الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يوليو 1980 / يوليو1980-نفس الأسطورة: فى كل زمان ومكان

يوليو1980-نفس الأسطورة: فى كل زمان ومكان

نفس الأسطورة …. فى كل زمان ومكان

تصنيف ….. وتساؤل حول خرافات البشر

د. محمد السماحى

موجز وتعليق

هذه رؤية أسماها كاتبها(تحليلية)، وأراد بها إسهاما فى تحديد مكان الأسطورة من (التطور الإنسانى)، ونحن نتنظر مزيدا من التناول لهذا الموضوع الخطير الذى ربما يرد على بعض التساؤلات الملحة من أمثال: أين موقع ودور الخرافة فى عصرنا هذا من التطور المنتظر؟ وما هى البدائل الخرافية التى نعيشها حاليا ربما تحت أسماء علمية؟ وما هو السبيل لدراسة الخرافة وليس الاكتفاء بالتأريخ لها وكأنها انتهت من حياتنا؟ إلى آخر هذه التساؤلات التى تنتظر مزيدا من الإسهام من الكاتب أو من يشاء مما يثيره ويهمه أمر هذا الموضوع الخطير بحق .

****

لا أعتقد أن الأساطير تحتاج إلى تأكيد أو توضيح لأهميتها وعمقها التاريخى عند الشعوب، فمن الثابت أنها لعبت دورا كبيرا فى التطور الثقافى للبشر كما يتضح للقارئ العادى وعالم الأنثروبولوجى. ولاأظن أن هناك من يستطيع أن ينظر إليها نظرة سطحية على أنها اختراعات فكاهية لأبناء الماضى البسطاء .

كما أنها لا تحتاج إلى تأكيد وظيفتها الاجتماعية التى أدتها فى زمنها ومكانها لكن التشابهات والاختلافات بين أساطير المناطق المختلفة من العالم هى التى قد تحتاج إلى عدة أنواع من الدراسات التحليلية والمقارنة، وهى تحظى حتى الآن بهذا الاهتمام، وفى النظرة الحالية إلى الأساطير سأحاول تصنيف وتقسيم الأساطير بقدر المستطاع كمجرد وسيلة مبسطة – وإن كانت مفتعلة – للنفاذ إليها(1).

فهناك مثلا أساطير متشابهة حكيت عن جميع القديسين والأبطال الكبار مثل بوذا فى الشرق والاسكندر الأكبر فى  الغرب تربط جميها بين مولد هؤلاء العظماء وحدوث ظواهر طبيعية معينة من زلازل وبراكين وأنوار رهيبة فى السماء أو كوراث مدمرة فى المناطق الشريرة من الأرض وهكذا . وهناك أيضا أساطير عن التنبئو بمولد طفل عظيم سيكون له شأن جبار فى العالم، وغالبا ما يكون المتنبئ أمرأة عجوز أو كاهن أو قوم أجانب كانوا يمرون بالصدفة بموطن البطل المرتقب، أو مفسر أحلام ذكى.

كما أن عشرات الأساطير عن الأبطال تحكى عن إلقاء البطل فى النهر أو البحر فى صندوق أو قارب صغير تحت ضغوط معينة كمطاردة الملك له مثلا … ثم عودته مظفرا بعد طفولة نابغة بعيدا عن أهله وشعبه ووطنه،يعود صاحب الأسطورة ليقوم بعملية الخلاص لشعبه المقهور مثلا(2)والغريب ليس فى التشابه بقدر ما هو تباعد المسافات المكانية والزمانية بين الأساطير المتشابهة.فقطعا لم يكن الجرمان يعرفون لغة المصريين، ولا الفرس يعرفون لغة العبريين كما لم يترك شعب من هؤلاء كل أساطيره مكتوبة ومدونة فى متناول الشعوب الأخرى لتطلع عليها وتقتبسها. وهذا النوع الذى ضربنا له مثلا، يمكن تسميته بأساطير التمجيد ويهدف إلى تمجيد البطل أو شعبه أو قبيلته بجعل يوم مولده يوما عجبيا فى التاريخ الأرضى .

هناك أيضا أساطير الخلق وهى من أكثر الأساطير التى تركت لنا من حيث التعدد فكل شعب تصور الخلق على طريقته بل وبأكثر من طريقة وبالتالى بأكثر من أسطورة ولكن الملاحظ أنها كلها تهدف إلى غرضين: أولهما تفسير وجود الأشياء، وثانيهما:

 محاولة وصف موقع الإنسان من الكون . فالانسان عند بلاد ما بين النهرين مجرد خادم للآلهة ليريحها من الأعمال التى كانت تقوم هى بها فى تعمير الأرض. وهو شرير بطبعه على ما يبدو ضمنا لا صراحة فى الأسطورة، لأنه خلق من دم كائن غير محبوب لدى الآلهة بعد أن تم ذبحه بشكل وحشى.

وعند المصريين أساطير كثيرة ساذجة عن الخلق وقد توالت مثل هذه الأساطير مع توالى الأسرات والعصور بحيث يصعب حصرها إلا فى مرجع متخصص.

وتكاد هذه الأساطير تجمع بين قصة الخلق وسر الموت. فعدم الخلود عند بعض الشعوب ليس إلا عقابا للبشر وعند البعض الآخر أنانية من الآلهة(3)لتحتفظ لنفسها بميزة الخلود وعند آخرين مجرد خطأ حدث بالصدفة إذ أوصت الآلهة وسيطا بأن ينقل إلى الإنسان سر الخلود وهو تغيير الجلد كل فترة بجلد كل فترة بجلد جديد فنسى الوسيط واختلط عليه الأمر وأبلغ السر إلى الحية (من فصلية الثعبان) فأخذته الحيات لنفسها وتعلمت أن تغير جلدها وتخلد بينما ساء حظ الإنسان لهذا السبب الساذج وصار فانيا .

ورغم أن هذه الأسطورة نشأت فى جنوب شرق آسيا إلا أن الارتباط بين الحية والخلود فيها يذكرنا بأساطير الشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط ….. وأعتقد أن منظر تغيير جلد الثعبان كان يوحى للانسان القديم ببدء عمر جديد كما أن أحدا فى اعتقادى لم يصادف حية تموت ميتة طبيعية أمامه – إذ أن الإنسان اعتاد الهرب عندما يبصر الحية قادمة – مما ساعد على رسوخ الاعتقاد فى امتداد أجلها، وعند أبناء عمومتنا اليهود فان الحرمان من الخلود ارتبط أيضا بقصة الخلق وبدسيسة الحية وبعقاب الإنسان لأنه أراد منافسة الخالق بالأكل من شجرة المعرفة (وربما كان هذا رمزا لما يؤكد عليه الفلاسفة دائما من استحالة المعرفة اليقينية!) .

وعند البابليين يقال لجلجامش من باب النصحية والإرشاد (إنه ياجلجامش، لاتتعب نفسك فلن تصل إلى الخلود لأن الآلهة قررت قصر هذه الميزة على أنفسها ولو تماديت فى بحثك عنه فسوف نقتلك الآلهة) .

وهناك أساطير قومية ليست قليلة العدد تنبئ كلها عن عودة البطل (المخلص) لإنقاذ شعبه أو لإنقاذ شعبه والعالم أيضا. وهذه العودة نلمحها عند معظم الشعوب مثل أهل حضارة ما بين النهرين (ماردوخ) واليهود والمسيحيين والمسلمين. وبعض المسلمين يؤمنون بالمهدى المنتظر، فمثلا للشيعة فكرتهم الخاصة بعودة مخلصهم محمد المهدى الإمام الثانى عشر والأخير من سلالة على كرم الله وجهه والذى اختفى فجأة سنة880م ليعود مرة اخرى بعد حين لاعلاء كلمة  الشيعة على الأرض.

وليس عجيبا إذن أن تعتقد بعض قبائل أوروبا قبل الغزو الحضارى الرومانى فى عودة بعض أبطالها .

وفكرة (الظهور الثانى) أو عودة البطل فى هذه الأساطير تشير إلى دافع نفسى واضح هو الأمل. لذلك ظهرت كلها فى أوقات القهر – وبالتالى ترعرعت وازداهرت عند اليهود بكثرة ماحولت الأمم المتحضرة التى احتلتهم قهر ثقافتهم واستقطابهم إلى الحضارة الأرقى للمحتل فكانت عودات أبطالهم الدينيين حركة دفاع قوية ضد المؤاثرات الثقافية الأجنبية(4)

ومن أقدم أنواع الأساطير أساطير الطقوس التى تخدم هدفا دينيا محضا. فهى تروى وتغنى وتنشد فى مناسبات دينية معينة من أجل توحيد الناس تحت ديانة متماسكة وحماية هذه الديانة من التغيرات المستمرة مع الوقت واختلاف الظروف.

كما أنها كانت تخدم فى إضفاء رونق منها فقط الجزء الأدبى الذى أخذ شكل الروايات المأثورة التى تحكى على مدى قرون طويلة وتنتقل محرفة من شعب إلى شعب (ثم من كاتب مسرحى إلى آخر فى العصور الحديثة)

وبذلك يصبح لدينا أربعة أنواع رئيسية من الأساطير :

–  أساطير التمجيد للأبطال .

– أساطير الخلق .

– أساطير الأمل أو الظهور الثانى للبطل .

– أساطير الطقوس .

وتبقى مشكلة التشابه فى حاجة إلى مزيد من البحث. فإذا كانت الصدفة قد لعبت دورا فى ظهور نفس الأسطورة بشكل مختلف قليلا فى أكثر من موطن فى بعض الحالات فان الصدفة لن تتكرر عشرات – وأحيانا مئات – المرات .

ومثال على ذلك توجد أساطير الفيضان وأشهرها قصة المحظوظ أو تنابوشتيم ونجاته من الغرق فى سومر وبابل تحت أسماء مختلفة بينما يهلك باقى البشر.

ثم ظهرت نفس القصة فى مصر وكل البلاد التى بها أنهار، وقد يقال أن حدوث الفيضان فى هذه البلاد هو العامل الرئيسى فى تكرار الأسطورة، لكن فى اليونان وكنعان مثلا لا توجد أنهار بينما توجد  أساطير من نوع قصة النجاة من الطوفان ولاتختلف عنها إلا فى الأسماء وأنواع  الكائنات الأخرى التى أخذها البطل معه مثلا .

أما ما يبعث على الحيرة فهو تكرار حادث اغتيال التنين فى معركة قاسية مع البطل وحتى سيجفريد بطل القبائل الجرمانية قد قتل هو الآخر تنينا عظيما وهذه أسطورة من نوع أساطير التمجيد لأنها تمنح البطل قدرات خارقة. ولكن ما أبعد الجرمان زمانا ومكانا ولغة وفرصة للاحتكاك الثقافى عن أماكن أخرى كثيرة قام أبطال شعوبها بقتل التنين بنفس الطريقة ؟

لقد فعلها جلجامش فى بابل وبرساوس وأندروميدا فى اليونان وكذلك هرقل وهيدرا فى اليونان أيضا. ثم فانفير وبيوولف وجرنديل، وقتل التنين قصة منتشرة جدا فى ملاحم البطولات ….. فلماذا التنين بالذات؟ أهى صدفة؟ أم احتكاك غير منظور ولا مفهوم بين الثقافات ؟

ولقد اختار الساخر الأكبر أنا طول فرانس هذه الفكرة فى روايته الساخرة (جزيرة البنجوين)، التى يحكى فيها تاريخ البشر كمثل لحماقة البشرية، فيجعل شعب بنجوينا (أو جزيرة البنجوين) ينصب على نفسه ملكا ذلك الشاب الدجال الذى قتل تنينا وهميا زعم البعض أنه رآه يهدد الجزيرة كما ليلة

ويلاحظ القارئ أننى استبعدت تماما الأساطير (التعليمية والتربوية) التى ظهرت فى حضارات العصور الوسطى غالبا وفى قمة الحضارات القديمة نادرا، بهدف تلقين الناس دروسا فى الحياة: وذلك لاعتبارى هذا النوع تابعا للأدب الهادف الشعبى أكثر من الأسطورة .

 

 [1]- أرجو ألا يؤدى هذا إلى الاعتقاد فى أننى ممن يتوهمون أن النشاطات الانسانية قابلة للتصنيف العلمى على طريقة جدول مندليف للعناصر الطبيعية.

[2] – هذه الحادثة لا تقتصر على التراث العبرى بل توجد لدى عدد كبير من الشعوب وقد اشار إليها أكثر من باحث كل على طريقته الخاصة على أن لها مغزى سيكولوجى معين.

[3] – لكنها أنانية مشروعة لأن الشعوب القديمة أعطت الألهة حق الاستبداد والتجبر عن طواعية كاملة.

[4] – وبدافع مشابه يقوم الدراسون للموسيقى فى بلادنا بتأليف تنويعات على ألحان سيد درويش كلما شعروا بقرب الغزو الكلاسيكى الجارف قادما من الغرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *