الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد أكتوبر 1980 / عدد أكتوبر 1980-تأملات فى الأساطير والعصر الحديث

عدد أكتوبر 1980-تأملات فى الأساطير والعصر الحديث

 

عدد أكتوبر 1980

تأملات فى الأساطير والعصر الحديث

أمثلة لأساطير عصرية وعلمية

د. محمد السماحى

الموجز

تساءلنا فى العدد الماضى ونحن نقدم هذا المفكر الشاب وهو يكتب الأسطورة عن ماهية البدائل الخرافية التى نعيشها حاليا تحت اسماء علمية؟ ويبدو أن المفكر الباحث كان كريما فاستجاب بكرم زائد… وها نحن ننشر ما ورد إلينا.

ولنا تعليق لاحق

لم تنقرض الأفكار الأسطورية من حياتنا، فهى تملأ مجتمعاتنا وحياتنا العامة وأحيانا يشار إليها بأنها “ميل غيبى”Superstition  ولكن الغريب أنها تسللت أيضا إلى العلوم وشكلت أحد أساليب صياغتها وهذا ما يجب مقاومته. ولقد تركزت الأساطير العلمية فى مجهودات تفسير الظواهر وخاصة الكوزمولوجية. ولقد لجأت الشعوب القديمة إلى تفسيرات تعتمد على أفكار تشبه الهزل حيث استعملت بطون الأبقار وقرون الثيران فى تفسير الخلق، ولكن فلاسفة اليونان مالبثوا أن مهدوا الطريق للعلم بأساطيرهم المعقولة (نسبيا)، ثم جاء عصر العلم بأساطيره الخاصة به والتى سقط بعضها مع الزمن مثل نظرية التوالد الذاتى السابقة على نظرية التطور والتى تقول بأن الكائنات تتوالد من الجماد والعكس صحيح.

متى يتحول العلم إلى ميثولوجيا؟

يتحول العلم إلى ميثولوجيا عندما يتجه نحو الأفكار التركيبية Synthetie(1) التى يلعب فيها الحدث دورا أكبر من دور التجربة والبرهان ويتغلب فيها التشبيه المستوحى من الحياة اليومية على التجريد. ولقد ظهرت تفسيرات أسطورية فى العلوم البيولوجية والفيزيائية على حد سواء.

الأساطير البيولوجية: كثرت الأساطير العصرية فى العلوم البيولوجية خاصة من  خلال نظرية التطور التى تحكى عن استطالة رقبة الزرافة من كثرة محاولاتها للتطلع إلى أعلى نحو أوراق وثمار الشجر، وعن ظهور أجنحة للطيور لما غمر الماء الأرض مما اضطر الحيوانات الزاحفة والبرمائية أن تطير بعيدا عن الماء وتحيا على الشجر وغير ذلك من خرافات علمية تجلت فى النهاية فى نظرية ساذجة عن التطور الجنينى بالرحم تزعم بأن الجنين ” يحاكى قصة أجداده” حيث يمر بمراحل تشبه خطوات التطور من فصلية إلى فصلية أعلى فى المملكة الحيوانية رغم أنه تشابه مورفولوجى سطحى.

هذه كلها ينطبق عليها منطق الأساطير لأنها لا تستند غلى البراهين وإنما غلى إعتقادات مسبقة Presuppositions  مبنية على الإستنتاج الحدسى والتفكير القائم على الحدس السليم Common Sense لا إلى التحليل المنطقى أو الخبرة العلمية الملموسة..

وفى علوم الطب أساطير عديدة: هناك أساطير تفسر كيف أن للجهاز المناعى(ذاكرة) تجعله يتعرف على البروتين الأجنبى ولا يتعرض للبروتين الذاتى. وأخرى تفسر سر تضخم الطحال عندما يتليف نخاع العظم وتظهر مراكز لصنع الدم بالطحال بأن الجسم يستعير من إحدى المراحل الجنينية نظامها حيث كان الطحال فى وقت ما فى الجنين مركزا لصنع الدم ــ ولكن كيف تمت محاكاة الجنين فى هذا الموقف؟ لا يوجد تفسير علمى وإنما مضمون شعرى مستمد من فكرة أخلاقية تشير إلى فائدة الرجوع إلى الحالة القديمة أو إلى الأصل

التفسير الاسطورى بدافع اكتشاف العلة Causality

وأسوق الآن مثلا من أكبر مراجع الطب الحديثة وهو الشهير بإسمى أول مؤلفيه “سيسل” و” لوب” حيث فى مجال الحديث عن مرض السمنة تقول كاتبة الفصل أو الباب ” م.ألبرنيك” ” إن تكون الأنسجة الدهنية كان نصرا للتطور. فمن ناحية الوراثة التطورية فإن القدرة على اختزان الدهن فى الأنسجة الدهنية ظهرت لأول مرة فى الحشرات ثم أصبحت تامة النضج فى الطيور والثدييات، لقد كانت عاملا هاما فى تحرير الحياة من البحر بما يحتويه من مصدر ثابت لا ينضب من الغذاء”.

هاهو العلم البيولوجى يفترض فى وجود أماكن لترسب الدهون ” عاملا لتحرير الكائنات من الحياة المائية” وها هو مثال للحاجة إلى التفسير العلى للظواهر [من فكرة العلية التى تزعم أن لكل حدث علة يمكن الكشف عنها] وهو مثال لتورط العلماء فى افتراض تفسيرات علية تبدو وكأنها أساطير أقرب إلى السخف بسبب الحرص الزائد على إظهار علة الظاهرة، وكل فكرة تركيبيةSynthetic  فى العلم هى سلب لمنهجه الذى يفترض فيه تحليل الظواهر بتواضع ودقة لا تركيب تفسيرات وملاحظات متفرقة على طريقة الحكماء، عندما يقال إن السمنة ترجع إلى ترسب الدهون فى الأنسجة الدهنية فأنا أقرر ملاحظة علمية وعندما أقول إنها توجد فى الحيوانات البرية فأنا أيضا أقرر ملاحظة علمية أما أن أتجاوز هذا الحد إلى حد التفسير الغائى teleological وأزعم أن السر فى ذلك واضح  وهو أن الحياة البحرية لا تحتاج غلى اختزان الدهون وأن القدرة على الاحتفاظ بالدهن قد دفعت بالكائنات من البحر إلى البر فأنا عندئذ أضع أسطورة علمية بهدف أن أوضح صوره مشوشة وغامضة عن الطبيعة.

الأساطير الفيزيائية:

كانت هذه تلميحات سريعة عن أساطير العلوم البيولوجية ولم تكن محاولة لإحصائها… وهى أكثر من أن تحصى.

ولكن ماذا عن العلوم المضبوضة؟” exact sciences”  يطلق هذا اللفظ على مجموعة العلوم الفيزيائية الرياضية. وقد افترض فيها أنها طرف نقيض للأساطير لقيامها أساسا على المنطق الصورى والأفكار المجردة المبنية عليه. لكنى أريد أن أتساءل عن مدى انطباق صفة الأسطورية على أفكار فرض علينا أن نحترمها وأن ننحنى لها مثل المجال والجذب وقوانين الطبيعة والجسيمات الدقيقة.

يقال لنا إن المادة مكونة من ذرات كل منها يتكون من جسيمات دقيقة تدور حول بعضها البعض وتحمل شحنات مختلفة. ولم ير أحد ذرة ولا جسيم… كما لم يفسر لنا أحد معنى الشحنة السالبة والشحنة الموجبة بل ولا الأدهى كالشحنة المتعادلة فى النيوترون.. وبذلك نجد أن النظرية الذرية قد إقتبست من الخبرة اليومية المعاشة فكرة حمل الشحنة كما يفعل الحمالون…. وأيضا إقتبست نموذج النظام الشمسى للذرات بعد ان فشل إقتباس نموذج البرتقالة التى تحمل بذورا فى داخلها هى الإلكترونات فى عقد سابق. كما اقتبست الفيزياء لفترة طويلة فكرة قوانين الطبيعة من القوانين الوضعية للمجتمعات إلى أن قضت الفيزياء الحديثة على هذا الاعتقاد(2)

الحلول اللفظية:

ينزع الفكر الأسطورى إلى اقتراح حلول لفظية كتفسير المرض مثلا بحلول روح شريرة فى الجسم، كما تسرب مفهوم السحر والتأثير عن بعد (كما كان يفعل الخاسرون والسحرة فى قديم الأزل) إلى مفسرى ظاهرة الجذب المغناطيسى وحلا لصعوبة المشكلة ونظرا لصعوبة تخيل التأثير عن بعد بين حديد ممغنط وحديد غير ممغنط على مسافة بعيدة عنه نسيبا إقتراح حل بتسمية” المجال المغناطيسى” أو “الحقل المغناطيسى”

وتوجد حلول لفظية تشبه الخرافات فى مواضع أخرى من الفكر العلمى فمثلا يفسرون انطلاق طاقة ضخمة من التفاعل الذرى المسمى بالإنشطار النووى (بتحرر) الطاقة الكامنة فى نواة الذرة، قارن هذا التفسير بتصور القمقم الذى يحوى شيطانا محبوساً أتيحت له فرصة الإنطلاق. إنه يفترض أن النواة بها طاقة هائلة هى التى ترتبط البروتونات والنيوترونات فى الحالة العادية وأى إخلال بهذا الترابط”يحرر”

هذه الطاقة فتأخذ شكلا هداما( ضوء وحرارة وموجات كهرومغناطيسية). هذا هو الوجه الأسطورى للفكرة العلمية، فهى تركيبية وتشبيهية ( analogical) ، كذلك تصور أن الأجسام تسقط على الأرض لأن الأرض تجذبها إلى مركزها، ليس إلا تفسيرا لفظيا لأن” الجاذبية” فكرة غامضة عندما تخرج عن مكانها، الأصلى عند الكلام عم الجذب المادى باليد مثلا…. أو المعنوى بجمال الوجه.

كما أن الاكتفاء بإرجاع سر الأجسام إلى” الجاذبية” لايوضح كيفية ولا سبب وجود هذه الجاذبية الغامضة، وهذا هو ما يميز الحل اللفظى الذى لا يقدم شرحا وافيا وإنما مجرد تسمية.

الخلاصة:

مما سبق يتضح أن العلم لايزال متشربا بالفكر الأسطورى ربما لأن التفكير الخرافى كان أول محاولة لتفسير الظواهر ثم أفسح المجال تدريجيا للعلم، فلم يتخلص الأخير من أثر الأول. وربما لأن التفكير العلمى على حسب فكرة” كونت” هو المرحلة الثالثة بعد الخرافة والميتافيزيقا فى حياة الإنسان العقلية ولابد أن يتاح له الوقت الكافى للتخلص من آثارها. ولا يخفى علينا أفكارا كانت كبيرة جدا وكانت لها مكانتها فى العلم قد ماتت بسيف أفكار أحدث حلت محلها بهدوء.

وقد عرضنا أمثلة للأسطورية البيولوجية والأسطورة الفيزيائية وبينا أن الخرافة ترجع فيهما إلى وجود أفكار تركيبية وتشبيهية أساساً. وبينا أيضا أن الإصرار على وصف أسباب للأحداث والظواهر يؤدى إلى أفكار تشبيهية تركيبية وإلى حلول لفظية وحلول غير مدروسة وغير مبرهن عليها فتبدو وكأنها حلول أسطورية.

****

تعليق المحرر:

عملا بحرية النشر وحرصا على استمرار الحوار نشرنا هذا الرأى الشجاع دون أى محاولة للتعديل أو التخفيف كما اقترح بعض الزملاء فى هيئة التحرير، ذلك أننا فضلنا أن يلقى المؤلف بالكرة ملتهبة حتى لو تطايرت بعض النيران إلى بعض المناطق الزاهية المستقرة، على أن ذلك لا يعنى موافقة التحرير لهذا الرأى الجرئ ولعله يجدر بنا ونحن ندعو إلى الحوار حول ما قاله الزميل المتحمس أن نذكره بتلك الثورة التى لم تأخذ حقها والتى وردت عند أستاذنا الرائد محمد كامل حسين فى ” وحدة المعرفة” حين وحد بين” العلم والخرافة” فى نوع واحد من التفكير وأسماه التفكير ” الخرافى العلمى” ثم حين هاجم بلا هوادة” التفكير الغائى” من أساسه.

والأمر بعد ذلك وقبل ذلك ينبغى أن يذكر الكاتب المفكر ويذكرنا بافتقارنا الأساسى إلى تحديد ما هو ” علم”، والتمادى فى تعريف العلم بأنه المشاهدة والتجريب دون المنطق والحدس يكون خطورة معوقة نريد أن نعلن فتح باب النقاش حولها.

إذا كانت القضية التى طرحها زميلنا الشاب تقول” إن بعض العلم ما هو إلا أسطورة” فلععلها تعنى فى نفس الوقت” غن بعض الأساطير ليست إلا علما” من عمق آخر، كذلك فإن بابا آخر قد سبق أن فتحه الزميل د. مجدى عرفه فى سلسلة مقالاته عن ” الفنومنولوجيا والبحث فى الإنسان” يتسع أكثر فأكثر إذ يثير قضية تحديد علم النفس والطب النفسى بين العلم والأسطورية وخاصة بعد ماأثاره رأى الزميل د. سماحى من أن بعض العلوم البيولوجية والعلوم المضبوطة هى من قبيل الأساطير وتعريف ماهو علم هنا وتحديد أبعاده هو أولى الأمور بالتحقيق.

والقضية الثالثة هى الدعوة إلى ضرورة احتفاظ الانسان المعاصر باكبر مساحة فطرية من عقله حتى يحتمل العلوم الناقصة والأساطير غير المثبتة والغموض الحتمى دون الاستسلام إلى السلبية أو العدمية استسهالا أو تشنجا.

 والباب مفتوح للنقاش.

أما القضية الرابعة – والمرفوضة من جانبنا أصلا – هو أن ينتهى رفض الأسطورة وتشويه العلم وهز الثقة فى ما هو قائم إلى موقف عدمى سلبى معوق.

[1] –  للتفرقة بين الأفكار والتركيبية والتحليلية: إذا قبل إن تعرض الحديد للحرارة يكون مصحوبا بتمدد الحديد فهذه فكرة تحليلية لأنها تحلل مشاهدة تجريبية. أما إذا قيل إن الحرارة تسبب تمدد الحديد لتباعد جزيئاته بفضل السخونة فهذه فكرة تركيبية لأنها تقدم معلومات إضافية مع وصف الظاهرة.

[2] –  بعد اقتراح هايزنيرج لمبدأ عدم التيقن Uncertainty وبعد فشل التجارب الدقيقة فى التنبؤ بمسار وحركة الجسيمات الدقيقة فى الذرة انتهى تماما حماس علماء الفيزياء للفكرة الشعرية الجمالية القائلة بأن الطبيعة تحكمها قوانين صارمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *