحت ضربات الزمان أذرع مجنونة تخرج عليه من كل اتجاه، سار به الزمان حيث سار، مرت النسمة الباردة وانتزعه الهجير من داخله الى الخارج بقسوة، تآمرت الألوان الصارخة لتأخذه منه. صبايا فى عمر الورود وشباب مصفف الشعر وأطفال وضحكات، يبدو أن الكل هنا يعرف عدوه فحتما ضحكات الكل هى ضحكات النصر على أعدائهم. ومرت صبية تحمل مسجلا حين أعطاها حسن اذنه سمع الموسيقى تئن، وفى اللحظة التى انفتح داخله للخارج قسرا كانت الصبية تمرق وتختفى وسط الضجيج. احتاج حسن الى عزاء وعاد الى نفسه وفكر أن يسمع صوته بأى شكل حتى وهو يغنى، خاف، ذكره خوفه بكل ما مضى، فاشتد الخوف من أن يموت فقيرا وسلم الترقى لجنود الشرطة بطئ بطئ، وخاف أن يغتنى بعد أن قيل له ان الأغنياء هم القوادون واللصوص، مر نسر على رأسه فتطلع له حسن بحزن غامض أليم، عاد للجرن وندى الصباح ولوز القطن ليخفف الألم سدى. فشلت أكوام الأكل أمامه فى أن تجلب طعم أكل أمه ولا صورتها، أصبح للألم والخوف نصيب أكبر، عاجز عن التسليم بالفقر وعن الأمل فى الغنى، خائف من الماضى والغد، حائر فى الاجابة على الاسئلة وبدء الفهم، عاد مرة ثانية ليحاول اكتشاف عدوه. أحس أن عدوه هو احزانه المتسعة الغامضة التى تصهر قلبه وود لو يستريح منها وينام، أسقطه فشل خياله فى قاع ألم أعمق وانسحب سريعا لأعماق كهف اسود، حاصرته ضحكات الخارج وتأوهات ودلال ولعب وضجيج عال الصوت وصرخ داخله صرخة ملتاعة، لم يكن هناك -جبرا- بد من افتراض أن الكل أعداءه، ثم النظر فى امرهم واحدا وحدا . أسقطه ذلك فى تيه اكبر. استغاث بحلم مصارعة العدو وقهره وبدهشة شديدة وجده ما زال قائما وان كان باهتا باهتا، آمل أن يحلمه الحلم الى مرفأ النجاة سريعا، سقط الحلم أما غموض الأعداء وأمام غياب اللعب بالعصا فى مدينة جبانه، لم يبق أمام حسن سوى أن يضغط بظهره أكثر على الأشواك لتنزف دما حقيقيا، وليفر من غياب نقطة بدء ينطلق منها هاربا من الألم الأكبر، ألم احساسه بأنه لا يحيا كما يحيا الخلق وأن الكل تآمر لتخبئة العدو فأصبح بلا صديق ولا عدو .

وحينما أمره رئيسه بالتحرك من حيث يقف الى مكان آخر خرج لوداع الشوكة الناتئة المدببة المسننة المغروزه حتى بداية تضخمها عند الساق فى ظهره وهى ممتزجة بدمه وأحس بها تخرج من لحمه ومن فانلته الداخلية ومن سترته وأقبل بنشاط حزين على البحث عن نقطة جديدة يكون بجانبها شوك جديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *