الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يناير 1981 / يناير1981-الميكانزمات التطورية للسلوك العصابى (1)

يناير1981-الميكانزمات التطورية للسلوك العصابى (1)

الميكانزمات التطورية للسلوك العصابى(1)

ترجمة وتعليق: د. مجدى عرفة

الموجز

يحاول المؤلفان تقديم أدلة على أن العديد من أنماط السلوك غير المتكيف والمسمى بالعصابى تنشأ عن احتفاظ الإنسان باستجابات قديمة archaic وهذا الاحتفاظ retention هو النتاج النهائى لتاريخ الإنسان التطورى الذى أنتج نوعا يتطلب – بعكس غيره من الأنواع – مدة طويلة من  عدم النضج حتى يعطى للمخ وقتاً للنمو. إن عملية النمو البطيئة للإنسان قد سمحت لمخه بالمرونة الكافية لاستبقاء الإمكانية الكامنة لاستجابات سبق أن تكونت على الامتداد الكامل لخط التطور، وهذه الاستجابات التى تتحرك وتظهر بتأثير عوامل مثل الاستعداد الوراثى والتدريب والظروف البيئية يمكن أن تأخذ شكل أنماط سلوك غير متكيف.

****

ننوى فى هذا المقال معالجة منطقة من السلوك تتجاهلها الأبحاث عادة – ففيما بين استقبال مؤثر ومظاهر الاستجابة لة توجد عملية فعلنة Processing أو ميكانزم أو قناة توصيل channel هى شئ لا ينفصل عادة عن الاستجابة إن الطريقة التى يعامل بها الكائن الحى مؤثراً ما لها تأثير مباشر على نوع الاستجابة الناتجة، بالإضافة إلى ذلك فإن معالجة المؤثرات وطريقة التعامل معها محكومة بطبيعة الكائن الحى.

وبهدف تقسيم منطقة السلوك التى نشير إليها فسوف نستعير اصطلاحات من لغة الحاسبات الإلكترونية و نعرف المؤثرات بوصفها “مدخلات “input، والاستجابات بوصفها “مخرجات “output، والميكانزم أو قناة التوصيل التى تقوم بفعلنة المؤثرات وإصدار الاستجابات بوصفها “العملية الوسيطة “أو “الاختراق المستوعب “((2)throughput  (2

إن المحللين النفسيين والمدارس المشتقة منهم معينون بدرجة كبيرة بالمدخلات بينما يشغل السلوكيون وعلماء العقاقير النفسية Psychopharmacologists أنفسهم بالمخرجات، أما منطقة “العملية الوسيطة” (الاختراق المستوعب) – وهى المنطقة التى ترغب فى التركيز عليها هنا – فقد بدأ توضيحها على يد علماء التطور evolutionists  وعلماء الإيثولوجيا ethology.

تعتبر الأنواع المتعددة والدرجات  التى لا حصر لها من السلوك العصابى المعرض لها أفراد النوع الإنسانى من الخصائص المميزة لهذا النوع، والأعراض المتنوعة للأمراض النفسجسمية Psychosomatic هى جزء من هذه المجموعة وتشكل قسماً كبيراً منها. وقد نتساءل: لماذا يكون الآمر هكذا؟. والإجابة أنه بالرغم من إمكان إحداث السلوك العصابى فى أنواع أخرى بوسائل اصطناعية فإن هذا السلوك لا ينشأ بشكل طبيعى لأن الحيوانات لديها ذخيرة جاهزة repertoire من الاستجابات النمطية تمكنها من التعامل مع ما هو مبهم ومثير للخلط والارتباك.

ومن وجهة نظرنا فإن وضع الطرق التى تشكل بواسطتها نوعنا الإنسانى فى الاعتبار ،إنما تعطى مؤشرات لها دلالتها لفهم هذه الظاهرة. إنه من المقبول بشكل عام اليوم أن نقول أن الأنواع الجديدة تتشكل take formمن خلال التوقيت المتميز لنموها التكوينى  (الألوميترى Algometry ) وهو ما يحكمه مورثات (جينات) المعدل rate genes، ففى نوع مثل الزرافة فإن التعجيل بمعدل نمو الرقبة بالنسبة لنمو بقية أعضاء الجسم ( ألوميترى إيجابى) فى أجيال متعاقبة أعطى فى النهاية التكوين المألوف لنا، ومن ناحيه أخرى فإن الأعضاء الأثرية vestigial أو وظائفها مثل الذيل فى الإنسان ووظيفة الرؤية فى الوطواط يتم الوصول إليها من خلال انتقاء لإبطاء نمو هذا التكوين أو الوظيفة بالنسبة لنمو بقية الجسم (ألوميترى سلبى).

النمو التطورى للانسان:

يتم تكون النوع الإنسانى من خلال عملية إبطاء عامة للنمو… عملية إطالة لمراحل النمو ملحوظة لدرجة أننا نمر بأطول فترة نسبية بين رتبة الرئيسيات Primates (3)) على الإطلاق، وكنتيجة لهذا فإن تكويننا الناضج يتكون من عدد ضخم من الملامح المستبقاة التى كانت جنينية فى السلالات السالفة لنا.

إن جلد الإنسان رقيق وكذلك أظافرة، كما أن عظامه خفيفة، وأسنانه صغيرة، ورأسه فى وضع عمودى على جذعه وهذا وضع جنينى ( ينتج عنه وضع قائم يحرر يديه )، ووجهه مسطح، وجسده غير محمى بأى جلد سميك أو فراء – كل هذه الملامح هى خصائص لمراحل جنينية فى ثدييات أخرى، وقد أشار ل بولك. Bolk L، وهو عالم تشريح هولندى، أشار إلى أنه من بين ثمانين من الملامح التى تميز الإنسان عن القردة فإن حوالى الثلث موجود فى المراحل الجنينية للقردة، وبينما تمثل هذه الملامح مرحلة مؤقتة يمر بها نمو القردة فإنها تستمر فى التكوين الناضج للإنسان، وقد لوحظ العديد من الحقائق المشابهة منذ بولك.

أن النمو التشريحى لا يتم فى فراغ، وإنما تصحبه وتدفعه عمليات فسيولوجية بشكل ضرورى، وبالنسبة للانسان فإن أهم جوانب تأخر مراحل النمو هو حقيقة أن الطفل حديث الولادة يعتبر أقل نمواً من أى الحيوانات حديثة الولادة فى أى نوع آخر من الثدييات العليا، وهو بالمقارنة بالموليد الحديث فى الأنواع الأخرى فإنه فى الواقع يعتبر مبتسراً ( مولوداً قبل موعده ) بمقدار عام كامل، وهذا ينطبق على مراحل النمو مثل تنظيم حرارة الجسم، وتنسيق حركة العضلات، والقدرة على هضم الطعام، وتحويل الغضاريف إلى عظام ، ونمو الأنزيمات…… إلى آخره، كل هذا يجعل من الرضيع الإنسان مخلوقاً مبتسراً عند الولادة وبالتالى يتطلب درحة عالية من عناية الأم بحيث تسمح ببقاء هذا المولود الهش. وقد نسأل أنفسنا: لماذا لم تحقق الضغوط التطورية فترة حمل أطول للانسان؟… ولكننا يمكن أن نرى أن الحمل إذا  امتد بعد فترة التسعة شهور فإنه لن يسمح للرأس سريعة النمو بالمرور خلال قناة الولادة، وحتى فى مرحلة التسعة شهور فإن الرأس يمكن بالكاد أن تمر من خلال هذا الممر الضيق

إن هذا الموقف المحفوف بالمخاطر هو الثمن الذى يدفعه نوعنا فى مقابل الفترة الطويلة من عدم النضج التى يحصل خلالها المخ على الوقت اللازم لنموه، وبذلك فإن فترة طويلة من المرونه أو قابلية التشكل plasticityتكون متاحة للتعلم، والمرحلة الإولى من هذه الفترة هى التأخير فى تكوين غشاء الميلين myelination حول بعض الألياف العصبية.

أن عدم نضج الرضيع الإنسانى عند الولادة حتم بالضرورة انتقاء أفراد النوع الإنسانى الأوائل التى لها أعلى نزعة طبيعية للتنشئة و التربية، والسلوك الإنسانى يتم تعديله بشكل مواز. إن الضرورة الحيوية للاعتماد والارتباط  من ناحية.. والتأجيل التدريجى للوجود المستقل بسبب العبء المتزايد للتعلم من ناحية أخرى , قد خلقت نمطاً من الاستجابات فى الإنسان ليس له ما يوازيه فى أى موضع آخر من الطبيعة، وبسبب العملية الجارية لإبراز الصفات الطفلية المبكرة infantilization  والملحوظة بصفة خاصة فى الثقافة الغربية، فإن المفاهيم المتعلقة بما يمثل السلوك الناضج أو الراشد قد تآكلت ألى درجة أن المواقف الشبابية أو المميزة لصغار السن قد أصبحت هى المعيار أو القاعدة norm فى متوسطى السن أو حتى المتقدمين فى السن

هناك خصائص معينة تعتبر السمة المميزة للصغار فى أنواع ثديية أخرى، وهى الفضول والميل إلى استكشاف  البيئة ونزعة طبيعية وقدرة على التعلم، إلا أن هذه الصفات فى هذه الثدييات الأخرى تتراجع بوصول الحيوان إلى النضج الجنسى، بينما فى الإنسان تستمر هذه الصفات طوال الحياة، وتشكل بحق أساس السلوك الذى نعتبره إنسانياً بشكل بارز.

وأكثر من هذا فإن الثدييات الأخرى فى مراحلها الشبابية أو صغيرة السن لا تكون لديها القدرة بعد على الالتزام بالعرف والعادات الاجتماعية لجماعاتها  وتكتمل هذه القدرة فقط عند النضج الجنسى، كما أن هذه الثدييات لاتحس بضغوط من التجمع والتزاحم حينما تكون غير ناضجة فأهمية أو ضرورة التباعد هى صفة للناضجين منهم، بينما فى الإنسان يعتبر الالتزام بالعرف والعادات الاجتماعية أقل ثباتا ولا يصبح أبدا شيءا آليا، كما أن تحمل التجمع والتزاحم يعتبر شيئا ليس له قاعدة وغير ثابت.

إن كون الإنسان يميل للعب ويتعلم ويستكشف.. إلى آخره، هو شئ واضح وبين لنا جميعا، ولكن لأننا نقبل هذه الخصائص بوصفها سمات مميزة للسلوك الإنسانى فإننا نفشل فى رؤية أنها  مرتبطة بالضرورة بمراحل السن الصغيرة أو الشبابية، ففى الأنواع الأخرى تكون هذه الخصائص موجوده لإعداد الصغار لا كتساب مهارات وسلوك الناضج، وهى لاتفى بأى غرض فى مرحلة النضج وبالتالى لاتستمر فيها.إن مثل هذه الملاحظات تضع سلوك الإنسان التكيفى فى سياق مع نموه التطورى و الارتقائى ،إلا  أن احتفاظ الانسان بشكل وبنية ( مورفولوجى morphology ) غير متخصصة unspecialized  نسبيا وما يوازيه من مرونة فى الاستجابات الفسيولوجية – العصبية neuropsychological  له نتائج أخرى

النمو التطورى والسلوك العصابى:

عن الجهاز العصبى هو جهاز محافظ إلى أقصى درجة، فهو يحتفظ فى تنظيمه بالإمكانيات الكامنة لاستجابات تكونت على إمتداد الخط التطورى كله منذ بداياته بنفس الطريقة التى تحافظ بها المورثات ( الجينات ) على كل المراحل التطورية، وكلما نمت فى الأنواع تخصصات جديدة فإن الاستجابات القديمة والأقل فائدة تتراجع وتتوارى، ولكن فى حالة الإنسان غير المتخصصة مورفولوجيا فأن معظم أو كل الإمكانيات الكامنه للإستجابات القديمة التى وراثها طبق مفتوحه أمامه، وهى تصبح بذلك قنوات الفعلنة العصبية neural processing  – “العملية الوسيطة، (الاختراق المتسوعب ) “- التى تحكم مظهر الاستجابة.

وقبل أن نحاول معالجة السلوك العصابى فى سياق هذه الخلفية التطورية فإننا يجب أولا أن ندرك أن “العصاب “هو لفظ يفتقر إلى التعريف، فإن ما يقر بوصفه عاديا فى نطاق ثقافى حضارى معين قد يعتبر محرما فى غيره، وما يشجع بوصفه مرغوبا فيه فى عائلة ما يمكن أن يكون غير مقبول فى غيرها، وبالتالى فإن ما ينظر إليه بوصفه عصابيا فى مجموعة عرقية ethnic group  يمكن أن يعتبر سلوكا يثير الاعجاب لدى جيرانهم. وبشكل عام يمكننا أن نقول فقط أن العصاب هو نمط من السلوك منحرف عن الأنماط المعتادة أو المعايير المحلية والمعاصرة المقبولة، وهذا ينطبق بشكل خاص على عصاب خصائص الشخصية character neuroses وبدرجة أقل على عصاب الأعراض Symptom neurosis  وإن كان  لا ينطبق على الإطلاق على الاضطرابات النفسجسمية.

إن معظم الاستجابات العصابية تنشأ فى الأفراد الذين يمرون بمواقف صراعية conflictual ومثل هذه المواقف الصراعية ليست شيئا مقتصرا على الحياة الانسانية وإنما يمكن أن تخبرها كل الأنواع فى وقت أو آخر، وفى هذه الأنواع الأخرى يتم حلها بواسطة نسق من الاستجابات الجاهزة المبيتة built in تم انتقاؤها عبر دهور من الزمن لتعمل كمنظمات للحياة الاجتماعية لهذه الحيوانات. إن مبادئ مثل المراتب الهرمية للسيطرةhierarchical orders of dominance وعدم التعدى على حقوق مناطق الأرض inviolability of territorial rights  بمجرد أن يتم إرساؤها يلتزم بها بشكل صارم ليس فيه مرونة، وهذا كفيل بوأد أى صراع فى مهده، ولكن بالرغم من ذلك فإن المواقف المبهمة يمكن أن تنشأ حتى فى مثل هذه المجالات.

على سبيل المثال فإن السمك شائك الظهر ( أبو شوكة ) – وهو مدافع شرس عن منطقته – يبدى روحا قتالية عالية عندما يكون فى مركز منطقته، ولكن هذا يتناقص كلما اقترب من حدودها، حتى إذا كان خارج هذه الحدود فإنه يدير ذيله ويسرع بالهرب إذا ماهو جم، وإذا قوبل بتحد عند الحدود بين منطقته ومنطقة مجاورة فإنه يكون فى مأزق الاختيار بين القتال أو الهرب. وفى الإنسان يخلق مثل هذا الموقف صراعا داخليا، ولكن السمكة شائكة الظهر تحل هذا المأزق بإزاحة استجاباتها إلى إيماءة أو وضع معين ( حيث تضع أنفها إلى أسفل و ذيلها إلى أعلى – وهو وضع يعتبر جزءا من ذخيرة الحركات التى تمارسها فى بناء عشها )، وإذا ما احتفظت هذه السمكة بهذه الاستجابة بشكل مستمر فإننا لابد وأن نشير إليها بوصفها عصاب وسواسى قهرى.

وهنا مثال آخر يمكن أن نجده فى الفأر – فإذا ما اقتحم فأر غريب عليه منطقته أثناء تناوله الطعام فإن اهتمامه يتحول من الأكل إلى الهجوم، عندها يهرب الفأر المقتحم، ولكن سلوك الهجوم المستثار فى الفأر صاحب المنطقة يمنعه من العودة إلى وجبته فوريا، ويبدأ فى تهيئة نفسه حتى تهدأ الانفعالات غير الملائمة. إن مثل هذه الاستجابة الموروثة تسمح للحيوان بأن يتواكب بكفاءة شديدة مع صراع لايدوم فى الحالة الطبيعية إلى أكثر من فترة قصيرة.

وفى الأسر، وخاصة حين يحبس الحيوان فى قفص، فإنه بمواجهته بحيوان آخر فى قفص مجاور يصبح مضطرا للاحتفاظ باستجابة الازاحة لفترة غير محددة حتى يصاب بأعراض السلوك العصابى الذى ينشأ عن الضغوط التى يعانيها وما ينتهى إليه من مرض، وهكذا فإن الإمكانية الكامنة للسلوك العصابى موجودة فى كل الكائنات الحية أو على الأقل فإنها يمكن أن تظهر فى الرتب الأعلى منها.

ونحن إذا عرضنا أى حيوان آخر ( غير الانسان ) إلى خبرة محبطة فإننا يمكن أن نتوقع  أن نرى استجابة يمكن التنئبو بها خاصة بنوعه، ولكن الإنسان إذا تعرض للاحباط أو الصراع أو أى خبرات أليمة أخرى فإنه يمكن أن يستجيب بواحد من العديد من الطرق، إن هذا ممكن فى الإنسان لأنه فى حالته غير المتخصصة نسبيا تكون كل المسالك القديمة archaic Pathways   (أو العمليات الوسيطة – الاختراق المستوعب -) التى ورثها عن أسلافه متاحة له.

الميكانزمات الفسيوباثولوجية Psychopathological  ذات الجذور التطورية

حاول كانون Gannon البحث فى أصول الأمراض النفسجسمية، ولكن الصياغة الأصلية التى قدمها بأن الإنسان لايزال يحتوى انعكاس القتال أو الهرب fight or flight reflex  الموروث عن الأنواع السالفة له يشير بالكاد إلى العدد الضخم لمثل هذه الاستجابات، على سبيل المثال – وهو قليل بالنسبة لهذا العدد الضخم – هناك: طقوس الخضوع، والتظاهر بالموت، وتقيؤ أو لفظ الطعام، وانعكاس الغطس، وتغيير توزيع صبغة الجلد، والتخزين، والبيات، والتخلص من النفس بعد فقد الرتبة، والوظيفة الاخراجية للجلد، والفصد.

طقوس الخضوع Submission rituals :

وهذه تشمل مجموعة معينة من العضلات، وتتضمن خفض أو تحويل الرأس بعيدا أو الانكماش، وقد ورث الإنسان الامكانية الكمنة لهذه الاستجابات (إحناء الرأس يعتبر شكلا تقليديا أو معتادا فى الدفاع )، ولكنها لاتعمل بشكل تلقائى فيه كما يحدث فى الحيوانات الأخرى التى وصلت إلى مرحلة نضجها، إن استجابة الخضوع موجودة ولكن  الإنسان بوعى أو بدون وعى قد يقاومها وفى هذه الحالة فإن عضلات الرقبة تتلقى أوامر متعارضة واحدة بخفض الرأس والأخرى برفعها عاليا، وهذا بالطبع يضع عضلات الرقبة فى حالة مستمرة من التوتر التى إذا لم تنته تؤدى إلى تغيرات وظيفية أو باثولوجية، وهذا يمكن أن ينطبق أيضا على عضلات الظهر وخاصة فى تلك الحالات التى يحاول الشخص فيها أن يبيس ظهره بطريقة لا إرادية فى مواجهة خصم يحس بأنه يحاول أن يرغمه على الخضوع.

التظاهر بالموت Mock death:

هذه استراتيجية تستعملها الحيوانات التى ليست لها القدرة على الهرب أو القتال، فهى تتجنب الحيوانات المفترسة أو أى خطر تحس به بتصنع الموت، وهذا يتم من خلال تضييق الزور، وتخفيض وظائف التنفس والدورة الدموية إلى حد  أدنى، وخفض العضلات إلى حالة إنعدام التوتر atonics state ، بينما يؤدى انقباض عضلات ما بين الضلوع إلى الحد من التنفس، كما يسمح تنظيم الشرايين التاجية الفريد (بوصفها شرايين نهائية ) بخفض سريع فى ضربات القلب، ولابد أن نذكر  أنفسنا هنا بأن عضلة بمثل أهمية عضلة القلب إذا لم يكن لها وسيلة الأمان المتمثلة فى شبكة من الشرايين المتصلة التى تحتويها غيرها من العضلات فإن هذا يمكن أن يكون فقط لحساب القدرة على إيقاف عملها بسرعة بوصفها عامل بقاء هام أسلافنا على سلم التطور.

من هنا فإن بعض الأفراد إذا فسروا مواقف معينة بوصفها مهددة يكونون مهيئين  للاستجابة من خلال هذه العملية الوسيطة، هؤلاء هم الأفراد الذين إذا واجهتهم أنباء سيئة ظهرت لديهم النزعة إلى الشحوب ( إنقباض الأوعية الدموية ) ؛ كما أن  الألم الناجم عن الانقباض الشديد لعضلات ما بين الضلوع والشرايين التاجية (ألم الصدر والذبحة الصدرية ) يشير إلى عمل هذا الميكانزم.

ولعله مما يثير الاهتمام أننا نستخدم كلمة القلق anxiety المشتقة من كلمة لاتينية (angustiae) تعنى الانقباض constriction ( كما فى انقباض الصدر ) للتعبير عن شعور بالإنذار بخطر أو توقعه، مما يشير إلى أن الإنسان القديم كان واعيا بشكل ما بالارتباط بين الحالة الجسمية وإحساس الخوف، ولعله من الميثر للسخرية أن تصنع الموت الذى كانت له وظيفة حفظ الحياة فى أسلافنا قد أصبح بالرغم من شكله الأثرى الحالى مهددا للحياة فينا.

تقيؤ أو لفظ الطعام Disgorging of food  عن طريق الفم أو إخراجه عن طريق المستقيم:

ويعتبر هذا الميكانيزم استجابة للخطر لدى بعض الحيوانات التى تعتمد على الهرب السريع من أجل البقاء، والتعبير عن هذا الانعكاس فى الإنسان يتمثل فى فرط الحركة hyper motility  الحاد أو المزمن فى القناة الهضمية.

انعكاس الغطس Diving reflex :

هذه الاستجابة كما تظهر فى الطيور المائية و الثدييات البحرية تبطئ من معدل ضربات القلب و بالتالى تساعد على الاقتصاد فى الاوكسجين  مما يمكن هذه الحيوانات من البقاء تحت الماء لفترة أطول، ويحتفظ بنى الإنسان بهذا الانعكاس، ويمكن ملاحظته بسهولة بوضع الوجه تحت الماء حيث يصاحب هذا إبطاء فى ضربات القلب، وبعض حالات الوفاة بسبب الغطس فى أشخاص أصحاء يمكن إرجاعها إلى عمل هذا الانعكاس إذا ما أضيف إليه عدة عوامل مهيئة فى الشخص.

التغيرات فى توزيع صبغة الجلد Changes in distribution of skin pigmentation:

هذا المكانيزم الانعكاسى يستعمل بواسطة بعض الحيوانات لتجنب الخطر باللجوء إلى التمويه، وقد لوحظت تغيرات مشابهة فى لون الجلد ( السواد الناشئ عن الخوف fear melanosis) أثناء الحرب العالمية الأولى فى الجنود المحاربين فى الخنادق ( التى لا يستطيعون الفرار منها ).

التخزين (أو جمع الاغراض) Hoarding :

هذا النمط من السلوك تمارسه بعض الحيوانات استجابة لاقتراب ظروف فصليه غير مواتية، حيث تمتنع عن الا ستهلاك  الفورى للطعام لحساب تخزين هذا الطعام فى استجابة إنعكاسية لمؤشرات فصلية، وقد يكون من المغرى إرجاع كل أشكال الادخار و الاقتناء فى الإنسان و خاصة تلك التى لها طبيعة وسواسية قهرية إلى بقاء هذا المنعكس، ولكننا لإبد ان ندرك أن التخزين أو جمع الأغراض يعتبر استجابة إجتماعية معقدة، وعلى كل حال فنحن نرى نزعة لدى بعض الأفراد الذين يواجهون تهديدا بنكبات أو كوارث خارجية إلى جمع أغراض قد لايكون لها قيمة حقيقة، وتعتبر الحالات المتطرفة من التخزين بواسطة بعض النساك recluses – وهى حالات يكتب عنها أحيانا فى الصحف اليومية – تعبيرا أوضح على عمل هذا الميكانزم.

البيات Hibernation:

يعتبر هذا أحد الميكانزمات البقائية التى تهدف إلى مواكبة الظروف الفصلية غير المواتية، ويتبدى فى زيادة الوزن قبل الفصل الذى يهدد ظروف حياة الحيوان، يتبعه خفض فى التمثيل الغذائى أو الأيض metabolismوما يترتب عليه من بطء الحركة مع فترات طويلة من النوم، وفى الإنسان نرى هذا الميكانزم ( العملية الوسيطة ) فى بعض أنواع الاكتئاب، فالشخص المصاب بخيبة أمل شديدة والذى يفسر موقف حياته بوصفه غير ملأئم وباعث على القنوط يمكن أن يزيد وزنه و تبطئ حركته ويصبح هامدا كسولا و كثير النوم.

التخلص من النفس Self – elimination :

تعتبر هذه الاستجابة وصلة لها دلالتها فى أنماط سلوك “التسلط – الخضوع “التى ترسى الهرمية وتحكم السلوك الاجتماعى فى العديد من الأنواع ، فى هذه الأنواع فإن الحيوانات التى تفقد رتبتها (rank ) ومعها الحق فى  منطقة نفوذ وفى أماكن للعيش أو حق التزاوج كثيرا ما تصبح زائدة عن حاجة  مجتمعاتها، وايماءة الخضوع التى يقومون بها تجاه الحيوان المتسلط يتلوها تثبيط للعدوان، وهذا عامل يدفع بالحيوان إلى طرف مجموعته، وهو يساعد فى هذه العملية بطريقة  مباشرة بعدم  استجابته بالثأر أو الانتقام إذا جرى تحديه واستثارته أو بطريقة غير مباشرة بتنحية عن مركز حركة المجموعة، وفى  بعض الأحيان يدخل الحيوان فى حالة من الصدمة وفى أحيان أخرى يهيم بعيدا عن المجموعة و يصبح شريدا، كما أن هذه الاستجابة تميل إلى خفض مقاومة الحيوان للأصابات الطفيلية التى لا تكون ضارة فى العادة.

إن الإحساس بفقد الرتبة rank لدى الانسان (ومن المحتمل أيضا فقد محبوب أو موضوع للحب love object ) يثير تسلسلا مشابها من الاستجابات، ونحن نصف هذه الأعراض التى تتميز بفقد إرادة الاستمرار بوصفها نوعها آخرا من الاكتئاب، والتعبير الفسولوجى لهذه الزملة هو انهيار ميكانزم المناعة الدفاعية للجسم وما يترتب عليه من نتائج، بينما المظهر المتطرف على المستوى السيكولوجى هو الانتحار.

الإخراج عن طريق الجلد Elimination through the skin :

فى الأنواع الأدنى من الحياة تستعمل هذه الاستجابة فى غياب الكلية، ويحتفظ جلد الانسان بهذه الوظيفة وخاصة فيما يتعلق بإخراج النواتج السامة عصبيا neurotoxin، ومنها أن الجلد يخرج بعض أملاح النشادر المتراكمة فى حالة تعطل الكلى، وفيما يتجاوز هذا فإن بعض الأفراد معرضون كما يبدو إلى إخراج السموم النفسية Psycho toxins من خلال الجلد مما ينشأ عنه أمراض جلدية.

الفصد Event ration :

هذه طريقة للبقاء تمارسها بعض اللافقاريات الدنيا، على سبيل المثال فإن خيار البحر sea cucumber إذا ما طارده حيوان مفترس فإنه يلفظ (يفصد) معدته بالكامل كطعم، وهذا العرض يشغل المعتدى ويعطى خيار البحر الفرصة للهرب (وهو يملك القدرة على نمو معدة أخرى عندما تنتهى المطاردة ).

ويمكن رؤية بقايا هذا المنعكس فى الإنسان عندما يكون الأفراد تحت ضغوط شديدة حيث أن عملية مشابهة من خلال ميكانزمات سيكوفسيولوجية تؤدى إلى قطع الدورة الدموية عن جزء من المعدة مما يتلوه ظهور قرحات معدية.

إن هذا “الكتالوج “بعيد كل البعد عن الاكتمال، ونحن بصدد البحث فى ميكانزمات فسيوباثولوجية أخرى يبدو ان لها جذورا تطورية.

الاستنتاجات:

يمكننا استنتاج أن الثدييات السابقة على الإنسان ينمو لديها خلال تميزها ميكانزمات تكيفية جديدة  فى تركبيات المخ الأوسط diencephalons ، وهى تزيح بكفاءتها ما يسبقها من  منعكسات قديمة، وفى مقابل هذا فإن نوعنا الانسانى قد صاغ لنفسه ميكانزمات بقائية مرتبطة شرطيا بحضارته culturally conditioned و بذلك فإن ما يحكمها هو القشرة المخية الجديدة neocortical brain، وبقدر علمنا فليست هناك استجابات جديدة الإنسان تنشأ فى القشرة المخية القديمة Pale cortex  و بالتالى فليس هناك تنافس فى هذه التركيبات يمكن أن يسد الطريق على الميكانزمات الفسيولوجية – العصبية الأقدم، بدلا من ذلك فإن عمليات المخ الأوسط تتنافس فى التعبير مع عمليات القشرة المخيةالجديدة نسبيا والتى لا تعتبر محفورة أو ثابتة بقوة كافية، وذلك أساسا لأنها عرضة للقرار أو تعتمد على اتخاذ القرار، وفى أغلب الأحيان فإن الخاسر هو القشرة المخية الجديدة، فنحن عندما يهددنا  شئ يتخلى عنا تعقلنا عادة وتقوم  “أمعاؤنا ” بالتعبير.

وبسبب الاحتفاظ بأنماط و فسيولوجيا مرنة وشابة فى الإنسان – كما ذكر فى بداية المقال – فإن نوعنا يجد فى متناوله إمكانية كامنة للعديد من أنماط المنعكسات القديمة، إن الأمر يبدو كما لو كان بإمكاننا أن نستفيد من مكتبة تحتوى برامج مطبوعة حيث ننتقى تلك التى تناسب أنساق القيم الفردية لدينا، ولكن بمجرد أن يتم هذا الاخيتار فإن البرنامج المنتقى يصبح جزءا لايتجزأ من “نظام العقل – الجسم “للمنتقى، وبالتالى يحدد طبيعة استجاباته العاطفية والنفسية – الفسيولوجية، وبذلك فإن مهمة المعالج هى تغيير هذا البرنامج.

ولتوضيح هذا المفهوم دعونا ننظر إلى عائلتين، فى أحدهما يتشرب الأطفال أهمية الاحتفاظ بموقعهم أو مواقفهم عندما يهاجمون جسيما أو يهانون لفظيا، بينما فى الأخرى يتعلم الأطفال استعمال العقل لإقناع الخصم أو للتأثير عليه و لتحقيق هارمونى بضرب مثل حميد. إن الصاغة النفسية – الفسيولوجية ( العملية الوسيطة أو الاختراق المستوعب ) فى الاستجابات للتهديدات الإجتماعية فى أفراد هاتين العائلتين ستكون مختلفة بشكل واضح، إن النشاطات الحركية الناشئة و التعبيرات الجسدية سوف تسير فى قنوات متشعبة، وهذا ما يفسر الأمراض النفسجسمية المتناقضة التى يمكن أن يعانى منها أفراد هاتين العائلتين عندما تواجههم صراعات صعبة أو غير ممكنة الحل.

إن هذه الميكانزمات أو البقايا الأثرية للاستجابات التكيفية لأسلافنا فى التطور تكون موجودة كإمكانية كامنة يمكن أن تبزر بشكل فعلى نتأثير عوامل مثل الاستعداد الورائى والتدريب والظروف البيئية والوظائف التعويضية الناجمة عن المرض أو المعوقات الجسدية و غيرها من العوامل، إن أى منعكس قديم يمكن أن يقدم نفسه كحامل لصراع ما و بالتالى يحدد صورة التعبير عنه، ولكن قد يحدث فى الإنسانى أن يفشل المنعكس فى أن يكون تكيفيا، وبسبب هذا فإن صفة “عصابى”.تؤكد على تأثيره المثير للاضطراب فى حياة الشخص.

إن إبطاء عملية النمو قد أعطت لنوعنا المنافع غير المحدودة للوظيفة العقلية عالية المرونة، ولكنها فى نفس الوقت فتحت الطريق أمام ظهور الاستجابات الفيلوجينية المبكرة التى تتفق مع المورفولوجيا غير المتخصصة و حديثة السن بالمقارنة بغيرنا من الحيوانات.

وكاستنتاج أخير يمكننا أن نلاحظ أنه كما الحال فى العديد من العوامل الفيلوجينية فإن نوعنا قد أعطى صفقة شاملة Package deal: لكى يحصل على النمو العقلى المتميز والموانى كان عليه أن يقبل بشكل أو بنية رضيعية infan utilization of form مصحوبة بصورة لا مناص منها بالعديد من الأنماط السلوكية غير المتكيفة.

الموقف

رأينا أن نقدم هذا المقال كاملا بنصه لسببين أولهما أنه فى حد ذاته عبارة عن ملخص لحلقتين دراسيتين عقدتا فى “معهد تافيستوك للعلاقات الانسانية “بلندن فى أكتوبر من عام 1973 وكان من الصعب توصيل محتواه من خلال مقتطفات أصغر أو باختزاله إلى أقل من حجمه، وثانيهما أن ما يقدمه له أهمية خاصة من وجهة نظر هذه المجلة، وهذا بالتالى له سببان:

1- يقدم هذا المقال نموذجا لمدخل غير شائع فى تناول الظواهر والأمراض النفسية رغم أهميتة، وهو المدخل الذى يحاول دراسة هذه الظواهر من خلال إطار بيولوجى شامل يربط بينها وبين ظواهر العالم الأوسع للكائنات الحية عموما، وهذا المنظور يمكن أن يسهم بشكل لاغنى عنه فى فهم وتفسير الظواهر النفسية، فدراسة الإنسان من وجهه النظر الإبستمولوجية و المنهجية تقع فى منطقتها العلموجودية ontological reggion داخل إطار البيولوجيا قبل أن تكون فى إطار الفيزيائى واستجلاء الحقائق المتعلقة بنفس الإنسان يجب أن يبدأ فى هذا الإطار من خلال ربطها بطبيعة ظواهره وأنواع علاقاتها والقوانين التى تحكم هذه الرتبة من الوجود، وليس كما هو الحال فى نموذج البحث العلمى الشائع فى إطار العالم الفيزيائى ومن خلال مفاهيمه وأسسه وقوانينه.

إن دراسة الظواهر النفسية للإنسان من خلال مثل هذا الاطار البيولوجى هو المدخل الذى يضعها فى سياقها الطبيعى والحقيقى وهو الأقدر على تحقيق فهمها  واستكشاف حقائقها.

2- يقدم المؤلفان دراستهما على أساس المفهوم التطورى وهو المفهوم الذى يقوم على رؤية أن الإنسان هو الحلقة المتقدمة فى سلسلة تطور غائية للحياة، وهذا المفهوم كما يراه من يعتقد به قادر على تفسير الظواهر المتعلقة بالإنسان بصورة لاغنى عنها فى فهم حقائقها.

والمؤلفان يحاولان تفسير الأمراض العصابية ( بالمفهوم الواسع الذى يتضمن الأمراض النفسجسمية ) بوصفها عودة ظهور إستجابات قديمة كانت لها وظائف بيولوجية لدى أسلاف الإنسان فى التطور، ولكنها بظهورها فى الانسان فى مواجهة الضغوط قد تأخذ شكل أنماط سلوك غير متكيف أوأمراض معوقة وضارة.

وهذا الوضع الذى يبدو ضارا لأول وهلة لا يناقض فى حقيقته غائية التطور، لأنه كما يوضح المؤلفان الثمن الذى يدفعه الإنسان فى مقابل نمو مستوى جديد من التكيف يتمثل فى نمو وظائف المخ وظهور القشرة المخية وما يرتبط بهذا من أهمية كبيرة للتفكير والتعلم، وهى إمكانيات فتحت للتطور آفاقا ليس لها حدود، وهذا المستوى الجديد إذا قابلناه بمستوى التكيف السابق فىالحيوانات قبل الإنسان والذى يعتمد على نمو استجابات نمطية هى التى تنحى الاستجابات القديمة و لاتسمح بظهورها يمكننا ان ندرك أن الثمن الذى يدفعه الإنسان بذلك هو عدم نمو مثل هذه الأنماط الجاهزة وما يترتب عليه من بقاء الاستجابات القديمة كإمكانيات كامنة قد تظهر تحت ظروف معينة فى الشكل غير المتكيف والضار للعصاب، فالمقابلة إذن هى بين نوع الأمان الذى تحققه الاستجابات النمطية الجامدة والنوع الآخر من  الأمان المحفوف بالمخاطر الذى تحققه وظائف المخ الجديد المرنة ذات الإمكانيات والآفاق الأوسع للتطور.

ونحن إذا ما قارنا بين الثمن و الإمكانيات الفائقة لمستوى التطور الجديد كما يتمثل فيما حققه الإنسان بوظائفه المتميزة عن الحيوان، يمكننا أن ندرك أن الصفقة عادلة وفى صالح التطور فى نهاية الأمر.

وهذا يقودنا فى النهاية إلى حقيقة هامة وبسيطة… وهى أن الأمراض النفسية ما هى إلا أعراض جانبية لعملية التطور الحتمية…  أو بتعبير آخر هى “مضاعفات مسيرة التطور “. وقد حاول المؤلفان بكفاءة لا تنكر التدليل عليها من خلال هذا العمل.

تبقى نقطة لها أهميتها، وهى أن تأكيدنا على أهمية و حيوية هذا المدخل البيولوجى و هذا المفهوم التطورى لدراسة الظواهر النفسية لا يجب أن يغلق أعيننا عن الرؤية الناقدة للمزالق التى تحف به، ففى غمرة الحماسة للرؤية التطورية فذغن الباحثين قد يعمدون إلى افتراض ترابطات قد لاتبرها المعطيات المتاحة بشكل معقول (4)، فبقدر ما يحس المرء بالإعجاب أمام  ربط الباحثين فى هذا المقال بين ظاهرة “التخلص من النفس “لدى الحيوانات السابقة على الإنسان وبين ظاهرة الاكتئاب الذى قد يؤدى إلى الانتحار لدى الإنسان بقدر ما يقف متسائلا امام مبررات ربطهم بين “الإخراج عن طريق الجلد “وإخراج السموم النقسية من خلال الجلد “فى صورة أمراض جلدية…. هنا يختلط الأمر بين التشبيه وهو عملية لغوية تساعد على تصوير الحقائق وتجسيدها وبين إقرار حقيقة فعلية تبرها الملاحظات والبحث العلمى.

فهل هناك مبرات موثوق بها للربط بين وظيفة “الإخراج “عن طريق الجلد وبين الأمراض الجلدية التى لها أصول نفسية؟ من المعروف علميا أن العديد من الأمراض الجلدية تنشأ بشكل ما عن عوامل نفسية…. ولكن هذا ينطبق على كل الأمراض النفسجسمية بما فى ذلك الأمراض التى تصيب أعضاء ليس لها وظيفة إخراجية، قد يلفت النظر شيوع العوامل النفسجسمية فى الأمراض الجلدية بالذات مما حاول بعض العلماء إرجاعه إلى الأصل الجنينى المشترك للنسيج العصبى ونسيج الجلد (وهو الإكتودرم ectoderm) ولكن ليس هناك – بقدر علمنا – ما يبرر الربط على مستوى الحقائق الفسيولوجية بين وظيفة الإخراج فى الجلد “بالذات”وبين الأمراض الجلدية النفسجسمية.

فهل لدى الباحثين مثل هذه المبررات مما لم يتسع المجال لتقديمه؟ أم أن الأمر لا يخرج عن نطاق الصورة التشبيهية، الأمر الذى يتناقض مع بقية النماذج التى قدماها.

إلا أن مثل هذا النقد لا يجب أن يقلل من قيمة هذا العمل، فإننا قد لا نتفق مع بعض تفاصيل المعالجة أو الآراء التفصلية التى تشتملها فهذه اجتهادات قد تصيب وقد تخطئ…. وهذا حق كل باحث أو عالم، ولكن المهم فى النهاية هو المدخل أو منظور المعالجة والمفاهيم التى تقوم عليها….. وهو ما ترى أن هذا العمل يقدم نموذجه السليم وهو النموذج البيولوجى التطورى.

****

تساؤلات:

ولعله يجدر بنا بعد ذلك أن نؤكد موقفنا بإثارة تساؤلات ندعو الزملاء والقراء عامة إلى المشركة فى الإجابة ( أو محاولة الإجابة ) عنها ؛ أو بالقليل إثارة

تساؤلات مقابلة:

1- إذا كانت آثار انماط السلوك القبلية كامنة بهذه الصورة وجاهزة لاستعادة نشاطها الدفاعى فى ظروف خاصة ( مرضية فى العادة )، أفلا يجدر بنا أن نسترجع معنى الوجود وطبيعة غائيتة المرحلية ووسائل دفاعاتها الكلية ( وليست الفسيولوجية فحسب ) و مقابلتها بالذهانات النكوصية خاصة ( وليس بالعصاب فحسب )؟

2- ألا يجدر بنا أن نخفف من غلوائنا فى بين ما هو رمزى وسيمانتى وبين ما هو فسيولوجى وبيولوجى، لا باختصار الأول غلى الثانى، ولكن بشمولية الثانى وكليته وتغيير لغته وغايته؟

3- ألا يصح أن نتخطى المغالاة فى قيمة “الأحداث الشخصية “( العقد والذكريات والتثبيتات……..الخ ) فى ذاتها إلى ما يقابلها من مراحل تطورية ذات دلالة بقائية وتكيفية قديمة؟ ( نتخطاها دون أن نستبعدها ولكن نشملها ).

4- أليس خليقا بنا أن نتناول المرض النفسى باعتباره تعثرا أثناء عمليات البسط النموية unfolding، تظهر من خلالها أمثال هذه الأنماط الوجودية القبلية وتتوقف عندها فترة تطول أو تقصر، وتتشوه بها ومن خلالها مظاهر السلوك؟

5- ألم يئن الأوان للاقبال على العلاج ( النفسى وغيره) باعتبار مواكبة لمسيرة البسط التطورى، نسهل لها الطريق، ونعيد تأكيد الاتجاه ن ونزيل من أمامها العقبات؟

6- ألا يستحق كل هذا أن تستمر هذه المجلة فى الصدور تساهم بدورها المتواضع وفكرها الملتزم فى البحث عن إجابات وإثارة المناقشات حول ما هو خليق بعصرنا وشريف لعقولنا؟

[1] – هذه ترجمة مقال:

“The Evolutionary Mechanisms of Neurotic Behaviour.”

By: A. D. Jonas & D. f. Jonas – American Journal of Psychiatry 131: 6, June 1974>

ويرجع إلى “المراجع” فى الأصل لمن أراد.

[2] – لم يمكن الوصول إلى ترجمة حرفية للكلمة لذا استعملت هذين المصطلحين فى انتظار ترجيح أيهما بالممارسة والحوار.

[3] – رتبة من الثدييات تشمل الانسان والقرد… الخ

[4] –  وهو ما انتقده الزميل د. محمد السماحى فى مقاله بالعدد السابق، وفى رسالة خاصة لرئيس التحرير تعقيبا على بعض ما نشر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *