الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يوليو 1980 / يوليو1980-العدوان…والإبداع

يوليو1980-العدوان…والإبداع

العدوان .. والإبداع

يحيى الرخاوى ‏

الموجز

‏فى هذا البحث الفرضى يعرض الباحث لظاهرتين باديتى التباعد إلا أنه يربط بينهما من بيولوجى مستشرقا تكاملا غائيا، وهو ينبه ابتداء إلى خطورة إنكار أو إهمال العدوان باعتباره غريزة كامنة ومؤثرة وخطرة، ويناقش ابتداء موقعها من نظرية الغرائز والاكتساب السلوكى، ثم يعرج على مناقشة الموقف الأحدث للغرائز وعلاقتها باحتمال وراثة العادات المكتسبة، وبعد أن يعرض فى إيجاز الجذور الحيوانية والاختلافات حول طبيعة غريزة العدوان ومظاهرها البشرية يعرض صور الحرمان من التعبير السليم عن العدوان بالمقارنة بمثله فيما يتعلق بغريزة الجنس، ثم يضع فرضا منطقيا لتطور مسار الغرائز بصفة عامة منذ انفصالها مستقلة حتى ولأنها الأكمل، ويطبق هذا النظام التصعيدى الذى اقترحه على كل من الجنس والعدوان على حد سواء، وهو يشير إلى أشكال هاتين الغريزتين فى السواء والمرض، وفى مراحل التطور المختلفة، وفى المراحل الأعلى تطورا يفرق – وظيفيا وغائيا – بين الإبداع التواصلى والإبداع الخالقى وعلاقة كل منهما بالجنس والعدوان على التوالى، ويشير فى إيجاز إلى مصادر انطباعاته هذه من الخبرة الشخصية والأستاذية والكلينيكية جميعا ويقترح أن الحل اللائق بالانسان المعاصر هو احتواء العدوان ولافيا فى هذا الإبداع الخالقى مؤكدا أن هذا ليس ميكانزما دفاعيا أو تساميا ولكنه تطور ولا فى طبيعى لازم.

وأخير يعرج إلى موقف العدوان من هرمون الذكورة ويناقش موقف المرأة من العدوان والإبداع مع التأكيد على الاختلاف النوعى دون التسليم لأى زعم بالتميز الجنسى.

 ‏يمر‏ ‏إنسان‏ ‏عالمنا‏ ‏المعاصر‏ ‏بأخطر‏ ‏مراحل‏ ‏تطوره‏, ‏فقد‏ ‏ملك‏ ‏تحت‏ ‏يديه‏ ‏من‏ ‏وسائل‏ ‏الدمار‏ ‏ما‏ ‏لا‏ ‏يبدو‏ ‏للوهلة‏ ‏الأولى ‏أنه‏ ‏قادر‏ ‏على ‏السيطرة‏ ‏عليه‏, ‏ولابد‏ ‏أن‏ ‏قانونا‏-‏لا‏ ‏نعرفه‏ ‏فى ‏الأغلب‏- ‏يقوم‏ ‏بالمحافظة‏ ‏على ‏استمرار‏ ‏بقاء‏ ‏الحياة‏ ‏على ‏الأرض‏ ‏حتى ‏الآن‏ ‏رغم‏ ‏وجود‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏القوة‏ ‏المدمرة‏ ‏بين‏ ‏أيدى ‏من‏ ‏لا‏ ‏يستعمل‏ ‏بقية‏ ‏خلايا‏ ‏مخه‏ ‏بنفس‏ ‏الكفاءة‏, ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏طريقة‏ ‏تفكير‏ ‏الساسة‏ ‏على ‏الجانبين‏, ‏وسلوكهم‏ ‏الشخصى ‏الدال‏ ‏على ‏وفرة‏ ‏الدفاعات‏ (‏الميكانزمات‏) ‏التى ‏تتحكم‏ ‏فيهم‏ ‏دون‏ ‏وعى ‏منهم‏ ‏لا‏ ‏تـطمئن‏ ‏الشخص‏ ‏العادى ‏بأبسط‏  ‏حسابات‏ ‏المنطق‏ ‏السليم‏, ‏ناهيك‏ ‏عن‏ ‏العالم‏ ‏اليقظ‏، وواجب‏ ‏العلماء ‏-‏إذن‏-‏ هو‏ ‏البحث‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏القانون‏ ‏الخفى ‏إن‏ ‏كان‏ ‏موجودا‏ ‏أصلا‏, ‏ثم‏ ‏تقويم‏ ‏فاعليته‏ ‏واستثـماره‏ ‏وتطويره‏ ‏إن‏ ‏احتاج‏ ‏الأمر‏, ‏فإذا‏ ‏ثبت‏ ‏أن‏ ‏الحياة‏ ‏مستمرة‏ ‏بالصدفة‏, ‏أى ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏ثمة‏ ‏قانون‏ ‏خفى ‏أو‏ ‏ظاهر‏,  ‏فالواجب‏ ‏أكثر‏ ‏إلحاحا‏ ‏فى ‏البحث‏ ‏عن‏ ‏إنشاء‏ ‏ذلك‏ ‏القانون‏ ‏الذى ‏يساعد‏ ‏فى ‏استمرارها‏ ‏بوعى ‏لائق‏, ‏ومسئولية‏ ‏مناسبة‏ ‏وحساب‏ ‏علمى ‏قويم‏, ‏وفاء‏ ‏بأمانة‏ ‏ما‏ ‏نتمتع‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏خلايا‏ ‏مخية‏ ‏رائعة‏ تظهر أعظم انجازاتها كعينات مشرقة فى الإبداع الخالق على مر العصور.

 و‏أولى ‏المناطق‏ ‏بالتنقيب‏ ‏لتحديد‏ ‏طبيعة‏ ‏مخاطر‏ ‏الدمار‏ هذه هى منطقة “العدوان”، لأنه القوة التى أذا عجزنا عن دراسة قوانينها وتوجيه مسارها ‏, ‏قد‏ ‏تنطلق‏ ‏وفى ‏يدها‏ ‏كل‏ ‏أدوات‏ ‏الدمار‏ ‏الجاهزة‏ ‏حاليا‏- ‏فتقضى ‏على ‏البشر‏ ‏بلا‏ ‏تردد‏, ‏وقد‏ ‏تقضى ‏على ‏الحياة‏ ‏كلها‏ ‏بلا‏ ‏وعى‏, ‏خاصة‏ ‏وأن‏ ‏الإنسان‏- ‏كما‏ ‏يقول‏ ‏تينبرجن‏ ‏أولدنر‏ ‏دون‏ ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الحيوانات‏- ‏لم‏ ‏ينم‏ ‏لديه‏ ‏جهاز‏ ‏للضبط‏ ‏والتوازن‏ ‏والتحكم‏ ‏فى ‏نزعاته‏ ‏العدوانية‏, ‏وهذا‏ ‏النقص‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏مسئولا‏ ‏عن‏ ‏تماديه‏ ‏فى ‏الفعل‏ ‏العدوانى ‏حتى ‏أقصى ‏نهايته‏ ‏وهى ‏القتل، كذلك‏ ‏فقد‏ ‏ذهب‏ ‏لورنز‏  ‏إلى ‏اعتبار‏ ‏أن‏ ‏الإنسان‏- ‏دون‏ ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الحيوانات‏ ‏المفترسة‏- ‏ليس‏ ‏عنده‏ ‏كف‏ ‏غريزى ‏للقتل‏ ‏باعتبار‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏عنده‏ ‏جوارح‏ ‏قاتلة‏ (‏مخالب‏ ‏وأنياب‏) ‏فهو‏ ‏ليس‏ ‏محتاجا‏ ‏لهذا‏ ‏الكف‏ ‏الغريزى‏, ‏الأمر‏ ‏الذى ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏التسليم‏ ‏به‏ ‏بهذه‏ ‏البساطة‏ ولا تفسيره بهذه المباشرة، لكننا‏ ‏نضيف‏ ‏هنا‏ ‏أن‏ ‏الإنسان‏ ‏هو‏ ‏الحيوان‏ ‏القادر‏ ‏على ‏قتل‏ ‏بشر‏ ‏من‏ ‏جنسه‏ (‏أ‏) ‏لا‏ ‏يعرفهم‏ “‏شخصيا” (‏ب‏) ‏وعن‏ ‏بعد‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يراهم‏ (‏جـ‏) ‏وفى ‏مجموعات‏, ‏بل‏ ‏لقد‏ ‏أصبح‏ ‏هذا‏ ‏الفعل‏ ‏الشائن‏ ‏فى ‏ذاته‏ ‏من‏ ‏المنجزات‏ ‏الجديرة‏ ‏بالفخر‏ ‏كما‏ ‏يقول‏ ‏روبرت‏ ‏جاى  ‏ليفتونRobert Jay Lifton  ‏ “…‏إن‏ ‏كمية‏ ‏القتل‏ ‏قد‏ ‏أصبحت‏  ‏مقياس‏  ‏الانجاز”.‏

وفى ‏ظل‏ ‏هذه‏ ‏الظروف‏, ‏فإن‏ ‏مصيبة‏ ‏الدمار‏ ‏الفنائى ‏قد‏ ‏باتت‏ ‏شديدة‏ ‏القرب‏ ‏بحيث‏ ‏لو‏ ‏حدثت‏ ‏هذه‏ ‏المصيبة‏ ‏فقد‏ ‏تكون‏ ‏إثباتا‏ ‏مروعا‏ ‏لزعم‏ ‏قائل‏: ‏إن‏ ‏التركيب‏ ‏الانسانى ‏فيه‏ ‏ما‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏خطأ‏ ‏تطورى ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يستمر‏ ‏مالم‏ ‏يعدل‏[1].

‏ولا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏ننساق‏ ‏وراء‏ ‏هذه‏ ‏المخاوف‏ ‏الانطباعية‏ ‏فى ‏تشاؤم‏ ‏عدمى ‏غبى‏, ‏إلا‏ ‏أننا‏ ‏أيضا‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نغفلها‏ ‏اعتباطا‏ ‏لمجرد‏ ‏أنها‏ ‏بعيدة‏ ‏الإحتمال‏.‏

ونبدأ‏ ‏البحث‏ ‏بتساؤلات‏ ‏محددة‏ ‏نحاول‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الإجابة‏ ‏عليها‏ ‏أن‏ ‏نحدد‏ ‏أبعاد‏ ‏المشكلة‏ ‏وإمكان‏ ‏الخروج‏ ‏منها‏:‏

‏1- ‏هل‏ ‏العدوان‏ ‏غريزة‏ ‏أصيلة‏ ‏لها‏ ‏صور‏ ‏تعبيرية‏ ‏مختلفة‏ ‏مع‏ ‏اختلاف‏ ‏الأزمان‏ ‏والأجناس‏, ‏أم‏ ‏أن‏ ‏العدوان‏ ‏مجرد‏ ‏سلوك‏ ‏مكتسب‏ ‏طارىء‏, ‏نتوقع‏ ‏له‏ ‏أن‏ ‏يزول‏ ‏بزوال‏ ‏مستدعياته؟

‏2- ‏ما‏ ‏هى ‏وظيفة‏ ‏العدوان‏ ‏البقائية‏, ‏وما‏ ‏هى ‏فرص‏ ‏التعبير‏ ‏عنه‏ ‏فى ‏حياتنا‏ ‏المعاصرة‏ ‏وخاصة‏ ‏بالمقارنة‏ ‏بغريزة‏ ‏الجنس‏ ‏التى ‏تتعلق‏ ‏أساسا‏ ‏ببقاء‏ ‏النوع؟

‏3- ‏ما‏ ‏هى ‏احتمالات‏ ‏الموقف‏ ‏لمواجهة‏ ‏هذه‏ ‏الطاقة‏ ‏الغريزية‏ ‏تعليما‏ ‏أو‏ ‏ترويضا‏, ‏أو‏ ‏تحويرا‏, ‏أو‏ ‏إدماجا؟

محاولة‏  ‏تعريف‏  ‏مبدئى

لا‏ ‏يمكن‏ ‏التسليم‏ ‏ابتداء‏ ‏بأن‏ ‏هذا‏ ‏اللفظ‏ (‏العدوان‏) ‏يحوى ‏مضمونا‏ ‏مقنعا‏ ‏متفقا‏ ‏عليه‏ ‏بالقدر‏ ‏الذى ‏يطمئن‏ ‏لتناوله‏ ‏تفصيلا‏, ‏فالتعريف‏ ‏السلوكى ‏يصيغه‏ ” ‏تينبرجن” ‏كالتالى‏:‏

‏” ‏العدوان‏ ‏باعتبار‏ ‏السلوك‏ ‏الفعلي‏-‏ تضمن‏ ‏الإقدام‏ ‏تجاه‏ ‏خصم‏, ‏وإذا‏ ‏كان‏ ‏فى ‏متناوله‏ ‏فإنه‏ ‏يتضمن‏ ‏دفعه‏ ‏بعيدا‏ ‏وإصابته‏ ‏ببعض‏ ‏الأضرار‏ ‏بشكل‏ ‏ما‏, ‏أو‏ ‏على ‏الأقل‏ ‏إرغامه‏ ‏بمؤثرات‏ ‏تكفى ‏لإخضاعه”.

 ولكن هل يمكن أن نساوى بين السلوك العدوانى، والموقف العدوانى والغريزة العدوانية – فى كمونها ونشاطها – دون أن تتأثر دراسة الظاهرة؟

هل‏ ‏يمكن- مثلا -‏ ‏أن‏ ‏نقسم‏ ‏سلوكى ‏الكر‏ ‏والفر‏, ‏باعتبارهما‏ ‏سلوكين‏ ‏متضادين‏ ‏ظاهرا‏, ‏ونقصر‏ ‏كلمة‏ ‏العدوان‏ ‏على ‏سلوك‏ ‏الكر‏ Flight ‏دون‏ ‏سلوك‏ ‏الفر‏ Flight ‏رغـم‏ ‏أنهما ‏يصاحبهما‏ ‏نفس‏ ‏المتغيرات‏ ‏الفسيولوجية‏ ‏تماما‏ (‏زيادة‏ ‏نشـاط‏ ‏الجـهاز‏ ‏العصبى ‏السمبثاوى خاصة‏), ‏كما‏ ‏أن‏ ‏سـلوك‏ ‏الفرد‏ ‏قد‏ ‏يكـون‏ ‏تمـهيدا‏ ‏لسلوك‏ ‏الكر‏ ‏أو‏ ‏جزءا‏ ‏منه‏ ‏أو‏ ‏تناوبا‏ ‏معه‏ ‏لتحقيق‏ ‏نفس‏ ‏الغرض‏.‏؟

 وأخيراً‏ ‏هل‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نتناسى ‏صور‏ ‏العدوان‏ ‏السلبى‏: ‏بالانسحاب‏ ‏أو‏ ‏الإلغاء‏ ‏أو‏ ‏الإلتهام .. مثلا ؟

لا أحسب أن أيا من ذلك ممكنا، ولا اعرف أنه توجد أجوبة مدعمة بالملاحظات والخبرات والاختيارات تستطيع أن تجيب على هذه الأسئلة، أو أن توحد بين إجاباتها فى ظاهرة واحدة باعتبارها هادفة لتحقيق غاية واحدة أو القيام بوظيفة واحدة، وربما يرجع ذلك اساسا إلى الافتقار إلى تعريف واضح وفرض عامل فى نفس الوقت ولابد من المغامرة ابتداء بعرض تعريف مبدئى يستطيع أن يفتح الأبواب أمام توحيد هذه الظواهر، ونقترح لذلك:

‏” ‏العدوان‏ ‏هو‏ ‏الدافع‏ ‏أو‏ ‏السلوك‏ (‏أو‏ ‏كلاهما‏) ‏الذى ‏يهدف‏ ‏للحفاظ‏ ‏على ‏الفرد‏ ‏وجودا‏ ‏وذاتا‏ -‏ على ‏حساب‏ ‏الآخر‏ (‏من‏ ‏غير‏ ‏النوع‏ ‏عادة‏[2]‏أو‏ ‏من‏ ‏نفس‏ ‏النوع‏) ‏وهو‏ ‏يشمل‏ أساسا المقاتل السلوك المقاتل المهاجم حتى الطرد أوالقتل، ويتحور بتحور مراحل النمو والبيئة جميعا”.

ولن أبدأ بالدفاع عن هذا التعريف لأنه فى واقع الأمر غاية هذا البحث أكثر منه بداية نقحمها ابتداء.

نظرية‏ ‏الغرائز‏: ‏موقعها‏ ‏الآن:

وفى محاولتنا الإجابة على السؤال الأول سوف نتجنب الاطالة فى الفروع، لأن هذه المشكلة عميقة ومتشعبة ومتعلقة بموقف “نظرية الغرائز” أصلا وما ألت إليه فى عصرنا هذا، ولا يمكن لتناولها بتفصيل كاف إلا أن نتعرض لنظرية الغرائز ككل، لذلك فلا مفر من تحديد أبعاد المرحلة الراهنة من هذه المشكلة: فقد ثارت نزعة مضادة ضد نظرية الغرائز وخاصة بعد مغالاة ماكدوجالMedougal  فيها, ‏وقد‏ ‏توالت‏ ‏الضربات‏ ‏على ‏نظرية‏ ‏الغرائز‏ ‏هذه‏ ‏من‏ ‏مصدرين‏ ‏أساسيين‏: ‏وهما‏ ‏الاتجاه‏ ‏السلوكى ‏من‏ ‏ناحية‏, ‏والاتجاه‏ ‏الاجتماعى ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخري‏, ‏وحتى ‏فرويد‏ ‏لم‏ ‏يستطع‏ ‏أن‏ ‏يمتد‏ ‏تأثير‏ ‏موقفه‏ ‏بالنسبة‏ ‏لغريزة‏ ‏الجنس‏ ‏أساسا‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏يسمح‏ ‏بالدفاع‏ ‏المناسب‏[3] ‏فقد‏ ‏هوجم‏ ‏من‏ ‏خصومه‏ ‏ونقد‏ ‏من‏ ‏أتباعه‏ – ‏لنفس‏ ‏السبب‏- ‏على ‏حد‏ ‏سواء‏, ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏كثيرا‏ ‏من‏ ‏الفرويديين‏ ‏المحدثينNeofreudians ‏  ‏قد‏ ‏هاجموا‏ ‏بيولوجيته‏ ‏لحساب‏ ‏ما‏ ‏أسموه‏ ‏نظرية‏ ‏العلاقة‏ ‏بالموضوع‏   Object Relationsأو‏ ‏العلاقات‏ ‏البينشخصيةInterpersonal  , ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏السلوكيين‏ ‏قد‏ ‏ركزوا‏ ‏على ‏التعلم‏ ‏ونظرياته‏ ‏وآثاره‏ ‏فى ‏إحداث‏ ‏المرض‏ ‏وإزالته‏ ‏على ‏حد‏ ‏سواء‏ ‏مستبعدين‏ ‏بإصرار‏ ‏أى ‏غرائز‏ ‏ثابتة‏ ‏أوجاهزة‏, ‏أوموروثة‏ (‏من‏ ‏حيث‏ ‏التفاصيل‏ ‏على ‏الأقل‏), ‏ورغم‏ ‏زعم‏ ‏الإنسانيين‏ ‏بجذور‏ ‏خير‏ ‏الإنسان‏ ‏البيولوجية‏ (‏الشبغريزية‏Instinctoid  ) ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏لغتهم‏ ‏الأقرب‏ ‏إلى “‏الشعر‏” ‏لم‏ ‏تدعم‏ ‏نظرية‏ ‏الغرائز‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏غيمت‏ ‏الجو‏ ‏حولها‏, ‏الأمر‏ ‏الذى ‏تفاقم‏ ‏أكثر‏ ‏فأكثر‏ ‏من‏ ‏جراء‏ ‏النظريات‏ ‏البعشخصية‏ Transpersonal  ‏مما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏أسميه‏ “‏علم‏ ‏النفس‏ ‏الفوقي” , ‏الذى يشمل ضمنا الاتجاه التجاوزى.

  ‏إن‏ ‏مواقف‏ ‏اتجاهات‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏المعاصر‏ ‏فى ‏أغلبها‏ ‏لم‏ ‏تدعم‏ ‏نظرية‏ ‏الغرائز‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏حطت‏ ‏من‏ ‏قدرها‏ ‏وأهملتها‏, ‏وحتى ‏غريزة‏ ‏الجنس‏ ‏نفسها‏ (‏وهى ‏أظهر‏ ‏وألمع‏ ‏من‏ ‏العدوان‏)‏ ‏كما‏ ‏قدمها‏ ‏فرويد‏, ‏أو‏ ‏كما‏ ‏تناولها‏ ‏تلاميذه‏, ‏لم‏ ‏تحظ‏ ‏بالاستيعاب‏ ‏البيولوجى ‏المناسب‏, ‏بل‏ ‏لعل‏ ‏بعض‏  ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏قد‏ ‏أساء‏ ‏إليها‏, ‏وعمق‏ ‏من‏ ‏تشويهها‏, ‏إذ‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ كل ما عمله تجاهها هو عقلنتهاIntellectialization  (فى نظرية) بديلا عن كتبها Repression  فى خلق) حتى ليمكن‏ ‏أن‏ ‏نأخذ‏ ‏قول‏ ‏لورانس‏ ‏مأخذ‏ ‏الجد‏ ‏إذ‏ ‏يقول‏… “‏إن‏ ‏تناول‏ ‏فرويد‏ ‏للعمليات‏ ‏الغريزية‏ ‏فى ‏الإنسان‏ ‏كان‏ ‏محملا‏ ‏بثقل‏ ‏الشعور‏ ‏بالذاتSelf consciousness ‏  ‏لدرجة‏ ‏خليقة‏ ‏بأن‏ ‏تكتفى ‏بإعلان‏ ‏الميل‏ ‏الشبقى ‏بعيدا‏ ‏عن‏ (‏فعل‏) ‏الحياة‏ ‏حتى ‏أطاح‏ ‏باحتمال‏ ‏أن‏ ‏يحقق‏ ‏الانسان‏ ‏براءته‏ ‏التلقائية‏ ‏وانبعاثه‏ ‏الخلاق‏ ‏بحق” (ما بين الأقواس إضافة توضيحية), ‏ثم‏ ‏يمضى ‏فيقول‏ “… ‏إن‏ ‏نظرية‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏قد‏ ‏أعــدت‏ ‏لتصيبنا‏ ‏بحالة‏ ‏من‏ ” ‏الجنس‏ ‏فى ‏الرأس“Sex in the head (‏الدماغ‏), ‏ولا‏ ‏أحسب‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏المكان‏ ‏اللائق‏ ‏به”. ‏إذن‏, ‏فلا فرويد‏-‏ بكل‏ ‏حماسه‏ ‏للغرائز‏ (‏ممثلة‏ ‏فى ‏الغريزة‏ ‏الجنسية‏ ‏بالذات‏), ‏ولا‏ ‏أتباعه‏, ‏ولا‏ ‏معارضيه‏ ‏ولا‏ ‏مهاجميه‏ ‏قد‏ ‏استطاعوا‏ ‏أن‏ ‏ينقذوا‏ ‏نظرية‏ ‏الغرائز‏ ‏من‏ ‏الهجوم‏ ‏الساحق‏ ‏عليها‏, ‏ولعل‏ ‏العكس‏ ‏تماما‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏حدث‏,  ‏ففرويد‏  ‏قد‏  ‏عقلنها‏ ‏ومهاجميه‏  ‏قد‏  ‏أنكروها‏ , ‏ و‏أتباعه‏ ‏ ‏قد‏ ‏تخطوها‏.‏

ولعل ‏المبرر‏ ‏وراء‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏المحاولات‏ ‏هو‏ ‏مبرر‏ ‏أخلاقى فى النهاية بمعنى أن تصور وجود ‏غريزة‏ ‏مسبقة‏ (‏أى ‏غريزة‏ ‏كانت‏) ‏يبدو‏ ‏تقييدا‏ ‏لحركة‏ ‏تطور‏ ‏الإنسان‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏, ‏إذ‏ ‏كيف‏ سنأمل‏ – ‏إذن‏- ‏أن‏ ‏نــغير منها إذ نتغير، فالأولى بنا أن ننكرها أو‏ ‏على ‏الأقل‏ ‏ ‏نتنكر‏ ‏لها‏, ‏حتى تتفتح الأفق إذا يحدونا الأمل‏ ‏يحل‏ ‏التغير‏ ‏البيئى ‏والتطور‏ ‏الثقافى ‏محل‏ ‏التغيير‏ ‏البيولوجى ‏المستحيل، ‏‏وقد‏ ‏دعم‏ ‏هذا‏ ‏المبرر‏ ‏الأخلاقى ‏موقف‏ ‏الدارونيين‏ ‏المحدثين‏ ‏وعلماء‏ ‏الوراثة‏ ‏معا‏ (‏فايتسمان‏  ‏ومندل‏ ‏أساسا‏) ‏بتأكيدهم‏ ‏على ‏استحالة‏ ‏وراثة‏ ‏العادات‏ ‏المكتسبة‏. ‏‏ورغم‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏فإن‏ ‏الغرائز‏ -شخصيا- ‏مثلها‏ ‏مثل‏ ‏أى ‏حقيقة‏ ‏صعبة‏, ‏لا‏ ‏تختفى ‏بالإجماع‏ ‏على ‏تخطيها‏ ‏أو‏ ‏الخوف‏ ‏منها‏, ‏أو‏ ‏نتيجة‏ ‏العجز‏ ‏عن‏ ‏تفسير‏ ‏مظاهرها‏ ‏السلوكية‏ ‏فى ‏الوجود‏ ‏الانسانى ‏المعـقـد‏, ‏فكـان‏ ‏لابـد‏ ‏من‏ ‏إعادة‏ ‏النظـر‏ ‏فيها‏ ‏من‏ ‏مـدخل‏ ‏آخر‏, ‏ومن‏ ‏عـجب‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ ‏المـدخل‏ ‏الجديـد‏ ‏هو‏ ‏من‏ ‏علم‏ ‏الإثـولوجى  Ethology  ‏وبواسطة‏ ‏علماء‏ ‏الحـيوان‏ Zoologists ‏أسـاسا‏, ‏وكـان‏ ‏لإسـهام‏ ‏لـورنز‏Lorenz  ‏وتينـبرجـنTenbergen   ‏فى ‏دراسـة‏ ‏ظـواهـر‏ ‏مـثـل‏ ‏البـصـم‏ Imprinting‏والــطـاقة‏ ‏الخـاصة‏ ‏الفـعـالة‏ Action specific energy  ‏وإزاحة‏ ‏النشاط‏ Displacement of activity ‏كان‏  ‏ ‏ذلك‏ ‏أكبر‏ ‏الأثر‏ ‏فى ‏فتح‏ ‏ملفات‏ ‏نظرية‏ ‏الغرائز‏ ‏بشجاعة‏ ‏مضاعفة‏, ‏وكذلك‏ ‏إعادة‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏آراء‏ ‏الدارونيين‏ ‏المحدثين‏ ‏وخاصة‏ ‏بعد‏ ‏تلاحق‏ ‏الأبحاث‏ ‏الخاصة‏ ‏بالتأكيد‏ ‏على ‏إمكان‏ ‏وراثة‏ ‏العادات‏ ‏المكتسبة‏[4] .‏

العدوان‏ ‏غريزة‏ ‏أم‏ ‏اكتساب‏:‏

والآن‏ ‏بعد‏ ‏احتمال‏ ‏إحياء‏ ‏نظرية‏ ‏الغرائز‏ ‏وترجيح‏ ‏وراثة‏ ‏العادات‏ ‏المكتسبة‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏ننتقل‏ ‏لمناقشة‏ ‏الرأيين‏ ‏المتقابلين‏ ‏إزاء‏ ‏طبيعة‏ ‏العدوان‏ ‏للإجابة‏ ‏على ‏السؤال‏ ‏الأول‏ ‏الذى ‏طرحه‏ ‏هذا‏ ‏البحث‏.‏

ويمثل‏ ‏لورنز‏ ‏الرأى  ‏الأول‏ ‏القائل‏ ‏بأن‏ ‏العدوان‏ ‏دافع‏ ‏أولى (‏غريزة‏) ‏ويؤيده‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏تينبرجن‏ (‏رغم‏ ‏اختلافهما‏ ‏فى ‏تفاصيل‏ ‏أخري‏) ‏إذ‏ ‏يقول‏ ‏الأخير‏ ‏عن‏ ‏الأول‏ ‏معترضا‏ ‏جزئيا‏ “… ‏إن‏ ‏لورنز‏ ‏يفترض‏ ‏أن‏ ‏العدوان‏ ‏هو‏ ‏دافع‏ ‏أولى ‏موروث‏, ‏وإنه‏ ‏مثله‏ ‏مثل‏ ‏الدوافع‏ ‏الأولية‏- ‏فى ‏تصوره‏- ‏يسعى ‏إلى ‏الاطلاق‏ (‏الإشباع‏) “.‏

ويمثل‏ ‏الرأى ‏الآخر‏ أشلى مونتاجوAshley Montagu ‏  ‏إذ‏ ‏يعارض‏ ‏فى ‏مناقشته‏ لنفس ‏مقال‏ ‏تينبرجن‏ ‏منكرا‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏العدوان‏ ‏غريزة‏, (ويبدو أن ذلك نتيجة للخوف من عجزنا عن تعلم كيفية ترويضها أو إعدامها)،  ‏ويعدد‏ ‏إثباتا‏ ‏لرأيه‏ ‏هذا‏ ‏أجناسا‏ ‏وقبائل‏ ‏مثل‏ ‏الإسكيمو‏[5] ‏والاستراليين‏ ‏البدائيين‏‏ ‏لا‏ ‏تحارب‏ ‏بعضها‏ ‏بعضها‏, ‏وينتهى ‏بالتساؤل‏ ‏التقريرى  ‏قائلا‏ ” ‏ألا‏ ‏يجوز‏ ‏أن‏ ‏الرغبة‏ ‏فى ‏القتال‏ ‏هى ‏شكل‏ ‏من‏ ‏أشكال‏ ‏السلوك‏ ‏المكتسبة”[6]

ولا‏ ‏سبيل‏ ‏إلى ‏الفصل‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏دون‏ ‏التعرض‏ ‏للموقف‏ ‏الأخلاقى ‏السابق‏ ‏الذكر‏ ‏الذى ‏يبرر‏ ‏الهجوم‏ ‏على ‏نظرية‏ ‏الغرائز‏ ‏عامة‏, ‏ونظرية‏ ‏العدوان‏ ‏كغريزة‏ ‏بشكل‏ ‏أكثر‏ ‏تحديدا‏ (‏يبرره‏ ‏ولا‏ ‏يؤكده‏ ‏بالضرورة‏).‏

والرأى الذى اقترحه ليحل هذا الموقف دون تلفيق على قدر اجتهادى هو: ‏إن‏ ‏الـغرائز‏ ‏سـلوك ‏مطـبوعimprinted, ‏ حتى ‏على ‏فرض‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏مكتسبا‏ ‏فى ‏يوم‏ ‏من‏ ‏الأيام‏[7], ‏فقد‏ ‏أصبح‏ ‏بلغة‏ ‏علمية‏ ‏أخرى‏ ‏غريزة‏ ‏تورث‏, ‏ذلك‏ ‏لأن‏ ‏التعلم‏ ‏بالبصم‏ (‏دون‏ ‏التعلم‏ ‏الشرطى‏) ‏يختص‏ ‏بالسلوك‏ ‏اللازم‏ ‏للبقاء‏ ‏فى ‏مرحلة‏ ‏ما‏, و‏السلوك‏ ‏العدوانى كان  ‏من‏ ‏ألزم ما يمكن ‏تصوره ‏ ‏للبقاء‏  فى مرحلة ما، وحتى ‏باعتبار‏ ‏ما‏ ‏ذهب‏ ‏إليه‏ ‏إريك‏ ‏فروم (1973) ‏معتمدا‏ ‏على ‏الآخرين‏ ‏فى ‏أن‏ ‏العدوان‏ ‏قد‏ ‏اكتسب‏ ‏اكتسابا‏ ‏لاحقا‏ ‏فى ‏العصر‏ ‏الحجرى ‏الحديث‏ ‏مع‏ ‏تغير‏ ‏الإنسان‏ ‏من‏ ‏كائن‏ ‏صائد‏ ‏جامع‏ ‏إلى ‏كائن‏ ‏منتج‏ ‏خازن‏ ‏مع‏ ‏بداية‏ ‏الزراعة‏ (‏حوالى ‏تسعين‏ ‏قرنا‏ ‏قبل‏ ‏الميلاد‏) ‏فإن‏ ‏مرور‏ ‏آلاف‏ ‏السنين‏ ‏ومتطلبات‏ ‏الوضع‏ ‏الجديد‏ ‏للإنسان‏ ‏كمنتج‏ ‏منافس‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نعتبرها‏ ‏مجرد‏ ‏اكتساب‏ ‏دون‏ ‏افتراض‏ ‏تغلغل‏ ‏الغريزة‏ ‏الجديدة‏ ‏ككيان‏ ‏مطبوع‏ ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يؤخذ‏ ‏مأخذا‏ ‏بيولوجيا‏ ‏جبليا‏ ‏فى ‏تخطيطنا‏ ‏لاستيعابها‏ (‏وهكذا‏ ‏يكاد‏ ‏يصدق‏ ‏قول‏ ‏هربرت‏  ‏سبنسر‏: ‏إن‏ ‏عادات‏ ‏اليوم‏ ‏هى ‏غرائز‏ ‏المستقبل‏) ‏وهكذا – بعد هذا التحدى الذى يتخطى أى رفض للعدوان – يجدر بنا إعادة النظر إلى العدوان باعتباره ‏دافعا‏ ‏شديد ‏الغور‏ ‏شديد‏ ‏الأثر حتى ولو اختفت آثاره السلوكية لبعض الوقت، وما لم يحدث ذلك فقد نقع فى استسهال إنكاره تحت وهم أمل أخلاقى، أو حلم مثالى “… وما هو ‏النفع‏ ‏المنتظر‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏تحت‏ ‏السطح‏ ‏رائحة‏ ‏بيولوجية‏ ‏كريهة”[8] (كما يقول وليم كورنينج William Cornin)  ذلك لأن الخطأ المترتب على انكاره استسهالا هو العجز عن التحكم فيه وإعادة توجيهه بما يناسب ويلزم.‏

‏ ‏وظيفة‏ ‏العدوان‏ ‏وفرص‏ ‏التعبير‏ ‏عنه‏:‏

والآن ننتقل إلى محاولة الاجابة على السؤال الثانى عن وظيفة العدوان – من منطلق تطورى أساساً فنعددها على الوجه التالى:

‏1- ‏إن‏ ‏العدوان‏ ‏قد‏ ‏حفظ‏ ‏أجناسا‏[9]‏بأكملها‏ ‏فى ‏صراعها‏ ‏ضد‏ ‏أجناس‏ ‏أخرى ‏لما ‏كان‏ ‏قانون‏ “‏البقاء‏ ‏للأقوي” ‏هو‏ ‏السائد‏.‏

‏2- ‏إن‏ ‏سيطرة‏ ‏الذكر‏ ‏الأقوى ‏على ‏قطيع‏ ‏الإناث‏ ‏واستبعاد‏ ‏الذكر‏ ‏الأضعف‏ ‏قد‏ ‏ضمن‏ ‏البقاء‏ ‏للسلالة‏ ‏الأقوي‏, ‏نتيجة‏  ‏استبعاد‏ ‏الذكر‏ ‏الأضعف‏ ‏من‏ ‏القطيع‏ ‏بالعدوان‏ ‏الذى ‏ينتهى ‏بالقتل‏ ‏أو‏ ‏بالطرد‏ ‏أو‏ ‏بالإذعان‏.‏

‏3- ‏إن‏ ‏العدوان‏ ‏يعتبر‏ ‏جزءا‏ ‏متضمنا‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏الوسائل‏ ‏المسئولة‏ ‏عن‏ ‏الحياة‏, ‏بل‏ ‏وعن‏ ‏تطويرها‏، ولعل هذا ما حاول أليسون فينزسيمون Allison Fitzsimons تأكيده فى حديثه عن الغضب والعدوان (وهو يستعملهما كمترادفين):

” إن الغضب.. هو جزء لا يتجزأ من الحب ومن كل الدفاعات والتحفظات ضد الموت والقوى المهددة،وبالإضافة فإن هناك شيئا صحيا ومفيدا فى العدوان وهو أنه جزء من كل الأساليب الإبداعية”.

(هو لم يذكر كيف كان ذلك، وهذا ما سنحاول الوصول إليه فى نهاية البحث). ‏

4- ‏إن‏ ‏العدوان‏ ‏يحدد‏ ‏معالم‏ ‏الذات‏[10]:‏ ‏إذ‏ ‏تنفصل‏ ‏عن‏ ‏الآخرين‏ ‏فى ‏الولادة‏ ‏النفسية‏ ‏فى ‏المراهقة‏ ‏خاصة‏ ‏وفى ‏كل‏ ‏أزمات‏ ‏النمو‏, ‏ وذلك حين ‏يضطر‏ ‏الفرد‏ ‏أن‏ ‏يدفع‏ ‏الآخر‏ (‏الدعامة‏ ‏السابقة‏) ‏فى ‏عملية‏ ‏الانسلاخ‏ ‏منه‏, ‏تحديدا‏ ‏لذاته‏ ‏الخاصة‏, ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏ذهب‏ ‏إليه‏ ‏مؤلف‏ ‏هذا‏ ‏البحث‏ ‏فى ‏دراسة‏ ‏سابقة‏[11]‏إذ‏ ‏يقول‏: “‏إذا‏ ‏كان‏ ‏الحيوان‏ ‏يحافظ‏ ‏على ‏وجوده إنما ‏ ‏ككيان‏ ‏فيزيائى ‏بالعدوان‏, ‏فإن‏ ‏الإنسان‏ ‏يحافظ‏ ‏على ‏وجوده‏ ‏ككيان‏ ‏مستقل‏ ‏واع‏ (‏أى ‏على ‏فرديته‏) ‏بالعدوان‏ ‏كذلك‏, ‏ففى ‏حين‏ ‏يستعمل‏ ‏الحيوان‏ ‏عدوانيته‏ ‏ضد‏ ‏احتمال‏ ‏افتراسه‏ (‏ولافتراس‏ ‏الآخرين‏ ‏كذلك‏) ‏فإن‏ ‏الانسان‏ ‏يستعمل‏ ‏عدوانيته‏ ‏ضد‏ ‏احتمال‏ ‏سحق‏ ‏ذاته‏ ‏وسط‏ ‏الآخرين”.‏

وكل‏ ‏هذه‏ ‏الجوانب‏ ‏الهامة‏ ‏فى ‏وظيفة‏ ‏العدوان‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏تؤكد‏ ‏ضرورة‏ ‏إعادة‏ ‏النظر‏, ‏فيما‏ ‏ذهب‏ ‏إليه‏ ‏فرويد‏ (‏على ‏الأقل‏ ‏فى ‏البداية‏) ‏من‏ ‏استقطاب‏ ‏الجنس‏ ‏فى ‏مقابل‏ ‏العدوان‏ ‏باعتبار‏ ‏ترادف‏ ‏العدوان‏ Aggression ‏مع‏ ‏التحطيم‏    Destructiveness ‏ لدرجة‏ ‏جعلته‏ ‏يرادف‏  ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏بين‏ ‏العدوان‏ (‏التحطيم‏) ‏وما‏ ‏أسماه‏ ‏غريزة‏ ‏الموت‏ Thanatos  ([12]

فرص‏ ‏التعبيرعن‏ ‏غريزة‏  ‏العدوان‏ ‏فى ‏السلوك‏ ‏الانسانى ‏المعاصر‏:‏

فإذا‏ ‏قبلنا‏ ‏فرض‏ ‏أن‏ ‏العدوان‏ ‏غريزة‏ ‏بهذه‏ ‏القوة‏ مع احتمال الفائدة ‏والضرورة‏ ‏للحفاظ‏ ‏على ‏الحياة‏ ‏والذات‏ ‏كخطوة‏ ‏سابقة‏ ‏لـ‏ (‏ومتبادلة‏ ‏مع‏) ‏غريزة‏ ‏الجنس‏ (‏وليست‏ ‏نقيضة‏ ‏له‏ ‏كما‏ ‏صورها‏ ‏فرويد‏ ‏فى ‏أغلب‏ ‏أعماله‏ ‏متبعا‏ ‏النظرة‏ ‏الاستقطابية‏ ‏التى ‏غمرت‏ ‏فكره‏), ‏فما‏ ‏هى ‏المظاهر‏ ‏المعاصرة‏ ‏الإيجابية‏ ‏المباشرة‏ ‏والمحــورة‏ ‏التى ‏تظهر‏ ‏فيها‏ ‏ ‏بالمقارنة‏ ‏بغريزة‏ ‏الجنس؟ وهذه المقارنة هامة فى هذا الوضع لما نالته‏ ‏غريزة‏ ‏الجنس‏ من دراسة‏ ‏وما تمثله من محور شائع كممثله‏ ‏للغرائز‏ ‏وكبؤرة‏ ‏لتفكير‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى معا وأرى لكى يتسلل تفكيرنا المقارن مما هو شائع إلى ما هو أبعد أن نبدأ بمراجعة فرص‏ ‏غريزة‏ ‏الجنس‏ ‏فى ‏التعبير‏ ‏المباشر‏ ‏وغير‏ ‏المباشر‏ ‏فى ‏سلوك‏ ‏الإنسا‏ ‏ن‏   ‏المعاصر‏ ‏ثم‏ ‏نقارن‏ ‏ذلك‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏ ‏مع‏  ‏العدوان‏:‏

‏1- ‏الجنس‏ ‏يجد‏ ‏مخرجا‏ ‏شرعيا‏ ‏واجتماعيا‏ ‏ودينيا‏ ‏مباشرا‏ ‏فى ‏الزواج‏ (‏قبل‏ ‏وبعد‏ ‏فرويد‏ ‏بداهة‏!!).‏

‏2- ‏الجنس‏ ‏يجد‏ ‏مخرجا‏ ‏اجتماعيا‏ ( ‏ومدنيا‏ ‏أحيانا‏) ‏فى ‏صورة‏ ‏العلاقات‏ ‏التلقائية‏ ‏قبل‏ ‏وخارج‏ ‏منظمات‏ ‏الأسرة‏ ‏فى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏المجتمعات‏ ‏شديدة‏ ‏البدائية‏  ‏والمتقدمة‏ ‏على ‏حد‏ ‏سواء‏.‏

‏3- ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏الميل‏ ‏الجنسى ‏بما‏ ‏يحمل‏ ‏من‏ ‏فرص‏ ‏التنفيث‏ ‏والإرضاء‏ ‏الجزئى ‏يعتبر‏ ‏حديثا‏ ‏مقبولا‏ ‏ومحببا‏ ‏وأحيانا‏ ‏فخرا‏ ‏وزهوا‏ ‏فى ‏الإطار‏ ‏والمجال‏ ‏الذى ‏يحدده‏ ‏كل‏ ‏فرد‏ ‏لنفسه‏, ‏فمن‏ ‏المألوف‏ ‏السهل‏ ‏أن‏ ‏يتحدث‏ ‏الرجل‏ ‏عن‏ ‏رغبته‏ ‏الجنسية‏ ‏سواء‏ ‏تحققت‏ ‏أم‏ ‏لم‏ ‏تتحقق‏, ‏أو‏ ‏حتى عن ‏قدرته‏ ‏الجنسية‏ , ‏ولدرجة‏ ‏أقل‏ ‏تفعل‏ ‏المرأة‏ ‏نفس‏ ‏الشيء‏ ‏ولو‏ ‏بين‏ ‏قريناتها‏.‏

‏4-‏الجنس‏ ‏قد‏ ‏طغى ‏بغير منافس ‏تقريبا‏ ‏فى ‏صورته‏ ‏المحورة‏ ‏فى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الأعمال‏ ‏الأدبية‏ ‏والفنية‏ ‏وحتى  ‏بعض‏ ‏مظاهر‏ ‏التدين‏ (‏العشق‏ ‏الإلهى ‏والغزل‏ ‏فى ‏الأنبياء‏ ‏والأولياء‏… ‏الخ‏).‏

‏5- ‏وبعض كل ذلك فإن‏ ‏الجنس‏ ‏قد‏ ‏يجد‏ – ‏بسهولة-‏ ‏مخرجا‏ ‏مناسبا‏ ‏ومتواترا‏ ‏فى ‏الخيالات‏ ‏والأحلام‏ ‏على ‏حد‏ ‏سواء‏.‏

والآن‏ ‏ما هى الفرص المقابلة (المقبولة) ‏للتعبير‏ ‏عن العدوان؟

‏1-‏‏لا‏ ‏توجد‏ ‏صورة‏ ‏اجتماعية‏ ‏أو‏ ‏شرعية‏ ‏يمارس‏ ‏فيها‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصرعدوانه‏ ‏على ‏أخيه‏ ‏الإنسان‏ ‏بشكل‏ ‏مباشر‏ ‏ومعترف‏ ‏به‏, ‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏أنواع‏ ‏الرياضة‏ ‏البدنية‏ ‏الالتحامية‏ (‏فى ‏المصارعة‏ ‏والملاكمة‏ ‏مثلا‏) ‏التى ‏أخذت‏ ‏فى ‏الانزواء‏ ‏هى ‏الأخرى ‏تحت‏ ‏الرفض‏ ‏المتزايد‏ ‏لها‏.‏

‏2- ‏لا‏ ‏يوجد‏ ‏أى ‏تقدير‏ ‏أو‏ ‏تقبل‏ ‏طبيعى ‏يسمح‏ ‏لفرد ما‏  ‏بالحديث‏ ‏عن‏ ‏رغباته‏ ‏العدوانية‏ ‏وميوله‏ ‏العدوانية‏ ,(رغبته فى قتل فلان أو التخلص – قصرا – من علان) فى حين‏ ‏أن‏ ‏ذلك‏ ‏مقبول‏ ‏بالنسبة‏ ‏للجنس‏ ‏بترحيب‏ ‏خاص‏ ‏كما‏ ‏ذكرنا‏.‏

‏3- ‏لا‏ ‏توجد‏ ‏صور‏ ‏أدبية‏ ‏أو‏ ‏فنية‏ ‏تعلى ‏من‏ ‏قدر‏ ‏العدوان‏ ‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏صور‏ ‏البطولة‏ ( ‏والفتونة‏)  ‏التى ‏تعلى ‏من‏ ‏قدر‏ ‏صورة‏ ‏عدوانية‏ ‏من‏ ‏جانب‏ ‏واحد‏ ‏دون‏ ‏الآخر‏ ‏لا‏ ‏محالة‏ .‏

‏4- ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏القهر‏ ‏والكبت‏ ‏الساحقين‏ ‏قد‏ ‏أثرا‏ ‏حتى ‏على ‏الأحلام‏ ‏والخيالات‏, ‏فمن‏ ‏واقع‏ ‏خبرتى ‏الكلينيكية‏ ‏يندر‏ ‏أن‏ ‏يحكى ‏لى ‏مريض‏- ‏أو‏ ‏خلافه‏- ‏عن‏ ‏أحلام‏ (‏أو‏ ‏خيالات‏) ‏القتل‏ ‏أو‏ ‏حتى ‏القتال‏, ‏وإنما‏ ‏الذى ‏يظهر‏ ‏أكثر‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏السبيل‏- ‏من‏ ‏خلال‏ ‏خبرتي‏-‏هى ‏أحلام‏ ‏المطاردة‏ ‏والاضطهاد‏ ‏أساسا‏.‏

وبعد

فإذا‏ ‏كانت‏ ‏غريزة‏ ‏العدوان‏ ‏بصورتها‏ ‏المباشرة‏ ‏هذه‏ ‏لا‏ ‏تجد‏ ‏الفرصة‏ ‏للتعبير‏ ‏عن‏ ‏نفسها‏ ‏بشكل‏ ‏مباشر‏ ‏مقبول‏[13], ‏فهل‏ ‏يوجد‏ ‏شكل‏ ‏مقبول‏- ‏ولو‏ ‏غير‏ ‏مباشر‏- ‏يحقق‏ ‏التعبير‏ ‏عن‏ ‏غريزة‏ ‏العدوان‏ ‏بأى ‏صورة‏ ‏محورة‏ ‏؟

والجواب‏ ‏أنه‏ ‏بالنظر‏ ‏الأعمق‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نستنتج‏ ‏خطوطا‏ ‏عامة‏ ‏تبدو‏ ‏وكأنها‏ ‏تؤدى ‏هذا‏ ‏الغرض‏ ‏تماما‏,  ‏ومنها‏:‏

‏1- ‏التنافس‏ ‏الدراسى ‏والأكاديمى [14]. ‏

‏2- ‏التنافس‏ ‏الرياضى (‏الذى ‏يشمل‏ ‏ويتخطى ‏الرياضات‏ ‏الالتحامية‏ ‏فى ‏المصارعة‏ ‏والملاكمة‏).‏

‏3- ‏السيطرة‏ ‏الطبقية‏ ‏الاجتماعية‏ ‏والاقتصادية‏ ‏والسياسية‏.‏

‏ ‏وعلى ‏كل‏ ‏حال‏, ‏فقد‏ ‏اتجهت‏ ‏التربية‏ ‏الحديثة‏, ‏ومحاولات‏ ‏المساواة‏ ‏الممكنة‏ ‏وغير‏ ‏الممكنة‏ ‏فى ‏تغيير‏ ‏القيم‏ ‏إزاء‏ ‏فكرة‏ ‏التنافس‏ ‏أصلا‏, ‏حتى ‏كاد‏ ‏أن‏ ‏يصبح‏ ‏التنافس‏ ‏غير‏ ‏كاف‏ ‏لامتصاص‏ ‏طاقة‏ ‏العدوان‏, ‏فضلا‏ ‏عن‏ ‏احتمال‏ ‏الضرر‏, ‏أما‏ ‏التنافس‏ ‏الرياضى ‏فإنه‏ ‏لا‏ ‏يشمل‏ ‏إلا‏ ‏نسبة‏ ‏ضئيلة‏ ‏من‏ ‏الناس‏ ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏الترويض‏ ‏المستمر‏ ‏للعدوان‏ ‏المغلف‏ ‏به‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏تنمية‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏بالروح‏ ‏الرياضية‏, ‏وأخيرا‏ ‏فإن‏ ‏سيطرة‏ ‏طبقة‏ على أخرى  ‏قد‏ ‏أصبح‏ ‏يتم‏ ‏فى ‏الخفاء‏ ‏وبأساليب‏ ‏سرية‏ ومغلفة‏,  ‏بشعارات‏ ‏أخلاقية‏ ‏أو‏ ‏دينية‏ ‏أو‏ ‏إيديولوجية‏ ‏مناسبة‏.‏

إذن‏, ‏فالأمر‏ ‏يبدو‏ ‏وكأنه‏ ‏لا‏ ‏يوجد‏ ‏فعلا‏ ‏فى ‏عالمنا‏ ‏المعاصر‏ ‏أى ‏فرصة‏ ‏حقيقية‏ ‏لإطلاق‏ ‏غريزة‏ ‏العدوان‏ ‏ولا‏ ‏للتنفيس‏ ‏عنها‏‏ ‏حتى ‏لمجرد‏ ‏الاعتراف‏ ‏بها‏ ‏على ‏مستوى ‏العقل‏, ‏وكأنما‏ ‏يمكننا‏ ‏إعلان‏ ‏أن‏ ‏درجة‏ ‏الكبت‏ ‏والمنع‏ ‏والإنكار قد‏ ‏وصلت‏ ‏أضعاف أضعاف‏ ‏ما‏ ‏أزعج‏ ‏فرويد‏ ‏بالنسبة‏ ‏لغريزة‏ ‏الجنس‏ ‏وآثارها‏.‏ ‏وإذا‏ ‏كان‏ ‏ما‏ ‏لحق‏ ‏من‏ ‏كبت‏ ‏لغريزة‏ ‏الجنس‏ ‏إنما‏ ‏يظهر‏ ‏آثاره‏ ‏السلبية‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏المرض‏ ‏النفسى ‏أساسا‏ ‏كما‏ ‏يقول‏ ‏فرويد‏ ‏فإن‏ ‏كبت‏ ‏غريزة‏ ‏العدوان‏ ‏قد‏ ‏يظهر‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏أمراض‏  ‏الفرد الأعمق ولكنه قد يتعدى ذلك‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏هو‏ ‏أخطر‏ ‏على ‏الجماعة‏ ‏الإنسانية‏ ‏كافة‏، لأن النتيجة الطبيعية لهذا الكبت هى.‏

أولا‏:  أن ‏تراكمت‏ ‏هذه‏ ‏الغريزة‏ ‏كطاقة‏ ‏مقهورة‏ ‏تستنزف‏ ‏الطاقة‏ ‏البشرية‏ ‏فى ‏محاولة‏ ‏إبقائها‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏كامنة‏ ‏خفية‏.‏

ثانيا‏: ‏إن لبست فى بعض‏  ‏مظاهر‏ التعبير عنها ‏غرائز‏ ‏أخرى ‏لها فرصة أكبر فى التعبير المباشر وغير المباشر مثل الجنس، بمعنى أن‏ ‏السلوك‏ ‏الجنسى ‏قد‏ ‏أصبح‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏الأحيان‏ ‏تعبيرا‏ ‏عن‏ ‏العدوان‏ ‏رغم‏ ‏مظهره‏ ‏الجنسي‏, ‏كذلك‏ ‏سلوك‏ ‏الشبع‏ ‏إذا‏ ‏زاد‏ ‏عن‏ ‏حاجة‏ ‏دافع‏ ‏الجوع‏ ‏أصبح‏ ‏يعبر‏ ‏عن‏ ‏عدوان‏ ‏على ‏الذات‏ ‏والآخرين‏ ‏معا‏, ‏ثم‏ ‏سلوك‏ ‏التخزين‏ Hoarding (‏باعتبار‏ ‏أن‏ ‏التخزين‏ ‏دافع‏ ‏أولي‏) ‏قد‏ ‏أصبح‏ ‏يعبر‏ ‏عن‏ ‏عدوان‏ ‏على ‏الآخرين‏ ‏أساسا‏ ‏ولا‏ ‏يخلو‏ ‏من‏ ‏عدوان‏ ‏على ‏الذات‏ ‏ضمنا، متخطيا التخزين الأولى لإرضاء حاجة عدم الأمان الفعلى المناخى الموقوتهTemporary seasonal climactric hoarding، وغير ذلك من الأمثلة كثير.‏.‏

ثالثا‏: ‏أن أسقطت‏ ‏ظاهرة‏ ‏العدوان‏ ‏فى ‏أشكال‏ ‏فنية‏ ‏تسمح‏ ‏بالتقمص‏ ‏مما‏ ‏أدى ‏الى ‏انتشار‏ ‏أفلام‏ ‏العنف‏ ‏والإجرام‏ ‏والكاراتيه‏ ‏وما‏ ‏إليها‏. ‏رابعا‏: أن ‏انفجرت‏ ‏العدوانية‏ ‏بين‏ ‏الحين‏ ‏والحين‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏حروب‏ ‏محلية‏ ‏أو‏ ‏عالمية‏ ‏لا‏ ‏تساير‏ ‏منطق‏ ‏العصر‏ ‏ولا‏ ‏ثورة‏ ‏التوصيل‏ ‏ولا‏ ‏ثورة‏ ‏المواصلات‏.‏

خامسا‏: أن تفجرت‏ ‏الصراعات‏ ‏الطبقية‏ ‏بكل‏ ‏ما‏ ‏تحمل‏ ‏من‏ ‏حقد‏ ‏وانتقام‏ ‏واستغلال‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏جانب‏ ‏للآخر‏: ‏الأعلى ‏للأدنى ‏والأدنى ‏للأعلى (‏باعتبار‏ ‏الوجه‏ ‏السلبى ‏لـ‏ ‏ديالكتيك‏ “‏العبد‏ ‏والسيد” ‏عند‏ ‏هيجل).

وهذان‏ ‏الشكلان‏ ‏الأخيران‏ ‏خاصة‏ ‏قد‏ ‏حملا‏- ‏ويحملان‏- ‏من‏ ‏المخاطر‏ ‏مالا‏ ‏يمكن‏ ‏للعلم‏ ‏أن‏ ‏يقف‏ ‏متفرجا‏ ‏عليها‏, ‏فضلا‏ ‏عن‏ ‏أن‏ ‏يكتفى ‏بتجهيز‏ ‏وسائل‏ ‏الدمار‏ ‏المتزايد‏ ‏لها‏.‏

وهذه‏ ‏الصور‏ ‏ليست‏ ‏شاملة‏ ‏لمظاهر‏ ‏عدوانية‏ ‏أخرى ‏تختلف‏ ‏فى ‏ظاهرها‏ ‏السلوكى ‏باختلاف‏ ‏الأفراد‏ ‏مثل‏ ‏الهجاء‏, ‏والسخرية‏, ‏والتخلى (‏تحت‏ ‏شعار‏: ‏أنت‏ ‏حر‏ ‏مثلا‏) ‏والرقة‏ ‏المتفرجة‏ ‏وغيرها‏ ‏مما‏ ‏لا‏ ‏مجال‏ ‏لتفصيله‏ ‏هنا‏, ‏فضلا‏ ‏عن‏ ‏الجريمة‏, ‏وخاصة‏ ‏جرائم‏ ‏العنف‏.‏

الأهمية‏ ‏البقائية‏ ‏للعدوان‏ ‏والمسارات‏ ‏المحتملة‏ ‏بين‏ ‏التعليم‏ ‏والإعلاء‏  ‏والتطور ‏الأرقي‏:‏

وها‏ ‏نحن‏ ‏الآن‏ ‏نقترب‏ ‏من‏ ‏السؤال الثالث‏: ‏فإذا‏ ‏كان‏ ‏العدوان‏ ‏بهذه‏ ‏القوة‏ ‏وهذا‏ ‏الإلحاح‏, ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏له‏ ‏فى ‏الوقت‏ ‏نفسه‏ ‏إلا‏ ‏أقل‏ ‏قدر‏ ‏من‏ ‏فرص‏ ‏التعبير‏ ‏الإيجابى ‏والمسار‏ ‏البنـاء‏, ‏ثم‏ ‏كانت‏ ‏صوره‏ ‏المحورة‏ ‏والخفية‏ ‏المهددة‏ ‏من‏ ‏أخطر‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏تصوره‏ ‏على ‏مسيرة‏ ‏الإنسان‏ ‏عامة‏, ‏فما‏ ‏هو‏ ‏الموقف‏ ‏العلمى ‏المسئول‏ ‏تجاه‏ ‏كل هذا؟

لابد‏ ‏أن‏ ‏نعود‏ ‏نستلهم‏ ‏الحيوانات‏ ‏نسألهم‏ ‏ماذا‏ ‏فعلوا‏ ‏هم‏ ‏وعجزنا‏ ‏عنه‏ ‏نحن‏ ‏بورطتنا‏ ‏المرعبة‏, ‏فنجد‏ ‏أن‏ ‏العدوان‏ ‏بين‏ ‏نفس‏ ‏النوع‏  Intraspecies‏هو‏ ‏أمر‏ ‏شديد‏ ‏الخطر‏ ‏على ‏نوع‏ ‏بذاته‏ ‏بحيث‏ ‏حاولت‏ ‏أغلب‏ ‏الحيوانات‏ ‏تحقيق‏ ‏غايتها‏ ‏دون‏ ‏ممارسته‏ ‏الى ‏نهايته‏ ‏وهى ‏القتل‏, ‏وقد‏ ‏أثار‏ ‏إريك‏ ‏فروم[15](1973) ‏تساؤلا‏ ‏مزعجا‏ ‏يقول‏: ‏هل‏ ‏الإنسان‏ ‏نوع‏ ‏واحد؟‏ Is man one species‏ يث‏ ‏عرض‏ ‏احتمال‏ ‏أنه‏ ‏نظرا‏ ‏لاختلاف‏ ‏اللغات‏ ‏والألوان‏ ‏والأوطان‏ , ‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏استقبالنا‏ ‏لبعضنا‏ ‏البعض‏ ‏قد‏ ‏وصل‏ ‏إلى ‏اعتبارنا‏ ‏أجناسا‏ ‏متعددة‏, ‏لا‏ ‏جنسا‏ ‏واحدا‏.

وأقول‏ ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏الاحتمال‏ ‏يجيب‏ ‏جزئيا‏ ‏عن‏ ‏وجه‏ ‏الغرابة‏ ‏فى ‏أن‏ ‏يتصف‏ ‏الإنسان‏ ‏دون‏ ‏الحيوانات‏ ‏الأدنى ‏بصفات‏ ‏تبدو‏ ‏غبية‏ ‏بيولوجيا‏, ‏إذ‏ ‏هى ‏مهددة‏ ‏لجنسه‏ ‏بشكل‏ ‏خطير، وإن كنت سأعود للاشارة إلى احتمال تطور وتطوير ذلك من واقع وعى جديد ينمو فعلا.

يقول تينبرجن:

“… إن القاعدة أن كل الأنواع قد نجحت فى أن تحقق النصر دون أن يقتل أحدهما الأخر” وفى الحقيقة أنه حتى مجرد إسالة الدماء يعتبر حدثا نادرا فيما بينها، والإنسان هو النوع الوحيد الذى يمارس القتل الجماعى، الوحيد ذو الوضع الناشز فى مجتمعه”.

وقد‏ ‏حذقت‏ ‏الحيوانات‏ ‏فيما‏ ‏بين‏ ‏أفراد‏ ‏نوعها‏ أساسا- ‏لعبة‏ ‏الإنذارات‏ ‏والتهديد‏ (‏الحرب‏ ‏الباردة‏) ‏بدرجة‏ ‏أعفتها‏ ‏من‏ ‏القتاال‏ ‏الفعلى ‏أساسا‏ ‏فضلا‏ ‏عن‏ ‏القتل‏., ‏وقد‏ ‏درس‏ ‏علماء‏ ‏الحيوان‏ ‏وعلماء‏ ‏الإثولوجى ‏هذه‏ ‏الإنذارات‏ ‏وتـمنى ‏المهتمين‏ ‏بالأمر‏ (‏من‏ ‏الإثولوجيين‏ ‏خاصة‏) ‏أن‏ ‏يحذق‏ ‏الإنسان‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الإنذارات‏, ‏وأن‏  ‏يتعلم‏ ‏ترويض‏ ‏العدوان‏ ‏لإحلال‏ ‏التهديد‏ ‏محل‏ ‏القتل‏, ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏التمنى ‏قد‏ ‏حفت‏ ‏به‏ ‏باستمرار‏ ‏شكوك‏ ‏الإعاقة‏ ‏ومخاوف‏ ‏استحالة‏ ‏الترويض‏ ‏فى ‏زمن‏ ‏مناسب‏ ‏مع‏ ‏احتمالات‏ ‏أن‏ ‏تسبق‏ ‏القدرة‏ ‏القتالية‏ ‏التعليم‏ ‏الكافى ‏فينتهى ‏العالم‏. ‏واقترح‏ ‏آخرون‏ ‏إعادة‏ ‏توجيه‏ ‏مسار‏ ‏العدوان‏ Redirection, ‏حتى ‏ضربوا‏ ‏مثلا‏ ‏سطحيا‏ ‏لذلك‏, ‏وهو‏ ‏الضرب‏ ‏بقبضة‏ ‏اليد‏ ‏على ‏المائدة‏ ‏بدلا‏ ‏من‏ ‏ضرب‏ ‏الخصم‏, ‏وشابه‏ ‏بعضهم‏ ‏توجيه‏ ‏المسار‏ ‏هذا‏ ‏بعملية‏ ‏الإعلاء Sublimation   ‏التى ‏قال‏ ‏بها‏ ‏فرويد‏ ‏بالنسبة‏ ‏للجنس‏. ‏ولكن‏ ‏الإعلاء‏ ‏أمل‏ ‏هؤلاء‏ ‏الباحثين‏- ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يـقبل‏ ‏إلا‏ ‏كمرحلة‏ ‏من‏ ‏مراحل‏ ‏النمو‏, ‏وإلا‏ ‏فالانشقاق‏ ‏الإنسانى ‏حتم‏, ‏وإعاقة‏ ‏التطور‏ ‏مضاعفة‏ ‏يستحيل‏ ‏تصور‏ ‏استمرارها‏, ‏وحتى ‏فرويد‏ ‏الذى ‏أعلى ‏من‏ ‏شأن‏ “‏التسامي”  Sublimation قد‏ ‏هوجم‏ ‏بشدة‏ ‏لما‏ ‏لحق‏ ‏الغرائز‏ ‏على ‏يديه‏ ‏أو‏ ‏لدى ‏أتباعه‏ ‏من‏ ‏عقلنة‏ ‏مشوهة‏ ‏كما‏ ‏ذكرنا‏.‏

أما‏ ‏الأمل‏ ‏فى ‏التعليم‏  ‏فلابد‏ ‏من‏ ‏تذكر‏ ‏أن‏ ‏التعليم‏ ‏بالبصم‏ ‏وهو‏ ‏الأساس‏ ‏المفترض‏ ‏لغريزة‏ ‏العدوان‏ ‏بقيمتها‏ ‏البقائية‏ , ‏لا‏ ‏يزول‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏التعليم‏ ‏ التشريطىConditioned  Learning  , ‏لكنه‏ ‏قد‏ ‏يختفى ‏ويمكن‏ ‏أن‏ ‏يحول‏ ‏ظاهريا‏, ‏ولذلك‏  ‏فينبغى  ‏ألا‏  ‏نأمل‏  ‏كثيرا‏  ‏فى  ‏الحل‏  ‏الأمثل‏  ‏عن‏  ‏طريق ‏عادات‏ ‏جديدة‏ ‏حسنة‏  ‏المظهر‏ ‏دون‏  ‏اعتبار‏ ‏تحوير‏ ‏واستيعاب‏ ‏الدافع البيولوجى‏ ‏الغريزى ‏الأصيل‏.‏

ومما‏ ‏يدل‏ ‏على ‏تواضع‏ ‏هذه‏ ‏الآمال‏ ‏التى ‏تهدف‏ ‏كلها‏ ‏للقضاء‏ ‏على ‏العدوان‏ ‏بالإبدال‏ ‏أساسا‏‏ هو ما تصوره “‏تينبرجن” ‏قائلا‏:

“‏وعلينا‏ ‏نحن‏ ‏العلماء‏-‏على ‏الأقل‏-‏أن‏ ‏نتسامى ‏بعدواننا‏ ‏بأن‏ ‏نهاجم‏ ‏العدو‏ ‏فى ‏داخلنا‏……. ‏أى ‏أنفسنا‏ ‏غير‏ ‏المعروفة‏ ‏لنا”‏

ونحن إذ نقدر‏ ‏هذه‏ ‏التمنيات‏ ‏الطيبة‏ !!!, والتى تصدر من علماء الاثولوجى والحيوان لا نسمح بأنفسنا فى ‏مجالى ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏والطب‏ ‏النفسى بهذا الحل الوديع والأمانى الشعرية.

وأول‏ ‏ما‏ ‏ينبغى ‏تذكره‏ ‏هو‏ ‏إدراك‏ ‏حجم‏ ‏ما‏ ‏وقع‏ ‏فيه‏ ‏فرويد‏ (‏أو‏ ‏أتباعه‏ ‏ومفسروه‏) ‏مع‏ ‏حسن‏ ‏نيته‏ ‏وسلامة‏ ‏بداياته‏- ‏من‏ ‏عجز‏ ‏عن‏ ‏عرض‏ ‏الحل‏ ‏المناسب‏ ‏لتناول‏ ‏الغرائز‏ ‏حين‏ ‏أعطى ‏للعقلنة‏ ‏والتسامى ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏حقهما‏, ‏الأمر‏ ‏الذى ‏أثار‏ ‏اعتراضات‏ ‏عنيفة‏ (‏مثل‏ ‏اعتراضات‏ ‏لورانس‏ ‏فى ‏سخرية‏ ‏أدبية‏ ‏قاسية‏, ‏أو‏ ‏رايخ‏ ‏فى ‏شطحات‏ ‏علمية‏ ‏عملاقة‏, ‏أو‏ ‏ماركيوز‏ ‏فى ‏توفيق‏ ‏اجتماعى ‏سياسى ‏مغر‏.. ‏أو‏ ‏غيرهم‏), ‏ولكن‏ ‏علينا‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏أن‏ ‏نحذر‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏ننساق‏ ‏وراء‏ ‏هذه‏ ‏الاعتراضات‏ ‏الحماسية‏ ‏حتى ‏لانجد‏ ‏أنفسنا‏ ‏أمام‏ ‏الزعم‏ ‏الشاعرى ‏القائل‏ ‏مع‏ ‏جان‏ ‏جاك‏ ‏روسو‏ ‏بالعودة‏ ‏إلى ‏الطبيعة (لاحظ كلمة “العودة”) الأمر الذى يحتاج إلى الجنة شخصيا حتى يتحقق ذلك بأمان كاف، ومع التسليم أن منظر هذه الدعوة الفنى والرمزى شديد الجمال والجاذبية، إلا أن مسئولية العلماء أخطر من ذلك لا محاله.‏

وإزاء‏ ‏غريزة‏ ‏العدوان‏ ‏بالذات‏, ‏فإن‏ ‏مجرد‏ “‏الإبدال” ‏خطر‏ ‏شديد‏ ‏باعتبار‏ ‏المسارات‏ ‏الخفية‏ ‏التى ‏أشرنا‏ ‏إلى ‏تهديدها‏ ‏المتزايد‏.‏

كذلك‏ ‏فإن‏ ‏العودة‏ ‏إلى ‏الطبيعة‏ ‏خطر‏ ‏أشد‏ ‏لأنه‏ ‏خليق‏ ‏أن‏ ‏يعيد‏ ‏قانون‏ ‏البقاء‏ ‏للأقوي‏, ‏وليس‏ ‏للأنفع‏ (‏والأخير‏ ‏هو‏ ‏قانون‏ ‏العالم‏ ‏المتحضر‏ ‏الآن‏, ‏أو‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏كذلك‏).‏

وقبل‏ ‏أن‏ ‏نستطرد‏ ‏فى ‏البحث‏ ‏عن‏ ‏فهم‏ ‏لتطور‏ ‏غرائزنا‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏نراجع‏ ‏تساؤل‏ ‏إريك‏ ‏فروم‏ ‏الذى ‏أشرنا‏ ‏إليه‏ ‏قبلا‏, ‏والذى ‏اقترحت‏ ‏إجابته‏ ‏احتمال‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏الكائن‏ ‏البشرى ‏يعامل‏ ‏نفس‏ ‏جنسه‏ ‏ويستقبله‏ ‏باعتبار‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏جنسا‏ ‏واحدا‏, ‏فإذا‏ ‏صح‏ ‏ذلك‏ , ‏مع تفسيره باختلاف ‏ ‏اللغة‏ ‏واللون‏ و‏التعصب‏ ‏العنصرى  الوطنى (الجغرافى)‏, ‏فإن‏ ‏ذلك‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يتناقص‏ ‏فى ‏العصر‏ ‏الحاضر‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏لثورة‏ ‏التوصيل‏ ‏والمواصلات‏ (‏وهى ‏النتاج‏ ‏المباشر‏ ‏لثورة‏ ‏التكنولوجيا‏) ‏أن‏ ‏تقوم‏ ‏بدورها‏ ‏الإيجابى ‏فى ‏إعادة‏ ‏تنظيم‏ ‏وعى ‏الكائن‏ ‏البشرى ‏ليستقبل‏ ‏الانسان‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مكان‏ ‏باعتباره‏ “‏من‏ ‏نفس‏ ‏نوعه” ‏وبالتالى ‏فقد‏ ‏يرتقى ‏الى ‏مرتبة‏ ‏الحيوانات‏ ‏الأدنى (!!) ‏ليحافظ‏ ‏على ‏نوعه‏ ‏من‏ ‏عدوانيته‏ ‏عليه‏ “‏عن‏ ‏بعد”.‏

موقفنا من غرائزنا وكيفية احتواءها:

‏ ولكن‏ ‏هذه‏ ‏الافتراضات‏ ‏الآملة لا يمكن أن تعفينا ‏من‏ ‏مراجعة‏ ‏حذرة‏ ‏لموقف‏ ‏تطور‏ ‏الغرائز‏ ‏فى ‏مسيرة‏ ‏الانسان‏ متذكرين السؤالين الأساسيين مرة ثانية حول هذا الموضوع:

أولا‏: ‏ما‏ ‏هو‏ ‏الموقف‏ ‏الحالى ‏تجاه‏ ‏غرائزنا‏ ‏البدائية‏ ‏التى ‏كانت‏ ‏فى ‏صورتها‏ ‏الفجة‏ ‏لازمة لزوم الحياة ‏لحفظ‏ ‏البقاء‏  ‏‏والنوع ‏معا؟

ثانيا‏: ‏كيف‏ ‏يتم‏ ‏احتواء‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الغرائز‏ ‏واستيعابها‏ ‏وتحويرها‏ ‏مع‏ ‏تطور‏ ‏الحياة‏ ‏والأحياء‏, ‏وكيف‏ ‏يسهم‏ ‏الوعى بأبعاد ذلك‏ ‏كله‏ ‏فى ‏توجيه‏ ‏المسيرة؟

وهنا‏ ‏أبدأ‏ ‏بوضع‏ ‏تصورى ‏للإجابة‏ ‏على ‏هذين‏ ‏السؤالين:

‏1- ‏إن‏ ‏الغريزة‏, ‏باعتبارها‏ ‏سلوك‏ ‏بدائى ‏مطبوع‏, ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏مورث‏ ‏للنوع‏ ‏كافة‏, ‏ومورث‏ ‏للفرد‏, ‏مع‏ ‏بعض‏ ‏التفاصيل‏ ‏المختلفة‏ ‏فرديا‏, ‏هى ‏تنظيم‏ ‏نيورونى ‏خلوى ‏قائم‏ ‏فى ‏ذاته‏, ‏كما‏ ‏هو‏ ‏قائم‏ ‏ضمن‏ ‏ارتباطات‏ ‏أكبر‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏.

‏2-‏إن‏ ‏لكل‏ ‏غريزة‏ ‏تعبير‏ ‏بدائى ‏مباشر‏, ‏كما‏ ‏أن‏ ‏لها‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏ارتباطات‏ ‏تنظيمها‏ ‏النيورونى ‏والخلوى ‏تعبيرات‏ ‏محورة‏ ‏تخدم‏ ‏أيضا‏ ‏المستويات‏ ‏الأعلى ‏من‏ ‏الوجود‏ ‏الحيوى ‏للنوع‏ ‏أو‏ ‏الفرد‏ ‏على ‏حد‏ ‏سواء‏.‏

‏ 3-‏إن‏ ‏الغريزة‏ ‏لا‏ ‏تظهر‏ ‏فى ‏صورتها‏ ‏البدائية‏ ‏الأولية‏ ‏الفجة‏ ‏تماما‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏انفصلت‏ ‏عن‏ ‏سائرالغرائز‏ ‏من‏ ‏ناحية‏, ‏وكذلك‏ ‏إذا‏ ‏انفصلت‏ ‏عن‏ ‏سائر‏ ‏الوظائف‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخري‏.‏

‏4-‏إذا‏ ‏عجزت‏ ‏الغريزة‏ ‏عن‏ الاحتواء‏ ‏فى ‏الارتباطات على المستوى  ‏الأعلى ‏الأشمل‏ ‏قامت‏ ‏بدورها‏ ‏الدافعى ‏لوظائف‏ ‏أرقي‏- ‏دون‏ ‏الالتحام‏ ‏بها‏- ‏مما‏ ‏ ‏يخفف‏ ‏من‏ ‏احتمال‏ ‏ظهورها‏ ‏بمظهرها‏ ‏البدائى ‏مباشرة‏, ‏ويعتبر‏ ‏هذا‏ ‏الحل‏ ‏حل وسطا‏ ‏ناجحا‏ ‏كمرحلة‏, ‏لكن‏ ‏استمراره‏ ‏كحل‏ ‏دائم‏, ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يعوق‏ ‏النمو‏ ‏لا‏ ‏محالة‏.

 ‏5- ‏يمر‏ ‏نمو‏ ‏الغريزة‏ ‏على ‏مستوى ‏تطور‏ ‏النوع‏ ‏والفرد‏ ‏معا‏ ‏فى ‏خطوات‏ ‏متتالية‏ ‏تصاحب‏ ‏اتساع‏ ‏دائرتها‏ ‏وشمول‏ ‏ارتباطاتها‏, ‏بما‏ ‏يشمل‏ ‏الوعى ‏بها‏ ‏حتى ‏فى ‏صورتها‏ ‏البدائية‏, ‏و‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏تأجيلها‏ ‏وتنظيمها‏.‏

‏6- ‏تتعرض‏ ‏هذه‏ ‏الارتباطات‏ ‏الأشمل‏ ‏للتفكيك‏ ‏المرحلى ‏فى ‏الحلم‏, ‏أو‏ ‏أزمات‏ ‏النمو‏, ‏تمهيدا‏ ‏لولاف‏ ‏أعلى ‏وأشمل‏, ‏فهى ‏لا‏ ‏تمحى ‏أبدا‏ ‏بصورتها‏ ‏البدائية‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏مرحلة‏ ‏نظرية‏ ‏تماما‏ ‏هى ‏مرحلة‏ “‏التكامل‏ ‏القصوي” ‏التى ‏تعتبر‏ ‏هدفا‏ ‏دائما‏ ‏فى ‏تطور‏ ‏الإنسان‏ ‏الحالي‏.‏

‏7- ‏يستمر‏ ‏نمو‏ ‏الغريزة‏ ‏وتتسع‏ ‏ترابطاتها‏ ‏حتى ‏تصبح‏ ‏قادرة‏ ‏على ‏الالتحام‏ ‏الولافى ‏بنقيضها‏ ‏الغريزي‏, ‏أو‏ ‏الوظيفي‏.‏

ومن‏ ‏خلال‏ ‏هذه‏ ‏الافتراضات‏ ‏المبدئية‏ ‏يمكن‏ ‏إعادة‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏التصورات‏ ‏والمعلومات‏ ‏والمظاهر‏ ‏المتعلقة‏ ‏بغريزة‏ ‏الجنس‏ ‏باعتبارها‏ ‏نموذجا‏ ‏نال‏ ‏حظا‏ ‏وافرا‏ ‏من‏ ‏الدراسة‏, ‏وكذلك‏ ‏باعتبارها‏ ‏أقل‏ ‏اتهاما‏ ‏بأنها‏ ‏مجرد‏ ‏تعلم‏ ‏مكتسب‏ !!‏

‏ ‏ونعيد‏ ‏ترتيب‏ ‏هذه‏ ‏المعطيات‏ ‏على ‏الوجه‏ ‏التالى ‏بالنسبة‏ ‏لغريزة‏ ‏الجنس‏:‏

‏1-‏إن‏ ‏الغريزة‏ ‏الجنسية‏ ‏بكل‏ ‏صورها‏ ‏البدائية‏ ‏والتالية‏ ‏موجودة‏ ‏فى ‏التركيب‏ ‏البشرى ‏بتاريخه‏ ‏الحيوى ‏كله‏, ‏وكمثال‏: ‏فإن‏ ‏مضاجعة‏ ‏المحارم‏ ‏هى ‏من‏ ‏صلب‏ ‏السلوك‏ ‏البقائى ‏للحيوانات‏ ‏وللإنسان‏ ‏حتى ‏عهد‏ ‏قريب‏, ‏فظهور‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏السلوك‏ ‏على ‏مستوى ‏الحلم‏ ‏أو‏ ‏غيره‏ (‏الجنون‏) ‏لا‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏تبريرات‏ “‏أوديبية” ‏أو‏ ‏افتراض‏ ‏عقد‏ ‏تثبيتية‏, ‏لأنه‏ ‏أصل‏ ‏فى ‏التكوين‏ ‏البشري‏, ‏ولعل‏ ‏التأكيد‏ ‏على ‏هذه‏ ‏التفاصيل‏ ‏الدرامية‏ ‏الذكرياتية‏ ‏الفردية‏ ‏قد‏ ‏تضاعف‏ ‏للتخفيف‏ ‏من‏ ‏صعوبة‏ ‏مواجهة‏ ‏الطبيعة‏ ‏البشرية‏ ‏بتاريخها‏ ‏الصعب‏.‏

‏2-‏إن‏ ‏وظيفة‏ ‏الغريزة‏ ‏الجنسية‏ ‏البدائية‏ ‏هى ‏حفظ‏ ‏النوع‏ ‏أساسا‏, ‏وذلك‏ ‏بالتناسل‏, ‏كما‏ ‏أن‏ ‏شكلها‏ ‏هو‏ ‏التلاحم‏ ‏الجسدى ‏المتداخل‏, ‏أما‏ ‏وظيفتها‏ ‏الأرقى ‏لحفظ‏ ‏النوعية‏ (‏نوعية‏ ‏الإنسان‏ ‏بما‏ ‏هو‏ ‏إنسان‏) ‏فهى ‏التواصل‏ (‏العلاقة‏ ‏بالموضوع‏ ‏كما‏ ‏يسمونه‏) ‏لإعطاء‏ ‏الإنسان‏ ‏ميزاته‏ ‏الاجتماعية‏ ‏وامتداد‏ ‏وجوده‏ ‏إلى ‏الأخرين‏ ‏ومنهم‏, ‏تعاونا‏ ‏ورقيا‏.‏

‏3-‏إن‏ ‏التعبير‏ ‏المعاصر‏ ‏لغزيرة‏ ‏الجنس‏ ‏هو‏ ” ‏الغرام” ‏بمعنى ‏الحب‏ ‏الثنائى ‏بما‏ ‏يشمل‏ ‏معانى ‏العشق‏ ‏والشوق‏ ‏والحنين‏ ‏وما‏ ‏إليها‏.‏

‏4-‏إن‏ ‏الميكانزم‏ ‏الإبدالى ‏السليم‏, ‏فى ‏حالة‏ ‏عجز‏ ‏هذه‏ ‏الغريزة‏ (‏النسبى ‏أو‏ ‏المطلق‏) ‏عن‏ ‏التعبير‏ ‏المباشر‏ ‏هو‏ “‏التسامي” ‏الذى ‏اعتبره‏ ‏فرويد‏ ‏بشكل‏ ‏ما‏ ‏أساسا‏ ‏لكثير‏ ‏من‏ ‏مظاهر‏ ‏الحضارة‏.‏

‏5-‏إن‏ ‏الكبت‏ ‏المفرط‏ ‏لغريزة‏ ‏الجنس‏ ‏إنما‏ ‏ينتج‏ ‏عنه‏ ‏استــنفاذ‏ ‏الطاقة‏ ‏التى ‏يحتاجها‏ ‏الكبت‏ ‏وكذلك‏ ‏الحرمان‏ ‏من‏ ‏طاقة‏ ‏الجنس‏ ‏ذاتها‏ ‏مما‏ ‏يترتب‏ ‏عنه‏ ‏اضطراب‏ ‏فى ‏النمو، (اضطراب الشخصية من النوع السماتى خاصة) كما انه قد يترتب  عليه تحويلا وابدالاً قد يظهر فى صورة أنواع مختلفة من العصاب بشكل خاص وكان هذا هو اهتمام فرويد الأول، وربما يفسر اهتمامه بالعصاب بشكل خاص.

‏6-‏إن‏ ‏نوع‏ ‏الإبداع‏ ‏الذى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يستوعب‏ ‏الطاقة‏ ‏الجنسية‏ ‏الداخلية‏ ‏هو‏ ‏الإبداع‏  ‏التواصلى (‏إن‏ ‏صح‏ ‏التعبير‏) ‏الذى ‏يبلغ‏ ‏من‏ ‏تناسقه‏ ‏وجماله‏ ‏أن‏ ‏يخلق‏ ‏لغة‏ ‏جميلة‏ ‏تواصلية‏ ‏بين‏ ‏المبدع‏ ‏والمستمتع‏.‏

‏7-‏إن‏ ‏التطور‏ ‏الأرقى ‏لهذه‏ ‏الغريزة‏ ‏هو‏ ‏طاقة‏ ‏الحب‏ (‏وليس‏ ‏الغرام‏) ‏بما‏ ‏يشمل‏  ‏معانى ‏الرعاية‏ ‏و‏ ‏المسئولية‏ ‏والرؤية‏ (‏مع‏ ‏تحمل‏ ‏التناقض‏) ‏والتواصل‏ ‏لتحقيق‏ ‏حفظ‏ ‏النوعية‏ (‏ماهو‏ ‏إنسان).

‏8-‏إن‏ ‏الهدف‏ ‏الأعلى ‏هو‏ ‏الولاف‏ ‏بين‏ ‏النقائض‏ ‏الأولية‏ (‏الجنس‏ ‏مع‏ ‏العدوان‏) ‏ثم‏ ‏الولاف‏ ‏الأعلى ‏فالأعلى (‏الوظائف‏ ‏الدوافعية‏ ‏مع‏ ‏الوظائف‏ ‏الترابطية‏ “‏مثل‏ ‏التفكير”) ‏وهى ‏مرحلة‏ ‏نظرية‏ بالضرورة‏ حاليا.

وعلى ‏هذا‏ ‏القياس‏ ‏تماما‏, ‏يمكن‏ ‏إعادة‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏غريزة‏  ‏العدوان‏ ‏ومسارها‏ ‏على ‏الوجه‏ ‏التالي‏:‏

‏1-‏إن‏ ‏غريزة‏ ‏العدوان‏ ‏فى ‏صورتها‏ ‏البدائية‏ (‏القتل‏ ‏والالتهام‏) ‏موجودة‏ ‏فى ‏التركيب‏ ‏البشرى ‏بتاريخه‏ ‏الحيوي‏, ‏وقتل‏ ‏الأكبر‏ ‏سنا‏ (‏مثلا‏: ‏الوالد‏) ‏لتوفير‏ ‏الطعام‏ ‏وإعطاء‏ ‏فرصة‏ ‏للاستمرار‏ ‏الحيوى ‏لا‏ ‏يحتاج‏ ‏بالتالى ‏إلى ‏تفسيرات‏ ‏درامية‏ ‏ذكرياتية‏ ‏فرودية‏  ‏أوديبية‏ ‏تثبيتية‏ ‏خاصة‏.‏

‏2- ‏إن‏ ‏وظيفة‏ ‏غزيرة‏ ‏العدوان‏ ( ‏البدائية‏) ‏أساسا‏ ‏هى ‏حفظ‏ ‏الحياة‏ (‏الاستمرار‏ ‏الفيزيائي‏) ‏وذلك‏ ‏بالقتل‏ ‏بشقيه‏, ‏أما‏ ‏وظيفتها‏ ‏الأرقى ‏فهى ‏السيطرة‏ ‏للتنظيم‏ ‏الطبقى ‏التمييزى ‏المرحلى ‏بالضرورة‏.‏

‏3- ‏إن‏ ‏التعبير‏ ‏المعاصر‏ ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏الغريزة‏ ‏هو‏ ‏تأكيد‏ ‏الذات‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏الآخرين‏.‏

‏4-‏إن‏ ‏الميكانزم‏ ‏الإبدالى ‏فى ‏حالة‏ ‏عجز‏ ‏هذه‏ ‏الغريزة‏ (‏النسبى ‏أو‏ ‏المطلق‏) ‏عن‏ ‏التعبير‏ ‏المباشر‏ ‏وغير‏ ‏المباشر‏ ‏هو‏ ‏التعويض‏ ‏التفوقى ‏بالنجاح‏ ‏والمكسب‏ ‏والسيطرة‏,([16]) ‏والانتصار‏ ‏بكل‏ ‏صوره‏, ‏ومثال‏ ‏ذلك‏ ‏الكسب‏ ‏الرياضى ‏إما‏  ‏على ‏الفريق‏ ‏الآخر‏ ‏وإما‏ ‏على ‏الرقم‏ ‏القياسى ‏السابق‏ “‏كسر‏ ‏الرقم‏ ‏القياسي”.. (‏لاحظ‏ ‏تعبير‏ “‏كسر”).‏

‏5-‏إن‏ ‏الكبت‏ ‏المفرط‏ ‏لغريزة‏ ‏العدوان‏ ‏إنما‏ ‏ينتج‏ ‏عنه‏ ‏إستنفاذ‏ ‏طاقة‏ ‏أكبر‏ ‏لازمة‏ ‏لهذا‏ ‏الكبت‏ ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏قمع‏ ‏طاقة‏ ‏العدوان‏ ‏ذاته‏, ‏مما‏ ‏يترتب‏ ‏عنه‏ ‏توقف‏ ‏النمو‏ (فى صور الاضطرابات النمطية للشخصية مثلاً)، وفى بعض الاحيان يسبب ارتداد هذه الطاقة إلى الداخل فى شكل تمزيق ذات للأخرى ثم تناثر الاثنان معاً (الصورة السلبية لأمل تينبرجن سالف الذكر).

‏6-‏إن‏ ‏الإبداع‏ ‏الذى ‏يستوعب‏ ‏الطاقة‏ ‏العدوانية‏ ‏هو‏ ‏الإبداع ‏الخالقى ‏الذى ‏يتضمن‏ ‏إحدى ‏مراحله‏ ‏تحطيم‏ ‏الكل‏ ‏القديم‏ ‏إلى ‏مكوناته‏ ‏وجزئياته‏ ‏لإعادة‏ ‏صياغته‏ ‏مع‏ ‏أجزاء‏ ‏كل‏ ‏آخر‏ ‏تم‏ ‏تحطيمه‏‏, ‏ثم‏ ‏صناعة‏ ‏ولاف‏ ‏أعلى ‏من‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏, ‏وهو‏ ‏ليس‏ ‏إبداعا‏ ‏تواصليا‏ ‏إبتداء‏ ‏بل‏ ‏لعله‏ ‏يكون‏ ‏تنفيريا‏ ‏فى ‏البداية‏ (‏كما‏ ‏سيأتي‏).‏

‏7-‏إن‏ ‏التطور‏ ‏الأرقى ‏لهذه‏ ‏الغريزة‏ ‏هو‏ ‏الإبداع‏ ‏الخالقى ‏على ‏مستوى ‏عالم‏ ‏الواقع‏ (‏وليس‏ ‏عالم‏ ‏الفن‏ ‏كبديل‏) ‏ويشمل‏ ‏ذلك‏  ‏الثورة‏ ‏ (‏غير‏ ‏الدموية‏ ‏خاصة‏)‏.

‏8-‏إن‏ ‏الهدف‏ ‏الأعلى ‏هو‏ ‏الولاف‏ ‏بين‏ ‏النقائض‏ ‏ظاهريا‏ (‏الجنس‏ ‏مع‏ ‏العدوان‏) ‏ثم‏ ‏الولاف‏ ‏الأعلى ‏فالأعلى (‏الوظائف‏ ‏الدوافعية‏ ‏مع‏ ‏الوظائف‏ ‏الترابطية‏ ‏تحقيقا‏ ‏للتكامل‏ ‏الأقصي‏), ‏وهى ‏حاليا‏ ‏مرحلة‏ ‏نظرية‏ ‏بالضرورة‏ والواقع إن هذه المقابلة تحتاج إلى تفصيل لا يمكن أن يستوعبه هذا البحث وخاصا فيما يتعلق بأنواع المرض المتعلقة بكل غريزة ووظيفتها وطبيعة العدوان الداخلى لأن ما يهم فى هذا البحث فى المقام الأول هو عرض الحل الصحى المنطقى لإنطلاق العدوان وليس الصورة المرضية لمضاعفات كبته.

وهذا‏ ‏الحل‏ ‏الصحى ‏الذى ‏يتم‏ ‏على ‏مراحل‏ ‏قد‏ ‏تناول‏ ‏مرحلته‏ ‏الوسطى ‏ألفريد‏ ‏أدلر‏ ‏كما‏ ‏نوهت‏ ‏قبلا‏, ‏وذلك‏ ‏بالنسبة‏ ‏لحديثه‏ ‏عن‏ ‏الميل‏ ‏إلى ‏السيطرة‏, ‏وعما‏ ‏أسماه‏ “‏التأكيد‏ ‏الذكرى ” Masculine Protest ‏وهى ‏المرحلة‏ ‏المقابلة‏ ‏للتسامى ‏بالنسبة‏ ‏لحل‏ ‏غريزة‏ ‏الجنس‏, ‏على ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الحل‏ ‏وذاك‏- ‏كما‏ ‏أشرنا‏ ‏قبلا‏-‏هما‏ ‏حلول‏ ‏إبدالية‏, ‏والإبداع‏ ‏فى ‏صورتيه‏ ‏هو‏ ‏المرحلة‏ ‏الأولى ‏بالدراسة‏ ‏بما‏ ‏يناسب‏ ‏العصر‏ وفى ‏هذا‏ ‏البحث‏ ‏سأركز‏ ‏على ‏الإبداع‏ ‏الخالقى ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏الإبداع‏ ‏التواصلى ‏لأنه‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يستوعب‏ ‏العدوان‏ ‏أساسا‏ من‏ ‏أن‏ ‏فصل‏ ‏نوعى ‏الإبداع‏ ‏عن‏ ‏بعضهما‏ ‏هو‏ ‏فصل‏ ‏تعسفى ‏لأن

جدول (1) يبين المقارنة بين الجنس والعدوان فى مختلف الأبعاد ومن مختلف الزوايا

 

الجنس

العدوان
الشكل البدائىالوظيفة البدائيةالوظيفة الأرقىالتعبير المعاصرالميكانزم الابدالى

آثار الكبت المفرط (وما يترتب عليه إذا ما نهار)

 

احتمالات وظيفة الابدال

التطور الأرقى

الهدف الأعلى

الالتحام الجسدى المتداخل التناسلالتناسلالتواصل (العلاقة)الغرامالتسامى

 

توقف النمو (اضطرابات الشخصية وخاصة سمات الشخصية) والمرض النفسى (وخاصة العصاب)

التسامى يصنع الحضارة

الإبداع التواصلى (أولا)

الولاف بين النقائض:

الجنس مع العدوان ثم الدوافع مع الفكر …… الخ

القتل (أو التهام)حفظ حياة الفردتأكيد الذات (فى مواجهة الآخرين)النجاحا

لتعويض التفوقى (الانتصار)

توقف النمو ( اضطرابات الشخصية وخاصة نمط الشخصية) والمرض النفسى (وخاصة الذهان وبالذات الفصام)

التفوق يصنع الإنجاز (المسهم فى الحضارة)

الإبداع الخالقى ( أساسا)

الولاف بين النقائض:

الجنس مع العدوان ثم الدوافع مع الفكر …. الخ

‏ ‏علاقتهما‏ ‏جد‏ ‏وثيقة‏ ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏الغريزتين‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏الأعلى ‏من التواصل‏ ‏من‏ ‏بعضهما‏ ‏البعض‏ ‏فى ‏الإعداد‏ ‏للولاف‏ ‏الأعلى ‏من‏ ‏خلال‏ ‏تلاحم‏ ‏تناقضهما‏ ‏الظاهرى، ولابد من توضيح بعض المعلم الأساسية الإبداع الخالقى[17]فيما يقابلها من ملامح العدوان

إذا يشمل هذا النوع من الإبداع ما يلى:

‏1 – تحطيم‏ ‏القديم‏ ‏فى ‏مغامرة‏ ‏فردية‏ ‏صعبة‏ ‏تتصل‏ ‏بعامل‏ ‏الأصالة‏ ‏وتأكيد‏ ‏الذات‏ ‏أساسا‏.‏

‏2-‏إعادة‏ ‏خلق‏ ‏الجديد‏ ‏من‏ ‏جزيئات‏ ‏القديم‏ ‏المحطم‏ ‏بما‏ ‏يشمل‏ ‏المخاطرة‏ ‏بالوحدة‏ ‏والرفض‏ [18]

‏3- يتم‏ ‏هذا‏ ‏التحطيم‏ ‏وإعادة‏ ‏البناء‏ ‏عادة‏ ‏على ‏حساب‏ ‏الآخرين – فى ‏البداية‏ ‏وظاهر‏ ‏الأمر- ذلك‏ ‏أنه‏ ‏يهزهم‏ ‏ويقلقل‏ ‏استقرارهم‏ ‏ويشكك‏ ‏فى ‏معتقداتهم‏ ‏ويهدد‏ ‏سكينتهم‏.‏

‏4- يلاقى ‏المبدع‏ ‏من‏ ‏جراء‏ ‏إبداعه‏ ‏الخلاق‏ ‏من‏ ‏الرفض‏ ‏والنبذ‏ ‏والقسوة‏ ‏والاضطهاد‏ ‏ما‏ ‏يجعله‏ ‏فى ‏معركة‏ ‏حقيقية‏.‏

‏5- ‏يقاوم‏ ‏المبدع‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏بالوحدة‏ ‏والإصرار‏ ‏والاستمرار‏ ‏مما‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏كل‏ ‏طاقة‏ ‏عدوانه تجاههم.. ولهم.. فى النهاية، وهذا هو الفرق الأعظم بين العدوانى فى صورته البدائية والعدوانى فى صورته الإبداعية.

أما الإبداع التواصلى فقد يكون مرحلة تالية للإبداع الخالقى حين يثابر ويستمر حتى يثير التنظيم المقابل الجديد فى المتلقى، وهذا التسلسل يقابل أصلا أنه أجيانا ما يكون الجنس لاحقا للعدوان فى بعض الأنشطة البدائية (دون حاجة إلى افتراضات سادية شاذة) وقد يكون الإبداع التواصلى أقرب شئ إلى الفن المواهبى Talented Art  وهو فن تنمية القدرات الفنية الخاصة[19]وقد اقتطف أريتى فى كتابه “الإبداع” رأى ناثانيل هرش Nathaniel Hirsh فى كتابه الذكاء الخلاق حيث فرق بين “الموهوب” والمبدع الخلاق الذى أسماه “العبقرى” تفرقة هامة تختلط على الكثيرين حتى كاد يعتبرهما نقيض بعضهما الآخر، ففى حين أن الموهوب يحسن  الأداء فإن العبقرى يصنع الجديد، والموهوب يتقن التحليل الجزئى فى حين أن العبقرى يعتمد على حدسه، والموهوب يتكيف ويحقق المكاسب فى حين أن العبقرى يعطى حياته كلها لهدف الخلق الإبداعى، وهذه التفرقة رغم فائدتها إلا إنها تشير إلى استقطاب لا أوافق عليه، وما يهمنى هنا هو أن هذا النوع من الإبداع التواصلى ليس بديلا عن الجنس (وإلا كان الأولى أن يسمى تساميا) ولكن منطقيا من الجنس ومحتويه، وعموما فهو ليس موضوعنا الآن، كذلك فإن الإبداع الخالقى ليس بديلا عن العدوان ولكنه منطلق من العدوان  ومحتويه ومحقق لوظيفته الأصلية فى أرقى مراحل تطوره قبل الاندماج فى الولاف التكاملى الجديد، ولابد أن أشير إلى بعض مصادر هذه الفكرة التطورية من واقع مشاهداتى الكلينيكية وخبراتى الذاتية:

1- فقد لاحظت أن بعض الأمراض النفسية، الدورية خاصة، ذات المحتوى الفصامى (أخطر إبداع مرضى) تتناوب مع هذا النوع من الإبداع الخالقى، كما لاحظت نفس الملاحظة ولكن بدرجة أقل بالنسبة لحالات صرعية معينة (والتاريخ يشير لمثل هذا التبادل أيضا) مما جعلنى أفكر فى التكافؤ الوظيفى العكسى وراء هذا التبادل، وأبحث عن البديل الثالث فى الفترات الحالية من الصورتين، وكان هذا البديل الثالث هو العدوان المباشر بصور مختلفة[20]

2- فى العلاج الجمعى كانت صور التعبير عن العدوان[21] بمختلف أشكالها فى سماح مسئول يعقبه تأهيل دعامى طويل من علامات بداية الولادة لإعادة الخلق الذاتى من جديد مع اختفاء الأعراض.

3- فى علاج بعض حالات اضطراب الشخصية من النوع النمطى (وخاصة الشيزويدية أى الشبقصامية من النوع الرقيق الحساس بوجه خاص) كان الذى يتفجر من وراء هذه الرقة بعد المرور “بالمأزق” Impasse فى العلاج الجمعى خاصة هو طاقة عدوانية ساحقة لا يحلها لا يحلها إلا التغير الذاتى الجوهرى أو الطاقة الثائرة المسئولة بما نعنيه بالإبداع الخلاق.

4- أثناء إشرافى على عديد من الرسائل الجامعية المتضمنة لخطوات تتطلب الحسم بالرأى الشخصى بمعنى الترجيح الإبداعى لتفسير جديد، وطرح الفروض، ومتابعة تحقيقها من خلال معايشة فنومنولوجية ذاتية، كان المعوق الأول هو العجز عن العدوان، وبتعميق أكثر وبتعبير أدق: الخوف من العدوان، وكان تدريبى لطلبتى لتخطى هذه الخطوة هو الممارسة لعبور هذا الخوف، وكان الباب الذى ينفتح بالممارسة ليدخل منه التفكير الخلاق بعد المناقشة المغامرة المسئولة يتضمن رعبا من العدوان ثم انتصارا مقداما بما يشبه العدوان.

5- فى خبرتى الشخصية كان أهم ما ساعدنى على اتخاذ موقف ناقد مغامر من أى مقولة أو بحث أو معلومة مطبوعة أو شائعة أو مسلم بها مهما كان مصدرها أو قائلها هو اجتيازى مرحلة الخوف من العدوان، إلى مرحلة التمكن من العدوان، وطمأنينتى على ممارسته بسيطرة كاملة على حساب القديم لصالح الجديد والآخر فى آن واحد، وأعتقد أن مما ساعد على ذلك مباشرة هى التجربة الخبراتية الذاتية التى أشرت إليها فى عمل سابق[22] كما تأكد ذلك من خلال ممارسة علاجية طويلة فى مجال نوع العلاج الجمعى الذى أمارسه والذى تمت أبحاث متنوعة فى شانه، ومن خلاله.

من كل ذلك بدأت فى التفكير فى ترجيح اعتبار الابداع الخالقى مخرجا حضاريا لأعتى وأعمق غريزة حيوية (بشرية) على الاطلاق وهى العدوان ثم بدأت ممارستى الكلينيكية والتدريسية تثبت ذلك بشكل متزايد ومطمئن إلى احتمال صدق هذا الفرض، وإن كان عرض ذلك سوف يحتاج لا محالة إلى تفاصيل عرض حالات بمراحل تطورها المختلفة كما سيحتاج إلى تحديد الأشكال السلوكية لما أسميته إبداعا خالقا غير مقتصر على الانتاج الفنى بوظيفته الإبدالية والانشقاقية وغير مقتصر على أن يقاس بالمقاييس السائدة مثل الأصالة[23] المرونة والطلاقة والحساسية وما إليها (ولكن غير مهمل أى منها فى نفس الوقت) ذلك أن ما أعنيه بالإبداع الخالقى إنما يشمل :

1- المتلقى ‏الناقد‏ ‏المبدع‏ ‏الذى ‏يعيد‏ ‏صياغة‏ ‏ما‏ ‏يتلقى

2‏- التغيير‏ ‏الذاتى ‏الإبداعى ‏المشتمل‏ ‏على ‏مغامرة‏ ‏طرق‏ ‏باب‏ ‏المجهول‏ ‏ثم‏ ‏إلى ‏الجديد‏ ‏حتما‏.‏

3- الإنشاء‏ ‏العلمى ‏أو‏ ‏الأدبى ‏أو‏ ‏الفنى ‏الإبداعى ‏المغيــر‏.‏

4-‏ لموقف‏ ‏الإبداعى ‏الحياتى ‏المتجدد‏.‏

5- ‏الثورة‏ ‏السياسية‏ ‏والاجتماعية‏ ‏والاقتصادية‏ ‏المبدعة ‏المسئولة‏.‏

وكل‏ ‏ذلك‏ ‏بلا‏ ‏استثناء‏ ‏فيه‏ ‏من‏ ‏تحطيم‏ ‏القديم‏ ‏وتحديه‏, ‏ومن‏ ‏صناعة‏ ‏الجديد‏ ‏ومخاطره‏, ‏ما‏ ‏يتفق‏ ‏مع‏ ‏المعالم‏ ‏الأولية‏ ‏لوظيفة‏ ‏غريزة‏ ‏العدوان‏ ‏كما‏ ‏أوضحناها‏.‏

على أنى أنبه إلى أن تنمية هذا النوع من الإبداع من الإبداع تختلف تماما عن الشائع من الاهتمام بتنمية المواهب أو السمات الفنية وتدريبها، حيث يحتاج تنبيه الأول إلى مناخ وسماح وأبجدية والتزام بجرعات شديدة التناسب مما يحتاج إلى بحث آخر ونقاش آخر.

الذكورة والأنوثة والابداع والعدوان

‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏ينتهى ‏هذا‏ ‏العرض‏ ‏المحمل‏ ‏بكل‏ ‏هذا‏ ‏الثقل‏ ‏البيولوجى ‏دون‏ ‏أن‏ ‏نواجه‏ ‏تحديا‏ ‏صريحا‏ ‏صادرا‏ ‏من‏ ‏نتائج‏ ‏الأبحاث‏ ‏المتعلقة‏ ‏بالسلوك‏ ‏العدوانى ‏وما‏ ‏لوحظ‏ ‏من‏ ‏مصاحباته‏ ‏من‏ ‏ارتفاع‏ ‏فى ‏نسبة‏ ‏هرمون‏ ‏الذكورة‏ (‏التستسترون‏) estosterone ‏فى ‏الدم‏, ‏فقد‏ ‏ثبت‏ ‏بما‏ ‏لا‏ ‏يدع‏ ‏مجالا‏ ‏للشك‏ ‏أن‏ ‏مستوى ‏هرمون‏ ‏التستسترون‏ ‏فى ‏الدم‏ ‏يتناسب‏ ‏تناسبا‏ ‏طرديا‏ ‏مع‏ ‏السلوك‏ ‏العدوانى ‏فى ‏عديد‏ ‏من‏ ‏حيوانات‏ ‏التجارب‏ ‏حتى ‏أصبحت‏ ‏هذه‏ ‏المشاهدة‏ ‏من‏ ‏الحقائق‏ ‏العلمية‏ ‏التى ‏لاجدال‏ ‏فيها‏, ‏وقد‏ ‏فسرها‏ ‏بعضهم‏ ‏تفسيرا‏ ‏تطوريا‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏الذكر‏ ‏الأقوى ‏عدوانا‏ ‏هو‏ ‏الأقدر‏ ‏جنسيا‏ ‏وبالتالى ‏فهو‏ ‏الأضمن‏ ‏للتناسل‏ ‏وتأكيد‏ ‏قوى ‏النسل‏ ‏القادم‏, ‏غير‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التفسير‏ ‏الاجتهادى ‏لم‏ ‏يقنع‏ ‏الكثيرين‏.‏

وقد‏ ‏ذهب‏ ‏آخرون‏ ‏إلى ‏التعمق‏ ‏فى ‏دراسة‏ ‏شكل‏ ‏هذه‏ ‏العلاقة‏ ‏وارتباطاتها‏ “‏كسبب‏ ‏ونتيجة” ‏وقد‏ ‏وجدوا‏ ‏أن‏ ‏إثارة‏ ‏السلوك‏ ‏العدوانى ‏فى ‏ذاته‏ ‏يضاعف‏ ‏مستوى ‏هذا‏ ‏الهرمون‏ ‏الذكرى ‏فى ‏الدم‏ ‏صعودا‏ ‏إلى ‏خمسة‏ ‏أضعاف‏, ‏مما‏ ‏جعل‏ ‏احتمال‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏هذه‏ ‏الزيادة‏ ‏هى ‏نتيجة‏ ‏للسلوك‏ ‏العدوانى ‏وليست‏ ‏سببا‏ ‏له‏, ‏الأمر‏ ‏الذى ‏يمكن‏ ‏تفسيره‏ ‏تطوريا‏ ‏مما‏ ‏لا‏مجال‏ ‏لتفصيله‏, ‏وقد‏ ‏نرجع‏ ‏إليه‏ ‏فى ‏بحث‏ ‏آخر‏.‏

ومع‏ ‏احتمال‏ ‏صدق‏ ‏هذه‏ ‏التفاسير‏, ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الأمر‏ ‏يحتاج‏ ‏لمزيد‏ ‏من‏ ‏الإيضاح‏ ‏لأنه‏ ‏لو‏ ‏كان‏ ‏العدوان‏ ‏كذلك‏ ‏لأصبح‏ ‏سمة‏ ‏ذكرية‏ ‏أساسا‏, ‏وفى ‏هذا‏ ‏ما‏ ‏يخالف‏ ‏اعتبارنا‏ ‏له‏ ‏دافعا‏ ‏بقائيا‏ ‏أساسيا‏ ‏لحفظ‏ ‏الحياة‏ ‏والذات‏, ‏ولابد‏ ‏للخروج‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏المأزق‏ ‏من‏ ‏تصور‏ ‏جديد‏ ‏لأبعاد‏ ‏الموضوع‏ ‏برمته‏ ‏من‏ ‏منطلقين‏ ‏وهما‏:‏

‏(‏ا‏) ‏إن‏ ‏السلوك‏ ‏العدوانى ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏كل‏ ‏مظاهر‏ ‏غريزة‏ ‏العدوان‏, ‏ولكن‏ ‏يبدو‏ ‏أنه‏ ‏لايتعدى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏الشكل‏ ‏الظاهر‏ ‏لها‏.‏

‏(‏ب‏) ‏إن‏ ‏عدوان‏ ‏الرجل‏ (‏الذكر‏) ‏انبعاثى ‏ظاهر‏ ‏يتعلق‏ ‏ببقاء‏ ‏الفرد‏ ‏أساسا‏ ‏ثم‏ ‏النوع‏, ‏أما‏ ‏عدوان‏ ‏الأنثى (‏المرأة‏) ‏فهو‏ ‏احتوائى ‏ملتهم‏ ‏أساسا‏ ‏يتعلق‏ ‏ببقاء‏ ‏النوع‏ ‏أصلا‏ ‏باعتبار‏ ‏أن‏ ‏الذكر‏ ‏يقوم‏ ‏بالدفاع‏ ‏الأول‏, ‏ويمكن‏ ‏أن‏ ‏يثبت‏ ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏مراجعتنا‏ ‏لظهور‏ ‏أقسى ‏أنواع‏ ‏السلوك‏ ‏العدوانى ‏عند‏ ‏الأنثى (‏القطة‏ ‏مثلا‏) ‏عند‏ ‏تهديد‏ ‏أطفالها‏ ‏حديثى ‏الولادة‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏, ‏أى ‏أن‏ ‏الحفاظ‏ ‏على ‏النوع‏ (‏أطفالها‏) ‏يثير‏ ‏لديها‏ ‏العدوان‏ ‏الصريح‏ ‏مباشرة‏.‏

وعلى ‏نفس‏ ‏المقياس‏ ‏يمكن‏ ‏تصور‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏إبداع‏ ‏الرجل‏ ‏وإبداع‏ ‏المرأة‏, ‏الأمر‏ ‏الذى ‏أشرت‏ ‏إليه‏ ‏فى ‏بحث‏ ‏سابق‏[24] ‏حيث‏ ‏أكدت‏ ‏على ‏اختلاف‏ ‏المرأة‏ ‏عن‏ ‏الرجل‏ ‏اختلاف‏ ‏بداية‏ ‏وليس‏ ‏اختلاف‏ ‏هدف‏ ‏أو‏ ‏غاية‏ ‏وجود‏, ‏كما‏ ‏أوضحت‏ ‏أن‏ ‏عجز‏ ‏التاريخ‏ ‏أن‏ ‏يرصد‏ ‏للمرأة‏ ‏تفوقا‏ ‏أو‏ ‏تساويا‏ ‏فى ‏الإبداع‏ ‏لايمكن‏ ‏أن‏ ‏يفسره‏ ‏القهر‏ ‏الاجتماعى ‏والاقتصادى ‏الذى ‏لحق‏ ‏بالمرأة‏ ‏فحسب‏, ‏وإنما‏ ‏التفسير‏ ‏الذى ‏طرحته‏ ‏هناك‏ ‏كان‏ ‏يتعلق‏ ‏بأن‏ ‏إبداع‏ ‏المرأة‏ ‏الذى ‏لم‏ ‏يحسب‏ ‏لها‏ ‏لم‏ ‏يوضع‏ ‏فى ‏الاعتبار‏ ‏أصلا‏ ‏لأنه‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏فى ‏بؤرة‏ ‏الانتباه للتعريف الشائع للابداع حيث هو ‏ابداع‏ ‏الحياة‏ ‏وإبداع‏ ‏التغير‏ ‏الذاتى ‏وإبداع‏ ‏الاسهام‏ ‏فى ‏التطوربالنص “‏إفراز‏ ‏الحياة‏ ‏وليس‏ ‏بديلا‏ ‏عنها” (المرجع ص 20) ‏ثم‏ ‏يأتى ‏إبداعها‏ ‏بالرموز‏ ‏والعلامات‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏نتاجا‏ ‏طبيعيا‏ ‏لتكاملها‏ ‏وليس‏ ‏بديلا‏ ‏انشقاقيا‏ ‏عن‏ ‏التكامل‏, ‏كما‏ ‏يحدث‏ ‏للرجل‏ ‏فى ‏بداية‏ ‏الأمر‏, ‏وهذا‏ ‏يتفق‏ ‏مع‏ ‏مقولة‏ ‏وينيكوت Winnicot ‏التى ‏كانت‏ ‏أحد‏ ‏الأسس‏ ‏التى ‏بنيت‏ ‏عليها‏ ‏هذا‏ ‏البحث‏ ‏وهى ‏أن‏ ‏الرجل‏ “‏فاعل  – ‏ابتداء‏- ‏ليكون”, ‏أما‏ ‏المرأة‏ ‏فهى “‏كائنة‏-‏أصلا‏ – ‏لتفعل” ‏وحتى ‏تتم‏ ‏المقارنة‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏تعمل ‏ ‏تجارب‏ ‏على ‏هرمونات‏ ‏الأنوثة‏ ‏والذكورة‏ ‏معا‏ ‏فى الإناث تناسباً مع السلوك العدوانى المباشر (عند تهديد أطفالها حديثى الولادة مثلاً) وكذلك مع الاثارة العدوانية المفترضة بالتهديد المباشر وبمقارنة كل الهرومونات لكل الاحتمالات قد يمكن ان نخلص إلى نتيجة أعمق من هذا الاحتمال الضعيف الذى يربط سلوكاً عدوانياً بذاتيه بهرمونات ذكرية بذاتيها .

كما‏ ‏أن‏ ‏هرمون‏ ‏التسترون‏ ‏لا‏ ‏يصح‏ ‏أن‏ ‏يعتبر‏ ‏هرمونا‏ ‏ذكريا‏ ‏مجردا‏, ‏فهو‏ ‏موجود‏ ‏فى ‏الإناث‏ ‏من‏ ‏إفراز‏ ‏قشرة‏ ‏الغدة‏ ‏فوق‏ ‏الكلوية‏, ‏كما‏ ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏ثبت‏ ‏أن‏ ‏نسبته‏ ‏فى ‏الإناث‏ ‏مسئولة‏ ‏مباشرة‏ ‏عن‏ ‏كفاءة‏ ‏الحياة‏ ‏الجنسية‏ ‏لدى ‏المرأة‏, ‏كما‏ ‏أن‏ ‏له‏ ‏وظيفة‏ ‏بنائية‏ ‏أيضية‏ (‏ميتابوليزمية‏) ‏كذلك‏.‏

وهكذا‏ ‏نعود‏ ‏لنؤكد‏ ‏أن‏ ‏دراسة‏ ‏الجذور‏ ‏الغريزية‏ ‏والبيولوجية‏ ‏للعدوان‏ ‏وتطوره‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تأخذ‏ ‏فى ‏الاعتبار‏ ‏كل‏ ‏مظاهر‏ ‏السلوك‏ ‏على ‏سائر‏ ‏المستويات‏ ‏.

كما‏ ‏نؤكد‏ ‏مرة‏ ‏ثانية‏ ‏أن‏ ‏الفروق‏ ‏بين‏ ‏الجنسين‏ ‏هى ‏فروق‏ ‏بيولوجية‏ ‏دالة‏, ‏ولكنها‏ ‏فروق‏ ‏بداية‏ ‏مسيرة‏ ‏وليست‏ ‏فروق‏ ‏غاية‏ ‏ومصير‏.‏

الخلاصة

ومن‏ ‏هذه‏ ‏المقدمة‏ ‏نستطيع‏ ‏أن‏ ‏نخلص‏ ‏إلى بعض الفروض الخليقة بالدراسة والملاحظة والاستيعاب والمراجعة والتحقق:

‏1-‏إن‏ ‏نظرية‏ ‏الغرائز‏ ‏بصورتها‏ ‏الجديدة‏ ‏من‏ ‏منطلق‏ ‏علم‏ ‏الإثولوجيا‏ ‏قد‏ ‏عادت‏ ‏لتأخذ‏ ‏حقها‏ ‏فى ‏فهم‏ ‏سلوك‏ ‏الإنسان‏ ‏وتطوره‏.‏

‏2-‏إن‏ ‏التسليم‏ ‏بنظرية‏ ‏للغرائز‏ ‏يرتبط‏ ‏ارتباطا‏ ‏مباشرا‏ ‏بالتأكيد‏ ‏على ‏وراثة‏ ‏العادات‏ ‏المكتسبة‏ ‏حتى ‏لايصبح‏ ‏تعويقا‏ ‏لأى ‏تخطيط‏ ‏مسئول خلاق‏ ‏لتطور‏ ‏الإنسان‏.‏

‏3-‏إن‏ ‏غريزة‏ ‏العدوان‏ ‏أعمق‏ ‏وأكثر‏ ‏خطورة‏ ‏من‏ ‏غريزة‏ ‏الجنس‏, ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فهى ‏لم‏ ‏تأخذ‏ ‏حقها‏ ‏فى ‏الدراسة‏ ‏والبحث‏ ‏بالقدر‏ ‏المناسب‏.‏

‏4-‏إن‏ ‏الفرص‏ ‏المتاحة‏ ‏للتعبير‏ ‏عن‏ ‏العدوان‏ ‏فى ‏حياتنا‏ ‏المعاصرة‏ ‏نادرة‏ ‏وواهنة‏ ‏بحيث‏ ‏تجعل‏ ‏إهمال‏ ‏دراسة‏ ‏هذه‏ ‏الغريزة‏ ‏خطرا‏ ‏أكثر‏ ‏تهديدا‏.‏

‏5-‏إن‏ ‏الصور‏ ‏المحورة‏ ‏للتعبير‏ ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏الغريزة‏ ‏وتراكماتها‏ ‏شديدة‏ ‏الخطورة‏ ‏لافتقار‏ ‏الإنسان‏ ‏إلى ‏الجهاز‏ ‏المناسب‏ ‏الصالح‏ ‏للتحكم‏ ‏فيها‏ ‏مباشرة‏.‏

‏6-‏إن‏ ‏إنكارها‏-‏أو‏ ‏أهمالها‏-‏استسهالا‏ ‏خطر‏ ‏لا‏ ‏يتفق‏ ‏مع‏ ‏مسئوليات‏ ‏العلماء‏ ‏المعاصرين‏ ‏مهما‏ ‏كان‏ ‏التبرير‏ ‏مقنعا‏ ‏تحت‏ ‏وهم‏ ‏أى ‏أمل‏ ‏أخلاقى ‏أو‏ ‏حلم‏ ‏مثالي‏.‏

‏7-‏إن‏ ‏محاولة‏ ‏ترويضها‏ ‏بالتعليم‏ ‏الشرطي‏, ‏أوإبدالها‏ ‏بالإعلاء‏ ‏والتعويض‏ ‏السطحى ‏بالنجاح‏ ‏والسيطرة‏ ‏هى ‏وسائل‏ ‏مرحلية‏ ‏إن‏ ‏نجحت‏ ‏فينبغى ‏أن‏ ‏نؤكد‏ ‏على ‏طبيعتها‏ ‏المرحلية‏ ‏وإلا‏ ‏أعاقت‏ ‏النمو‏ ‏فى ‏النهاية‏.‏

‏8-‏إن‏ ‏التغافل‏ ‏عن‏ ‏حسابات‏ ‏غريزة‏ ‏العدوان‏ ‏وتأثيرها‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏مسئولا‏ ‏عن‏ ‏الحروب‏ ‏والتمييز‏ ‏الطبقى ‏المعلن‏ ‏والخفى ‏بين‏ ‏الأجناس‏ ‏والطبقات‏ ‏الإقتصادية‏ ‏والاجتماعية‏ ‏والأديان‏, ‏الأمر‏ ‏الذى ‏زادت‏ ‏مضاعفاته‏ ‏وتضخمت‏ ‏مخاطره‏ ‏وخاصة‏ ‏بعد‏ ‏تملك‏ ‏أدوات‏ ‏الدمار‏ ‏بلا‏ ‏حدود‏, ‏مما‏ ‏يهدد‏ ‏السلام‏ ‏البشرى ‏بل‏ ‏وبقاء‏ ‏النوع‏ ‏الإنسانى ‏أصلا‏.‏

‏9-‏إن‏ ‏الحل‏ ‏المسئول‏ ‏يتطلب‏ ‏إعادة‏ ‏فهمنا‏ ‏لمراحل‏ ‏تطور‏ ‏الغرائز‏, ‏فيما‏ ‏بعد‏ ‏الإبدال‏ ‏والتسامى ‏نتيجة‏ ‏لتآلفها‏ ‏مع‏ ‏وظائف‏ ‏أخرى ‏ومع‏ ‏بعضها‏ ‏البعض‏ ‏فى ‏تصعيد‏ ‏مستمر‏.‏

‏10-‏إن‏ ‏الإبداع‏ ‏الخالقى ‏بمواصفاته‏ ‏الفائقة‏ ‏وخطواته‏ ‏المميزة‏ ‏من‏ ‏تحطيم‏ ‏وإعادة‏ ‏صياغه‏, ‏ثم‏ ‏ما‏ ‏يترتب‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏نبذ‏ ‏واضطهاد‏ ‏وإصرار‏ ‏وتحد‏, ‏هو‏ ‏أقرب‏ ‏الصور‏ ‏للعدوان‏ ‏الحضارى ‏مباشرة‏ ‏دون‏ ‏إعلاء‏ ‏أو‏ ‏إبدال‏ ‏ولكن‏ ‏بالمعنى ‏التوافقى ‏والولافى ‏الأعلي‏.‏

‏11-‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏إتاحة‏ ‏الفرصة‏ ‏لمثل‏ ‏هذا‏ ‏الإبداع‏ ‏بجرعات‏ ‏متزايدة‏ ‏ولأعداد‏ ‏متزايدة‏ ‏هو‏ ‏الوقاية‏ ‏الأولى ‏من‏ ‏مخاطر‏ ‏الدمار‏ ‏الشامل‏ ‏فالانقراض‏ ‏التى ‏تهدد‏ ‏وجود‏ ‏الإنسان‏ ‏فى ‏مرحلته‏ ‏الحالية‏.‏

‏12- ‏إن‏ ‏دراسة أنواع ‏الإبداع‏ من منظور بيولوجى الجذور وظيفى المحتوى غائى الدافع سوف يفتح أفاق جديدة لبحوث جديدة تبنى على تفرقة جديدة تساهم فى مسار الإنسان وتكامله ولا تركز على سماته وإتقاناته الطرفية رغم ما فى ذلك من اسهام ايجابى لا جدال فيه إلا إنه يحتاج إلى أن يستوعب فيما هو كل غائى أشمل، فيوازى التضخم المنحرف المهدد لمسيرة الإنسان.

‏13- إن الفروق بين بيولوجية المرأة والرجل (الذكر والأثنى) لابد أن يستتبعه فرق بين عدوان الرجل والمرأة ثم فرق بين ابداع الرجل والمرأة ، علىالأقل من حيث نقط البداية دون المساس فى الغاية والمصير.

مراجع وقراءات

أولاً العربية

سيجموند فرويد : (ما بعد مبدأ اللذة) ترجمة محمد عثمان نجاتى، دار المعارف 1966

روجيه جارودى: (النظرية المادية فى المعرفة)، تعريب : إبراهيم قريط، دار دمشق للطباعة والنشر، دمشق.

يحيى الرخاوى: (تحرير المرأة وتطوير الإنسان، نظرة بيولوجية)، المجلة الاجتماعية القومية، المجلد الثانى عشر (العدد 2 ، 3) 1975.

يحيى الرخاوى: ( دراسة فى علم السيكوباثولوجى) : دار الغد للثقافة والنشر 1979 ، القاهرة.

ثانياً : الاجنبية

Alisson, G.F. (1972) “guilt, Anger and Dod” . New York: The Seabury Press.

Arieti, S. (1976) “Creativity: The Magic Synthesis”  New York: Basic Books>

Gorning , W.G. (1975) “Violence Dpends on your Point of View”  (In Dyal et al 1975).

Dyal, J., Corning, W. & Willows, D. (1975) “Readings in Psychology” : The Search for Alternatives New York: Mc Graw – Hill Book Gompany.

Fromm, E. (1973) “The Anatomy of Human Destructiveness”  New York: Fawcett Grest .

Lifton, R.J. (1975) “Home e from the War : The Psychology of Survival”, (In Dyal et al 1975).

Montague, A. (1975) “Animal and man : divergent behavior” (In Dyal et al, 1975).

Storr, A. (1970) “Human Aggression”  New York: Atheneum Publisher.

Tinbergen, N. (1975). “On War and Peace in Animals and Man”, (In Dyal et al, 1975).

 

[1]  – من أمثلة هذه التحذيرات:

 يقول ‏ ‏آرثر‏ ‏كوستلر‏ Arthur Koestler ..‏إننا‏ ‏لو‏ ‏تتبعنا‏ ‏الخط‏ ‏المجنون‏ ‏الذي‏ ‏سار‏ ‏عليه‏ ‏تاريخ‏ ‏الإنسان‏ ‏فإنه‏ ‏قد‏ ‏يظهر‏ ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏احتمالا‏ ‏كبيرا‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الكائن‏ ‏العاقل‏  Homo Sapien ‏ليس‏ ‏سوي‏ ‏مخلوق‏ ‏بيولوجي‏ ‏شاذ‏, ‏ناتج‏ ‏من‏ ‏خطأ‏ ‏واضح‏ ‏في‏ ‏عملية‏ ‏التطور‏’ ‏ويقول‏ ‏في‏ ‏موضع‏ ‏آخر‏: ‏إن‏ ‏ظهور‏ ‏القشرة‏ ‏المخية‏ ‏الجديدة‏ Neocortex  (في‏ ‏الإنسان) ‏هي‏ ‏المثال‏ ‏الوحيد‏ ‏في‏ ‏التطور‏ ‏الذي‏ ‏أعطي‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏الأحياء‏ ‏عضوا‏ ‏لا‏ ‏يعرف‏ ‏كيف‏ ‏يستفيد‏ ‏من‏ ‏استعماله‏.‏

2- يختص‏ ‏هذا‏ ‏البحث‏ ‏أساسا‏ ‏بالعدوان‏ ‏بين‏ ‏أفراد‏ ‏نفس‏ ‏الجنس‏Inraspecies  ‏دون‏ ‏سواه‏.‏

[3]- وكان‏ ‏الموقف‏ ‏أضعف‏ ‏بالنسبة‏ ‏لغريزتي‏ ‏الموت‏ Thanatos ‏والحياة‏Eros   )‏الحب‏ ‏العشق‏ ‏البقاء‏…) .‏كما ستأتى الإشارة إليه.

[4]- ميتشورين (1950) – عن النظرية المادية للمعرفة لروجية جارودى.

[5]- ‏عدد‏ ‏إريك‏ ‏فروم‏ ‏أربعة‏ ‏عشر‏ ‏من‏ ‏القبائل‏ ‏غير‏ ‏إسكيمو‏ ‏الأرض‏ ‏الخضراء‏ (‏مثل‏ ‏قبائل‏ ‏الإنكاس‏ Incas ‏والباشيجاس‏.. ‏وغيرها‏)‏ممن‏ ‏اعتبرتهم‏ ‏مجتمعات‏ ‏لا‏ ‏تتص‏t ‏بالعدوان‏ ‏التحطيمي‏ ‏أصلا‏.‏

[6]- ‏ يذهب‏ ‏بعض‏ ‏السلوكيين‏ (‏مثل‏ ‏ج‏.‏دولارد‏ ‏وزملائه‏) ‏إلي‏ ‏اعتبار‏ ‏العدوان‏ ‏ببساطة‏ ‏أحد‏ ‏مظاهر‏ ‏التفاعل‏ ‏للاحباط‏ ‏أساسا ‏ ‏.‏

[7]- ‏الرخاوى، دراسة فى علم السيكوباثولوجى:  إن السلوك الذى يطبع هو السلوك ذو الدلالة التطورية Evolutionarily significant

[8]- ‏ ‏نعلن‏ ‏تحفظنا‏ ‏ضد‏ ‏استعماله‏ ‏كلمة‏ ‏كريهة‏ offensive ‏لأي‏ ‏أثر‏ ‏بيولوجي‏, ‏حيث‏ ‏العيب‏ ‏الذي‏ ‏جعله‏ ‏كريها‏ ‏ليس‏ ‏في‏ ‏وجوده‏ ‏وإنما‏ ‏في‏ ‏انفصاله‏ ‏عن‏ ‏الكل‏.‏

[9] – رغم‏ ‏دعم‏ ‏لورنز‏ ‏لفكرة‏ ‏فرويد‏ ‏عن‏ ‏وجود‏ ‏غريزة‏ ‏خاصة‏ ‏بالعدوان‏ ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏ذهب‏-‏كما‏ ‏نحاول‏ ‏التأكيد‏ ‏هنا‏-‏إلي‏ ‏أنها‏ ‏غريزة‏ ‏تحترم‏ ‏الحياة‏ ‏بشكل‏ ‏ما‏ ‏في‏ ‏حين‏ ‏ذهب‏ ‏فرويد‏ ‏إلي‏ ‏أنها‏ ‏لا تحترم إلا الموت كما سيأتى.

[10] -‏في‏ ‏حديث‏ ‏إريك‏ ‏فروم‏ ‏عن‏ ‏العدوان‏ ‏كتأكيد‏ ‏للذات‏  Self Aggression ‏حاول‏ ‏أن‏ ‏يدعم‏ ‏العدوان‏ ‏كخطوة‏ ‏أمامية‏ (‏ضد‏ ‏النكوص‏ ‏كخطوة‏ ‏رجوعية‏) وناقش الأصل اللغوى لكلمة العدوانAggression باعتبارها أصلاad gradi   حيث gradus تعنى خطوةStep فى حين تعنى ad تجاه Towards  مما يعنى كما قال التحرك للأمام Moving Forward وفى اللغة العربية نجد مادة “عدا” من أكثر المواد اختلاطا وتوفقا على الصياغ الكامل وعموما فإنها لا تستبعد لالتقدم للأمام حيث: عدا عدوانا( بفتح العين والدال) جرى وأحضر وعدا عدوانا( بضم العين وفتح الواو) ظلمه وتجاوز الحد، وكأن اللغة العربية قد جعلت الحد الفاصل بين العدوان كنقدم والعدوان كاعتداء هو فرق كمى كتجاوز لحدود معينة.

[11] – ‏يحيي‏ ‏الرخاوي‏ : ‏دراسة‏ ‏في‏ ‏علم‏ ‏السيكوباثولوجي‏ 1979 (‏شرح‏ ‏سر‏ ‏اللعبة‏)  ‏.‏

[12] – كما‏ ‏يمكن‏ ‏الرجوع‏ ‏إلي‏ ‏عرض‏ ‏إريك‏ ‏فروم‏ (‏المحلل‏ ‏النفسي‏ ‏الحديث‏ ‏في‏ ‏كتابه‏ ‘‏تشريح‏ ‏عدوانية‏ ‏الانسان‏’) ‏لتطور‏ ‏وجهة‏ ‏نظر‏ ‏فرويد‏ ‏في‏ ‏نظرية‏ ‏العدوانية‏ ‏والتحطيم‏ Freud’s Theory of Aggressiveness and Destructivenes ‏في‏ ‏تسلسل‏ ‏رائع‏ ‏منذ‏ ‏اعتبرها‏ ‏أولا‏ (‏ثلاث‏ ‏مقالات‏ ‏في‏ ‏الجنس‏ 1905) ‏جزءا‏ ‏من‏ ‏المكونات‏ ‏الغرائزية‏ Component instincts  ‏لغريزة‏ ‏الجنس‏ ‏ثم‏ ‏أخذ‏ ‏يشك‏ ‏في‏ ‏وجودها‏ ‏كغريزة‏ ‏مستقلة‏ (‏حالة‏ ‏هانز‏ ‏الصغير‏ ‏سنة‏ 1909) ‏حتي‏ ‏أعلنها‏ ‏مستقلة‏ ‏في‏ ‘‏مافوق‏ ‏مبدأ‏ ‏اللذة‏ 1920′ ‏دون‏ ‏اقتناع‏ ‏كامل‏, ‏وكيف‏ ‏قرنها‏ ‏ابتداء‏ ‏بما‏ ‏أسماه‏ ‏غريزة‏ ‏الموت‏, ‏أي‏ ‏أنه‏ ‏نظر‏ ‏إلي‏ ‏فاعليتها‏ ‏السلبية‏ ‏والتحطيمية‏ ‏أساسا‏, ‏وظل‏ ‏يستعرض‏ ‏التطورات‏ ‏التالية‏ ‏حتي‏ ‏قرب‏ ‏وفاته‏ 1938 ‏حيث‏ ‏أكد‏ ‏أخيرا‏ ‘…‏إن‏ ‏العدوانية‏ ‏بصفة‏ ‏عامة‏ ‏هي‏ ‏ظاهرة‏ ‏غير‏ ‏صحية‏ ‏وتؤدي‏ ‏إلي‏ ‏المرض‏’ (‏لاحظ‏ ‏استعمال‏ ‏عدوانية‏ Aggressiveness ‏وليس‏ ‏عدوانا‏ Aggression ‏التي‏ ‏نادرا‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏يشير‏ ‏إليها‏ ‏والتي‏ ‏هي‏ ‏موضوع‏ ‏بحثنا‏ ‏هذا‏).‏

[13] – لم نذكر الجريمة وخاصة جرائم العنف كالقتل والسلب بالا كراه لأننا نتحدث عن الكشل المقبول اجتماعيا للعدوان، الجريمة غير مقبولة فهى مضادة للمجتمع بطبيعتها رغم أنها تعبير مباشر عن العدوان.

[14] – Storr.A.(1970)  انظر المراجع.

[15] – فى كتابه عن ” تشريح عدوانية الانسان” (انظر المراجع).

[16] – اهتم ألفريد أدلر (صاحب مدرسةعلم النفس الفردى) بعد انفصاله عن فرويد بهذه النزعة إلى السيطرة باعتبارها أساسا جوهريا أوليا فى الوجود البشرى، واعتبر إعاقتها سببا فى المرض النفسىعامة.

[17] –  هذا التصنيف للإبداع هومن منظور غائى وظيفى أساسا وليس له علاقة بـ، كما لا يناقض، تصنيفات الإبداع من أبعاد أخرىمثل الشكل الذىتقدم فيه،أوخطواته،أوما إلى ذلك.

[18] – هذا التعبير ليس هدف الإبداع الخالقى وإنما هو من مظاهره،بل ربما يكون من مضاعفاته،فالإبداع – حتىالذىلايهدف أساسا إلى التواصل (مثل الابداع التواصلى) يهدف – ضمن ما يهدف – إلى تأكيد العلاقة مع الأخر ولكن على مستوى جديد،ومصطفى سويف يرى أن الإبداع أن يكون نتاجا للدافع الذى ينشأ عن الخلاف العميق الذى ينجم بين الشخص وبين أفراد الجماعة، كما أنه فى حد ذاته “حركة”لإعادة تنظيم “النحن”، وهذا وذاك يقابل بعض وظيفة العدوان من حيث هو نتاج تصادم المصالح من ناحية، وهدفإلى إادة تنظيمالواقع بارساء علاقات جديدة تنشأ من نتيجة الصراع.

[19] – نفس التذييل فىالصفحةالسابقة.

[20] – راجع أيضا الشحاذ عند نجيب محفوظ، حين يعلن البدائل: “القتل أوالشئ أوالجنون”ولعل هذا الشئ هوما ظهر كعينة سريعة فى خبرته الصوفية فىالصحراء وكانت خبرة إبداعية خالقة كاملة.

[21] – مع ملاحظة أن العدوان المعنى ليس هوالقسوة الانشقاقيةDissociated cruelty  بحال من الأحوال، والتفرقة بينهما أمرحساس، ويحتاج إلى معالج متمرس لا يخاف من عدوانه شخصيا.

[22] – مقدة فىالعلاج الجمعى.

[23] -هناك من يميز بين الأصالة والإبداع (مثل جليفوردGuilford  ومالتزمانMaltzman وغيرهما) باعتبار أن أحدهما متضمن للأخر،أوسابق للأخر… إلخ، والذى يعنيى هنا هو أن هذه التفرقة بالنسبة لما أسميته بالإبداع الخالقى مستحيلة، فالأصالة شرط أساسى مسبق، ولكن التفرقةالتىأؤكدعليها هناهى تفرقة وظيفية غائية كما ذكرت،وإن كانت تتعلق أيضا بأعماق معينة فى عملية الإبداع ذاتها مما يحتاج إلى فرض أخر، وبحث أخر.

[24] – تحريرالمرأة وتطور الإنسان: نظرة بيولوجية (انظرالمراجع).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *