الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يوليو 1981 / يوليو1981- خواطر حول فكرة الروح د.محمد السماحى

يوليو1981- خواطر حول فكرة الروح د.محمد السماحى

خواطر حول فكرة الروح

د. محمد السماحى

فى هذا المقال يتقدم الكاتب فى شجاعة ظاهرة بفتح ملف قضية مهملة – أما خوفا أو تدينا أو علما -، وهو اذ يحاول تفنيد المفهوم السحرى والميتافيزيقى لهذه الفكرة حتى يصل الى احتمال انكار مفهوم الروح أصلا ينتهى الى الرضا ببعد مادى بيولوجى لا يكاد يسبر أعماق المشكلة المتناولة، وبديهى أن الكاتب انما يمثل رأيه أولا وأخيرا، لكن حرصنا على أثارة الحوار وحماية حرية التفكير هو الدافع الحقيقى الذى نرحب من خلاله بهذه المغامرات الإبداعية الخطرة والرائعة فى آن .

تقديم:

ليس غربيا تناول موضوع الروح من زاوية بيولوجية، فعلوم البيولوجيا هى أحق العلوم بهذا الموضوع رغم أن الفلسفة التأملية النظرية قد حاولت عبثا أن تصل فيه الى شئ، ورغم أن البعض يسبغ على هذا الموضوع صبغة دينية فى حين أن الدين لا يقدم معارف ولا يختص بمواجهة مشكلات المعرفة. ولن نتعرض فى هذه الخواطر الى المعانى الأخلاقية والزمرية غير المباشرة عن الروح، ولا الى القيم الأخلاقية التى تنسب الى الروح بمعنى مجازى .

مفهوم الروح كمفهوم سحرى:

تعتبر فكرة الروح من أطراف الأفكار وأكثرها جاذبية بين كل الأفكار التى يتوارثها البشر كما أنها من أكثرها غموضا، فلقد ظهرت هذه الفكرة –  منذ زمن بعيد – نتيجة لتأمل الحياة والموت فى محاولة التعبير عن اختلاف جوهرى(فى الظاهر فقط)، يلحظه الناس بين الجماد والكائنات الحية، وكعادة الأفكار البشرية المتوارثة كانت فكرة الروح منطوية على تناقضات عنيفة ومن هذه التناقضات أن البشر قد اعتادوا تصور كل شئ موجود أو يمكن أن يوجد لابد أن تكون له طبيعة مادية أى كتلة ووزن وأبعاد مكانية، ومع ذلك أعطيت الروح طبيعة لا مادية. وليس هذا هو التناقض الوحيد ،بل أن الروح وهبت قدرة على الخضوع لعامل المكان رغم أنها شئ لا مادى، فهى توجد فى الجسد او متحدة به كما أنها قد تكون متمركزة أما فى القلب أو فى الدم أو الرأس(على حساب الرأى السائد فى كل عصر وقد تكون منتشرة فى كل أجزاء الجسم . وفى مقابل اخضاع الروح لعامل المكان فهى لم تخضع للبعد الرابع أو الزمن ، فالرأى السائد دائما عن الوح هو أنها خالدة وربما كانت أزلية اى أنها تتعالى عن الزمان، ومع أن الروح قد حرمت من الطبيعة المادية – باستثاء امكانية التواجد المكانى – فانها قد منحت خاصية التأثير على الأجسام المادية حيث افترض كثيرون انها محرك الأعضاء الضرورة للحياة .

لقد أدى ازدياد الفارق الملحوظ بين الأحياء والجمادات فى تصورات الشعوب القديمة الى افتراض جوهر اضافى الى جانب الجوهر المادى وتوصلت الشعوب القديمة الى أنه جوهر روحى لا مادى ثم نسبت اليه صفات سحرية بمعنى أنها تتشابه مع السحر فى قدرتها على التأثير دون أن يكون لها ميكانيكية (ميكانزم) مفهومة أو متوقعة وربما كان من المستحيل توقعها لمخالفتها للمنطق، فالحسد وهو صورة من السحر، يسبب الضرر للمحسود دون ميكانيكية ممكنة التصور،  تماما كما يحمى الحجاب حامله من الشر، فالروح سحرية من حيث هى تغير طبيعة الجسد من مادية الى حية، ودون أن يكون التغير من الصورة الجمادية الى الصورة الحية مفهوما او معقولا .

الافتراضيات الضمنية الكامنة فى مفهوم الروح:

مفهموم الروح يتضمن امكانية وجود جواهر متعدة فى العالم( هذا التصور مناقض للعلم الحديث الذى يختزل كل الموجودات الى جسيمات دقيقة وفوتونات) والجوهر المادى واحد منها وكذلك الجوهر الروحى.

ويتضمن هذا أيضا اعتقادا بامكانية تواجد خامات غير مادية فى المكان المادى المحدد بأبعاد مادية .

ويستلزم مفهوم الروح اعتقادا بتخلى الروح عن الجسد لحظة الموت لاختلاف مصيرهما وهو مصير محدد دينيا فى أغلب الأحوال ، وأوضح مثال لذلك هو ديانة الفراعنة فمصير الجسد الى التراب الذى جاء منه، أما الاعتقادات الشائعة عن تناسخ الأرواح او انتقالها الى اجساد مختلفة بعد مغادرتها الجسد الأصلى الذى بدأت منه

(وهذه العقيدة تبدو ذات نظرة اقتصادية !) فهى تتضمن اعتقادا بعدم فردية الروح بدليل انها قد تترك جسد شاب يونانى الى جسد امرأة فارسية . بل انه فى أغلب الأحوال صورت الروح وهى تنتقل بين كائنات مختلفة كالكلاب والبقر ، وهذا ينطوى على اعتقاد فى وحدة الجوهر الروحى لكل الكائنات .

وحتى يتوفر لمفهوم الروح السند النظرى القوى تضمنت فكرة الجوهر الروحى بشكل عام الاعتقاد الكامل فى وجود عالم اضافى غير عالمنا ترتبط الروح به وتنتمى إليه فيمنحها الدعم النظرى الميتافيزيقى اللاهوتى التأملى حيث يشرح مشكلات الروح ومصيرها ومكان تخزينها الى موعد بعثها وتطهيرها فى المطهر أو فى القبر ومايشبه ذلك .

موقف الروح فى الوقت الحالى:

ليس من الصعب التماس العذر لاسلافنا عندما ابتكروا الجوهر الاضافى للكائنات الحية لتمشى ذلك مع حسهم السليم وقتئذ، فهم بعد أن كونوا انطباعا قويا عن تحول الجسد والتراب بعضهما الى بعض اكتشفوا أن الطين لا يكفى لانبعاث كائن حى والا لكان من السهل خبز الحيوانات منه كما يخبز من الدقيق. فلابد اذا أن هناك خامات اضافية لخلق الحياة، لكن مفهوم الروح لايزال قويا حتى اليوم ولم يتحول الى مجرد أثر من أثار الماضى ، والغريب فى ذلك هو أن عددا كبيرا من الناس لا يقتنعون حتى الأن بأن ظاهرة الحياة هى ظاهرة طبيعية  مثل باقى الظواهر ولاحاجة لها الى  تصورات ميتافيزيقية أو ميثولوجية، وفى الوقت الحالى تعددت المعطيات البيولوجية  التجريبية التى توحى بأن المادة الحية ليست نوعا فريدا من الموجودات وانما هى مجموعة متوالية من التفاعلات الكيميائية العادية تنتهى الى الظواهر التى نعرفها عن الحياة من دخول مواد عضوية كطعام بالاضافة الى الأكسجين ( ضوء وثانى اكسيد الكربون فى النبات) وخروج فضلات بعد تخليق طاقة قابلة للتخزين( فى صورة مادة فوسفاتية تدعى A.T.P) تضاف الى ذلك باقى مظاهر الحياة المعروفة للجميع من انقسام خلايا و ازدياد الأجسام فى الوزن والحجم (النمو) والاحساس ببعض مظاهر الوسط الخارجى( رؤية وسمع ولمس) والحركة والتناسل الى آخر ذلك .

ومن لا يقدر مدى الطبيعة الكيميائية لوجودنا لابد أنه لم ير مريضا بازدياد هرمون النمو وقد تحول الى جسد ضخم له رأس كبير وقبيحة مما يورى أن الملامح تتغير بقطرة واحدة من مادة بروتينية تغير طبيعة الهيكل الجسدى .

ولابد أن الأطباء والبيولوجيين يعرفون سقطة علماء الكيماء الحيوية الذين افترضوا أن المادة العضوية ذات طبيعة خاصة جدا، ولا يمكن ان توجد الا بفعل المادة الحية وحدها.كانت هذه سقطة انتهت تماما عندما تم تخليق هرمون الانسولين فى المعمل دون حاجة الى  استخلاصه من غدد الحيوانات، وربما كان السبب وراء افتراض خصوصية المادة العضوية هو صعوبة التخلى عن الاعتقاد فى انتماء الكائنات الحية  الى شئ غير جمادى .

ملاحظات ضد مفهوم الروح:

لايستطيع التصور المفترض للروح أن يفسر عدة ملاحظات تصبح مهمة ثقيلة لو أنه أراد لنفسه – أو بالأصبح أريد له أن يستمر – ومن هذا الغموض المنطقى فى امكانية اتحاد عنصر لا مادى(الروح) بعنصر مادى(الجسد)، فبالاضافة الى استحالة وجود شئ لامادى فى فكرتنا الحالية عن الوجود فان اتحاد كهذا لو حدث لأثبت مادية الروح لكونها تتحد بمادة كيمائية فى الجسم ، ومن المعروف أن الفيزياء تنكرت للاثير وأفترضت أن الفراغ الذى تسبح فيه الدرات ليس فضاء كاملا وانما كتلة مخففة جدا، أى جسيمات قليلة نسبيا فى مكان كبير نسبيا. فأين اذا يمكن لشئ غير مادى أن يوجد وكيف . وهل تنشأ الروح فى الجنين من خارج الرحم أو البيضة أم تنتقل اليه انتقالا ميكانيكيا مع خلايا التناسل؟ لو أنها جاءت من الخارج فمن أين؟ ولو أنها انتقلت اليه مع خلايا ابوية لأصبح لها صفة مادية(وهذه الصفة هى المادية هى الانتقال الميكانيكى عن طريق واسطة حاملة هى الخلايا التناسلية)، كما ان أنسجة الكائن لا تموت كلها فى لحظة واحدة وانما فى توال زمنى فيموت المخ قبل الأمعاء، فهل يعنى ذلك وجود روح لكل نسيج؟ واذا كانت الروح طبيعية فردية فكيف تعمل روح رجل فى جسد رجل آخر عندما تنقل الى الثانى كلية الأول أو دم من الأول، وقد يموت شخص بعد نقل كليته الى شخص آخر، وبذلك يكون للروح عمر أطول، من عمر صاحبها الأصلى!(باعتبار أن كلية الذى مات تحتوى على جزء من روحه لكنها لا تزال حية فى جسم الشخص الثانى، وإذا ما عاشت خلايا مأخوذة من شخص ما فى مزرعة خلوية فى المعمل فهل يكون ذلك بانتقال جزء من الروح الى مزرعة الخلايا؟

ومن المشكلات النظرية الأخرى التى لن يجيب عليها التصور الروحى بسهولة مشكلة استمرار حياة الانسان بالأعضاء الآلية المعدنية التى تستعمل كبديل للأعضاء الأصلية التالفة كمضخة للدم بدل القلب وكأنه من الممكن الآستغناء عن أجزاء من النسيج الحى المحتوى على روح ما، وكذلك امكانية حفظ الأنسجة حية لمدد طويلة مما يجعلنا نتساءل عن سر بقاء اتحاد الروح بالجسد قائما بتأثير التبريد، وهل ذلك يرجع الى أن الروح لها طبيعة مادية والا لماذا حفظها التبريد؟

والخلاصة:

تدلنا العلوم البيولوجية على أن ظاهرة الحياة هى كيميائية مادية ولا داعى لافتراض طبيعة للمادة الحية تتجاوز الطبيعة المادية للتفاعلات الكيميائية، وتوجد ملاحظات بيولوجية عديدة تشير الى أن سر اختلاف المادة الحية عن المادة غير الحية هو تمتع الأولى بسلاسل متوالية من تفاعلات مركبة بشكل يشبه التصميم الآلى البشرى الى حد ما، كما أنه لايبدو على الاطلاق أن هناك احتمال لتغير هذه النظرة الكيميائية للمادة الحية مما يجعل المؤمنين بالجوهر السحرى الروحى اللامادى فى موقف ضيعف وعليهم  ومراجعة تصوراتهم بجدية، وبالاضافة الى ذلك فانه من غير المقبول منطقيا التمسك بتصور خاطئ لمجرد أن بعض اللاهوتيين فى العصور الوسطى الصقوا به بعدا دينيا، فالدين ليس بديلا للمعرفة تماما كما أن المعرفة ليست بديلا للدين،أما الروحيون المعتقدون فى ظواهر خارقة تنسب فيها المعرفة الحدسية والبصيرة الخارقة والقدرة علىالتنبؤ وما يشبه ذلك الى قدرات هائلة للأرواح، فانهم لا يشكلون مشكلة حقيقية أو جادة للعقل، ومن الأفضل عدم الاهتمام بتجاربهم الروحية فى ضوء الوضع الحالى للعلم والى أن يعدوا لأنفسهم منهجا نظريا جديرا بدراسته ونقده.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *