الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد أكتوبر 1981 / أكتوبر1981-قصة قصيرة المحلفون

أكتوبر1981-قصة قصيرة المحلفون

قصة قصيرة

المحلفون

اختلفت هذه المرة عن كل مرة، ليس فقط لأنه غير القهوة التى اعتاد أن يجلس عليها، بل لعل تغييره للقهوة ذاته كان دالا على أن هذا الاختلاف قد بدأ منذ فترة دون أن يدرى، كان الوقت صباحا ولم يكن قد حضر الى القهوة الا أربعة أشخاص بالتمام شاب يلبس عفريتة ليست متسخة على كل حال، وعامل بناء على ما يبدو، وشيخ معمم ولكنه ليس شيخا بالضرورة، ورجل لا يلبس طربوشا ولكنه يوحى بذلك رغم كل شئ، ولم يكن هذا العدد كاف حيث لابد أن يبلغ المحلفون عشرة ويقال ثمانية ويرد آخرون بل اثنى عشر، ولكن لا مانع أن نضم المعلم الجالس أمام منضدة الحساب والصبى الذاهب العائد بلا داع ولا زبائن، فيبلغ العدد ستة وعلى الله التساهيل. ولسوف أبدأ دفاعى دون انتظار وليكتمل العدد وقتما يكتمل، وحتى لو حضر الآخرون فسابدأ من جديد ولتكن الافادة فى الاعادة حتى تتأكد وجهة نظرى، بل انى لن أنتظر القضاة ولا الدفاع ولا ممثل الاتهام، فهؤلاء جميعا لن يقدموا ويؤخروا فى الأمر شيئا، المهم أن يعلن المحلفون أنى برئ، وساعتها لن يكون هناك أى احتياج لقاض يصيغ الحكم أما الاتهام أو الدفاع فهذا أمر له وجوه، سأتهم من يتهمنى وليدافع كل منا عن حقه فيما يتصور أنه كذلك، لكن القانون يقضى أن يكون المحلفون من نفس البيئة حتى يستطيعوا أن يتقمصونى، ياخيبة أمل الجميع يتقمم ….. يتقمر…. يتقمع….. يتقمش…..، كل ذلك جائز أما أن يتقمص الواحد منا الآخر، فهذا يذكرنى باللغة التى يرفض بها الحمار ويثور ويستهين ويدافع، يقولون أنه يقمص، وهذا أمر أسهل من امرأة وفتاة وباشكاتب ورائد بوليس، وبهذا وحده أستطيع أن أطمئن الى مصيرى بدرجة ما، ها هى السيدة فى الشرفة المقابلة تنشر الغسيل فى هذه الساعة المبكرة من الصباح،تنتهز فرصة طلوع الشمس فى مواجهة هذه الواجهة من البيت قبل أن تستدير، تنحنىبشكل اكروباتى مغامر فيسقط ثدياها بما خطرا حقيقا، لأنه اذا كانت الرأس اثقل من الجسم كما تعلمنا صغارا، فكيف بهاتين البطيختين تطب بهما الكفة فى الشارع دون تردد، اللهم الا ان كانت الثقالات الخلفية وراء سور الشرفة كافية لحفظ التوازن مقابل النهود المطلة، ثم ها هى الصبية بائعة الصحف تكمل العدد ستة، وليكن الأفندى المطربش دون طربوش هو الباشكاتب، اما رائد البوليس تصله كل الأخبار والحجج والأسانيد دون حاجة الى حضوره، فهو يعرف كل شئ لأنه يعرف كل شئ، وحضوره مثل غيابه فى نهاية النهاية.

ليبدأ الدفاع فى سرد وقائع الأحداث بغير صيحة الحاجب أن (محكمة)، لأنه اذا كان الحكم بالبراءة مفروض مسبقا بحيث استغنينا عن القضاة، فما لزوم الحاجب بالله عليكم، ألا يعتبر عمالة زائدة تعطل الانتاج.

الأمر وما فيه، يا حضرات السادة، أنه لا توجد جريمة ابتدأ، ان أركان الجريمة غير متوفرة أصلا، فقد وجدت الضحية دون أى آثار اعتداء، وبالرغم من تأكيد الطبيب الشرعى أن الوفاة غير طبيعية، فالمسألة ينبغى أن يعاد النظر فيها لأن أى وفاة – فيما عدا الانتحار – هى غير طبيعية بلا أدنى شك، اذ لو كان الموت طبيعيا لتغيرت كل القيم السائدة بشكل جذرى، فهل نصدق الطبيب الشرعى أم نصدق ما يجرى حولنا يا أصحاب الفطنة والضمير الحى، ان الأمور تحتاج الى مزيد من البراهين.

أقبل ماسح الأحذية – ثانية – ونقر على صندوقه فى صمت فطلب منه المتهم أن يشترى له الأخبار والأهرام من الصبية على الرصيف المقابل، وفعلا ذهب وعاد واحتفظ دون تلميح سابق ببقية النصف ريال.

والآن هل أطمع من سيادتكم واحدا واحدة وواحدة واحدة أن تتركوا ما جئتم به قليلا، بل أن تتركوا ما جئتم من أجله، فتنظروا الى هذا الشخص الماثل أمامكم فى حجم الانسان العادى وتقولون أنكم رأيتموه اذا كنتم حقا فعلتم ، ثم يبدا الحوار، نعم لابد يرانى الواحد منكم قبل أن يحكم على، والا فعلى أى أساس سوف تصدرون أحكامكم، وقسما بالله العلى العظيم أنى لا اشك لحظة فى عدلكم أو حسن نيتكم، الا ان لى ان ألتمس العفو منكم وأنا أتساءل عن قوة ابصاركم، وهذا أمر خارج عن نطاق الأحكام الأخلاقية لأن أحدا لا يملك التحكم فى قوة ابصاره ، أنها – ياسيادة المحلفين – ليست بضاعة تباع وتشترى يستطيع اى منكم – منا – أن ينتقى العدسات المكبرة   اللازمة لدقة الابصار،والحقيقة وواقع الأمر أن المطلوب فى قضيتنا هذه ليس قوة العدسات ولكن احاطتها، ماذا لو كبرت العدسات المكبرة من فصاحتى دون النظر الى وحدتى وضعف بصرى وقصر يدى، اذا فالتهمة ساقطة من اساسها، اذ أن جسم الجريمة واقع فى منطقة بعيدة عن متناولنا جميعا، وأنا واحد مثلكم تماما، لكن القضاء والقدر هو الذى حدد لنا أدوارنا، أنا متهم وأنتم محلفون…..، ومع ذلك فلسوف أفند لكم الأمر، واذا أقتنعتم بمحاكمة القضاء والقدر بدلا منى، فسوف تحال القضية الى درجة أعلى من هذا المستوى الابتدائى الى مستويات النقض والابرام، وهذا أمر لا يعنينى فى كثير أو قليل بعد الحكم ببراءتى باذن عدلكم وفطنتكم.

ولكن دعونى أخاطب كلا منكم على حدة لعل فى ذلك ما يقربنى من كل واحد حتى يرانى أو يعذرنى.

ينقطع التيار فيلتفت الى العناوين المتاحة (الأرض الجديدة، وادى الراحة،القانون83 واكتشافات البترول) ألا يدل كل ذلك أيها السيدتان والسادة على براءتى؟

ماذا لو كان الزلزال قد قام فانتهت حياة مائة ألف دون اى مبرر منطقى، هل كانت تهمنى؟ هل ستكون هى نفس التهمة؟ هل كنتم ستصدقون أنه ليس لى شركاء فى الجريمة؟ أم كانت الأمور ستسيح ويضيع الحق نتيجة لكثرة عدد الضحايا؟ ان القانون الانجليزى لا يسمح ان يحاكم شخص الا على جريمة واحدة وضحية واحدة، ثم تأتى سائر الجرائم بعد ذلك قياسا وتبعا لهذه الجريمة الواحدة، فماذا يكون الوضع والضحايا مئات الألوف؟ فاذا كان الأمر كذلك – وهو كما ترى فطنتكم (هو كذلك) تماما – فان هذه الجريمة موضوع القضية لا تستأهل منكم كل هذا العناء، وخاصة بعد اكتشاف اثنتى عشرة بئرا للبترول قريبة من الشاطئ.

حضرات السادة المحلفين:

ان حكمكم ببراءتى هوالدليل الأول على أنكم أبرياء مثلى، أما اذا أدنتمونى فلسوف تستريحون بعض الوقت، لأنكم سوف تتصورون أن وجود الفاعل يعنى براءة الآخرين، لأنه يستحيل أن تتم جريمة واحدة من أكثر من فاعل فى نفس الوقت، وقد تغريكم بهذا الاتجاه بعض الأشاعات الاعلامية عن مسلسلات جديدة ليس لها نهاية، ولكنى أحذركم من هذه المناورة، لأن الحكم بعدم براءتى سوف يفتح الباب لاتهام أى منكم فى أى وقت بتهمة لم يرتكبها، انى أنصحكم لوجه العدل أن تتريثوا قليلا قبل أن تتصوروا أن ادانتى براءة لكم، كما أستحلفكم بأولادكم وصحتكم أن يكون الحكم على البراءة هو النتيجة الطبيعية لضعف الرؤية، ولا يكلف الله نفسا الا وسعها، أما مسئوليتى شخصيا،وكذلك مسئولية كل منكم عن (ماهو)، فهذا أمر سوف يتخطى مستوى المحاكم بما فيها النقض والابرام، وسيدخل فى نطاق التاريخ، وفى هذه الحالة لن تكون ثمة محاكمة أو محلفون أو قضاة، وربما لن نكون نحن أيضا هناك، فالحكم شخصى كا الكاذبين، وهذه مسألة قد حسمت من قديم الزمان.

يقترب منه الباشكاتب بلا طربوش ويقول فى طيبة حقيقية……

– صباخ الخير يا أستاذ

ينتبه الأستاذ وقد بدت على وجهه بشائر السعادة ويرد بثقة غير مفهومة البواعث:

– صباح النور.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *