الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يناير 1981 / يناير1981-قصة قصيرة الطفلة… و الرجل

يناير1981-قصة قصيرة الطفلة… و الرجل

قصة قصيرة

الطفلة… و الرجل

دخلت الطفلة حديثة عهد بالمشى إلى حيث كانوا، فراقها منظر الصفوف المتراصة، فأخذت تتأمل الجميع، إلا أنها سرعان ما ضجرت من أن أحدا لا يتحرك من مكانه، وتذكرت أيام أن كانت مقعدة بلا حول، فمدت يدها تحاول تحريك الجمود فإذا بالجميع ينطرحون أرضا، فزعت فى البداية ولكنها عادت تتأمل آثار ما كان واحتارت أى منهم استلقى على قفاه، وأى منهم انكفأ على وجهه ،لم تطل حيرتها إذ أنها سمعت صوت أقدام ثقيلة تقترب فانزوت فى الركن الأبعد.

حدث ذلك بعد فترة قصيرة من تلك الأحداث السريعة التى يذكرها أهل التخصص فى ترتيب رتيب، وينساها سائر الناس وكأنهم يفعلون ذلك بقصد عنيد، والأمر لايحتاج إلى تكرار الرواية، لكن للتاريخ مطالب غير مفهومه، فاضطر السامران أن يتذكرا لما اصطف الجيش الأسود بكامل أفرادة، وتم تحديد المواقع ومراجعة الأدوار السابقة، والتأكيد على ضرورة سلامة البدايات حتى لو كانت محفوظة، وكان على الجانب الآخر جنديان اثنان، ورغم أنهما من لونين مختلفين فيبدو أن الاتفاق كان أن يكونا معاً حتى تلحق بهما – أو بأى منهما – سائر القوات كما تقضى الأصول.

قال الملك الأسود للوزير الأسود.

– دبرنى يا وزير

قال الوزير

– التدابير للًه ياملك

سأل الملك فى استطلاع

– ألا نبدأ  الآن ؟

قال الوزير فى أدب ظاهر

– عفوا يا مولاى…. الأسود  يؤخر فى العادة.. هكذا الأصول.

بدت على الملك بعض علامات الاستياء وعلق قائلا

– ولكن لم لم تقل لى ذلك من الأول لأغير لونى ولون جيشى؟ ألا تعلم أنى أحب المبادأة لأمسك بزمام المواقف؟

مال الوزير عليه وكأنه يسر إليه:

– ليطمئن جلالتكم، فلقد تلقينا وعدا مؤكدا أن الذى يلعب أخيراً يكسب كثيرا.

هز الملك رأسه، ولكن يبدو أنه لم يقتنع تماما، ذلك لأن شفتاه كانتا قد مطتا بدرجة طفيفة لايلحظها إلا متخصص، غير أنه قال:

– الأمر للًه… قل للخصم يبدأ.

التفت الوزير إلى الناحية الأخرى ونادى صائحا:

– يا أهل النزال…. الدور عليكم.

نظر الجنديان إلى بعضهما البعض وأخذا يعزمان على بعضهما البعض بالبداية، لكن أحدا منهما – يبدو من فرط الذوق أو الخوف أو بعد النظر – لم يتقدم خطوة واحدة، وساد صمت مثير:

****

وكان أن همس فارس الميمنة الأسود لجاره:

– أين نحن الآن

رد الجار فيما يشبه الجد:

–  فى الميريلاند

احتد الفارس قائلا:

– لا مجال لسخريتك فإنى جاد

– لتكن جادا أو عبد ربه فليس للسؤال السخيف إلا جواب أسخف منه، ألا ترى نحن وأنت أدرى الناس بالجارى؟

– إنما سألت لأقطع هذا السكون الثقيل.

– أنت الذى تقول هذا؟ مع أنك تستطيع أن تقفز بفرسك فى أى وقت فوق أى حاجز، ألا تدع الهم لأصحابه من أمثالى ممن لا يستطيع أن يتحرك إلا إذا تحرك العسكر من أمامه.

رد الفارس فى زهو يائس:

– لو سمحوا لى لقفزت إلى الوسط وحطمت كل هذا الركود و لو بتضحية شخصيه.

إشرأبت عنق الجار ذات اليمين و ذات اليسار وعاد يهمس للفارس وكأنه لا يصدق:

– خيبتك قوية، لقد انتهى الدور.

استشاط الفارس غيظا و تساءل رفضا:

– متى كان ذلك ونحن لم نبرح أما كننا أصلا؟

– هذا هو ما كان

–  لعلها إشاعة

– انظر… ملك الخصم ليس فى الميدان

– كيف ؟ هل كش؟ مات؟

– لا… بل يبدو أنه غير موجود منذ البداية

– ماذا تقول يا مخرف… لا يصح اللعب دون وجوده، وإلا فمن يحمى من ؟ومن يهاجم من ؟

– ليس هذا من شأنى، وعلى كل فالدور قد انتهى حقيقة فعلا.

صاح الفارس فيما يشبه الصراخ:

– هذا عبث فى عبث، دور باطل…. باطل

هز الجار غليونه المتدلى وتلفت فى بطء خشية أن يسمع أحد الصراخ وحاول تحذير جاره، لكنه قال:

– لن يجدى الصراخ… فالآذان لها حوائط ( مانعة لاختراق الصوت ) استمر الفارس فى صياحه و كأنه لم يسمع:

– باطل…. باطل… زاوج عتريس من فؤاده باطل

قال الجار فى أسى ظاهر و غليونه يتحرك مع خروج كلماته:

“ جن الفارس من فرط الركود يارجال “

****

وكان أن تقدم الوزير الأسود ممسكا بيده صحيفة ملفوفة على هيئة قرطاس حائل اللون، ومال على الملك وقال:

– والآن؟  الأمر لجلالتكم.

نشر الملك القرطاس أمام عينه بعد أن ارتدى منظار القراءة المدلى فى سلسلة حول رقبته ونظر فيما يحوى القرطاس ورد فى حده:

– ماذا تعنى ؟ حتى لو….. فأنا مالى ؟

رد الوزير فى فداء مشروط:

نحن جميعا فداك يامولاى

قال الملك فى اطمئنان خائب:

– هذا هو… هذا هو… ليكن.. ليكن

شكره الوزير وهم بالتراجع بظهره، ثم انحنى نصف نصف، وفجأة زادت انحناءته حتى لامست الجباه – أقل الأقفية – وجه الأرض

وكان ذلك نتيجة ما حدث إثر دخول الطفلة كما ذكرنا.

اقترب وقع الأقدام من مسمع الطفلة فازدادت احتماءا بالركن الأبعد.

دخل “ الرجل الذى هو “ إلى حيث كانت، راعه منظر الدحرجة والخلط والضياع والجباه أو الأقفية جميعا على الأرض.

أخذ يزفر وهو يكلم نفسه ” لعن اللًه أبا الكل، من  فعل هذا يا أوغاد، ألا أستطيع أن أكمل دورا واحدا فى هذا الجو الزائط “.

ازدادت الطفلة انزواء وانكمشت على نفسها حتى كادت تختفى بين ثنيات كرانيش الفستان القصير.

عاد الرجل إلى صياحه:

“ والأدهى يا كلاب أنى لا اعرف كيف كان وضع القوات قبل وقوعها، ثم إنى لااذكر من الذى انتصر على من…. رغم أنى ألاعب نفسى “

اهتز جسد الطفلة من فرط محاولتها ضبط نفسها حتى لا تضحك، ثم  تسحبت فى صمت وهى لاتتمالك تمام سيطرتها على نفسهاحتى كادت تخرج ( وفى رواية أخرى: خرجت ) منها قهقهة مكتومة أشبه بآثار صوت قلة تتدحرج على أرض طينية دون أن تكسر، لكن اللًه ستر فلم يسمع الرجل شيئا إذ ظل يروح ويجئ فى سخط باد فاستمرت الطفلة تتسحب كاتمة ضحكها أكثر حتى انصرفت بسلام تماما.

****

توقف الرجل طويلا ناظرا إلى فلول القوات ثم جلس فى تصميم جديد وأخذ يعيد تنظيم الصفوف و كأن شيئا لم يحدث

قال الملك للوزير:

– ماذا يجرى ياوزير

قال الوزير فى يقين:

– دور آخر يا مولاى

قال الملك فى فتور:

– دبرنى يا وزير

قال الوزيرفى رتابة:

– التدابير للًه يا ملك

لكن الملاحظ المتخصص كان يمكن أن يلاحظ عين الوزير زائعة وكأنها تغمز لشخص ما ــ لم يظهر بعد، لكن يبدو أن الوزير كان على يقين من قدومه.

وقبل أن يحل المساء وتختفى المعالم بين الداخل والخارج شوهدت الطفلة وهى تتلصص من ثقب الباب وهى لازالت تكتم ضحكتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *