الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يوليو 1981 / يوليو1981- عن العلم والفن والمعرفة د.مجدى عرفة

يوليو1981- عن العلم والفن والمعرفة د.مجدى عرفة

عن العلم والفن والمعرفة

د. مجدى عرفة

يناقش هذا المقال قضية العلاقة بين العلم والفن ، وهو يتعرض لها من  جانب محدد يقوم على نوع من الرؤية الكلية التى تحاول التمييز بينهما وتحديد دور كل منهما ومكانه من سعى الانسان إلى المعرفة، وتوظيفها بفاعلية فى خدمة تطوره المتصاعد .

هذه القضية – قضية العلاقة بين العلم والفن ليست جديدة، أو هى من نوع القضايا القديمة الجديدة فى نفس الوقت، بمعنى أن عمق أبعادها وحقائقها النابعة بالضرورة من عمق أغوار العقل الانسانى – حيث العلم والفن جانبين من جوانب نشاطه متناهى التعقيد – هذا العمق يحتاج باستمرار إلى المزيد من الفروض ومحاولات الاستكشاف والاجتهادات .

والاجتهاد الذى أقدمه هنا، هو محاولة لاستكشاف بعض جوانب هذين النشاطين الانسانيين الذين يمثلان دون جدال أبزر دعائم حضارات الانسان والتجسيد الحى لانجازات مسيرة تطوره .

والحديث فى هذه القضية يغرى بالاستطراد والتفصيل بلا حدود، ولكن ما أسعى اليه هو جانب محدد يقوم على نوع من الرؤية الكلية التى تحاول التمييز بينها وتحديد دور كل منهما ومكانه من حركة الانسان وسعيه و تطوره المتصاعد .

ومثل هذا الحديث – فى تصورى أو كما أبغيه – ليس نوعا من ترف النقاش النظرى أو السفسطة العقيمة، وانما هو يهدف الى مزيد من المعرفة قد يكون لها نتيجتها العملية فى التقليل من الحواجز القهرية أو ذلك الفصل العازل بين العلم والفن بحيث تتاح فرصة أفضل لأن يثرى كل منهما الآخر وينعكس ذلك بالتالى فى اثراء مضاعف للتجربة البشرية ككل يسرع بخطوها ويرقى بها .

ما هو الأساس الحقيقى للتمييز بين العلم والفن:

توحى النظرة الأولى إلى العلم (بأسسه الابستمولوجية وفروعه المختلفة الطبيعية والبيولوجية والانسانية…… الخ) من ناحية، ثم إلى الفن (بأشكاله ومجالاته المتعددة من أدب وشعر وتشكيل ……الخ)

من ناحية أخرى ، توحى بأن هناك تمايزا واضحا وفرقا أكيدا، فالفن يبدو أقرب إلى قيم الجمال والأخلاق…. بينما العلم أقرب إلى هدف المعرفة وما يترتب عليها من تطبيقات نافعة فى الحياة الانسانية اليومية، الفن يبدو أقرب إلى الوجدان وما يمكن أن يحركه ويشكله من جمال وقيم ، بينما العلم أقرب إلى العقل ومايمكن أن يثريه من معرفة نافعة، الا أن النظرة الأعمق التى تتجاوز ومظاهر الأمور وتأخذ فى اعتبارها نوعية الفن بمعنى الرؤية الفنية المخترقة لحقائق الوجود…. وليس الفن بمعنى الامتاع أو مجرد الشكل التعبيرى الجمالى، كما تأخذ فى الاعتبار غائية العلم فى سعيه فى الكشف عما يحتويه الكون من نظام وراءه ما وراءه من الجمال والقيم ، مثل هذه النظرة التى تتجاوز أيضا التقسيمات الثنائية التقليدية للانسان (إلى عقل فى مقابل وجدان أو فكر فى مقابل عاطفة …..الخ) يمكن أن تكشف لنا عن أن الفرق الحقيقى بين العلم والفن ليس فى المضمون الذى يتناوله كل منهما ويسعى للكشف عنه .

ان هذا المضمون كما أتصوره واحد وهو ما يمكن أن نسميه بالمعرفة الكلية، وهو تعبير لا يقصد به مجرد المعرفة الفكرية أو النظرية وانما يعنى” اتساع الوعى الانسانى بكل ما يشمل هذا الوعى من أبعاد وجدانية وفكرية فى  ولاف كلى غير قابل للتحليل المختزل أو الفصل المصطنع “.

ان التمييز الحقيقى بين العلم والفن ليس فى هذا المضمون الموحد الذى يسعى كلاهما – كل بوسيلته – للكشف عنه أو تحقيقه، وانما الفارق فى تصورى هو فى درجة الكشف ونوعيته وما يترتب على ذلك من نتائج علمية .

كيف؟

ان العلم معرفة جلية لها ثبات وشمول تصل إلى أكبر عدد من الناس ببساطة ووضوح يتعدى الانكار والتشكيك وتضئ مساحات واسعة من وعى الناس بشكل ثابت ومستمر يترجم إلى فائدة عملية .

بينما الفن يحقق ومضات رؤية خاطفة قد تخترق أبعد مما يحققه السير الأبطأ للعلم وبصور أكثر ابهارا…. ولكنها ومضات خاطفة سرعان ما تنطفئ، وبالتالى لا تكشف فى الوقت القصير المتاح لنا سوى حقائق مبهمة، ويترتب على ذلك أنها لا تقدم معرفة جلية واضحة يمكن التواصل بها بلغة عامة تصل الجميع وانما تقدم رؤى مكثفة كلية مبهمة نوعا أو غير متميزة تماما …… ولا تقبل التواصل الا من خلال لغة خاصة(لغات الفنون المختلفة )وهذا التواصل قد لا يصل إلى عدد كبير من الناس…. وحتى من يصل إليهم يكون بالنسبة لهم أيضا شيئا مبهما بدرجات مختلفة….. وكلما كانت الرؤية أكثر اختراقا ضاقت دائرة من يمكن أن تصل اليهم .

العلم يكشف اختراق الظلال بضوء أقل ابهارا ولكنه ثابت ويغطى مساحات واسعة ويحقق درجة من الوضوح تكشف عن الحقائق فى شكلها المتميز الذى لا يقبل التناقض، وفى نفس الوقت يسمح للجميع، أو لأكبر عدد من رؤيتها بشكل صريح نسبيا وغير مبهم من خلال لغة مشتركة عامة أو مظاهر عينية محددة، بينما الفن يكشف باختراق الظلام إلى مسافات أبعد وبشكل حاد وخاطف، ولكن ما يكشف عنه بهذه الصورة لايكون واضحا وصريحا بالدرجة الكافية للتواصل العام الذى لا يقبل التناقض وانما يقبل التواصل بدرجة محدودة نسبيا من خلال نوعية تتفق مع الطبيعة الكلية أو غير المتميزة لما يكشف عنه . وبينما يمكن التحقق من المعرفة التى يقدمها العلم من  خلال التطبيق العملى النافع بشكل مباشر فى معظم الأحوال فان الرسالة المعرفية التى يقدمها الفن أقرب إلى الاستثارة وايقاظ البصيرة منها إلى احتمالات التطبيق العملى المباشر .

واذا لجأنا إلى صورة تشبيهية وتصورنا الكون أو الحقيقة أمام الانسان كمجال للظلام الدامس يحاول أن يضيئه (أن يعرفه) فان الفن يكون ومضات كاشفة مخترقة سريعة من النور سرعان ما تختفى بعد أن تكشف عن علامات كلية مبهمة أو متقدمة، بينما العلم هو النور(الأقل ابهارا) الذى يبدد مساحات الظلام مساحة بعد مساحة ويضيؤها بشكل ثابت ومستمر وبوضوح كاف لرؤية كل المعالم بشكل متميز أمام الجميع وبصورة يمكن أن تترجم إلى منافع مباشرة.

وهذا التصور يجعل من العلم عملية بطيئة نسبيا وتحتاج لجهد كبير ومثابر ومتصل يتعدى فى معظم الأحوال طاقة الانسان الفرد فى عمره الزمنى المحدود، وذلك بعكس الفن الذى هو نشاط فردى أساسا.

والأمثلة التى يمكن أن تجسد هذا التصور عديدة ومتنوعة ولا مجال لحصرها هنا ولكن يمكن الاشارة مثلا إلى ما قدمه ويقدمه الخيال المبدع والمتقدم للفنانين (مثل دافنشى، وجون فيرن، و: هـ .ج. ويلز …الخ) فى مقابل ما حققه ويحققه العلم من اكتشافات فيما بعد، أو إلى الانطباعات الفنية لأدباء الرحلات (مثلا) فى مقابل ما يكشف عنه ويحققه تطور علم مثل الأنثروبولوجيا وعلم دراسة المجتمعات، كما يمكن أن نراه بشكل عام فى السبق الذى تحققه رؤى الفنانين( أدباء الرواية والمسرح والشعراء خاصة) لأعماق النفس الانسانية وطبيعة المجتمع الانسانى وعلاقاته وقوانينه فى مقابل ما تكشف عنه علوم النفس والاجتماع والاقتصاد، أو العلوم الانسانية عموما بعد ذلك.

التمييز فى مقابل الفصل:

بالرغم من محاولة التفرقة السابقة بين العلم والفن على أساس درجة الكشف المعرفى (الاختراق) ونوعيته(من حيث الوضوح والصراحة والتميز فى حالة العلم) فى مقابل الكلية والتكثيف والتميز الأقل فى حالة الفن) ثم نتيجته (تطبيقه العلمى أو نوع الفعالية المترتبة عليه) بالرغم من هذه المحاولة فى التفرقة فان المقصود ليس الفصل بين ما هو فن وما هو علم، وانما التمييز بينهما .

وعملية التمييز كما أعنيها هنا هى نوع من المقابلة بينهما تهدف إلى الكشف عما هو مختلف أو متباين كما تشمل الكشف عما هو مشترك أو متماثل أو متناظر، بينما الفصل عملية تهدف إلى الكشف عن الفروق بين أشياء منفصلة لا تلتقى، أو لا تنتمى إلى أى منطقة مشتركة، التمييز يحدد علاقة تحتمل مناطق أو مراحل من اللاتميز، ومراحل أو مناطق أخرى من التمييز تتباعد فيها الخصائص وتتباين أو تختلف بشكل مميز، بعكس الفصل الذى يفترض مسبقا الاختلاف والتباين الذى لايحتمل مثل هذا الالتقاء وهذه الوحدة .

والعلاقة بين العلم والفن هى فى تصورى من النوع الذى يحتمل التمييز ولكنه لا يقبل الفصل العازل بين النشاطين .

ولعل أبزر الدلائل على هذا هو ما يتعلق بطبيعة العملية الابداعية فى كلا النشاطين، فالدراسات السيكولوجية فى الابداع تشير إلى أن طبيعة العملية الابداعية قد لاتختلف فى الابداع العلمى عنها فى الابداع الفنى ان لم يتطابقا، فنجد مثلا أن عالما مثل أرييتى Arieti يخضعهما لقواعد مرحلة معينة متقدمة من التفكير هى العمليات الثالثوية  Tertiary Processes بينما يجمع بينهما عالم آخر مثل ألبرت روزنبرج تحت نوع معين منالتفكير الولافى يسميه بالتفكير الجانوسى  Janosian thinking  وأما التباين فهو يأتى فى مراحل تالية من التميز .

فالابداع العلمى يبدأ بنوع من الرؤية الكلية المكثفة أقرب إلى الرؤية الفنية، وفيها ينتقل العالم بما لديه من خلفية(تراث وملاحظات وتطبيقات تجريبية)، بالاضافة إلى الأدوات العملية للتحقق الامبريقى، إلى عملية صياغة شاقة تترجم ما هو كلى وناقص التميز إلى حقائق واضحة وصريحة ومتميزة فى شكل نظريات ثم تطبيقات عملية. ومن ناحية أخرى فان ترجمة الرؤية الفنية إلى عمل فنى أو لغة فنية كثيرا ما تمر بخطوات ليست بعيدة عن النسق العلمى وهو ما وصل بالفن إلى أن أصبحت له معالم ودراسات وأبحاث بل وعلوم ، وأن كان هذا كله لا يغنى بأية حال إذا افتقد الرؤية الفنية الأصلية .

التفاضل بين العلم والفن:

هل يجوز لنا – استكمالا لسياق التمييز بين العلم والفن – أن نحاول أن نفاضل بينهما ونتساءل: أيهما أعلى مرتبة على السلم التطورى للنشاطات الانسانية ؟

ان النظرة التطورية العامة تقول بأن العلم وهو الأكثر تميزا ووضوحا والأقرب إلى منجزات الحضارة العينية هو الأعلى، ويذهب البعض فى ذلك إلى حد التعبير بأنه “ ذروة الفاعلية الانسانية وحد كمالها جميعا ، وهو آخر فصل فى تاريخ الانسانية.”(1)

ان الرؤية الفنية قديمة قدم الانسان: والمناطق التى استكشفها الفن من قديم ليست بعيدة عن تلك التى يستكشفها حتى اليوم . وبدون فارق كبير فى درجة الاختراق، أى أن الرؤية التى كشف عنها الفن من قديم ليست أقل قيمة أو اختراقا من تلك التى يكشف عنها اليوم ….. بل هى قد تكون فى بعض الأحيان نفس الشئ دون فارق كبير اللهم الا فى شكل التعبير أو الصياغة أو لغة العصر(قارن قى ذلك مثلا الشعر القديم والحديث … والأقاصيص والأساطير القديمة… بالقصص والروايات المعاصرة بما فيها  “اللامعقولة” .

وهذا لا ينتقص شيئا من قيمة الفن أو الرؤية الفنية قديما وحديثا، و لكن المقصود هنا ببساطة هو أن فنان الأمس ليس أقل فنا أورؤية من فنان اليوم، لكن عالم اليوم أكثر علما من عالم الأمس.

ان العلم هو الاتساع أو البسط الحقيقى أو الفعلى فى وعى الانسان  بينما الفن هو الارهاصات او النماذج المبكرة .

قد يكون مثل هذا التصور المفاضلة بين العلم والفن صحيحا بدرجة أو بأخرى ولكن الأمر فى تصورى ليس بهذه البساطة، فنحن لانستطيع فى المرحلة الحالية من التطور الانسانى ان نقول بشكل فاصل أو مطلق أن الفن يأتى فى مرتبة أقل تطورا من العلم .

وإذا جاز لنا أن نقول أن التطور فى بعض مجالات العلوم (مثل العلوم الطبيعية) قد صار إلى مرحلة يلاحق معدله فيها( ان لم يسبق) خيال الفن أو إبداعه فإن هذا ليس خاتمة المطاف إذ أن هناك مجالات أو مناطق (مثل العلوم الانسانية عموما ) لازالت لغة العلم ومنجزاته فيها قاصرة عن أن تفى بمتطلبات درجة معقولة من التطور تواكب المعدل الجهنمى فى المجالات الطبيعية.

ولعل هذا ما يخلق فى عالمنا اليوم ذلك الوضع الفريد غير المتوزان بين النمو المفرط فى جانب المعرفة بالطبيعة واستغلالها، وقصور ملحوظ على الجانب الآخر وهو جانب المعرفة بالنفس والمجتمعات والعلاقات الانسانية، فقد زادت المعارف فى جانب عن الآخر الا ان المعرفة الكلية لم تتحقق بدرجة مواكبة حيث بقيت جوانب أخرى من المعرفة قاصرة عن شغل مكانها من ذلك الكل المتناغم المتكامل الضرورى للوصول إلى اتساع حقيقى فى وعى الانسان، وأصبح العالم بذلك فى وضع غريب من القوة العمياء والضعف العاجز فى نفس الوقت، وهو وضع حافل بالمتناقضات ومظاهر التعاسة والاغتراب .

على أنى أخشى ان أكون قد استطردت بعيدا لأن ما أريد أن أقوله هو أن بعض مجالات العلوم الانسانية عموما لا زالت تفتقر إلى لغة أكثر تميزا ووضوحا حيث أن نقصها وعدم تميزها لابد وأن يفتح الباب أمام دور الفن فيها بحيث لا يقل فى أهميته عن دور العلم، بل هو يقدم ثروة من المعرفة يمكن للعلم من خلالها أن يقفز خطوات واسعة عملاقة .

وفى هذا السياق فان ما أملك الحديث عنه هو مجال تخصصى وهو دراسة النفس الانسانية، ففى هذا المجال تتسم الظواهر بطابع خاص من التعقيد والكلية غير القابلة للتجزئ والاختزال التحليلى البسيط مما يجعلها تستعصى على وسائل العلم التقليدية والمستعارة ــ فى معظم الأحوال ــ من مجال مختلف وهو مجال العلوم الطبيعة، وبتعبير آخر فإن لغة العلم فى هذا المجال لم تصل إلى مستوى التطور والتميز الكافى للتعبير الواضح عن نوعية الظواهر والحقائق وأنواع العلاقات والقوانين الخاصة بهذا المجال، وان كانت المحاولات تسير قدما فى هذا الطريق فتتضح المعالم شيئا فشيئا رغم كل شئ.

وفى نفس الوقت فان الفن له فى طبيعة رؤيته الكلية والمكثفة والمحتملة لقصور التميز والقادرة على التعبير عنه ما يجعله قريبا من طبيعة ظواهر هذا المجال ويمكنه من القاء بعض الصور عليها بصورة فريدة، ولهذا أمثلة عديدة فى الاستكشاف الذى قدمته وتقدمه الأعمال الفنية لجوانب وأعماق من النفس الإنسانية لم يصلها العلم بعد وقد لايصلها فى بعض الأحيان وكل هذا يبرر ما يدفعنا إلى الاستعانة بالفن، فما تقدمه الأعمال الفنية لفنان مثل ديستويفسكى مثلا من الكشف عن أعماق النفس الإنسانية وظواهرها قد لا يقل فى قيمته ان لم يزد عن الكشف الذى تقدمه الأعمال العلمية لعالم مثل فرويد (الذى استعان بالأعمال الفنية فى كشوفه العلمية بالفعل) ، أقول قد لا تختلف القيمة وان اختلفت درجة الكشف ونوعيته كما سبق أن ناقشنا .

ولعل فيما تقدمه هذه المجلة تحت عنوان ”الأدب نافذة على النفس” نماذج واضحة تلقى مزيدا من الضوء على هذه الحقيقة .

وما أقصده من هذا ليس بأى حال أن يحل الفن محل العلم فى الكشف عن الحقائق فى هذا المجال….

فلا بديل لتحقيق المعرفة الحقيقية التى تتسم بالوضوح والثبات (النسبى) والتميز والفاعلية المثمرة عن لغة العلم حتى وان عجزت مرحليا، ولكن ما أعنيه هو أن العلم يمكنه أن يستعين بالقدرة الفريدة للفن فى هذا المجال فى استكشاف  الظواهر . . . ووضع الفروض وتحقيقها، وهنا يقتضى أن نرى الفن من خلال المنظور الذى حاولت تقديمه دون تعصبات أو فواصل عازلة بين ما هو فن وما هو علم .

فما هو فن – مرة أخرى – يصلح لأن يكون علامات متقدمة يهتدى بها العلم فى سعيه لتحقيق المعرفة بلغته ووسائله .

وما أقوله هنا ليس بالجديد تماما فقد استشهد رواد أوائل فى علم النفس ( مثل يونج وفرويد) بالفن بشكل فعلى وحيوى فى صياغة نظرياتهم عن النفس الانسانية، ولكن مثل هذا النهج قد تضاءل كما يبدو مع مرور الزمن ، حتى كاد يتوارى من حقل البحث العلمى ، ونحن فى تصورى فى حاجة ماسة إلى اعادة احيائه لأن الذخيرة التى يمكن أن يمدنا بها تنضب ولا تتضاءل بمرور الزمن، فالفن مستمر فى عطاءه كما أن معطيات العلم فى نمو مضطرد مما يفتح المجال لاعادة الرؤية باستمرار والقاء أضواء جديدة، وبتعبير آخر فان هذه المهمة متجددة باستمرار مع استمرار النمو واتساع دائرة كل من العلم والفن مما يسمح بالرؤية  ثم اعادة الرؤية ثم اعادة التفسير بشكل متصاعد يقترب شيئا فشيئا من الحقائق .

ظاهرة العالم الفنان:

لا أقصد بهذه الظاهرة مجرد التداخل او التماثل الذى سبقت الاشارة اليه بين طبيعة العملية الابداعية فى العلم والفن حيث تبدأ العملية العلمية بنوع من الرؤية الشبيهة بالرؤية الفنية، وانما أعنى بها ان يتحول أو يقوم العالم بانتاج فنى ينقل فيه رؤيته بلغة الفن، وهذه ظاهرة واضحة ولها أمثلة عديدة، والتفسير البسيط فى ضوء التصور السابق هو ان الرؤية المخترقة للعالم قد تستعصى على الترجمة إلى اللغة العامة العلمية ولكنها فى نفس الوقت تلح من أجل التعبير والتوصل، وهو موقف معاناة شديد اذا لم يجد حلا فان عواقبه قد تنقلب على صاحبه بما لا طاقة له به، ولأن الترجمة إلى علم ، أى من الوعى الفردى المبهم أو ناقص التميز نوعا إلى وعى متميز فى لغة صريحة قابلة للنقل والتوصيل العام والتحقق العملى بوضوح وبساطة ودون تناقض تحتاج إلى جهد خارق قد يتجاوز طاقة فرد أو عدة افراد فى المدى الزمنى المتاح … فان الفن هو اللغة البسيطة … الأسهل نسبيا والأقرب وإن كانت الأعجز والأقل أثرا وفاعلية نسبيا أيضا .

ولا يمكننا أن ندين أو نقلل من قيمة هذا الحل، بل على العكس فانه قد يكون الأفضل فى حدود ماهو ممكن سواء بالنسبة للعالم الفرد نفسه، أو بالنسبة للآخرين .

ولكن هذا الحل لا يجب أن ينسينا أن العمل الحقيقى بمعنى ما يبقى راسخا وينفع بقيمة فعالة هو فى تلك المنطقة التى تحتاج لجهد مثابر ودؤوب وعناء وصبر لاحدود لهم بعيدا عن أى بريق وفى معظم الأحيان بدون تقدير أو مكافأة، أعنى بذلك منطقة العلم .

ولعل من أشق الأمور أن يشعر انسان ما أنه يقوم بعمل هام وعظيم (بحق وليس توهما أو ضلالا) دون أن “يرى” (بضم الياء) ودون أى عائد، ولا اعنى بالعاند هنا التقدير والاثابة فحسب وانما حتى دون عائد مجرد الاستماع اليه والحوار معه ومحاولة فهمه .

ولكننى أعتقد ان العديد من العلماء قد استطاعوا هذه المعاناة وصابروا على استكمال مهمتهم بقدر ما يسمح لهم قدرهم وقدرتهم وعمرهم…. ثم مضوا فى صمت

أو فى بعض الأحيان وسط ضجيج وهتافات يصبح معظمهم “ بالحالة الانسانية” التى وصل اليها ــ فى غنى عنها .

وأنا هنا لا أبغى تمجيد بطولاتهم فأنا أعتقد أن من يفعل هذا يكون قد وصل الى”حالة إنسانية” لا يحتاج فيها إلى التمجيد ولا يغنيه شئ من ذلك حتى لو أتاه فى حياته قبل أن يمضى، وإنما أنا أقرر واقعا حقيقيا هو من علامات مسيرة التطور الانسانى

[1] –  ارنست كاسيرير  (1961) مدخل إلى فلسفة الحضارة الإنسانية، ترجمة د. إحسان عباس، دار الأندلس – بيروت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *