الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد ابريل 1981 / ابريل1981-حول نظرية المعرفة والبحث العلمى

ابريل1981-حول نظرية المعرفة والبحث العلمى

عدد ابريل 1981

حول نظرية المعرفة والبحث العلمى

د. محمد السماحى

الموجز

من موقف ناقد يتعرض هذا المقال لنظرية المعرفة إبتداء من أسسها الأولية، وهو فى القسم الأول يتحدث عن الفروض السبقية التى جعلت المعرفة ممكنة ويبين أنها غير مبرهن على صحتها وسابقة على التجربة وأنها فى رأى الكاتب مستمدة مما يسميه بالحس السليم وهو يعبر عن اعتقاده فى  أن اللجوء إلى التصورات السبقية قد تم بغير وعى عقلى أن نتائج هذه العملية كلها لاتزال غير محسوسة لدى الناس رغم ما قد تؤدى إليه من المزيد من الانسياق وراء اتجاهات بعينها خاصة فى العلم الطبيعى .

وفى القسم الثانى ينتقل الكاتب إلى نقاش حول المنطق وعلاقته بالحس السليم حيث يحاول أن يبين إلى أى مدى ينبع المنطق الصورى فى الأصل من هذا الحس السليم.

1- حول مشكلة المعرفة وخطورة الأفكار السبقية

كون المعرفة ممكنة أم غير ممكنة ليس أمرا بديهيا ولا سهلا كما يتوهم من لم يعتادوا قراءة الفلسفة. فكون المعرفة الموضوعية اليقينية ممكنة هو من أهم قضايا الفلسفة التى تعبر عن مشكلة حقيقية غير مصطنعة وغير تكنيكية بالإضافة إلى أنها مشكلة غير سهلة الحل.

ويمكن التعبير عن المسألة الرئيسية فى مشكلة المعرفة فى سؤال بسيط :

هل ما نعرفه يعبر فعلا عما يحدث فى العالم خارج حواسنا وإدراكنا؟ علما بأننا نستعين فى محاولة المعرفة بحواس محدودة وعقل مصنوع من مادة طرية كثيرة الدهن والماء.

ولقد كان السلوك الإنسانى تجاه مشكلة المعرفة عمليا فى معظمه، فالصعوبة الحل النظرى لمشكلة المعرفة كان على الإنسان إما الانتظار إلى يوم يجئ فيه الحل ثم بدء إنشاء معرفة على ضوء الحل المنتظر وإما المضى قدما فى إنشاء المعرفة دون انتظار للتأكد من صحة الأسس التى تنشأ عليها المعرفة هذه.

ولقد اختار الإنسان بدوافع عملية الحل الثانى فقام دون  وعى نظرى بافتراض المبادئ الأساسية التالية كخطوات نحو جعل المعرفة ممكنة الإنشاء ولو مؤقتا إلى حين إعادة مراجعة أسسها وربما إعادة بنائها كلها:

1- افتراض نظرى ضمنى بأن العالم الخارجى موجود.

2- وأنه قابل للفهم وبالتالى يمكن تكوين معارف عنه.

3- افتراض المبادئ السبقية ”القبلية”  للتفكير.

1- أما عن الفرض بأن العالم الخارجى موجود فربما لا نلاحظ هذا الفرض أبدا اعتقادا منا بانه أمر بديهى ولايحتاج إلى افتراضات نظرية. والحقيقة أنه لايوجد أى برهان منطقى على وجود العالم وان كانت هناك محاولات للاستدلال غير المباشر على وجوده. حقا أن الخبرة التجريبية البشرية تؤيد وجود العالم ولكن يبقى احتمال ضعيف بصحة الزعم الذى روج له قلة من الشكيين بأن العالم قد يكون توهما ذهنيا وكأنه حلم! وربما كان لكل واحد منا دليله الخاص على وجود العالم وجودا موضوعيا مستقلا عن الذات، فبعضنا يكتفى بخبرته الحسية بالأشياء وبعضنا له “كوجيتو” (1) من نوع خاص به ولكن من لهم صلة بالعلوم الفسيولوجية لابد لهم ملاحظاتهم عن استحالة عمل الحواس كلها بشكل منسق لإنشاء إحساس عقلى بالعالم فى غياب مؤثرات فيزيائية حقيقية من ضوء وصوت وحرارة. ونظرا لتعدد الخبرات التجريبية والحسية اليومية بالعالم فان الشك فى وجوده لم يصمد فى أى عصر فلسفى أبدا رغم غياب أى دليل منطقى مباشر على وجودالعالم .

2- وأما عن الفرض الثانى الخاص بقابلية العالم للفهم فبدونه لايقوم أى علم وتصبح أى معرفة من ناحية المبدأ غير مشروعة. وللأسف لايوجد دليل واحد على أن ما يمكننا معرفته عن العالم يمثل حقيقية الأشياء وطبائعها”أى ليس مجرد ظواهر للأشياء دون جوهرها الحقيقى”، بل أن بعض الفلاسفة يشك حتى فى إمكان معرفة الظواهر ويرى أن كل معرفة عن الأشياء هى إدراك محور غير مباشر وكأننا نرى رموزا للشئ لا صورا طبق الأصل أو حتى صورا باللونين الأسود والأبيض مصغرة أو مكبرة او حتى مهزوزة قليلا.

كما أننا لا نملك ضمانا بتطابق احساساتنا مع صفات المؤثر الفيزيائى الذى يسبب هذه الإحساسات وربما احتاج هذا التطابق لكى يتحقق إلى صدفه موفقة أو ضربة حظ عظيمة (2)

ولكن لكى تستمر المعرفة ممكنة القيام علينا أن نقبل هذا الفرض الضمنى بإمكان فهم العالم، ولنا فى هذا العصر مما يشجعنا على قبوله ميزة توفر وسائل رصد العالم معمليا بتسجيل آثاره الفيزيائية بالأجهزة بدلا من معاينته مباشرة بالحواس، وفى هذا تلاف لأخطار إمكان انخداع الحواس التى نستعيض عن الصور التى نكونها عن العالم بها بأنواع من الاستدلال المنطقى والرياضى تنتهى بتكوين صور نظرية وتخيلية عن العالم مثلما حدث فى فهمنا عن المادة، إذ أن النظرية الذرية لاتلجأ مطلقا إلى الحواس وتقوم على استدلالات مجردة غير مأخوذة من الحواس “وغير محسوسة أيضا”.

3- وأما افتراض المبادئ السبقية أو القبلية ”التى نستعملها قبل الوصول إلى نتائج نظرية أى بشكل مبدئى أولى ”a priori فهى خطوة عملية تسهل تكوين وبناء أفكار لابد من الوعى النقدى بها ”والمدهش حقا أن عدد الفلاسفة الذين نبهوا إليها قليل للغاية ومعظمهم لم ينتاول إلا فكرة أو فكرتين سبقيتين”. وهى تشبه بديهيات إقليدس والتى بدونها لا تكون هناك هندسة اقليدية كاملة، ولاتوجد أدلة منطقية على صحة المبادئ السبقية رغم أن معظم هذه المبادئ أو ربما كلها يبدو غير محتاج إلى برهان.

أين إذن يكمن الخطر فى افتراض أفكار سبقية؟ إنه يمكن فى أن هذه المبادئ القبلية سابقة على التجربة وعلى الاستدلال النظرى وبالتالى لايوجد ضمان لصحتها ولا لصحة الأفكار الكثيرة المبنية عليها وهذا لايعتبر هجوما عليها بقدرما يعتبرمحاولة لتوضيح موقعها السابق على التجربة ومصدرها الذى هو لا أكثر من افتراض لتسهيل تكوين معارف، وهذا الافتراض قد لجأ إلى مانسميه بالحس السليمCommon sense (3)لكى يستوحى منه هذه المبادئ ، والحس السليم ليس ملكة فطرية أو غريزية بل هو شئ مكتسب كليا و تماما من خلال الخبرة الحسية اليومية مع العالم الخارجى المحسوس، وسر تشابه هذا الحس “وهو ليس بحس كما أنه ليس بسليم” عند الناس جميعا هو تشابه خبراتهم الحسية اليومية بالأشياء نفسها.

الحس السليم يخبرنا بأن الكل أكبر من الجزء والأحمر ليس أخضر “لأننا لم نر شيئا أحمر يقال عنه أنه اخضر” وأن لكل شئ مرتب أو منظم صانع “لأننا لانصادف شيئا ينتظم من تلقاء نفسه” وهكذا.

وهو أيضا مصدر المبادئ السبقية فى الفكر.

امثلة للمبادئ السبقية:

1ــ كل ما يوجد يوجد تواجدا ماديا فى مكان وزمان.

هذا مبدأ يسبق أى اسـتدلال نظرى أو تجريبى وقد جاء من الحس السليم الذى لايلاحظ فى خبراته اليومية أى شئ إلا لو كان فى صورة جسمية تمتد فى الفضاء فى ثلاث جهات وقليلا ما تمتد فى اتجاهين “إذا كانت ورقة رقيقة مثلا”  ويمكن التعبيرعن الأشياء كلها بالزمان والمكان والمادية معا فيقال ان الحجر”نوع من المادة” موضوع هناك ”مكان” منذ يومين”زمان” أو أن صديقك” له جسم مادى “ جاء ”حل بمكان” الآن” زمان”، وعلى العكس لا نستعمل فى العادة التعبير المكانى الزمانى بخصوص التصورات غير المادية فمثلا يقال :

“الحرية أثمن من الخبز”، لم نربط تصور الحرية المعنوى بزمان أومكان ولايمكن فى اللغة اليومية العادية إجراء مثل هذا الربط على نحو”الحرية جاءت الآن”.

ولقد أخذ العلم هذا المبدأ السبقى وجعله قاعدة فيزبائية للتعبير عن الأحداث الفيزيائية المختلفة حتى أن الطاقة أصبحت الآن تعتبر صورة من صور المادة وأصبح الزمن بعدا رابعا متحدا مع المكان وتم ذلك كله بلا وعى.

2 ـــ القصور الذاتى: الأشياء غير قادرة على تغيير اوضاعها وأحوالها من تلقاء نفسها .

من هذا المبدأ السبقى خرجت أفكار منطقية وعملية مثل القصور الذاتى الميكانيكى   inertia” عن سكون الأجسام إذا تعددت المؤثرات الفيزيائية المحركة، والسببية causality” التى تقضى بعجز الأشياء عن التأثر بدون مؤثر خارجى أى بأنه لاحادث بلا سبب ”نتيجة لأنه لا أثر بلا مؤثر” هى تعبير عن هذا المبدأ السبقى و بدون السبقية فإن العلم الطبيعى لا يقوم ” فى صورته الحالية على الأقل” .

3 ــ اللاتناقض: نشأ قانون اللاتناقض الصورى المنطقى بتأثير مباشر لخبرتنا الحسية التى تطلعنا على عدم التناقض الحسى . فلأن خبرتنا لاتعرف إحساسين متناقضين فى لحظة واحدة فقد تسرب ذلك”الحس السليم” إلى تفكيرنا، وغير محتاج إلى توضيح أننا لا نرى فى لحظة ضوءا وظلاما ولانحس بالفرح والحزن فى نفس اللحظة، وأما أهمية قانون اللاتناقض فى المنطق والرياضية “التى هى منطق مكيف للتعبير عن أفكار إضافية بجانب أفكار المنطق”  فلا يختلف فيها اثنان .

4ـــ مبادئ أخرى خافية فى الفكر سنأخذ منها تأثير مباشر على العلم مثل الغائية:

بعض المبادئ السبقية أصبح قوة موجهة للعلم مثل الغائية التى هى التعبير المباشر عن اعتقاد شخصى قديم لأوائل المفكرين”خاصة أفلاطون ثم أرسطو الذى صاغ هذا الاعتقاد صياغة لغوية مباشرة” بأن الطبيعة لا تعمل شيئا عبثا . هذه الفكرة عن جدية وصرامة الطبيعة “وهى فكرة متأصلة فى عقولنا حتى اليوم” كانت يوما ما غريبة على الحس السليم وكان يعرفها المتأملون وحدهم وبخاصة الفلاسفة ثم دخلت إلينا بالتعليم والنقل. وإنك تلاحظها فى الحياة اليومية إذ يفسرون أهمية الرياح بأنها تنقل حبوب اللقاح وتوزيع السحب وبالتالى المطر ويقولون عن تعاقب الفصول أنه سر تنوع المحاصيل وتنظيم تناسل الحيوانات.

وهذا الاعتقاد فى أن” الطبيعة لاتعمل شيئا عبثا” وبالتالى فى غائيتها قد تسبب فى ظهور عدد كبير من أفكار العلم ومن بينها فكرة قديمة عن الطبيعة الحكيمة التى لا تضيع مادتها هباء بل تعيد استخدامها فى خلق جديد”المخلفات تزيد خصوبة الأرض فتخلق نباتا يأكله إنسان يموت ليخصب الأرض” وهذه الفكرة يشبهها لوكريتوس اللاتينى أول شراحها وأول شراح العلم الطبيعى كعلم لا كفلسفة بصورة النجار الذى يعيد استعمال نشارة الخشب فى ورشة . ونفس هذه الفكرة قد عبر عنها العلماء الأوروبيون فيما بعد بما أسموه قانون بقاء المادة ثم بقاء الطاقة .

*****

2 ــ بين المنطق والحس السليم

لايحتاج الشخص المتعلم تعليما عاديا بالمدرسة إلى أن يقرأ عن المنطق حتى يعبر عن أفكاره بشكل واضح ومقبول”طالما كان يواظب على بعض دورس الحساب والهندسة”، فالتعليم العادى ينمى فى الناس القدرة على استعمال الحس السليم … Common sense فى تريب أفكارهم. وينتج عن ذلك أن معظم الناس يتكلمون و يكتبون بطريقة منطقية دون اطلاع من أى نوع على كتب المنطق” التى لاتستحق ما تتمتع به من صيت ذائع مع الأسف” . وربما يفسر ذلك توهم أفلاطون بأن هناك معرفة فطرية وأنها هى التى تمكن العبد الجاهل من معرفة بعض القواعد البسيطة للهندسة أو العلم دون أن يدرسها .

السبب فى الناس لايحتاجون إلى معرفة بالمنطق لكى يحسنوا منطقة أفكارهم هو أن المنطق قد استمد كل أصوله وأفكاره من الحس السليم”وهنا يتضح صدق إرهاص نيتشه غير المفسر بحجج نظرية بأن أصل المنطق غير منطقى” .وللرياضة أصل مشابه لأصل المنطق فكل الأفكار الأولية لعلوم الرياضة ترجع فى النهاية إما إلى الحس السليم وأما إلى أفكار المنطق “الذى هو حس سليم فى شكل صورى” .

ورغم عدم وجود اى دليل على تطابق الحس السليم مع خصائص العالم بحيث يمكن الزعم بأنه يمثل صوابا أو معرفة يقينية، فإن الحس يقوم على ملاحظات تجريبية نابعة فعلا من العالم، وهذا هو سر أن أفكار الحس واحدة عند كل الناس فى كل عصر معرفى.

وقد تختلف تصورات الحس السليم من عصر معرفى إلى آخر”أى من عصر ميثولوجى إلى عصر لاهوتى إلى عصرميتافيزيقى إلى عصر علمى وهكذا” فى حدود. ولكنها تتشابه بين الناس وبين العصور المختلفة أكثر مما تختلف . فمثلا كان طبيعيا ألايقبل الحس السليم فى الماضى فكرة كروية الأرض لأن محيطاتها الواقعة فى النصف السفلى لابد أن تسقط مياهها إلى أسفل. ولولا الحاح التعليم منذ الطفولة على كروية الأرض لما أمكن للانسان المعاصر قبولها عن طيب خاطر طالما أن خبرته الحسية التجريبية اليومية تؤدى إلى أن الأرض سطح ممتد .

وبسبب الهزة التى يشعر بها الناس عند غزو حسهم السليم فقد لقى من تجرأ علىذلك الاضطهاد قديما مثل برونووجاليليو، والتبجيل الزائد حديثا مثل اينشتين، وسيبقى دليل القوة الملهمة الابتكارية لأى فكرة هو أن تتحدى الحس السليم دون أن تفتقد السند التجريبى .

امثلة من الحس السليم كمصدر للمعرفة :

بالحس السليم وحده ودون برهان نظرى نتعلم أن الكل أكبر من الجزء وأن 4أكبر من3 . والأفكار المتعلقة بالأعداد ونظريات العدد تعتمد كثيرا على الحس السليم.

وبالحس السليم أيضا نجزم بأن الحادث الأول فى سلسلة سببية هو المسبب بمعنى أنه إذا وضع قضيب من الحديد فى النار فتمدد فان سبب تمدده يكون حرارة النار لأنها”أى الحرارة”وجدت قبل تمدد الحديد”وتمدده هو الحادث الثانى فى هذه السلسلة”

وبسبب أنه لايوجد برهان نظرى على صحة هذه المشاهدة التجريبية التى تؤكد أن المسبب لا يكون الحادث الثانى أو الأخير وإنما هو الحادث الأول فى كل الأحوال فإن بعض الفلاسفة ممن لايثقون فى الحس السليم  قد تشككوا فى صحة علاقة المسبب والأثر نفسه…Cause effect.”لافتقارها إلى سند أقوى من الحس السليم .

أصل المنطق الصورى ليس صوريا:

قد يبدو المنطق علما صوريا من منشأ نبيل مغرق فى النظرية والصورية.formality

بسبب الطابع الاستدلالى الفريد الذى يتمتع به،ووضع المنطق الخاص جدا كعلم لضبط التفكير واختبار صحته،يساعد على هذا المظهر الصورى النبيل .

أما الحقيقة فهى ان كل مبادئ المنطق الصورى مستوحاة من ملاحظات تجريبية فى الحياة اليومية ومن الحس السليم بالذات أى من هذا النوع الأولى البسيط من ملاحظات الحياة اليومية التجريبية، ونفس هذه الملاحظات التجريبية هى أصل كل المعارف فهى التى تصنع الحس السليم وأفكار الرياضة والعلم الفيزيائى والصناعى”أى التكنولوجيا”.

فإذا تأملنا قانون عدم التناقض وهو التصور الرئيسى فى المنطق وعلى أساسه تحكم على أى تفكير نظرى بأنه منطقى أوغير منطقى فإننا نلمح علاقة بنوة شرعية بينه وبين عدم تناقض الإحساس أى بعدم وجود خبرة حسية لنا بمؤثرين متناقضين فى مرة واحدة، فتماما كما لاتعرف الضوء والظلام فى لحظة ولانحس شيئا باردا و ساخنا فى آن واحد فإننا لانوافق على فكرة ونقيضها معا ، أى أن فكرة أن قضية ما صادقة وكاذبة معا هى فكرة صورية غير منطقية لأنها متناقضة، وعليها قس أمثلة أخرى لعدم التناقض الصورى.

إذا تأملنا قانون الهويةidentity . المنطقى ةالذى يقضى بأن “أ” هى”أ” دائما وأن “ب” هى “ب” لوجدنا أنه يشبه فكره “الجوهر” الفلسفية القديمة وكلاهما مستوحى بأننا ــ مثلا ــ عند مراقبتنا لقطعة حديد لانراها فى الأحوال العادية تتحول إلى قطعة نحاس ولا الكلب يصبح قطة، فكما أن الحديد حديد والنحاس نحاس لأن جواهر الموجودات لا تتغير فان “أ”  تبق “أ” و”ب” تبقى “ب”.

وهناك صورة تقليدية للاستنتاج المنطقى تصاغ هكذا:

إذا كانت”س”  أكبر من”ص” و”ع” اكبر من”س”.

إذا “ع” أكبر من “ص”.

إذا قورنت بمثل للاستنتاج غير الصورى على الحس السليم وحده لرأينا تماثل النتيجتين:

أحب البرتقال أكثر من التفاح .

وأحب التفاح أكثر من الموز .

فأنا احب إذن البرتقال اكثر من الموز.

يلاحظ أن أى إنسان غير مثقف يقدر على استنتاج بسيط كهذا طالما أن هناك حس سليم ، وطالما أن الحس السليم هو أصل المنطق فالاستنتاجان يتماثلان .

ويلاحظ أيضا أن معظم الباحثين المعاصرين فى المنطق يميلون إلى اعتبار قانون عدم التناقض مركزا للمنطق وأصلا للقواعد الصورية الأخرى وبناء على ما يقولون فإن أصل المنطق يرجع فى النهاية إلى” أبى” هذا القانون وهو خبرة الناس التجريبية البسيطة .

ولتوضيح مدى أهمية قانون التناقض نرجع مرة أخرى إلى مثال البرتقال والتفاح والموز المعروض أعلاه، فلولا اللاتناقض لأمكن القول بأن صاحب المثال الذى يحب البرتقال أكثر من التفاح يحب أيضا الموز أكثر من البرتقال.

ولكن هذا القانون على أهميته القصوى للتفكير فإنه لا يحكم العلاقات الموضوعية بين الأشياء أى أنه قانون للفكر وليس للعالم، أى أنه قانون صورى اختيارى وليس قانونا فيزيائيا ولذلك لا يجوز البحث فى مدى صحته وإنما فى مدى صلاحيته للتفكير خاصة وأنه أصل قوانين المنطق الأخرى وعليه تعتمد بالتالى كل المعارف.

الحس السليم والعلم التجريبى :

بعض استتاجات العلم التجريبى المباشرة لا تعتمد على المنطق بل على الحس السليم أى على البديهيات البسيطة، فمثلا عند بحث خاصية مادة لاختبار ما إذا كانت سامة للحيوانات أم غير سامة فان هذه المادة “س” تحقن فى مجموعة من الفئران (1) ولا تحقن فى”ب”فاذا ماتت”أ” وعاشت”ب”فان”س”  مادة سامة أما إذا عاشت “أ” و “ب”أو ماتت”أ”و”ب” فان”س” إما غير سامة،وإما أنها استعلمت تجريبيا بشكل خاطئ . فوصول العلم التجريبى إلى أن”س” تسببت فى موت”أ” وبالتالى فإن “س” سامة هو استنتاج بديهى من الحس السليم مباشرة دون حاجة إلى قوانين المنطق.

وكذلك لو أردنا زيادة اليقين التجريبى فى نفس المثال فكررنا التجربة بحقن المجموعة ”أ” بالمادة موضع البحث ”س” وحقنا المجموعة ”ب” بمادة سامة معروفة لدينا ”ص” ثم درسنا التغيرات التشريحية والهستولوجية ”علم الأنسجة” لعينات من الفئران ”أ” و”ب” فوجدنا أن نفس التغيرات التى تحدث فى أنسجة ”أ” تحدث تماما فى أنسجة”ب” فغننا نصل إلى أن تأثير”س” يشبه تأثير”ص” إذن”س” مادة سامة. وهذا استنتاج بديهى بسيط لا يحتاج إلى سند نظرى لأنه يتفق مع الحس السليم .

عودة الى القضية الكبرى :

بعد أن نصل إلى الحس السليم هو أصل الفكر فإنه من حقنا أن نتساءل عن مدى صلاحية الحس السليم لبناء فكر على أساسه وأن نتساءل عما إذا كان هذا الحس السليم يطابق الواقع أم أنه يجرنا إلى فخ المعرفة الخاطئة .

وهذا هو موضوع الفلسفة الأساسى والذى تم التعبير عنه بأكثر من صياغة وأسلوب بحث وتسمية لغوية ولازلنا ننتظر اليقين فيه.

*****

وللتحرير كلمة :

يثير هذا المقال بشقيه قضايا بلا حصر، اعتاد الناس أن يسمونها فلسفية، وبديهى “أو بالحس السليم” أن تحرير المجلة لا يتبنى كل ما جاء فى المقال، ولكنه ينتزها فرصة لدعوة الأقلام المهتمة بالقضية إلى الرد، ولنتذكر ان التشكيك فى المنطق أو الحس السليم هى قضية يومية للشخص العادى رضينا أم لم نرضى حتى لو خفنا منها فرفضنا الخوض فيها باعتبارها ــ للأسف ــ فلسفة دون أن ندرك ـ ولو بالمنطق ــ ماهية الفلسفة .

 
 

[1] – أسوة بالكوجيتو الديكارتى: أنا أفكر إذن أنا موجود[2] – فى بعض أمراض الفص الخلفى للمخ يرى المريض صور الأشياء على غير طبيعتها.metamorphosis وأحيانا تبقى الصورة البصرية حتى بعد زوال مصدر الرؤية بفترة .[3] – توجد عدة ترجمات عربية لهذة الكلمة وكلها توضح المعنى ،منها الحس العام والحس المشترك كما أن منها اصطلاح المنطق العام والذى لا أستعمله تفاديا لكلمة منطق .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *