الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد أكتوبر 1980 / عدد أكتوبر 1980-العجوز والخيط(قصة قصيرة)

عدد أكتوبر 1980-العجوز والخيط(قصة قصيرة)

 

عدد أكتوبر 1980

العجوز والخيط

– 1 –

كانت تجلس بجوار النافذة نصف المفتوحة تنظر إلى الشارع الخالى، وأنت لا تستطيع أن تعطيها سنا محددة فقد تكون فى الخامسة والستين أو حول الخمسين لكنك لو دققت النظر فقد تراها طفلة فى الثالثة من عمرها تتعلم خبرة جديدة:

أن تصنع فستانا ورداء لعروستها، يتوقف أى من ذلك على ماوصلك منها وما أردت أن تراها فيه، كانت لحظة من  لحظات الزمن الوديعة، رغم كل هذا السكون أو بسببه، كانت وداعتها أشبه بغروب يوم مطير بعد ما انقشعت غيومة إذ غسلت بمائها أدران البشر وتلويث الطبيعة للطبيعة، جلست السيدة بجوار النافذة العريضة الممتدة بين الجدار والجدار والتى تكشف عن بعد من قد يروح أو يغدو، على قلة من يروح ويغدو فى هذا الحى  فى هذا الوقت، وضعت على حجرها ثوبا ما، هو ليس بالجديد ولا بالبالى، وأمسكت بيدها اليسرى تلك الإبرة الصلب رافعة إياها بمحاذاة مستوى عيونها وأحيانا فوقها، وأخذت تحاول باليد الأخرى أن تدخل الخيط الرمادى فى ثقب الإبرة، الخيط يأبى أن يدخل، ينثنى مرة، ويفلت إلى هذا الجانب أوذاك مرات، تضعه فى فمها وتبلله بريقها وتفرده بضغطة خفيفة بين شفتيها، تعاود الكرة ” أين أنت ياابنتى؟ ليس فى الدنيا عندى أفضل من أن اراك تهنئين وسط أولادك مع زوجك، هو لا يحبنى ولكنى أحبك، ولكن ياترى هل أنت هائنة فعلا؟ من أدرانى؟ من زمن لم أرك، قلبى يحدثنى أنك تخفين شيئا، وها هو الخيط يأبى أن يدخل الإبره، لا…. بل دخل أخيرا هذه المرة، أكاد أرى طرفه يخرج من ثقبها فى الناحية الأخرى، نعم هو ذاك، لكن الإبرة تهتز ويدى تهتز، أضم المرفق إلى جنبى حتى أتمكن من التقاط الخيط باليد الأخرى، ولكن الأخرى تهتزأكثر، وها هو الخيط قد خرج على كل حال خرج. خرج الخيط ياابنتى وليست واثقة إن كان طرفه قد دخل أصلا إلى الثقب أم أن نظرى خدعنى منذ البداية، ولا أنا أدرى إن كنت سعيدة مع زوجك أم غير ذلك… سأحاول مرة ثانية أو حتى خمسين، ليس ورائى شئ سوى المحاولة…… لا لن ألبس منظارا على آخر الزمن ، هل سأقرأ الصحيفة أم سأوقع على الشيكات؟ هذه العوينات للأفندية على المعاش ليثبتوا أنهم كانوا يشغلون منصبا ما وأنهم لم يولدوا على الكرسى القهوة، نعم كانوا موظفين ولهم لبس العوينات، بل إنه قد يزينهم حتى، لكن أنا؟، لا أمى لبست منظارا ولا جدتى، فلماذا أنا ؟ أين أنت الآن يا ابنتى، قلبى يحدثنى أننك ستحضرين، وها هو الجرس يدق، ألم أقل لكم؟ صبى القمامة، أخذ القمامة ، والبواب أتى بالخبز، فلابد أنن الطارق هو  أنت، يافرحتى بك فى يومى هذا، كم كنت أحتاجك الآن بوجه خاص. ثم ها أنت تدقين الباب، كم أنت كريم يارب.

– 2 –

قامت إلى الباب وفتحته ووجدتها هى بلحمها ودمها، ابنتها حبيبتها ، لم يكذب حدسها فغمرتها فرحة طفل وجد أمه فى زحمة السوق بعد أن تاهت منه أو تاه منها، أدخلتها وأجلستها ومسحت عن جبينها عرقها وقبلت رضيعها النائم على كتفها وسألتها عن زوجها وعن أسعار مسحوق الغسيل ومدى توفر الدجاج عندهم، وأوصتها ألا تنسى أن تأخذ معها عند انصرافها زوج فراخ استطاعت أن تحتجزه لها من الجمعية المجاورة، واحتفظت به فى الثلاجة خصيصا لها، وحين ذهبت الإبنة ترتاح فى حجرتها التى لم تفرط فيها أمها أو تغير محتواها منذذ زواجها عاودت الأم محاولة الإبرة والخيط طوال نوم ابنتها بلا نجاح أو يأس، ولمحت عبر النافذة طفلا يلعب مه أخته ( هكذا أصرت أنها أخته دون أن تعرفهما أو تميزهما بدرجة كافية) فضحكت فى سرها ضحكة صافية

– 3 –

قامت الابنة – بعد استيقاظها – معتذرة عن عدم الانتظار للعشاء لأنها مدعوة مع زوجها إلى وليمة ما، قبلت الأم العذر للتو فقد تعودت فى الشهور الأخيرة أنه لا فائدة من الإلحاح فى هذا الزمن اللحوح، سألتها الابنة فى صدق حان إن كانت تريد شيئا، أجابت الأم أن” لا….. أبدا…إطلاقا” وكررت الابنة السؤال وهى تنظر إلى حجرها فكررت الأم الشكر والرفض، وقامت تودعها إلى الباب بعدما شبكت الابرة بجوار الياقة ثم ألقت ما بيدها وما على حجرها على الكرسى بجوراها، نظرت الابنة فى عين الأم وعاودت السؤال وهى واقفة بفتحة الباب تريد التأكد أن أمها لا تريد شيئا منها بحق، والأم تعاود الإجابة بالرفض والشكر وهى تناولها الكيس”النايلون” وفيه الفرختين المجمدتين.

– 4 –

رجعت إلى جوار النافذة، ولم تلمح الطفل أو الطفلة فى الشارع، جمعت الكومة من على الكرسى المجاور، التقطت الخيط الرمادى بصعوبة من بين ثننيات الثوب، ولكن الابرة كانت قد تاهت حيث لا تذكر على وجه التحديد أين شبكتها؟ أخيرا وجدتها مغروسة بجوار  الياقة مباشرة فأشرق وجهها وعادت تحاول من جديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *