يوليو1981- الافتتاحية

الافتتاحية

كلما اجتمعنا لنعد العدد الجديد من هذه المجلة القيت فى وجهنا التحديات التى لم تغب عنا أبدا، وفى كل مرة نعانى منها وكأننا نكتشفها لأول مرة، ويثور سؤال وسؤال حتى تتجمع التساؤلات فى علامة الاستفهام الكبيرة:”هل نستطيع ان نستمر دون ان نتراجع عجزا أو نتنازل يأسا أو انهاكا؟” ويبدو الموقف أصعب فأصعب ونحن نقلب المادة التى أيدينا فنستبعد منها الأفكار المعادة والصرخات المستعدية والنبض الفج الذى عجز – رغم صدقه – أن يجد الثوب التعبيرى المناسب، كما نستبعد التحيزات المتعصبة والدفاعية حين تخلو من المحاولة الذاتية المتجددة المجددة، وحين نستبعد كل هذا أو اغلبه فلا يبقى بين أيدينا الا القليل الجديد الصعب نعود نتساءل عن مدى ومدة تحمل قارئنا لهذا الجديد، ونخاف أن يرفضنا القارئ الذى من حقه ان يطلب الأمان والاجابات والجمل الاخبارية، دون الحيرة أو الأسئلة أو الاثارة المعرفية

ولكن الأمر ينتهى بنا فى كل مرة الى أن هذا هو قدرنا وهذه هى مسئوليتنا: أما أن نحملهما مهما بلغت الصعاب أو نتركهما لأهلهما مهما تأخر الميعاد .

ثم ينفذ هذا العدد – مثل كل عدد – الى القراء من خلالنا فى موعده.

ويحتوى القسم الأول كالعادة المقالات والأبحاث العلمية والآراء بشكلها المميز، الا أننا نجد صعوبة متزايدة فى الفصل بين محتويات هذا القسم وبين القسم الثانى اذ  يمثل الخواطر والانطباعات والاتجاهات الشخصية المعانية، واذ ينطمس الحد الفاصل بين الجزئين نكاد نقترب من هدف أبعد لم نلحظه بنفس الوضوح فى البداية.

ويكتب د . مجدى عرفه “عن العلم والفن والمعرفة”  وهو يؤكد ضمنا موقع هذه المجلة فى قافلة الثقافة ومحاولاتها احتواء أى نور معرفى علما كان أم فنا، وهو يذهب فى مقاله الى محاولة توفيقيه (رغم تصوره أنها ولافية) بين العلم والفن كشقيقين متنافسين، وليس كزوجين نقيضين قادرين على الانجاب الولافى فيقوم قلمه “بالطبطبة” على الفنانين وشكرهم على اجتهادهم وجدهم وحسن نيتهم، ولكنه لا يستطيع أن يخفى خطا ثابتا يقلل من قيمة عطائهم المعرفى على الأقل، فهو يكرر وصف اضاءاتهم المعرفية بتعبيرات مثل” .. سرعان ما تنطفئ”،أو “… سرعان ما تختفى …” الخ، ويصفها بالشمول والكلية والابهام معا، ويتفضل كاتب المقال بتفسير ظاهرة الفنان العالم فيكاد يقول انه بانتاجه الفنى انما يخرج من مأزقه الشخصى عن طريق الحل الاسهل، وينتهى – بعد تطييب خاطره – الى أن العمل الحقيقى – يعنى مايبقى راسخا وينفع بقيمة فعالة – انما يقع فى منطقة العلم، وهو بهذا يفتح ملفا لابد أن يعاد فتحه، ونحن ندعو الفنانين خاصة للدفاع عن اسهامهم المعرفى، كما نرجو من العلماء الأمناء الذين تجرؤوا على مراجعة وعيهم ونتائجهم أن يدلوا بدلوهم عن دورهم ودور العلم فى رسالة الجمال، وبذلك وحده يحق لنا أن نأمل فى ولاف أعمق بين العلم والفن يتناسب مع احتياجات الانسان المعاصر الذى لم يعد قادرا على احتواء”خرافات”الفنون العظيمة، ولاهو يستطيع أن يواصل تقديس أرقام العلماء رغم طغيان عائد نتاجهم كما يظهر فى الاغارة التكولوجية المعاصرة إذ هو يأمل ان يسخر العلم لتعميق الهارمونى الوجودى والمعرفى فالايمانى كما أنه لم يعد يكتفى بارهاصات الفنانين راجيا منهم ولهم قدرا أوفر فى اسهامهم المعرفى بما هو أبقى وأنفع .

ويدور الزميل المغامر د.محمد السماحى هذه المرة “حول فكرة الروح”، ولايرعبه أو يحجز على فكره أنها “من أمر ربى” اذ أكاد أسمعه بقول : وماذا أفعل اذا جالت خواطرى حول امر من أمور ربى، الا أننا كما تعودنا على صفحات هذه المجلة لا نكتفى بالتصفيق لشجاعته الظاهرة فى محاولته اقتحام المحظورات، وننتظر شجاعة أكبر حين يستطيع النظر فى شجاعته الحالية لو أنه راجع “حماسه الدفاعى”،إذ لو فعل …. فقد يستطيع أن يخاطر مرة أشد بالنظر فى آلهته البديلة وكبيرها العلم (كما يتصوره) ولكنا لا نملك الا أن نواصل قولنا له : أنه مادام الحوار مستمرا، فلابد أن يتضاءل ظلام الخوف من كل جانب أمام نور المعرفة الزاحف .

ويتحقق املنا فى استمرار الحوار حين يأتينا رد مطول عما سبق ان كتبه الدكتور السماحى فى هذه المجلة – وربما ما حوى هذا العدد – يأتينا من صديق قديم جديد هو وفاء خليل، ونصاحبه فى “مخاطر المعرفة”…ومهارب المواجهة” وهو يسحب د.السماحى من يده، أو من مقود عقله غائصا طافيا كارها محبا راكلاً منطرحا، فيكشف التناقض الثرى ويقول فيه ما يتصور أنه هو، ونسعد ان يأتى الرد من محاور “يحاول” لا من سلطة “تمنع وتدمغ”، أو حكم فوقى يصفع ويهرب، ونحمد للمجلة أن تحفظت فى التجعل بالرد حتى لايكون بمثابة “مصادرة على المطلوب”، ونأمل أكثر فأكثر أن تكون معاركنا من نوع ”جهاد المعرفة”، وليس”تباهى الدفاع” أو “مفاخر التعصب”، فهل يا ترى يستطيع ان يدرك السماحى ما أرده وفاء؟

وهل يدرك فى نفس الوقت ما ينبغى أن يخيفه هو من نفسه اذا لم يحترم مخاوف زميله التى لا شك لها ما يبررها غير ما قال؟ ومن واقع ما قال؟ فاذا لم يفعل اى منهما الا مايطيق وكان ما يطيق هو أقل من فرصة التغير والمراجعة…….. فهل يقدر القارئ على ما عجزنا عنه؟ الا يكفى هذا الأمل دافعا للاستمرار؟

كما يحوى نفس القسم الأول تذكرة بتحذير سبق أن أعلنته هذه المجلة فى حينه عن سوء استعمال العلوم النفسية، ذلك أن لعبة السياسة تحت ثوب العلم خدمة للتعصب الدينى والعنصرى قد تمادت وتعددت اشواطها وتوزعت أدوراها حتى وجب أعادة التحذير واستثارة اليقظة فيما يخص هذا التداخل الخطر”بين السياسة والعلم والدين)

ويؤكد مهما طال الزمن أن  “البقاء للأنفع” .

وتعود الزميلة د.”هناء سليمان” لتترجم لنا مقدمة ”رؤى الفلسفة” لبياجيه فى محاولته تحديد العلاقة بين علم النفس والفلسفة، وهكذا تحتل قضية المعرفة مساحة أوسع وأوسع من صفحات هذه المجلة لا باعتبارها قضية نظرية بحتة وانما من منطلق تأثيرها على التركيب المفهومى والفعل اليومى للانسان حالة كونه “موجودا واجدا فى أن”، وتعد المترجمة بمواصلة تلخيص الكتاب برمته .

ويحتوى القسم الأول أيضا تحديا جديدا” المأزق….والتحدى” يلقيه فى وجوهنا وفى وعيه معا (المهندس) ابراهيم عادل حسن فيهددنا بالفناء النووى اذا نحن لم …،

ولكنه فى نفس الوقت يفتح لنا بابا للأمل فى ايمان ذكى مسئول يمنعنا أن ننتحر

غباء وكفرا، وتسعد هذه المجلة اذ يتحقق أملها اكثر فأكثر فى اتاحة الفرصة: فيعود من حق الانسان غير المتخصص أن يفكر بشجاعة فى كل ما يقلق وعيه، وأن يترجمه بصدق مسئول الى كلمات، وأن يجد الفرصة أن يسمع له، دون أن يعتبره العقلاء الواقعيون العمليون”خاليا مضيعا لوقته متحذلقا” لمجرد أن اللغة التى يتحدث بها لا تتوقف عند مشاكل الأسعار وقبح الموضة وسب الساسة أو حتى ما يشغل ديكورات عقل المثقفين المتفرجين .

وعند محاولة تكملة ”حالة زهران” والنظر فى “أحواله” تواجهنا صعوبات أدبية متزايدة بشأن سماحنا لأنفسنا باكمال عرض هذه النفوس بالأسلوب الذى حاولناه فى الأعداد السابقة ،

ويكاد ينتصر الاتجاه القائل بعرض الظاهرة دون الحالة، ولا نستطيع أن نجزم مسبقا إلى أى ناحية سترجح كفة الميزان ونأمل من القارئ أن يدلى برأيه فى هذا الصدد حتى نوازن بين فائدة النشر وبين مخاطر الكشف عن خبرات شديدة الخصوصية قد لايكفى لاحترامها وتعميمها استعمالنا أسماء مستعارة.

ونخاطر فى هذا العدد فنتخذ موقفا من مقتطف من أخر أعمال أ.د. صلاح مخيمر المنشورة، ونحاول بهذا أن نفتح جبهة نعلم ما ورائها ونحسب حسابها آملين مع المثابرة والاصرار أن تعرف مختلف الاتجاهات أين نحن وكيف يمكن أن نتعاون .

ونفتقد فى هذا العدد باب ”الأدب نافذة على النفس” واعدين بمواصلة فتح النوافذ فى العدد القادم .

ثم نواكب نبضات الناس وتلقائيتهم فى القسم الثانى كما يعيشونها فيصيغونها فننقلها لرفاق الطريق، فنجد فيه ما هو شعر، وما هو نبض أشعر من الشعر، كما نجد التأمل والفكرة الملحة والطلقة الكلمة الحكمة والقصة القصيرة، ويتقدم زميلان فى شجاعة أصحاب الخبرة والوعى ليتحدثا عن بعض الرسائل الخبراتية التى تلقوها أثناء ممارستهم العلاج الجمعى مما يوقظ ويرغب و ينمى فى آن.

ونغامر مع الفنان عصمت داوستاشى فننشر للأول مرة صورة صامتة تتحدد أبعادها وظهورها وتسلسلها من خلال نقش بالكلمات، ونحاول ان نغرى القارئ بذلك أن يكون هو  مخرج هذا السيناريو بخياله الابداعى دون وسيط .

وأخيرا – كالعادة – نجلس حول مائدة الفكر لنعيش حوارنا الذى لاينقطع، داعين الى حلبة العقول والوعى اصدقاء جددا جبنا الى جنب مع أهل البيت الذين تعلموا أن يتقربوا اذ يبتعدوا وبالعكس، والدعوة عامة بشروط صدق المحاولة وجدية المقاومة، ومسئولية الاختلاف والالزام بالنظر فى البدائل.

وتستمر المسيرة بكل الأمل ومنتهى الاصرار رغم خوف الانهاك وحسابات الوحدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *