الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يوليو 1980 / يوليو1980-الفشل الحاد للمخ-2: حوار حول المفهوم

يوليو1980-الفشل الحاد للمخ-2: حوار حول المفهوم

الفشل الحاد للمخ

الجزء الثانى: حوار حول المفهوم

د. رفعت محفوظ

بعد نشر الجزء الأول من هذا البحث أتيحت الفرصة لمناقشة المفهوم أصلا وقبلا، وبما أن الذى يهم فى المقام الأول فى النشر العلمى هو وصول الرؤية، وتبادل الحوار، فقد فضلت أن أرجىء الجزء الثالث من هذا البحث وهو الخاص بالحالات الكلينيكية والمشاهدات الممثلة التى تدعم هذا الفرض وأن أخصص هذا الجزء لمناقشة هذا المفهوم أصلا وذلك ردا على بعض تعليقات أستاذ فاضل تفضل بالتعقيب على النسخة الانجليزية الأصل من الجزء الأول من البحث وهو الأستاذ الدكتور أحمد عكاشة، ثم رجوعا إلى صاحب الفرض الأستاذ الدكتور يحيى الرخاوى

وسنبدأ بأن نعرض للست تعليقات التى ذكرها الأستاذ الدكتور عكاشة إذ نعرضها على أ.د.يحيى الرخاوى للحوار مؤجلين رأينا الخاص للمناقشة بعد تقديم الحالات فى الجزء الثالث .

التعليق الأول : يقول أ.د أحمد عكاشة: إن هذا البحث هو (تناول فرضى لدراسة العقل والسلوك من منطلق فلسفى الطبع Philosophical nature معتمدا على معلومات تشريحية وفسيولوجية سطحية ) .

أ.د يحيى الرخاوى: إننى إذ أشكر سيادته أذكر نفسى وأذكره بضرورة ترجمة تعبير المنطلق الفلسفى الطبع، فهل ياترى هو يمدحه بهذا التعليق أم أنه يقلل من شأنه , وهل يعنى بأنه فلسفى عمق النظرة أم الابتعاد عما علم، ويبدو أن الاحتمال الأخير هو الأرجح لاستعماله كلمة( سطيحة) بعد ذلك، تلك الكلمة التى تحتاج بدورها إلى شرح مستفيض، إذ أن  الجزء الأول من البحث كان يؤكد بوضوح على مفهوم(أنماط التنظيم المخى) Organization Patterns of the brain وهو مفهوم كلى أعمق وأحطر من المفهوم التجزيئى لما هو(مشتبك)Synapse ، فإذا كان العمق هو التحديد أو التجزئ فلنا أن نختلف، وإذا كان العمق هو الميكروسكوب الالكترونى وليس التصور التنظيمى فقد سجنا أنفسنا فى معطيات تشريحية يعترف علماء التشريح أنفسهم بأنها مجرد نقرات خفيفة على باب هذا العضو العظيم المعقد التركيب، وعلماء التشريح وغيرهم أحوج ما يكونون إلى هذا (التناول الفرضى) من واقع الممارسة الكلينيكية ليبحثوا بدورهم عن أدوات أدق نثبت أو تنفى هذا الفرض، أما أن نظل محبوسين حابسين فى معطيات لا تخرج عن نطاق الآلات المتاحة فنحن بذلك نوقف عمدا البحث عن وسائل قياس جديدة ونضيق من حدود التفكير أصلا، ولو أن هوجلج جاكسون H.Jackson عالم الأعصاب الفيلسوف الرائد فى القرن التاسع عشر قد اتبع نصيحة الدكتور عكاشة لتوقف أصلا عن الافتراض والتفكير الخلاق الذى مازلنا نلهث وراءه لنحقق أو نتحقق من بعض ما قال (مثل وصفه الرائع لعمل النصف المتنحى للمخ الذى لم يتحقق بعضه إلا مؤخرا بعد دراسات قطع الجسم المندمل ودراسة الإبداع وعلاقاته بنصفى المخ)، ولو صح افتراض أن هذه الملحوظة تعنى التقليل من قيمة الفرض فى مقابل الملاحظة (كما سيتأكد من التعليق السادس) فإنى أعذر الزميل الصديق لذلك، ولكنى أذكره بأن الملاحظة لاتتم بكفاءة مثرية إلا من خلال فرض عامل (حتى ولو كمن هذا الفرض بعيدا عن وعينا) فعملية الانتقاء فى الملاحظة (حتى لو تحددت آلاتها العلمية) تنبع أساساً من فرض وتنتهى غالبا إلى فرض وكل ما نأمله هو أن تتصاعد الفروض تماسكا ونفعا سعيا إلى فهم أعمق وتنظير أدق لتطبيق أوثق ومخرج أكمل .

التعليق الثانى :أ.دعكاشه: إن كل الاستدلالات مبنية على قياسات تناظرية analogy وقد يصح أن يستعمل هذا الأسلوب فى التفكير المنطقى، و(حل المشاكل)، ولكنه يستحيل أن يكون أساسا للدراسة العلمية للمخbasis of scientific study of brain  

ويرد أ.د يحيى الرخاوى: إن حرص الزميل أ.دعكاشه على ما هو علم (حسب التعريف الذى ارتضاه للعلم) هو حرص الواعى بمسئوليته، ولكن المطلوب حاليا لفرعنا خاصة هو أن نعيد النظر فى مفهوم ما هو علم وأن نهتم (بالتفكير العلمى) بقدر اهتمامنا

(بالدراسة العلمية) وهذا الشاب الذى تجرأ فكتب هذا البحث يستحق كل تشجيع (كما فعل سيادته فى التعليق السادس) لابد أنه مبتدئ ولكن من حيث رغبتنا الصادقة فى حل المأزق الذى نحن فيه من حبس انفسنا فى تصورات عن ماهية العلم جعلتنا نخجل أن نسجل ما نرى  من ملاحظات، ونقرب إلى أقرب واحد صحيح كل ماهو غير صحيح، فى حين أن الواحد الصحيح الذى لدينا (المعلومة الثابتة ذات التعليل الأكيد) لا وجود له إلا كوهم فرضى حتى لو أخذ الشكل الرياضى، أوهو على أحسن الفروض (كسر اعتيادى) نختبى فيه من مواجهة (المعادلة الصعبة)، والتفكير العلمى على النقيض من ذلك هو التفكير الفرضى الاستنتاجىHypothatico deductive وهو الأساس لأى دراسة ولأى تجريد ولأى فرض وبدون تشجيعه وتنميته وتقديمه عن الدراسة وإلحاقه بالدراسة التى تسمى علمية نسقط الدراسة لا محالة .

وعلينا أن نتعلم من الفشل المتلاحق الذى أصاب كل الملاحظات الجزئية التى أوهمتنا باقتراب علمنا من العلم(!؟!!) من أول التفكير فى التسمم الذاتى autointoxication وحتى(أفيون المخ) (والبروستاجلاندينات)، وهذا الفشل المتكرر خليق بأن يحفرنا إلى إعادة النظر فيما أسميناه علما دون سواه .

التعليق الثالث : يقول أ.د عكاشه: إن زملة الهبوط الحاد للمخ Acute brain failure لايمكن قبولها مثلما نتحدث عن هبوط الكلى أو الكبد أو القلب لأن هذه الأخيرة قد سميت كذلك بعد أن عرفنا الصورة الميكروسكوبية وعلاقتها بالوظائف، وهذا غير موجود فى حالة هبوط المخ الحاد، على الأقل حتى الآن، فنحن لا نعلم تماما ماذا يحدث للمخ فى حالة الارتجاج، ومن ثم فكيف نفسر سلوك الإنسان .

ويعقب أ.د يحيى الرخاوى قائلا: إن تعبير الهبوط الحاد، والفشل العام، والتوقف هى تعبيرات وظيفية أصلا قبل التحديد الوظيفى والميكرسكوبى، وهى تعبيرات شائعة تاريخا بل وعند العامة، ولم تتحدد دراسة التغيرات الميكروسكوبية التى وراءها إلا مؤخرا.

 وبالتالى فإن التعبير الذى اقترحه أستاذنا الدكتور عبد المنعم حسب الله كان نتاجا لنقاش معى حول الحالة الرابعة التى سيعرضها هذا البحث حين لاحظنا علامات الفشل الجهازى العام الكلينيكية والمعملية Generalized Systemic failure حيث فشل القلب والتنفس (نسبيا) وفشل الكبد (نسبيا) وفشلت الكليتين (تماما) وفشل الجهاز الدموى

(التجلطى) نسيبا… ولم نجد تفسيرا لهذا الفشل الجهازى العام فى أى عضو منها على حدة، ولا فى إصابة ميكروبية ولا فى إصابة جهازية Systemic خاصة، وبالتالى فرض هذا الفرض نفسه باعتبار أن المخ وهو( المايسترو) إذ فشل فى مواجهة ضغط ننفسى علاجى وجودى شامل، فشل بالتالى فى التحكم فى سائر الأجهزة التى يتحكم فيها، وتم ذلك بشكل حاد محدد، مما يناسب الاسم المقترح .

وكذلك فإن استعمال لغة واحدة تنفع للمخ كجهاز فسيولوجى نفسى مثلما تنفع لسائر الأعضاء هو تقريب شرعى مستحسن لفهم عمل المخ من منطلق فسيولوجى نفسى لا يرفض التنظر الفلسفى ولكنه يقترب من النموذج الطبى دون السجن الميكروسكوبى .

ومن حق الاستاذ الدكتور عكاشه أن يبدى هذا التحفظ خاصة، ولكن أمانة مواجهة الفشل الذى أصاب علمنا من أجزاء التحفظات ضد الجديد ينبغى أن تثير فينا من الآلام ما شحذ انتباهنا لكل جديد، ويجعلنا نرفض الاستسهال الخطر تحت عناوين علمية براقة لا تصلح لعلمنا بالضرورة، أما قوله(إننا لا نعلم بالضبط exactly ماذا حدث فى المخ) فهو قول عام فى كل امراضنا بلا استثناء بما يمثل الفصام والهوس والاكتئاب والبارانويا… مستثنين عددا محدودا من  الزملة المخية العضوية Organic brain syndrome وإن كنا حتى فى هذا العدد المحدود لا نعرف( بالضبط) ماذا يحدث فى المخ،فهل ياترى نكف عن التسميات والتصنيفات والعلاج حتى نعرف(بالضبط) ماذا يحدث،إن تعبير هبوط المخ الحاد  أقرب إلى الوضوح والطب من تعبير(الذهان الذاتوى)autistic Psychosis أو(الفصام المزمن غير المتميز) الخ

التعقيب الرابع : يقول أ.د.عكاشه :

(لقد استعمل سميث(1970) (1) تعبير نقطة انبعاث Pace makers باعتبارها كلمات زخرفية من باب الترف Ornamented Luxurious Words ولكن الرخاوى قد تبنى هذه الكلمة مستعملا إياها كمرفأ haven لرغبة ملحة أن يصيغ نظرية،وأن يربط بين أجزائها برغم التخلخل!!، ويرد الرخاوى قائلا:

اولا: لقد استعملت تعبير نقطة الانبعاث منذ سنة1969 عقب وضع فرض مستويات الصحة النفسية مباشرة أى قبل صدور كتاب سميث هذا ثم قرأته لأول مرة فى استطراد دون أى تفصيل فى مقال لسيلفانوأريتى فى كتاب مشاكل الذهان Problems of psychosis [tooltip text="(2)" gravity="nw"][2]- Arieti S. (1971) Current ideas on the problem of psychosis In Doucet P.& Laurin C (eda) : (Problems of Psychpsis) Excerpte Medica.[/tooltip] ولم أطالعه عند سميث إطلاقا حتى قرأت هذا البحث، وبعد تعليق الاستاذ الدكتور عكاشه طلبت هذا المرجع من الزميل كاتب البحث ووجدت أن استعمال لفظ وفكرة نقطة الانبعاث فى هذا الكتاب جوهرى ومحورى وعامى، وهو وإن لم يتطابق مع استعمالى السابق لنفس التعبير فهو أساسى فى تفكير هذا الباحث المطابق واللاحق ولكن من زواية أخرى، ويمكن القارئ أن يرجع للمرجع الأصلى ليتأكد من انتفاء تهمة استعمال مثل هذه الألفاظ الخطيرة والدالة كزينة أو زخرف أو ترف، وعلينا أن نحترم تخوفات الزميل د.عكاشه من (اللغة الجديدة) ولكن ليس لحساب استمرار السجن فى (اللغة العاجزة القديمة) وخاصة أن هذه اللغة الجديدة هى أقدم تاريخا وأقرب طبيا إلى اللغة الطبية والفسيولوجية المألوفة .

وأما ثانيا : فهو ظنه فى حاجتى الملحة أن أصنع نظرية، وقد كان لزاما على أن أسكت تجاه هذا الظن المحق لولا أن هذه الحاجة الملحة قد ظهرت فى شكل عمل متكامل هو مرجع (دراسة فى علم السيكوباثولوجى)(3) ورغم أنه شرح لمتن شعرى فإنى أعتبره الإطار العام للنظرية التى ألحت على هذا الالحاح الذى خشى منه الزميل العالم بحق، أما أننى ربطت بين أجزاء لا رباط بينها فهذا هو تعريف الإبداع على حد علمى (وكذلك هو تعريف لتفكير آخر لا أذكره تاركا إياه لفطنة القارئ والزميل)، يبقى بعد ذلك تقويم هذا الربط فأذا جاء الربط منطقيا متكاملا مسلسلا قابلا للاختبار المنطقى والمقابلة الكلينيكية والتطبيق العملى المتكامل منشور بين يدى من يريد التقويم وفتح الحوار، وأعتقد أن وقت الصديق الزميل لم يسمح له بعد بأن يمر فى هذا العمل بما يستحقه، أو بما يسمح له أن يصدر هذا الحكم دون بينة مثلما أصدر حكمه على سميث، وهذه دعوة جديدة، ولعلنا نتخلص من خلال مثل هذا الحوار من الشعور بالنقص إزاء ما يصدر ابتداء منا وبلغتنا، فنتخلص تبعا لذلك من حتم  التبعية لمن يريد منا العون فى مأزقه ومأزقنا .

التعقيب الخامس: يقول أ.دعكاشه: إن من الأفضل أن يرتبط هذا الفرض النظرى بالجزء الكلينيكى لعله يعطى دعما مفيدا للنظرية، ويضيف أ.د الرخاوى :

هذا تعليق فى محله لا محالة، لأن خوض هذه البحور العميقة من باب النظرية فحسب يضع القارئ فى موقف الشاك لا محالة أما المدخل الكلينيكى فهو عملى ونفعى معاً، ولعل الجزء الثالث من هذا المقال فى العدد القادم يسمح بتحقيق هذا المطلب الشرعى المحق بشكل واف يرضى الجميع.

التعقيب السادس: أ.دعكاشه: (يعتبر الفرض تدريبا عقليا ذكيا يعلمنا كيف يتسلسل التفكير المنطقى مرتبطا بالخيال………الحر، حيث ذكرت كل الحقائق المطروحة (باعتبارها فروضا؟؟) (النقط وعلامات الاستفهام والخط تحت الكلام هى للزميل فى الأصل الخطى) ويرد أ.د الرخاوى: إنى أتساءل هل هذا مدح أم  غير ذلك ولعل علامات الاستفهام والخطوط تحت الكلام توحى بأن المدح هنا فيه من غمز الأستاذ لتلميذه ما يليق ويفيد بإذن الله، ولكنى ـ على الأقل فيما يتعلق بما اقتطفه الباحث من فكرى المنشور وغير المنشور – أرجو من الزميل أن يبذل جهدا أكبر ليفتح حوارا أعمق، وآمل فى جانبه الفنى المظلوم منه أن يدلى بدلوه فى تقدير قيمة الخيال الحر فى الابداع، ونتاج الحرية هنا مشروط بثراء أبجدية المبدع من خلال خبرته وإطلاعه.

وأخيرا فلابد أن أشكر الزميل كاتب البحث الذى أتاح لنا هذا الحوار الذى نأمل أن يستمر وأن يشاركنا فيه الجزء الثالث من هذا البحث الواعد المثير.

 

[1]- Smith, C.M (1978) The Brain: Towards an understanding New York: Capricorn Bookss.

[2]- Arieti S. (1971) Current ideas on the problem of psychosis In Doucet P.& Laurin C (eda) : (Problems of Psychpsis) Excerpte Medica.

[3] – يحيى الرخاوى:( دراسة فى علم السيكوباثولوجى) – دار الغد للثقافة والنشر القاهرة 1979.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *