الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / جذور وأصول الفكر الإيقاعحيوى (6) مقتطفات: من كتاب: “رباعيات ..و.. رباعيات” نواصل اليوم مع رباعيات الخيام

جذور وأصول الفكر الإيقاعحيوى (6) مقتطفات: من كتاب: “رباعيات ..و.. رباعيات” نواصل اليوم مع رباعيات الخيام

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 12-6-2017

السنة العاشرة

العدد:  3572    

 جذور وأصول الفكر الإيقاعحيوى (6)4-6-2017

مقتطفات:

من كتاب:

“رباعيات ..و.. رباعيات”

نواصل اليوم مع رباعيات الخيام

مقدمة:

آن الآوان أن ننتقل إلى رباعيات نجيب سرور ومع أنها الأقل فى المجموعات الثلاث من حيث علاقتها المباشرة بالطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى، إلا أن جرعة ما تكشفه عن العلاقة بين الإبداع القوى والجنون الصريح قد يكون نموذجا مناسبا لتدعيم الفروض التى نقدمها.

نجيب سرور مبدع مغامر مخترق قوى، وفى نفس الوقت فإنه ذو خبرة مع المرض العقلى ليس عندى أى تفاصيل عنها منه شخصيا، أو ممن يعرفه، إلا أنه لم يتردد فى إعلانها (انظر هامش 1)، بل وأقر أنه كتب بعض رباعياته وغيرها وهو فى عنف شدة نوبة من نوبات هذه الخبرة، هذه العلاقة هى أساس جوهرى، وهى التى أوحت لى بالعنوان الأشمل الذى اكتب فيه عن الفصام ممِّثلاً لهوة الضياع ووعود الإبداع، هنا الإبداع الذى تجلى عند سرور لم يتوقف عند مرحلة أنه مجرد وعد محتمل بل هو مُعْطَى بين أيدينا كأروع وأعمق ما يكون الإبداع، من شخص لم ينكر دخوله فى أطوار تفكك لم يستطع أن يسيطر عليها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، ولو لبعض الوقت.

ثم نعود إلى رباعياته فى حدود ما صدر فى الكتاب الذى نقتطف منه:

المقتطف (1):

“وصلتنى رباعيات نجيب سرور (1) مثل السوط الصلب المخشوشن المحمى طرفه بالنار، حتى احمرّ جمرا، وقد غـُمس فى سُمٍّ ناجع، يلهب ويُدمى ويُوقظنا ويفزعنا بتلاحق لا يسمح حتى باستيعاب الألم، ثم يتركنا ليسرى السم فى موتنا لعلنا نستيقظ (باعتباره “ناجعا”) (2)، أو فلندفع الثمن ونحن نستنشق ترابَ، وعفن وجودنا القبيح القذر.

جمعتُ رباعيات سرور فى هذه الجملة أيضا، التى صارت عندى بمثابة “الفرضْ” العامل للنقد المحتمل”.

يقول سرور من خلال رباعياته:

أنا وحيد يا أولاد القحبة، (3) وأنتم عميان قساة وكل منكم مشروع خائن، إن لم يكن قد خان بعد وأخص بالذكر اليهود والأغنياء، أولاد الكلب السفاحين، القتل والصمت والجنون هو جزاؤكم العادل، لو أنكم تهاونتم معهم، أو نسيتم ما هو أنتم، وأبو العلاء المعرّى أحكم كل حكماء العصور، وحتى القبر لن يرحمكم، خذوها الجلدة تلو الُجْلدة، الرباعية تلو الرباعية، أنا لست محتارا أصلا؛ فقضيتى ساطعة كالشمس: إنكم أغبياء سفاحين وأنا وحيد مكلوم أنزف قيحا، ليتناثر قذى فى عيونكم“.

نجيب سرور فى رباعياته أساسا، وربما فى حياته لم يعرف الأمان أصلا، اللهم إلا “تلويحاً عابراً” طمّعه وخانه، فانطلق يضاعف من جرعة التوجس؛ باعتبار أن الهجوم خير وسيلة للدفاع، فامتطى جواد شعره الجامح، وذهب يلهب ظهر العالم بسوط مسموم الطرف، تساعده فى استمرار عدوانه أغانى الفخر، وأهازيج الفتونة؛ يحمى بذلك نفسه وحيدا فى مواجهة العالم الكاذب اللعين.

وقد خَلَتْ رباعياته بعكس رباعيات الخيام من الشكوى المباشرة، والتألم الصادق البسيط، إلا أن هذا لا ينفى وجود الألم، بل لعله يؤكد عمق حدته إلى درجة لا تسمح بمواجهته، أو إعلانه، أو مجرد الحديث عنه، أو الإشارة إليه إلا مُسْقطا فينا وعلينا، وهو يقف فينا (مثل الخيام) خطيبا، ولكن شتان بين خطيب وخطيب، فمنبر نجيب سرور هو ظهر جواده الثائر الجامح، فى حين كان الخيام يقف خلف منبره (مقصف خمره أيضا = البار) بائعا أوهام أو كؤوس السعادة الذاتوية، كما كان جاهين يحتوى عدوانه بقدر ما يعايش حزنه مترادفا مع طيبة مع طيبة مسئولة تسمح له باستمرار حواره معنا طيبا مؤنساً.

المقتطف (2):

والحل الذى يطرحه سرور، هو القتل بلا إبطاء، وحتى احتجاجه الانسحابى الداعى إلى الصمت، لم يكن إلا سيفا بتارا، يشهرهُ فى وجه القدر.

الصمت المتكلم

وعلى الرغم من البداية الشاكّة فى جدوى الكلمات، كما وردت فى أول رباعية، وهى هى وردت فى آخر رباعية:

فليكن صمت جميع الشعراء

قـدرا يُشـهر فى وجـه القدر

(1/6)، (525/86)  (4)

على الرغم من ذلك  فهو لا يسكت، بل يعلم تماما ماذا يمكن أن تُحدث كلماته من أثر:

إنهم يخشَوْنَنَا فالشعر سحر

هبـة اللـه لكــل الأنبيـاء

(193/74)

وهو يعلن صراحة ما يدعونا لقراءة الصمت:

اكتبوا الصمت إذن فالصمت حرف

(49/22)

التعقيب:

حين كتبت النفسمراضية شعراً فى ديوانى “سر اللعبة” (5) وتقمصت مريضى الفصامى، وصلنى فأوصلنى كيف أن صمته هو صرخة ذات معنى ودلالة قلت فى ذلك:

وصرخت‏ ‏بأعلى ‏صمتى ‏

لم‏ ‏يسمْعنى ‏الساده

وارتدت‏ ‏تلك‏ ‏الألف‏ ‏الممدودةُ‏ ‏مهزومةْ‏ ‏

تطعنُنى ‏فى ‏قلبّى ‏

وتدحرجتِ‏ ‏الهاءُ‏ ‏العمياءُ‏ ‏ككرة‏ ‏الصلب‏..، ‏

داخل‏ ‏أعماقى

(انظر بعد – حالا – كيف فَكَّكَ سرور الكلمات فى إبداعه رباعياته).

المقتطف (3):

الكلمة والإيقاع

“….الفرس الجامح الذى يركبه سرور، هو “الكلمة”، والسوط مسموم الطرف، هو “الكلمة”، وفاعلية كلماته تتضاعف، من خلال لُهاث إيقاعه المحموم، ويكاد القارىء يراه رأى العين، فى رباعياته، وقد أمسك بالكلمة، ففكها، وركَّبها. وصقلها، وسنّها، وأحكم مِقْوَدَها، ثم غمسها في منقوع المر المسموم، ثم نراه وقد تلـفّع بها، ثم راح يجول ويصول وهو يفرقع ويلطمنا بها فى كل موقع؛ حتى أوجعنا وأنزفنا، ولعله أيقظنا، ولكنه أبدا لا يدعها (الكلمة) تسكن بين أيدينا خشية أن نمتهنها، أو نزيِّن بها عقولنا كما اعتدنا.

اعتقدت وأنا أعيش هذه الرباعيات أنه لا يستطيع قارىء يقظ أن يتلقى كلمات سرور هذه مسترخيا أبدا، ويبدو أن من صفات إبداع سرور أنه يسيطر على الكلمة بعدوانه، ولا يكتفى بأن يستعملها أداة لعدوانه المغير، (قارن الكلمة عند صلاح جاهين)، ثم دعونا ننظر الآن إلى نجيب سرور وهو يفكها ويقطعها ويلمها وينطِّـقها:

كلماتٌ كلماتٌ كلماتْ

إنه يونس ياسين يسوع

(40/19)

ثم:

كلماتٌ فى اشتقاق وانعكاس

مثلما موسى.. وماس؟.. ثم سام

ثم سمٌ.. لنرى النسناس ناس

ويظل الصـَّل (6) يسعى فى الظلام

(41/19)

لاحِظ جرأته على تقسيم كلمة النسناس ولعبه الحـُر بحرفَىْ “السين” و”الميم” بحيث تراه وهو يفعل ذلك وقد امتلك ناصية الكلمات بل والحروف بإبداعية مخترقة.. (أنظر بعد) وهو يلعب بها وبمقاطعها كما شاء له اللعب، دون أن يفقد القيادة أبدا:

إعكسوا اللص فإن اللص صـل

واعكسوا العكس فإن الصل لص

يا ظلال الكهف ما صِلُّ وظل

ها هو الصقر وبالمعكوس رقص

(42/19)

التعقيب:

حضرنى وأنا أتابع تفكيك الكلمة إلى حروفها هكذا ثم اللعب بحروفها واحدا واحدا دون أن يتناثر منه المعنى، حضرنى شعرٌ آخر كتبتُهُ لاحقاً سنة 1981 فى ديوان لم ينشر، وهو ديوان ” شظايا المرايا” ولم أكتب هذه القصيدة بأى غرض علمّى لخدمة النفسمراضية كما كان الأمر فى ديوانى الأول “سر اللعبة” قلت فى قصيدة بعنوان: “نجمع أحرفها من بين ركام‏ ‏الألفاظ”، ما تذكّرته فآنسنى وأنا أقرأ الآن رباعيات سرور، وسوف أسمح لنفسى بأن أقدم ما تيسَّر من القصيدة لشدة ارتباطها بنوع تفكيك إبداع سرور فى رباعياته السالفة الذكر وغيرها.

نص المقتطف من:

قصيدة: نجمع أحرفها من بين ركام‏ ‏الألفاظ

………………….

…………………..

نـَصْـنَـعُ‏ ‏كـَلـِمـَهْ، ‏

نجمعُ‏ ‏أحرفـَها‏ ‏من‏ ‏بين‏ ‏رُكـَامِ‏ ‏الألفاظ‏،‏

‏ ‏تتخلـَّقُ‏ ‏من‏ ‏عـَبـَثِ‏ ‏الإبـْـدَاعْ‏: ‏

كومة‏ ‏أحرفْ، ‏

هبَّت‏ ‏نسمهْ‏:‏

فـَتـَزَحْـزَحـَتِ‏ ‏الأشلاءُ‏ ‏الملتـِحـَمهْ،‏

تتجاذَبُ‏ ‏أطرافُ‏ ‏الأجْـنِـحَـة‏ ‏المكسورهْ،‏

‏ ‏ترتسم‏ ‏الصورة‏ : ‏

تختلط‏ ‏اللاَّم‏ُُ ‏الآخرُ‏ ‏والمنفردَهْ، ‏

باللاَّم‏ ‏الأَلِـفِ‏ ‏الممتدّةْ، ‏

تتراجع‏ ‏غينُ، ‏تسقط‏ ‏نقطةْ، ‏

تنقلب‏ ‏الغين‏  ‏إلى ‏عينٍ‏ ‏مَـطْـمُـوسهْ،‏

‏ لابُـدَّ‏ ‏وأَنْ‏ ‏ترقُـدَ‏ ‏وسْـطِ‏ ‏الكـَلـِمـَه‏ْ-‏

أبدلتِ‏ ‏الموضع‏ََ ‏باستحياء‏،‏

حتّـَى ‏تـَأْتى ‏أول‏ ‏مقطعّ،‏

حتى ‏تـُـبصِـرَ‏ ‏مَـنْ‏ ‏ذَا‏ ‏القـَادمْ‏.‏

‏( ‏لم‏ ‏يَـحْـضُرْ‏ ‏أحدُ‏ ‏أصلاً‏)‏

جرجرتِ‏ ‏الياءُ‏ ‏الآخرُ ‏ذيلَ‏ ‏الخيـْبة،‏

جاءتْ‏ ‏تترنـَّح‏ُُ ‏من‏ ‏طعنِ‏ ‏الألِـفِ‏ ‏الهـَمـْزه‏،‏

شبقُ‏ ‏منفردُ‏ ‏يقذفُ‏ ‏بـفـُتـَات‏ ‏اللَّذة،‏

فتوارت‏ْْ ‏خـَجـَلاً‏ ‏كى ‏تتخَفّى ‏وَسـْط‏ ‏الـَزحـْمهْ، ‏

صارَتْ‏ ‏ياءً‏ ‏منقوطةْ‏، ‏

تتجمع‏ ‏تلك‏ ‏الأحرف‏ ‏دون‏ ‏مفاصل‏، ‏

تتحدَّى ‏الألفاَظَ‏ ‏المصْـقـُولـهْ‏:‏

‏(“‏الحرّية‏، ‏أو‏ ‏حكم‏ ‏الشعب‏ ‏العامل‏، ‏أو‏ ‏عدل‏ ‏السادة‏، ‏أو‏ ‏حب‏ ‏الزوجة“‏

اللــعبة‏!!‏

ما‏ ‏أحلى ‏اللعبة‏!!!!!‏

جرَّبْ‏ ‏فكَّ‏ ‏الألفاظ‏ِِ ‏إلى ‏أحـرُفـهاَ‏.‏

إقلبها‏،‏

بوّزها (7)،‏

‏ ‏اخـْـتَـرْ‏ ‏سبْـعـَه، ‏

إكشـفْ‏ ‏خمسهْ،‏

 إقرأها‏ ‏جَـــمْعا‏:‏

قـُلْـها‏َ.. ‏كَرَّرْ، ‏أكْـمـِلْ‏، ‏قفْ‏.‏

ردَّدْ‏ ‏أنفـَاسـَكَ‏ ‏مـُنـْبهـِراً‏، ‏

وكأنك‏ ‏تـعـنى ‏شيـئا‏،‏

الخرطوم  14/10/1981

 وبعد

لعل العلاقة ظاهرة بشكل مباشر بين أساسيات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى وبين مغامرتى بهذا الإبداع الباكر غير المقصود، ولعل ربطه بها يشير إلى أهمية مرحلة التفكيك نحو إعادة التشكيك، وقد ذكرنا ذلك فى عشرات النشرات، مثل نشرات: ( نشرة 9-4-2017)، (نشرة 2-2-2016 )  (نشرة 26-1-2016 )،  (نشرة 5-1-2016).

[1]  –  فى النسخة التى بين يدى: رباعيات نجيب سرور (الطبعة الأولى 1978) منشورات مدبولى، كتب المؤلف فى آخر صفحة: السبت الأول من يونيو سنة 1974 مستشفى الدكتور النبوى المهندس للأمراض العقلية. ولا أتصور أنه كتب هذه الرباعيات جميعا فى ذلك المستشفى العقلى، أثناء تلك النوبة. لعله فقط أنهاها أو سوّدها هناك، ثم أعاد تنظيمها وصياغتها فيما بعد. وإن كان لا يمكن نفى الاحتمال الأول احتراما لشجاعته.

[2]  –  نجع الشىء نجوعا: نفع وظهر أثره.

[3]  –  “القحبة” كلمة عربية فصحى، وهى تعنى الثرثارة كثيرة الكلام ولأن القدامى كانوا يقولون عندما يتكلمون عن أحد الفتيات – أنها قبحة وعاهرة وفلتانة والخ والخ وظن البعض بعد فترة من الزمن ولضعف لغتهم أن كلمة قحبة التى تعودوا سماعها من الكبار تحمل ما تحمله باقى الكلمات من معانى رخيصة.

[4]  –  نهج الترقيم ذاته (رقم الرباعية ـ شرطة مائلة ـ رقم الصفحة) نسخة منشورات مدبولى، 1978 (قمت بترقيم الرباعيات شخصيا).

[5]  –  يحيى الرخاوى، ديوان: “سر اللعبة”، دار الغد للثقافة والنشر، 1979

[6]  – الصل (بكسر الصاد وتشديدها): الحية من أخبث الحيات

[7] – ‏ ‏باز‏ ‏بوزا‏: ‏انتقل‏ ‏من‏ ‏مكان‏ ‏إلى ‏مكان‏، ‏والمحذوف‏: ‏مثل‏ ‏الدومينو‏ ‏

 

 

النشرة السابقة 1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *