الرئيسية / الأعمال الأدبية / كتب أدبية / كتاب الترحال الثالث: ذكر ما لا ينقال

كتاب الترحال الثالث: ذكر ما لا ينقال

  • الأهداء والمقدمة
  • الفصل الأول: من يحكى ماذا؟
  • الفصل الثانى:..الجوع؟
  • الفصل الثالث: أمى
  • الفصل الرابع: وهل المرآة
  • الفصل الخامس:.. بعض ما تبقى مما لا ينقال
  • الفصل السادس: ملامح من ترحال رابع
  • الفصل السابع: هل انتهيت يا سيدى؟

 الترحال الثالث

ذكر ما لا ينقال

لماذا الأعمال المتكاملة؟

 عجزتْ أداة واحدة أن تستوعب “القول الثقيل ” الذى ألقى علىّ. حملتُهُ. من خلال الجدل الحى بين ذاتى ومرضاى ودنياىَ، فلجأتُ إلى كل ما أتيح لى من أنغام وأشكال.

لم أكتب إلا مسودات، لذلك كنت أنوى أن يكون العنوان”الأعمال الناقصة” وخاصة أن ترجمة Collected Works أو  Collected Papers  هى “مجموعة أعمال” أو “مجموعة أوراق” فلان، الأمر الذى لا  ينبغى أن يسمى كذلك أو ينشر بهذا الاسم، إلا بعد أن يكف صاحبها عن العطاء، أو عن الحياة.

 ثم قبل ذلك وبعد ذلك: هل يكتمل شىء أبدا؟

وحين آن أوان الحسم، قررت أن تخرج كل المحاولات كما وصلتْ إليه، ولتكتمل بعدُ أو تتكامل مع غيرها. فكان هذا العنوان “الأعمال المتكاملة”  أملا فى أن يكون  جمّاع المحاولة هو “توجُّهٌ ضام،  حولَ محورٍ ما“.

 يحيى الرخاوى

*(رَحَل) عن المكان ـ رحلاً ، ورحِيلاً، وتَرْحالا،  ورِحلةً: سار ومضى.

وفى الحديث: “لتكُـفَّنَّ عن شتمه أو لأَرْحَلَنّك بسيفى”.

(رَحّلـَةُ): جعله يرحل.

وفى الحديث: “عند اقتراب الساعة تخرج نارٌ من قمـر عـَدنَ تُرحِّل الناس”.

(ارْتـَحـَلَ): رَحَلَ. وارتحل البعيرَ: جعل عليه الرَّحـْلَ. و ـ ركبه.

و ـ وارتحل فلانٌ فلاناً: علا ظهره .

وفى الحديث “أن النبى (ص) سجد فركبه الحـَسـَنُ فأبطأ فى سجوده، فلما فرغ سئل عنه فقال: إن ابنى ارتحلنى فكرهت أن أعْجِلَه”.

(الراحلة): من الإبل: الصالح للأسفار والأحمال.

وفى الحديث : “تجدون الناس بعدى كإبل مائةٍ ليس فيها راحلة”.

… ويقال: مشت رواحله: شابَ وضعُف.

(الرُّحـْلة): ما يرتحل إليه، يقال: الكعبة رُحْلة المسلمين، وأنتم رُحْلتى.

(الرَّحـُول): كثير الارتحال.

(الرَّحـِيل): الارتحال. و الرحيل القوىٌّ على الارتحال والسير.

(الَمرْحـَلـَة): المسافة يقطعها السائر…. بين المنزلين.

(المعجم الوسيط)

“…، رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت ،

الذى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف” .

(قرآن كريم.)

وفى الاستعمال المصرى:

“آصبر على جارك السوّ يا يرحل  ياتجيله مصيبة تاخده”.

والترحيلة: هى تشغيل مجموعة من الفلاحين بعيدا عن بلدتهم الأصلية

بأجور زهيدة، وبلا مأوى مستقل فى العادة.

وعمال التراحيل: فئة من الفلاحين اعتادوا العمل أساسا فى الترحيلة.

و” الحاجة اترحّلت من مكانها”، أى انتقلت إلى موضع آخر، حسن أو سىء.

إهـــداء

الترحال الثالث،

إلى :

أمـّـى و  زوجـتى.

                               شكرا.

مرة أخرى:

“..والواقع أننا سنجد فى أغانى مسرحية

واحدة لجيلبرت ما يزيد عما يحويه

نصف ما كتب من روايات السير الذاتية“.

أفكار تافهة لرجل كسول

جيروم جيروم . كتاب الهلال، يونيو  2000

ترجمة د. أحمد مستجير

مقدمة الترحال الثالث

لمّا اختفى الفصل الرابع، من الترحال الثانى، أتيحت لى الفرصة أن أقلب فى أوراقى  بحثا عنه. ومن بين ما عثرت عليه مما نشر وما لم ينشر: ما  هو سيرة ذاتية أصدق وأقرب من كل ما جاء فى الترحالين الأول والثانى.

تأكدت أن السيرة  الذاتية لا تُـكتب بوعى كامل.

سألت نفسى هل حقا أنا أريد أن أكاشف الناس بما هو “أنا”، أو على الأقل بما أعتقد أنه “أنا” ؟ وبدلا من أن أجيب ، تساءلت : لماذا ؟

أكّدت دائما ، ومكررا، أن كتابة السيرة الذاتية هى أبعد من المتناول، ولعل غاية ما يمكن أن يتحقق، مهما بلغ صدق النية وجهادالمحاولة ، هو البوح بما تيسّر.

إذا كان فى المكاشفة – بالقدر الممكن – ما يفيد، فإنه يجدر بمن يخاطربها أن يكتشف نفسه وهو يكاشف الناس،  وهكذا اكتشفت أنه لا يمكن استبعاد ما هو “ذاتى” من كل محاولاتي دون استثناء: من أول اللمحات التى يمكن أن تسمى شعرا حتى ما قدّمت من فروض ونظريات علمية. يندرج هذا كله أو معظمه تحت لافتة منهج واحد هو المنهج الفنومينولجى.

إن أغلب ما  نشر فى كل من الترحال الأول والثانى هو مجرد إشارات موحية عن الكاتب، مع أننى  حاولت التعرى ما أمكننى أثناء الكتابة الأولى  ثم أثناء المراجعة.

ما دمت قد  غامرت بمثل ذلك فلتكتمل المغامرة  بأن أتجوّل بين ما عثرت عليه  من أوراق ، أنتقى منها ما هو أقرب إلى إكمال الصورة التى أتصوّر أن حضورها فى متناول الآخرين يمكن أن يكون حافزا لما قصد إليه  هذا العمل من حيث المبدأ.

ما دمتُ قد قبلت مخاطر المحاولة. فتكن كذلك.

ويظل الأهم والأصدق فى غير المتناوَل. حتى لكاتبه.

بالرغم من أنه “لا أحد يستطيع أن يكتب سيرته الذاتية”، فإنه يمكن القول أيضا أنه ” لا أحد يكتب -مبدعا- إلا سيرته الذاتية،، بغض النظر عن مجال ولغة إبداعه، هكذا كان الحال مع فرويد، ويونج، وعبد الرحمن بدوى، وعباس العقاد، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وحتى نيوتن وأينشتاين والجميع. (استشهادٌ مع الفارق).

 

الفصل الأول

(الفصل السادس عشر: من الترحالات الثلاثة)

منْ يحكى ماذا؟

ألقيتُ مفتاح الحروف كسرتُهُ، ألقيت فى وجه الظلامِ

رموزَهُ ورسومَهُ وعلامةُ الفهم الذى خنق الرُّؤى، وإشارة المتعجّبِ،

والفاصلةْ، ومسافةٌ ضِعْفُ التى لم تُستَتِر…، وتركتُ خلفى عدَّ ما

اكتملتْ به أطرافُ ذيل الدائرةْ. وسعيتُ أسبَحُ فى الشفقْ،

وتلوتُ خاتمـة َالكتاب بلا كتَابْ، فما أَفَاق من السباتِ اللاينامُ،

ولا استبان المُلتقَى، وتَتَعْتعَ الصمتُ الذى أَوْدى بِنَا خلف الركام

بلا أوان، فأردُّ ـ أيضا ـ صامتا : لكنّه الشعر الذى لمّا يُقَل.

ركنٌى الأعلى فوق القاهرة (المقطم)

9 يوليو سنة 2000

 منذ قليل، هاتفنى ابنى الأصغر، مصطفى، يسألنى إن كان الأوان قد آن لأذهب معه إلى ماليزيا وأندونيسيا. منذ ما يقرب من عامين بعد عودته من رحلة زواجه (لا أحب تعبير شهر العسل) وهو يحاول أن يقنعنى أن أذهب لأرى ما لا يمكن حكيه. أنا فى شوق شديد إلى الرحيل شرقا. حين كلّمنى المرحوم أبو شادى الروبى عن رحلته إلى الهند ثم الشرق الأقصى، كان ذلك منذ أكثر من عشر سنوات، قررت أننى لن أعرف العالم ونفسى إلا إذا تعرّضت لهذه المنطقة، تعريت فيها، انكشفتُ أمامها.

كانت باحثة يابانية فى الأنثروبولوجيا قد مرّت علىّ منذ أيام تستفسر منى عن بعض المعلومات عن الطب النفسى، وعجبت أن المشرف على رسالتها قد أوصاها بقراءة الجزءالأول من روايتى المشى على الصراط -الواقعة، أخذت تنحنى وتشكر وتعتذر، وتنحنى وتشكر وتعتذر،  (لست أدرى لماذ، أوعن ماذا)، فذكّرتنى بكتاب هام لم أكمل قراءته لكنّه هام، ألّفه واحد يابانى لا أذكر اسمه، الكتاب اسمه “تشريح الاعتمادية”، وهو يدافع عن حق الشرق فى التميز بما يتميّز به من نظم وعلاقات لا يعرفها الغرب.

أنا مشتاق فعلا لهذا السفر. وأيضا أريد أن أزور أفريقيا السوداء  وأمريكا الجنوبية، وليس استراليا. عاشرت أمريكا الجنوبية فى ذلك العام إياه (68 / 69) فى باريس. كان ممثلوها من بيرو و البرازيل والأرجنين وغير ذلك من بين زملاء المنح التى تمنحها فرنسا للعالم الثالث. كنت أشعر بحرارتهم، وحيويتهم، وطلاقتهم، كأنى نزلت عندهم وزرتهم فعلا. سرعان ما كنت أتراجع وأنا أذكّر نفسى ما علّمتنى إياه أسفارى من أن الناس ليسوا هم بلادهم، لا يعرف مصر من التقى بى فى باريس، الأرض لها لغة أخرى، حتى لو كانت روح أسبانيا والعرب تطل من مواطنى الأرجنتين أو البرازيل أو بيرو أوكوبا أو كولوميبا، حتى لو كانت نفس العجيزات الجسيمات -فى جمال- تترجرجن تحت الجونلات فى ألكالا (بالقرب من مدريد)، أو سوق السلاح أو ريو دى جانيرو، فإنه لا يمكن التعرف على الناس إلا وهم ممتزجون برائحة أرضهم وعبق أشجارهم وهمس موجهم الخاص.

يبدو أن دعوة ابنى قد جاءت متأخرة قليلا، بل كثيرا.

لا أشعر بأى رغبة للمزيد، ليس لأنى لم أعد فى حاجة إلى الاستكشاف أو لأنى لم أعد قادرا على الدهشة، ولكن لأنى ملئ بما أحتاج لتنظيمه وإعادة معايشته واستيعاب ما لم أستوعبه منه، مثلما أفعل الآن.

لا يا مصطفى، ليس الآن، وربما ليس أبدا، لكننى فرِح أنك تفعـلها نيابة عنى.

لا أحد يستطيع أن يرى كل شىء،

ولا أحد يستطيع أن يستوعب كل ما يرى،

ولا أحد يستطيع أن يستفيد من كل ما استوعب،

ناهيك عن حكْـيه والإفادة منه.

شكرا يا مصطفى والبركة فيك، فيكم.

تحدثت عن إبنى هذا فى الترحالين الأول والثانى، هو الذى صاحبنا فى الرحلة الأولى (1984) دون أخيه محمد الذى كان مجندا آنذاك، وهو الذى قهرتـُه فى سن الرابعة عشر ليعمل – معى أو بدونى – فى المزرعة جنبا إلى جنب بالفأس مع الفلاحين، وهو الذى حمى نفسه منى بتديّـن تقليدى، أراحه وأطلق طيبته من ناحية، لكنّه غرّه وأراحه من السعى إلى إيمانه الأعمق من جهة أخرى. إبنى هذا هو الذى حَسِبْتُ أنه الأبعد عنى من أخيه محمد المفكر العنيد الدائم النقد، الفاهم أكثر لما أعيشه وأعايشه وأحاوله، هذا ما كنت أتصوره معظم الوقت. يبدو أن الأمر ليس كذلك.

قلت لمصطفى ردا على دعوته المتكررة الدالّة: إسأل أمك أولا، واطمئن على صحّتها، ثم نرى.

كنت أتهرب منه طبعا.

أنا أتعرّف على عواطف أولادى ليس من حبهم لى ولكن مما يحبون.

أنا لا أودّع أولادى عند السفر ولا أستقبلهم فى المطار عند الرجوع، ولكن منذ شهور اضطُررت للذهاب لاستقبال مصطفى فى المطار وهو عائد من كوالالامبور. وجدته محمّلا بكل ما لا يهمنى، لكنه يهم أمه وإخوته فى الأغلب، وقد صرّح لهم أنه بما حمل قد استطاع أن يوفر ما يغطى مصاريف رحلته التى استدانها قبل سفره هو وزوجته الحامل. تجارة هى أم ماذا؟ لكننى فرحت بأنه أصبح يحب السفر بطريقته. هو الذى لا يغوى قيادة السيارات مثلى ومثل أخيه، ويفضل الاستقرار فى حجرته، والآن فى بيته الجميل يتأمله، ويسترخى فيه، وكذا وكذا مما لا أعرف، اعتقدتُ زمنا أنه نقيضى تماما، لكن إخوته وبعض زملائه وتلاميذى يقولون إن طبعه هو الأقرب لطبعى.

لا أصدّق.

ربما هم يقررون ذلك بالنسبة إلى حدّة تقلّبه، ووفرة طاقته، وغرابة نزواته، وسرعة تغيير رأيه، وشطح اندفاعاته المادية. إذا كانوا يعنون ذلك، فهو كذلك. هناك احتمال أن يكون هوالأبعد والأقرب فى نفس الوقت،

المهم أننى أعرف عنه أنه ليس رحّالة بالمعنى الذى أمارسه، ولا لـلهدف الذى أتصوره، ولا بالعائد الذى أرجع به. مثلا. حين نذهب إلى دهب، يلحقنا هو بالطائرة، ولا يبقى معنا طويلا، وغير ذلك كثير.

كيف يكرر هذا الشاب، بدخله المحدود، رحلة على هذه المسافة الشاسعة خلال عامين ثلاث مرات؟ الرحلة الثانية لنفس المكان – أندونيسيا وماليزيا- كانت منذ أقل من ستة أشهر. هل يستدين؟ هل المسألة تستأهل؟ وكيف السداد؟

هناك شىء ما  لا أعرفه. بل أشياء.

حين عودته من رحلته الثانية إلى الشرق الأقصى منذ أقل من ستة أشهر، قال لى بعد أن اضطررت لاستقباله فى المطار وحدى (وأنا لا أفعلها عادة، لا وحدى ولا مع آخرين) قال لى ونحن فى طريقنا من المطار إلى البيت، وهو نادرا ما يكلمنى أصلا، قال: لابد أن تذهب يا أبى أنت وأمى. لابد أن ترى مارأيتُ. هذا عالم آخر لا ينفع أن يُحكى عنه. لو أنك فعلت (ما زال يخاطبنى) فستقرُّنى. إنها أقرب ما تكون إلى حلم أىٍّ منا بالجنة التى أعدّها الله للمتقين. ضحكت وربّت عليه، فهو يعلم ـ فى الأغلب ـ أن علاقتى بربى قد تجاوزت مسألة الجنة التى لن أدخلها إلا بفضله تعالى ورحمته، والتى أتصورها بشكل آخر. فأردف: أنا أتصوّر أن الله سيعاقـب مَـن عنده نقود تسمح له برؤية هذا الجمال ثم يتكاسَل عن رؤيته. ضحكت أكثر وفرحت أوسع، واستدفأت أطيب، دون أن أربت عليه هذه المرة، فقد كنت أقرب. تنبهّت أنه التقط أنه لم ينفع فىّ الترغيب، فقلبها ترهيبا طريفا. تأكدت أيضا نوع  علاقته بالجمال، وبالطبيعة، وبمعنى شكر نعمة الله. أن تـُحدّث بنعمة ربّك هو أن تستعملها فى مكانها. من أهم فوائد النقود أن تسمح لك برؤية جمال الطبيعة التى خلقها الله هناك. هذا إذا كنت تدربت على أن تصاحبها هنا، وفى أى مكان.

هذا جانب جديد لم أكن أعرفه هكذا فىك يا مصطفى.

فهمت الآن، أفضل قليلا،  ما يعنيه أغلب من حولى بوجه الشبه بينى وبينه.

على الرغم من أنه يعمل – ربما متورطا حتى الآن- فى نفس تخصصى، وفى نفس معهدى، وفى نفس مستشفاى، إلا أنه أقل طلبتى استفادة منى وتَتَلْمُـذا علىّ.

هو لا يحضر الندوات الثقافية التى أنظمها، بل يكاد ينفر منها.وهو لا يشاركنى- يشاركنا – المناسبات الاجتماعية (حتى الأعياد) إلا بالقدر الاجتماعى الضاغط، وهو.. وهو.. وهو.

حين عاد يعرض دعوته من جديد لم يكن يعلم القرار الذى أبلغته لأمه بعد رحيل د.حلمى نمّر، وهو أن تعتبرنى رحلتُ معه، وبالتالى عليها أن تقرر إن كانت تريد أن تزورنى وأنامازلت فوق التراب أم لا. يبدو أنها لم تُـعِـدُّ بعد “قرَص”(منين) الرحمة. ولم تقرر أن تطلع علىّ أى خميس، أو لعلها تنتظر الأربعين. لكلِّ هذا وغيره أحلتُه عليها.

قلت لزوجتى منذ البداية: منذ أكثر من أربعين سنة(1959- كان زواجنا سنة 1960) أنا لا أتزوج، أنا أصاحب من يعرف من أنا، ولتنظِّم هذه الصداقة أية ورقة أو قانون أو مجتمع أو شرع. أنا عندى ما أعمله، وأنا أحتاج لمن يراه (ما أفعله) ويرانى، ويكون بجانبى. الغريب أنها صدّقت ما لم أكن قد صدّقتُه أنا بالقدرالكافى على الرغم من أننى أنا الذى قلته بكل هذا الوضوح. صدّقتْه هى، لكنّها أبدا لم تمارسْ ما صدّقته إلا بعض الوقت. لست متأكدا إن كانت قد مارسته حتى فى هذه الأوقات المتقطعة اختيارا أم تورطا وتأجيلا. كانت أحيانا تنبهنى أننى أتزوج الناس لكننى لا أدع الناس يتزوجوننى، ولم أكن أدقق كثيرا فى قولها هذا رغم أننى كنت ألتقط منه مغزى عميقا، نفس المغزى الذى كنت ألتقطه حين تنبهنى إلى نفورى من المصريين فى الخارج، مع تكرارى الزعم بحب مصر طول الوقت. ثم إننى لاحظتُ فتور علاقتى بزوجتى عقب زواج أىٍّ من أولادنا الواحد تلو الآخر، وكأنى كنت أنتظر انتهاء المدّة المقررة التى كانت تفرضها المؤسسة الزواجية لـستر أولادى فاستقرارهم  واستقلالهم، وقد حدث.  تزوجوا جميعا وأنجب كل منهم ولدا وبنتا، إلا مصطفى رزقه الله بحـَسـَن مؤخرا. أحفادى هم أصدقائى  الجدد الآن،

هكذا سمحت لنفسي أن أرجع إلى قواعدى، فكان  ركنى هذا أعلى المقطم.

حين استقر بى الحال فيه، لم يعد السفر يلح علىّ لا إلى الداخل ولا إلى الخارج، ما الحكاية؟  لم أسافر فى صيف هذا العام إلا يوما ونصف يوم. لم ألعب  مع أحفادى على شاطئ مارينا. لم أعد أطيق مجتمع هذا الشاطئ، كنت قد تحججت فى العام الماضى بأن جارى (الشمجىّ V.I.E.) قفّل “برجولة” مخالفة للقانون دون إذنى. اتخذت من ذلك ذريعة ألا أذهب طول الصيف الماضى. لجأت إلى القانون واثقا بأنه سيخذلنى فلا أذهب حيث لا مكانى، رغم جماله الفائق. فإذا بإدارة مارينا تنفذ القانون ضد شكوكى التبريرية، فقامت بإزالة التعدى هذا العام. لم تعد عندى حجة.

قابع أنا حاليا، أو مرحليا، فى ركنى أعلى القاهرة حيث صدر قرار موتى الاختبارى (أو التجريبى) ليضعنى فى هذه اللحظة أمام مسئولية جمع ما يمثلنى مما أتصوّر أنه “أنا” ليصل لأصحابه بأى وسيلة، وكل وسيلة، قبل أن يحل القضاء غير الاختيارى فى وقت لا أحدده أنا.

ثم إنه حتى إخراج هذا العمل تمّ فى ظروف شخصية، لها دلالتها أيضا:

ذلك أنه بعد أن تفضل صاحب مركز المحروسة الأستاذ فريد زهران بتشجيعى بمواصلة إصدار مجلة “الإنسان والتطور”، التى كان له فضل عودتها، وأيضا قام بتمويلها وتعهدها فى السنوات القليلة المنصرمة، امتد حماسه لكى ينشر لى-مشكورا -أعمالى المتكاملة. وفعلا، صدر منها أربعة أْعمال فى بضعة أشهر. لكن حدث بمحض الصدفة، ولظروف خارجة عن إرادته، أن صدرت هذه الكتب وفيها أخطاء تنظيمية جسيمة يبدو أنه ليس له ذنب مباشر فيها، مما جعلنى أعيد نشرها بمعرفتى شاكرا له فضله من قبل ومن بعد،. تواكب ذلك مع نقل مكتبتى القديمة والمخزونة إلى هذا الركن الجديد أعلى المقطم، فإذا بى أكتشف كمّا من الكتابة لم أكن أتصور أننى محتفظ به. وجدته ليس فقط على شرائح الحاسوب، وإنما أيضا فى أوراق قديمة، وكراسات عديدة. فواجهتُ السيرة الذاتية الحقيقية مكتوبة بتفصيل دقيق، أصدق وأشرف من كل هذا الذى أزعم البوح به (كما أشرت فى مقدمة هذا الترحال). بل إننى تذكرت ما ينبغى أن أذكره أصدق فيما يتعلق بسيرتى الذاتية (وخاصة سيرة فكرى). مثلا:

سنة 1972،  قابلت مصادفة فى القاهرة الدكتور فُــلَر تورى. كنت أعرف أنه صاحب فرض (أو نظرية) تقول إن مرض الفصام هو نتيجة للإصابة بفيروس فى مرحلة الطفولة الباكرة، وكذا وكيت، وكنت أيامها قد بدأ احترامى وفهمى لمرض الفصام بصفة خاصة يتزايدان، وكنت معجبا إعجابا شديدا بفرض “بوك” الذى يفسر الاستعداد الوراثى للفصام بحمل مورثات (جينات) ذات صفات فائقة تطوريا، وأن الفصام هو نتيجة مصادفات سيئة (تحدث بنسبة معينة) ينتج عنها انحراف مسار هذه الميزة التطورية إلى عكسها، وأيضا كنت فى مواجهة حادّة مع هذه المقولات شبه العلمية فى محاولة اختزال الفصام إلى زيادة كَمِّية فى هذه المادة الموصّلة فى الجهاز العصبى أو تلك.

حدّثتُ فولـر هذا(ما زلت أتذكر،  سنة 1972) عن اعتراضاتى وتحفظاتى ضد حكاية التفسير السلبى الفيروسى  لمرض الفصام، فهو من ناحية يؤكد حتمية سببية مسطحة، ومن ناحية أخرى يفرّغ لغة الفصام من أى معنى وأى غائية، فيحرمنا من حسن الانصات للغة أعراضه احتراما، ومن الاستفادة من فهمها لصالح العلاج فالشفاء، وربما لصالح التطور. لكنّه كان متحمسا الناحية الأخرى بشكل شكّكنى فى سبب تحمّسه.

سألته عن كيف يصاب المريض بفيروس فى الطفولة قد لا تظهر آثاره إلا بعد عشرة أو عشرين سنة أو أكثر؟ ثم كيف يسبب هذا الفيروس الواحد كل هذه التنويعات المختلفة عن بعضها البعض.

أجاب بأن فترة الحضانة تمتد من بضعة أشهر إلى عشرات السنين، وأنه ثبت أن الذين يولدون فى الشتاء يصابون أكثر بالفصام، لأن هذا الفيروس ينتشر مثل فيروس الانفلونزا فى الشتاء، وكلام من هذا.

أتذكر صلاح جاهين وهو يقول ” الحزن ما بقالهوش جلال يا جدع، الحزن زى البرد زى الصداع”، فأكاد أقول للخواجة فولر: الفصام ما بقالهوش “معنى” يا جدع، الفصام زى السكرى زى الجديرى.

يزداد شكى فى حماس هذا العالم الذى يستعمل الإحصاء لإثبات ما لا يُـثبَـت، وقد  استطاع فولر (فيما بعد) أن تصبح نظريته هذه إحدى النظريات المعترف بها فى العالم وفى المراجع المرعية،

لاح لى احتمال غامض  قد يفسّر حماسه أكثر مما يفسر نظريته.

سألته مباشرة عن تفسيره لنسب تواتر الفصام فى نفس العائلة، أى عن العامل الوراثى فى هذا المرض وعلاقته بنظريته.

أجاب: لأنهم يعيشون فى نفس البيئة فهم معرّضون لنفس الفيروس.

أتمادى وأسأله عما إذا كان له قريب مصاب بهذا المرض، ويرد دون تردد أن شقيقته مصابة بالفصام منذ عشرين سنة، وأن الفيروس أصابها مبكرا(قالها هكذا ذون أن يتذكر أن ذلك مجرد فرض) ولهذا لم تُشْفَ، وربما لن تشفى.

ولا أقول له إننى توقعت ذلك.

هذا الموقف وتفسيره من جانبى أوضحَ لى لاحقاً الموقف “العلمى” لزميل مصرى أخر عالم جدا، ومبدع أيضا فى فرعه، وهو ليس متخصصا فى الطب النفسى تحديدا، لكنّه يعمم حكاية الفيروس هذه على معظم (بل كل) الأمراض النفسية والعقلية، إذ يعزوها لإصابة جذع المخ إصابات مختلفة الحدة بما يشبه ذلك الفيروس المفُتْرَض. ذلك أننى أكتشف أن لزميلى الفاضل المبدع هذا شقيق فصامى مزمن.

أتعاطف مع هذا وذاك وأدعو لأقربائهم بالشفاء.

أرجح أن مثل هذه النظريات إنما تفتقـر إلى وعى صاحبها بدوافع الاقتناع بها، أو ابتداعها. وهى لا تجد من المناهج ما يدعمها كنوع من تبرئة جيناته من أى احتمال حمْل مرض بهذه السمعة السيئة،

إن الواحد منهم (منا) يطمْئِن نفسه، أنه ليس عرضة لمثل هذه الوصمة إلا بفعل فاعل خارجى لا رادّ لقضائه. ليس للوراثة ولا للظروف الخاصة دخل فيه ولا للإرادة الداخلية شأن به.

وحتى النظريات الأحدث تطمئن الأطباء الذين يظنون أنهم أسوياء إلى أن هذا المرض ذا السمعة السيئة  هو بفعل تغير كيميائى داخلى أيضا. وبالتالى فهو – الطبيب –  غير معرض له فى الأغلب،  “لماذا”؟  لا أحد يدرى.

أنظرُ بدورى، من باب الأمانة والمعاملة بالمثل، لأبحث عن جذور نظريتى المسماة “النظرية الإيقاعية التطورية” ِEvolutionary Rhythmic Theoryفيما هو سيرة ذاتية نابعة من تكوينى الجينى،  وموقفى الحرفى، ومحاولاتى الإبداعية جميعا.

عرفتُ من قديم أن عائلتى بها هذه الأمراض بشكل متواتر جدا، جدا. (جدًّا). أكاد أقول إنها أكثر تواترا من كل من عرفت من عائلات مرضاى.

كان أول ما سمعت عن وجود هذا المرض فى عائلتى حين كانت ابنة عمّ لى (غير شقيق) تصاب بنوع من الهياج الدورى كل عام. هياج يعرفه أقربائى ويتحمّلونه ويصبرون عليه. يعالج أو لا يعالج (لم أسمع أنها عولجت أصلا)، ثم يختفى فى خلال أسابيع أو شهور، ثم تعود ابنة عمى إلى طيبتها ودماثتها. وكان من سلوكها الذى يتكرر مع كل نوبة أن تقذف الناس (الحقيقيين أو المتخيّلين) بالحجارة، وكان هذا السلوك (القذف بالحجارة) فى بلدنا علامة من علامات الجنون. إذا دعت امرأة على أحد أو حتى على ابنها أثناء شجار أو ضجر تقول له:”روح يا شيخ إلهى تنهبل وتزقّل”، ولعل هذه هى أول “ثورة” (أو انتفاضة) حجارة أعرفها فى حياتى. كذلك هى أول تلميح إلى احتمال أن يكون الجنون ثورة مُجهضة.

أذكر أننى سمعت من والدى احتجاجا على جنون بنت عمى هذه،  احتجاجا وصل إلى درجة اللمز والتشكيك. كانت إذا أصابها “الدور” ذهبت إلى جرننا (جرن والدى) دون سواه حيث توجد فى أحد جوانب الجرن “أمينة” (وهى كيان من طوب لبن مرصوص جاهز للحرق ليصبح طوبا أحمر)، وهى عملية بدائية تساعد على توفير نوع جيّد من طوب رخيص. كان ذلك أيام كان طمى النيل يبنى البيوت، والمناعة، والخصب جميعا. كان والدى يتساءل عن سلوك ابنة عمى هذه أثناء النوبة:

“لماذا ” تنتقى  طوبِى أنا بالذات وتلقيه فى المصرف يوما بعد يوم؟”

ثم يردف:

“البلد مليئة “بالأماين” والطوب فى كل مكان. لماذا لا يظهر جنونها إلا على “أمينتى” أنا  دون غيرى؟”.

وأتصوّر أنه بذلك يكاد يتهمها بالتصنّع، أو يتهم أقاربه الذين بينه وبينهم حزازات (عادى)، مع أن الحقد كان واردا بين الأقارب دون حزازات، بتهمهم بالتحريض.

والدى هذا نفسه كان يعطف على شقيقةٍ لها مريضة أيضا لدرجة أنه كان يؤويها فى بيتنا، لكن هذه الشقيقة كانت مصابة بالصرْع دون نوبات جنون، كانت متوسطة الذكاء أو تبدو كذلك،

كان والدى – من حيث المبدأ – لا يتردد فى أن يعيش فى بيتنا من يرى أنه يحتاج ذلك من العائـلة: فكان لى ابن عم  فى مثل سنى لكنه متعثر دراسيا،وبالتالى فهو بعدى بعدّة سنوات دراسية، فاستضافه والدى حتى يتحمّس مثلنا ويذاكر وينجح وسط جو معد لذلك- هو بيتنا!!، ثم أيضا إن ذلك كان يخفف عن عمى  بعض تكاليف دراسة ابنه المتعثر هذا. أذكر أن والدى فعل ذلك مع أنه لم يكن على وفاق مع عمى (غير الشقيق) والد الفتى المتعثر، وتتحمل والدتى كرم والدى الذى لا يكلفه إلا أن يصدر القرار، ثم يستغرق هو فى انشغالاته، وتقوم أمى بالتنفيذ. هى التى تخدم وتغسل وتؤكّل، وتسامر، رضيَـتْ أم لم ترضَ. كانت والدتى تعطف على ابن عمى هذا، وكان  هو يحبها حبا شديدا، وقد ظل يحبها، ويحبنا، حتى مات قبلها فحزنتْ عليه حزنا هائلا، فعرفتُ أنها كانت تبادله نفس الحب. رحمهما الله.

لكن أن يصل أمر بيتنا المضياف  إلى إيواء قريبة شابّة غير متزوجة وجميلة، بغض النظر عن مرضها، تحت نفس بند “صلة الرحم”، فإن هذا هو ما بدا فوق احتمال أمى، بل وفوق احتمالنا جميعا، وأذكر تحديداً أنه كان فوق احتمالى أنا بالذات.

كنت حول التاسعة، و كنت أخاف من نوبات صرْع ابنة عمى هذه التى تأتى فى أى وقت، والتى يسبقها أو تحدث مع بدايتها صرخة مفزعة جدا. لكننى رويدا رويدا تعودت عليها، وتعـلّمنا الإسعافات الأولية التى تحول دون قطع اللسان أثناء النوبة، وكانت أمى تقوم باللازم بمنتهى الإخلاص رغم احتجاجها المعـلن والخفى على تواجدها، (كان ذلك فى زفتى فى أوائل الأربعينيات). ثم جاء يوم سمعنا الصرخة فى الحمام، وعرفنا أن النوبة جاءت ضيفتنا وهى فى الداخل، وجرت أمى كالعادة للإسعاف وإذا بباب الحمام مغلق من الداخل، ونحاول أن نفتحه عنوة بلا فائدة، ونسمع الشخير فى الداخل ونزداد رعبا، ولا ينفعنا تعوّدنا السابق، ثم نرى دما ينساب من تحت عقب الباب، فنعلم أن الأمر جسيم، وتجرى أمى تستعين بالجيران فلا تجد رجلا يستطيع كسر الباب، وأنا منزو مرعوب فى أقصى الممر المؤدى للحمام، وأخيرا يتم كسر الباب، وإذا بضيفتنا غارقة فى دمائها لكنها بدأت تفيق، وإذا بفروة رأسها مشقوقة شقا لا نعلم إن كان عمقه قد وصل للجمجمة أم لا، وأيضا كان حوض الحمام قد تحطم إلى عدد من الشظايا.

لا أذكر تحديدا ماذا حدث بعد ذلك إلا أن ثم احتمالا أن بقية أسرة أبى اتهموه، مباشرة أو تلميحا، بأنه أهمل فى رعايتها، فتركتْنا ليرعوها هم بطريقتهم (هذا ترجيح لا أكثر).

أثّر فىّ هذا الحادث أثرا آخر، أشد دلالة وأكثر إثارة للأسئلة.

ويتوالى اكتشافى لمرضَى عائلتى بشكل متلاحق.

أشرتُ فى الترحال الثانى (الفصل الخامس/الحادى عشر) كيف عثرت على تسجيل بعض محادثة دارت بينى وبين ابن عم لى كان مصابا بالفصام، وقيل فى تفسير مرضه  إنه كان طالبا نابها جدا فى الأزهر، وكان يعد نفسه ليرث عمَّا لنا كان من أشهر علماء الأزهر، وهو الذى قيل أنه تصوّف قـُـرب آخر حياته حتى بَنَتْ له العائلة ضريحا حّوله ابنه الفاشل دراسيا إلى “زاوية” تحوّلت مؤخرا إلى مسجد صغير، ثم أصبح مقاما بعد أن تمشيخ ابنه هذا على الطريقة النقـشبندية الجودية وأخذ يعمل لوالده عالم الأزهر الجليل مولدا كل عام يعينه على العيش بقية العام.

كنت أعلم من والدى أن ابن عمّى (ابن الشيخ) هذا يدخّن الحشيش، وذات مرّة لامه والدى على ذلك منبها إياه إلى تعارض استشياخه وولايته مع استمراره فى تدخين الحشيش علانية، فردّ عليه ابن عمى (كان فى سن أبى) أنه:

“قُطْعِتْ (ياخيبه) الولاية اللى تضيّعها حتَّةْ حشيش”.

ظللت أبتسم كلما تذكرت هذا التعليق، حتى وصلنى منه ما وصلنى.

الشيخ إسماعيل الفصامى هو إبن عمى غير شقيق،  لكنه شقيق أولاد عمى”الشيخ” والد المريضتين: (الثائرة على طوب أبى فى نوبات، وشقسقتها الصرْعية التى أواها أبى فى منزلنا بعض الوقت).

أول ما سمعت عن نبوغ ابن عمى الفصامى هذا وعلاقة ذلك بالمرض حين كانت أمى تشفق علينا من فرط الاستذكار معظم الوقت حسب تعليمات والدى، فتنبهنا ألا نأخذها جدا هكذا حتى لا نصير مثل “الشيخ اسماعيل” الذى ترى هى، وآخرون، أنه جن من فرط حرصه على طلب العلم والتفوق وهو يسعى ليكون مثل عمنا الشيخ.

حين جن اسماعيل ابن عمى هذا وتوقف عن الدراسة نهائيا ظل محتفظا بلقّب الشيخ اسماعيل (أنا لم أعرفه إلا بهذا اللقب) ربما تبركا، وربما احتراما لطموحاته المحبـَـطة.

كنت أسير بجواره على شاطئ ترعة الطويل. كنت فى التوجيهية (الثانوية العامة الآن). قال لى فجأة قولته  السابق ذكرها فى الترحال الثانى، والتى أعيدها هنا، قال: “.. النسيان والأمل هما أعظم المعانى التى تدفع الإنسان فى الحياة”.

كان جنونه طيبا جدا. كان يعتزل الناس ما يقرب من ثلاثة أشهر كل عام، وحين كان يخرج إلينا كنت ألاحظ أن لونه قد تغير. كان يبدو أبيضا بياضا رائقا جميلا فأحبه أكثر، وكنت أسمع بعضهم يفسر هذا اللون بأنه لم ير الشمس طوال هذه الأشهر الثلاث، وكان آخرون يعزونه إلى طهارة روحه وتنقية نفسه من شوائب الدنيا أثناء خلوته. كانت أمى تكرم “الشيخ سماعين” وترحب به كلما طاف عليها. كم من مرّة وجدتها قد أدخلته إلى القاعة بجوار الباب وقدّمت له اللبن الرائب بقشدته فى ود حقيقى، حتى رجّحت أنها تتبرك به، وربما تستفتيه فى بعض ما لا يدركه العقلاء.

يضطرد اكتشافى لكل أنواع الأمراض النفسية والعقلية فى عائلتى دون استثناء، الفصام والاكتئاب والهوس والصرع “والسيكوباتية” وغيرها، كما يتمادى اكتشافى فى نفس الوقت لنزعة التفرّد والإبداع لعدد آخر من عائلتنا.

الإبداع ليس إنتاجا فنيا أو كتابيا، وإنما هو طبعٌ وموقف ونوعية وجود.

رحت ألاحظ هذا الاتجاه فى أسرتى كافة، بغض النظر عن المستوى التعليمى أو امتلاكهم أدوات رصد الإبداع المعرفى أوالإبداع التشكيلى أو الإبداع العلمى.

سمعت أخى الأكبر – أحمد – وهو يحاول أن يـُقنع من كان يتناقش معه من أهل القرية حول استعمال “وابور حرت” بتبريد الهواء، سمعته  يقولٍ لمُحاوِرهِ المعترض أنه: “ليس له دعوة”، وأنه يعرف ما يفعل، وأن عليه (على المعترض) أن ينتظر النتيجة ليقلّده (يقلد أخى)، ثم استشهد أخى -متباهيا – بقول عن أبينا أنه قال: “أنا ما احبش أمشى على المِدَقّ اللى الناس ماشية عليه، أنا أحب أعمل مِدَقّ والناس تمشى عليه”. (والمِدق هو الطريق الذى يتخلّق من السير فى الطين بعد المطر، وهو يتسع لفرد أو اثنين فحسب، ويسير عليه الناس حتى إزالة بقية أثار المطر).

لم يكن أى من هذا التاريخ العائلى الحافل بالمرض والإبداع معا دافعا لى لكىْ أعمل بالأمراض النفسية أصلا. أنا لم أفكر فى تاريخ عائلتى أصلا وأنا أختار. دوافع تخصصى فى هذا الفرع-على حد وعيى- كانت لأسباب عملية، وتوفيقية بين اهتماماتى الإنسانية، ومقررات الطب العادى الجافة الميكانيكية.

حين تخصصتُ فى هذا الفرع أتيحت لى فرصة جديدة بمنهج محكم أن أشاهد وأراجع سلوك كثير من أفراد عائلتى، وأن أعطى كل مايصلني من شطح أو اختلاف  اسم عرض أو اسم مرض دون إعلان ذلك طبعا. لم أُخَفْ، لا على نفسى، ولا على أحد قريب منى.

حين تبيّنت جسامة الأمر رحت أقلب فى أوراق عائلتى بقصد منظّم لأكتشف أى فرع فيها أكثر إصابة (وإبداعا)، خيّل إلىّ فى بادئ الأمر أن كل المصابين ليسوا أشقاء والدى، فقد تزوج جدى ثلاث زوجات، وكان الفارق بين أصغر الذكور (والدى) وأكبرهم (عالم الأزهر والد المريضتين السالفتين) حوالى خمسين عاما، كان عمى هذا كفيفا، وعالما، وله لحية طويلة. حكى لى والدى أنه كان يظنه جده، لأن كل من كان يدخل الدوّار كان ينحنى على يده يقبلها، وهو الشيخ ذو اللحية المهيبة، ولا يقبل يد جدى (والد الشيخ) فخيّل لوالدى – طفلاً- أن الملتحى الذى يستحق تقبيل اليد هو الأب وأن أباه (جدى) هو ابنه،

عمّى الشيخ هذا بينه وبين والدى ما يقرب من خمسين عاما، وقد قيل فى زواج جدى من جدتى (أم والدى) إنه كان قد خطبها لابنه (شقيق عمى الشيخ) دون أن يستشيره (دون أن يستشير العريس)، فما كان من العريس  إلا أن هرب يوم الفرح إلى طنطا انتقاما من أبيه وردا على تجاوزه. فما كان من جدّى- بدوره- إلا أن عقد على العروس هو بدلا من ابنه منعا للإحراج، وأنجب منها ثلاث أولاد ثم ثلاث بنات، أحدهم والدى. لست متأكدا من مصداقية هذه الرواية، لكن الذى أنا متأكد منه هو فارق السن بين أبى وعمى الشيخ، وبين جدى وجدتى.

الذى جعلنى أذكر هذه الرواية وأرجح احتمال صدقها، أن أولادى يتصرفون معى أحيانا بنفس المنطق، وإن كان بطريقة عصرية أكثر خفاء، فأرد أنا بطريقة حداثية خائبة ليس فيها عرس ولا زواج ولا فروسية.

كان عمى “الشيخ الرخاوى” هذا ليس فقط عالما تقليديا لكنّه كان أستاذا مبدعا فى طريقة تدريسه. يُضرب المثل بعدد من يتحوطون عاموده بالجامع الأزهر من المحاورين. وقد سمعت أنه كانت له فتاوى متفرّدة فى كثير من مسائل الفقه، فتصورت أنه علامة الريادة التى بلغتنى من إبداع عائلتى. وكان أفراد عائلتى حتى الفلاحين منهم يتباهون بهذا التفرد فى تعليمهم، وزراعتهم، وطبعهم، حتى لو فشلت بعض محاولاتهم التجديدية.

بلدنا يقال إنها أسبق بلد فى التعليم فى القطر، لا ينافسها فى ذلك إلا “كفر المصيلحة” لكن كان يؤخد على بلدنا (فى مجال  التباهى المقارَن مع كفر المصيلحة) أن أغلب متعلميها من “ماركة إلــْز”، يقصدون أنها نالت هذه الشهرة لكثرة مدرسى التعليم “الإلـْزامى” بها، وليس التعليم العالى، فكانت عائلتى تفخر أنها -دون سائر عائلات بلدنا – لا يوجد بها مدرس إلزامى واحد، فنحن (على حد قول عمٍّ لوالدى)، إما أن نفلح الأرض بأذرعتنا أونصبح دكاترة وضباطا، أما “ماركة إلز” فنتركها  لأولاد ناحية  “….”، “،،،،”، فهى أليق بهم !!!،

بعد أن تخصصتُ فى الطب النفسى، شغلنى أمر تواتر هذه الأمراض فى عائلتى بهذا الشكل. قلت لنفسى من باب التهرّب:

إن كل هؤلاء المرضى (والمبدعين) ليسوا أشقاء  والدى على أى حال،

ولم أعرف إن كان علىّ أن أفرح بذلك لأن المرض ابتعد، أم أحزن لأن الإبداع أصبح أقل احتمالا، لكننى عاصرتُ إبداع والدى طول عمرى، ليس فقط فيما ذكره أخى عن المدق والناس، ولكن فيما كان يَستحدِثُه من زراعات جديدة، ومن طرق زراعة جديدة: مثلا بشأن عدد خطوط القطن فى القصبة الواحدة، وزراعته على بطن المصطبة وليس فقط على الشوكة، وغير ذلك كثير.

فى اللغة كانت لأبى إضافات سجّلها فى كتاب متواضع لكنّه دال حتى من اسمه حيث كان العنوان يقول: “رأى ونقد” فى تدريس اللغة العربية، لم يكن به جديد جد، لكن مجرد أن يكون عنوانه “رأى ونقد” كان ذلك ذا دلالة عندى. هذا فضلا عن موقفه التدينى الخاص سواء بالنسبة للوِرْد الطويل الذى يستغرق عدة ساعات يوميا، أو قيام الليل، أو عدم أدائه صلاة الجمعة فى المسجد،(كما ذكرت ذلك فى الترحال الثانى)،  أم عدم أدائه فريضة الحج والتى لم يتقدم لأدائها إلا سنة وفاته حيث لحقته المنيّة قبل أدائها، ثم موقفه من “داج همرشولد” وترجيحه دخوله الجنة، كل ذلك بدا لى غريبا فى البداية، لكننى حين وسَّعتِ مفهوم الابداع تجلّى لى كل ذلك  تفرداً دالا  مع أنى لم أفهمه جميعه. (أنظر إن شئت حوارى معه عن صلاة الجمعة.الترحال الثانى).

لم ينفع الهرب من فكرة وراثة  كلٍّ من المرض والإبداع معا بافتراض أن ذلك يختص به  الفرع غير الشقيق لوالدى تحت زعم أن من أعرف من الصرعيين والمجانين ليسو من سلالة  أشقاء والدى.

والدي له شقيقان، هو الأصغر. الأوسط اختفى بعد رسوبه فى شهادة الثقافة العامة (حول العشرين) ولم يظهر حتى الآن، (!). أما عمى الشقيق الأكبر فقد حضرتُ حسمَـه فى قرار التوقف عن الاستمرار بيده لا بيد ساقى المنايا. كان ذلك وأنا فى السنة الثانية فى كلية الطب. لم يعد فى الأمر شك.

9  يوليو سنة 2000

أثناء عثورى على هذه الأوراق التى أوحت لى بهذا الجزء الثالث من الترحالات، وجدت صورة حديث  أدليت به لمجلة اسمها “وادى النيل” صدرت لفترة قصيرة. كان ذلك منذ عشرين عاما تقريبا. توقفت. كان الذى أخذ الحديث منى صحفى اسمه “محمد عتمان” لم أكن أحبه مع أنى لم أكن أعرفه بدرجة كافية. فرحت حين عثرت على هذا الحديث، لأننى أذكر أننى اكتشفتُ من خلاله وضوح رأيى من قديم فى كل من الثقافة والحضارة بوجه خاص. كان ما ذكرته من حوالى عشرين عاما له دلالة خاصة طمأنتنى على اجتهادى المتصل. كنت قد نسيت أنى صغته فى هذا الحديث بهذه الدقة رأيت أن أرجع إلى هذا الحديث فى سياق هذا الترحال الثالث. اكتشفت أننى بعد فرحتى بالعثور عليه، ضاع مع ما تخلّصوا منه من أوراق حين حسبوه ضمن الأوراق التى أمرت بإعدامها وحزنت حزنا شديدا، وتمنيت لو أننى لم أعثر عليه. كأن هذا الرأى هو ما ينقصنى، وكأننى لو عثرت عليه فسوف يغيّر شيئا مما أكتبه.

كلما ضاعت منى ورقة تصورت أن الدنيا انتهت. وإذا ما عثرت على ورقة تصورت أنها هى. ثم سرعان ما أكتشف أن كل شىء مثل كل شىء، وأن ما لا أمزّقه بيدى الآن، سوف يمزقونه بعد رحيلى، ربما الفرق هو أننى أقرؤه، أو على الأقل أتعرف على ما به، قبل التخلص منه، أمّا هم. لا أعرف.

كان أحد الأصدقاء المثقفين يقول لشيخنا نجيب محفوظ أن صحيفة كذا الأسبانية (مثلا) كتبت عنه كيت، وأنه أتى له بنسخة منها، وبعد أن يشكره الأستاذ ينبهنا، أو يذكر مصادفة أنه “مَلِكُ التمزيق، اكتشف أنه لو احتفظ بكل ما ينبغى(أويستحسن) أن يحتفظ به،  إذن لاحتاج مثل حجم بيته عدّة مرات، يضيف أنه اعتاد بين الحين والحين أن يلم ماجمعه، ثم “شَرْمَطْ” “شَرْمَطْ” “شَرْمَطْ”. فهمت طبعا أنه يعنى ما يُكتب عنه، لا ما يكتب هو، ومع كل الفوارق طبعاً، وبدهةً، تبينت شجاعته فى عملية التمزيق هذه، وتمنيت لو أستطيع أن أتعلمها منه (مثلما حاولت أن أتعلم أمورا كثيرة أخرى منه) أتعلَّم أن ما يضيع أو يمزَّق لا ينبغى أن أُسقط عليه أهمية خيالية تفسر ما يترتب على ذلك من غمٍّ غير مناسب.

كل شىء سوف يمزق. وهذا الذى سوف ينشر (فى الأغلب) مما أكتبه الآن، وهو  انتقاء من المنتقى سوف يهمل أيضا ويمزق. من أنا؟ وما هذا؟

ومع ذلك أواصل:

من بين ما عثرت عليه من مثل هذه الأوراق التى تعنى ولا تعنى شيئا، ورقة ثلاثة أرباع، ممزقٌ أحد جوانبها، مصبوغٌ نصفها الأسفل ببقايا سائل مجهول الهوية، (أقرب إلى لون الشاى، ليس تماما). ما تبقى مكتوب على أحد وجهيها  ما يلى:

22  مايو 1994

ألقيتُ مفتاح الحروف كسرتُهُ، ألقيت فى وجه الظلام رموزَهُ ورسومَهُ وعلامةُ الفهم الذى خَنَقَ الرُّؤى، وإشارةُ المتعجّبِ، والفاصلةْ، ومسافةٌ ضِعْفُ التى لم تَستَتِر…،

وتركتُ خلفِى عدَّ ما اكتملتْ به أطرافُ ذيل الدائرةْ.

وسعيتُ أسبَحُ فى الشفقْ،

وتلوتُ خاتمـة َالكتاب بلا كتَابْ،

فما أَفَاق من السباتِ اللاينامُ، ولا استبان المُلتَقَى،

وتَتَعْتَعَ الصمتُ الذى أَوْدى بِنَا خلف الركامِ بلا أوان،

فأردُّ ـ أيضا ـ صامتا: لكنّه الشعر الذى لمّا يُقَل.

هذا جناه أبى علىّ، وقد جنيتُ على الجميعِ بما جناه أبى علىّ،

فما أنا إلاخفايا سرّه الحاوى لنا، المتوعِّدِ.

وكأننا مثل العُقاب مُسَرْوَلٌ بالحُلم والوعد النبِى.

وجّهتُ وجهىَ صوبَ موجِ البحر يهذى بالجمالِ المُفتـَقدْ،

وتبسّمتْ روحى هواءً طازجاً يسرى خفيا رغم قهر “البرمجة”.

يا لَـلْمخاض المرتقب.

 9  يوليو سنة 2000

على الوجه الآخر للورقة وجدت نفس الكلام، لكنه مسبوق بجملة، أو شطر: “وتركت خلفى القاهرة”، وأيضا وجدت بعض الكسور، والسخف مما أعتقد أنه اختفى فى الوجه الذى أثبتّه حالا.

السؤال الذى خطر ببالى سؤال غريب لا يتناسب مع أى شىء. سؤال يقول:

إذا كان الوجه الآخر (الذى يبدأ بـ: وتركت خلفى القاهرة”، هو المسودة، والوجه الأول هو تبييضها، فكيف كنت أقـِلب الورقة كلمة بكلمة حتى أبيّضها؟ وما الذى ألقى بهذه الورقة هكذا وسط هذه الكومة من الأشياء التى هى “ليست بشىء”.

وقلت أيضا: يبدو أنه ليس عندى إلا تكرار مثل هذا،

فلماذا السيرة الذاتية؟ ألا تكفى هذه الورقة؟

عثرتُ أيضا على أصول مقال كانت مجلة الهلال قد طلبته منى فى الباب الذى ترصد فيه بعض السيرة الذاتية تحت عنوان “التكوين” ووجدت أنه أنسب ما يمكن أن ألخّص به ما هو أنا، وتوارت أنه يكفى هو أيضا، يمكن أن يغنى عن  مئات الصفحات السابقة؟  شعرت أنى مدين باعتذار للقارئ (إن كان قد وصل إلى هنا!).

قلت أثبت هذا المقال كما  هو، كل ما سمحت لنفسى أن أفعله هو ب تسويد ما أظن أنه مهم، أو مناسب فى هذا السياق الجديد، وأيضا إضافة بضعة كلمات هنا وهناك وضعتها بين أقواس.

ربما يجد فيه القارئ بعض التكرار، لكننى اعتبرته وقفة لالتقاط الأنفاس، وأن  مشروعية التكرارهى أنه  يعنى التأكيد

التكوين (نص المقال كما نشر حرفيا فى مجلة الهلال العدد والشهر والسنة(

التكوين

من ذا الذى يعرف كيف تكوّن، أو متى، أو حتى إلى أين؟

إن الواحد منّا يجد نفسه “هكذا”، ثم يتذكر، وياتُرى.

حين حاول نجيب محفوظ: كان أمينا أعمق الأمانة وأنبلها، وبدل أن يحكى أنصتَ، فأنشد لنا أصداء سيرته الذاتية دون سيرته، فتيقنتُ أكثر من ذى قبل أن السيرة الذاتية لا يمكن كتابتها أصلا، ثم إنها لا يمكن كتابتها فى العالم العربى بوجه أكثرخصوصية، فماذا لو أن ماحضرنى الآن من عوامل تكوينى كان أمرا لايقال أصلا، أو أنه إذا قيل فإنه لا يـُقبل، وقد يترتب على إعلانه ما لا يمكن حسبانه.

عندى اقتراح مستـَلهمٌ من فكرة الإفراج عن الوثائق الإنجليزية بعد خمسين عاما، وهذا الاقتراح يوصى بـإنشاء مؤسسة تسمّى “الوجه الآخر للتاريخ”، يَـــكتب فيها كل من نريد أن نسمع منه، وعنه، ما نرجو به عمق الرؤية وأمانة الوعى، ثم يودع هذا الذى كتب فى خزانة مؤمّنة من قبل الدولة أو من قبل هيئة عالمية، لا تفتح إلا بعد مائة عام من تاريخ كتابتها، أو من تاريخ رحيله، ثم نرى!!!

ومع وضع التحفظ السابق فى الاعتبار سوف أحاول أن أحدد عوامل ومؤثرات التكوين التى مررت بها أو مرّت بى، من خلال ثلاث محاور: هى الأرضية، ثم موكب الآباء، والأبناء /الآباء، ثم الممارسة والتمثّل.

أما عن الأرضية فإننى أحسب أن تكوينى، على الأقل فى سنيى الأولى لم يتأثر بأحد، ولا بحدث، إلا من خلال أنه جرى فى واقع عام له ما يميزه: بحيث تأتى الأحداث فتتشكل فيه، وتشكلنى بما تسمح به هذه البنية التحتية:

خذ مثلا ذلك الإيقاع البطئ الذى أتيح لى أن أواكبه صغيرا، فحين أتذكر أيامى الأولى وأقارنها بما يجرى اليوم حول أبنائى وأحفادى وبهم، أجدنى قد عشت إيقاعا خاصا هو الذى صنعنى هكذا، وأتساءل:هل كان يمكن أن أكون أنا هو أنا لو أننى لم أنتظر قطار الدلتا خمس ساعات فى محطة زفتى فى طريقى إلى بلدتنا وأنا عائد من المدرسة الابتدائية؟ وهل كان يمكن أن أستوعب معنى الزمن، وأنا أنصت لهمس سنابل القمح، وأن أستنشق غبار المدراة، لو لم أركب النورج لشهر أو اثنين، فى كل إجازة صيفية؟ هذا الإيقاع الذى كان يسمح لنا أن نجلس ننتظرعربة الكافورى ساعتين لنوفّر قرش صاغ وهو الفرق بين سعر الكافورى وسعر التاكس ْ، فيم كنت أفكر وأنا أنتظر هذه الساعات؟، وماذا كان يصلنى وأنا جالس فوق حجر مترب تحت جميزة ضخمة؟ هذا الإيقاع (الهادىء الزاحف الملىء) ما زال يملؤنى، أفتقده وأعود إليه داخلى، وهو الذى علّمنى كيف أستطيع أن أبطئ حركة الزمن لأعيد النظر بين الحين والحين، فأكون أنا “هكذا”.

ثم خذ عندك: اللغة، وحين أقول اللغة لا أعنى لغة بذاتها، وإن كنت أخص اللغة العربية بأغلب الحديث، فقد نشأتُ فى بيت يعرف للكلمة معناها المُحكم. والدى مدرس لغة عربية، والقرآن – نقرؤه حول والدنا وهو يصححنا، وندفع غرامة الخطأ و يتخَاطَأُ هو ليكافئنا- ومكتبته فى متناولنا، وجلسات والدى مع الشيخ أحمد عبد الله والشيخ محمد الدقن، والشيخ البرماوى وآخرين للتفسير والتذكير تصلنى دون قصد، فأتكوّن هكذا: أحترم الكلمة حتى تصبح كيانا حيّا لها علىّ حقوق الكائن الحي، ولى عندها ما هو جزاء ذلك

ثم الدين، وأعنى به ذلك النوع من الالتزام المطلق فى إطار الحرية الحقيقية، ليصلنى من العادة والعبادة وحرية المراجعة والحوار، يصلنى من كل ذلك ما يفتح حدود وجودى إلى رحابة الطبيعة وامتداد الأكوان: أصلىّ قبل الشروق، ومع الزوال، وحوله. وأصوم مع الهلال، وأحاور الطبيعة فردا وفى جماعة، ووالدى يسألنى متألما عقب سقوط الطائرة بداج همرشولد إن كان هذا الخواجة سيذهب إلى النار أم إلى الجنّة، وكأنى أملك مفاتيح الجنة، لكنّ يبدو أنه كان ينبهنى إلى رحمة ربى بهذا الإنسان العالمى النبيل، والدى هذا كان يقوم الليل ثمان ركعات دون أن يعرف أحد أنه يفعل ذلك، وكان هذا يستغرق منه عدة ساعات، وأول ما عرفت هذا كان حين ارتطمتُ به واقفا فى الظلام يتمتم فحسبته عفريتا، عرفت الدين من سلوكه مع الناس، ومن سماحته، ومن غلوائه أحيانا، ومن التزامه بورده الطويل، وعرفت الدين أكثر من العلاقة المباشرة بالطبيعة، ومن المشاركة مع الجماعة، وأحسب أن هذا البعد مازال يحدد دوافعى ويوجّه خطاى بشكل متجدد.

ثم بعد الحديث عن ثالوث الأرضية هذا:الإيقاع واللغة والدين يأتى الحديث عن الناس، وكيف تكوَّنتُ من خلالهم، وأكاد أوجز علاقتى بالناس فيما يمكن أسميته: موكب الآباء، و الأبناء (الآباء أيضا).

وبدو أنه لا بد ابتداء أن أعلن إدراكى الواضح، وإن كان قد جاء متأخرا بعض الشىء، أن موقفى الحياتى فى العلاقات كان متمحورا طول الوقت حول حاجتى الدائمة إلى “أب”، وبالرغم من أن والدى – رحمه الله- كان “والدا جِدّا ” طول الوقت، وأن أثره فىّ لم ينقطع حتى الآن إلا أننى لا أذكر أننى اكتفيت به أبدا أو توقفت عنده، وأعتقد أن تكوينى -وحتى الآن – كان وما زال مرتبطا بهذه البنوّة الدائمة المتجددة، ولا أطيل وقفتى عند أبى الذى ولدنى، رغم أنه أهم شخصية بين كل هؤلاء، وكان أهم ما فيه أنه كان به من العيوب والضعف ما حال بينى وبين تقديسه أكثر مما هو، وكان أهم ما أذكر له – مما أثّر فىّ- هو إصراره الدائم على المحاولة والتجريب والإبداع، صحيح أنه كان مدرسا للغة العربية، وكان يعشقها، وعشقناها منه وبه، لكننى كنت أراه فلاحا مبدعا أكثر من أى دورآخر، كان يردد المثل الذى يقول: ” أنا ما أحبش أمشى على المِدقّ إللى الناس ماشية عليه، أنا أحب أعمل مدق والناس تمشى عليه”، (تكرار- تعمّدت ألا  أحذفه) يقول ذلك وهو يناقش أحد المزارعين فى كيف أنه قرّر أن ينقر بذرة القطن على الشوكتين، أو أن يخطط فى القصبة الواحدة أربعة عشر خطا بدلا من أحد عشر، وظلّت علاقته بالأرض وبالإبداع تحضرنى حتى خضت تجربة للعلاج الجمعى التجريبى (المواجِهِى) حول سنة 1970، وظللنا- مجموعة من الأطباء النفسيين والأسوياء- نتبادل العواطف وكلمات عن الإحساس والحب، ونحن جلوس نتواجه!! فى حجرة مليئة بالفوضى والظلال، وكأننا بذلك سوف نعرف أنفسنا أحسن، (قال ماذا؟) وسوف نغيّر الكون ونؤثر فى التاريخ!!! فأتذكر والدى، وأرى وجه الشبه بينى وبينه وأوجه الاختلاف، وأخجل من أنه – وهو عالم اللغة- كان يغيّر العالَمْ وهو يزرع، وليس وهو يتحدّث ويفتى، ومن حبّه للواقع والأرض كان يستطيع أن يميز – فى جوف الليل، وعلى بعد عدّة كيلومترات- صوت مكنتنا دون الأخريات إذا توقّفت، فيركب حمارته ليرى ماذا حدث، ويحضرنى كل ذلك وأنا فى تلك الحجرة مع هؤلاء المتكلمين جلوسا، وأخاطبه شعرا عامّىا يقول:  “وساعات أشوفنى أبويا صُحْ، بسّ الزيادة إنّى لابسْ بدلة وارطُن باللسان،  وأقول كلام: قال إيه لصالح البشر، وللتاريخ، (!!).  لكنّه الله يرحمه، كان يعبد اللوزة وطين الأرض والورّد الطويل،  مزّيكته كانت مكنة الميّه تغنّى تحت جمِّيزه كبيره مضلّلة،  واسأل فى نفسى: أنهو اللى أصلح للتاريخ؟ الكلمة والحب السعيد فى أودة ضلمة منعكشة، أو لوزة حلوة مفتّحة؟”  تعلّمت منه حب الأرض، وحب الواقع، وحب الكلمة الفعل الكائن الحى.  وليس معنى التركيز على دور الأب هكذا فى تكوينى أن دور الأم لم يكن له نفس الأهمية، فقد كان لى والدتان، أمى التى ولدتنى، وأمى خالتى، وكلتاهما كانتا صمام أمان، ومساحة سماح أهرب إليها حين يزداد ثقل حضور أبى، أو تغلق الطرق أو تتلاحق القذائف.

أما موكب آبائى الآخرين الذىن شاركوا فى تكوينى بجوار والدى فهو موكب زاخر من كل الأعمار والأشكال، كنت أنتقىهم – دون إخطارهم أو إخطارى طبعا- لتتكامل مظلة الأبوة دون احتكار قاهر، مثلا:

كان لى زوج عمة: رجل ظريف فى عمر أبى أو أكبر منه بعامٍ، لم يكمل تعليمه، ولا يمارس عملا أصلا كان يقول لنا الفكاهات اياها، وكان يجعلنا نرى أن ثمة طريقا آخر فى الحياة غير كل هذا الجد الصارم، فجعلته يتبنانى سرا دون إذن (وإلا لرفض تحمل المسئولية) ويبدو أننى اخترته لمّا لمحت – أوتصوّرت- غيرة أبى منه،، وكأنه – أبى- يتمنى أن يبحبحها حبّتين، ولا يستطيع. (فيغار من زوج أخته ويهاجمه أحيانا)، فلمَ لا أتمتع أنا بأب صارم هكذا، وأب آخر غير “هكذا”؟ ففعلت

قائمة الآباء بعض الوقت هى قائمة بلاحصر: من أول عم عطيّة الذى كان يحضر كل عام يعقّب حبوب البرسيم فى البدروم، ويحكى لى الحواديت (الخيال الحر) والأمثال (الخيال الهادف) حتى عم على السباك الذى كان جارى فى المنيل، مارا بعم شعبان الذى كان يحضر فى بيتنا بالقرية كل مساء يمسك بذراع الطلمبة “الماصّة كابسة ” يملأ بها الخزان فوق البيت، ويحكى خبراته الحقيقية والمؤلـّفة، وكأنه هو بطل قصصه، وخاصة أنه إبن أم خاضت تجربة السجن حتى كانوا يطلقون عليه “إبن اللومانجية”،

ظلت علاقتى بهذا النوع من الآباء وثيقة حتى الآن، ومازال تأثير عمّ على السباك وحكمته يصحبانى حتى الآن، وقد كتبت فيما تعلّمته منه أقول:  علّمتنى أباالحسنْ: أن أتـْقـِنَ الرماَيـَة السـَّقـَاَيهْ، حتى ولو تخبَّطتْ خـُطاىَ رُعـْباَ، حتى ولو تدفقت مشاعرى فى غير موضع المشاعر “

فقد كان “عمّ على” شديد الهدوء بالغ الحكمة، وحين أصابه ما يصيب مثله من معاناة وصلت حدّ المرض، واضطررت أن أطببه، كان عسيرا علىّ أن أقلب الأدوار.

ثم خذ عندك سلسلة من المدرسين مختلفى الهوية، كلهم كانوا آبائى، سليم أفندى رزق الله مدرس الإنجليزى فى مدرسة مصر الجديدة وهو لم يتزوج، لا هو ولا حنّآ أفندى مدرس الرياضة، ولا أشرف أفندى مدرس الفلسفة، وكان ثلاثتهم ثلة نراهم سويا فى المدرسة وخارج المدرسة، فما الذى يجمعهم هؤلاء العزاب ياترى؟

فليسرح خيالى، ولتــُــضاف لبنة من نوع آخر فى تكوينى.

قال لى مصطفى أفندى رياض مدرس الإنجليزى، وكان يلبس طربوشا مائلا جميلا وله شارب أجمل، كما كان يعزف الكمان، قال لى ردا على استشارة مبكرة بشأن مستقبلى وكنت فى سنة ثالثة ثانوى (سنة أولى حاليا)، قال: “إذهب حيث تشاء، أو حيث يتصادف، فإنك سوف تضيف شيئآ جديدا حيثما ذهبت”. ولم أفهم ماذا يعنى آنذاك، ولكننى تذكرت كلماته بعد أربعين عاما، وكنت وقتها -وقت أن تذكرت- أسجّل إضافة ذات دلالة فى تخصصى، وترحّمت عليه، كيف رأى هذا هكذا بذلك الوضوح فى ذلك الزمان البعيد؟

ثم انتسبت إلى أب آخر باختيار مطلق،، فما كان الأمر يحتاج إلى إذن منه، عرفته فى سن الرابعة عشر حين انتقلنا إلى مصر الجديدة، الأستاذ محمود محمد شاكر، كانت شقته فى شارع السبق (هكذا كان اسم الشارع قبل أن يتغير إلى ما لا أدرى) كانت شقته مرتفعة مثل هامته وفكره،، أمامها خلاء متسع باتساع خيالنا، وكنت أعجب كيف يفتح هذا الرجل العظيم الكبير بيته لشباب وصبية فى مثل سنّى، كنّا – ومازلت أحيانا- نذهب له فى أى وقت،، ونجد عنده أى أحد، ولا يفصل فى لقائنا بين كبير وصغير، بين جاهل وعالم، بين متطفل وطالب علم، وألاقى عنده فى هذه السن يحيى حقى، ومحمود حسن إسماعيل، وعلال الفاسى، وغيرهم كثير، وعنده ومنه تعلّمت أمرين جوهريين مازلت أستزيد منهما، تعلّمت ضرورة الإتقان (وهو ماصدّر به ديوانه أو قصيدته:القوس العذراء) كما تعلّمت منه الحرية الفكرية، فقد كانت قضيّته معنا ألا نكتفى برسائل الإخوان المسلمين التى توزع علينا كالمنشورات، وأن ننهل العلم والدين من مصادرهما الأولى.

وظللت أنتقل من أب حقيقى، إلى أب أستاذ قريب (الأستاذ الدكتور عبد العزيز عسكر)، إلى أب أستاذ بعيد، (الأستاذ الدكتور أنور المفتى)، إلى أب أستاذ لم أره، (الأستاذ الدكتورمحمد كامل حسين)، إلى أب أستاذ شاب (آلأستاذ الدكتور محمود سامى عبد الجواد)، إلى أب خواجة فرنسى، نصف طليانى، تبنانى -رغم أنه كان أشقى وأظرف طفل عرفته وهو يكبرنى بعشر سنوات- وأنا فى باريس سنة 1968 -إسمه: بيير برينتى، (وقد كتبت عنه كثيرا فى “حيرة طبيب نفسى، وفى رحلتى “الناس والطريق”) إلى أب شيخ صامت ملتح لحية بيضاء دائم الابتسام والسماح: هو المرحوم حماى الحاج إبراهيم داوود، حتى وصلت إلى أبى وشيخى الحالى نجيب محفوظ، مما لا مجال لتفصيله هنا فالتكوين نشط متصل.

لم أعشْ أبدا دون أب، لكننى لم أرضخ أبدا لأى أب.

لا أنكر الفضل، ولا أهرب من حوار، ولا أخجل من تبعية، ولا أستسلم،  فتكوّنتُ.

آبائى لم يكونوا كلهم شيوخا أو معلمّين، بل إن مستوى آخر من الأبوة هو الذى يمكن أن أسميه مستوى الإخوة الآباء، ليكن، لم يكونوا إخوة ولا أصدقاء بالمعنى العاطفى المألوف، وإنما كانوا قرناء فى مثل سنى، دخلوا وعيى كأمثلة دالة، وأثروا فىّ بشكل مباشر وغير مباشر، وأهم ما يميّزهم اختلافهم عنّى بما أعتبره مزية أفتقدها بشكل أو بآخر، فأحسدهم علىها، وأقلدهم فيها، فأفشل عادة، وإذا نجحت ولو ظاهريا: أرفض نجاحي، وأتراجع عنه، ثم أستمر معهم معجبا، معتمدا، حذر ا، رائحا غادياٍ: فأكونُنِى، وهاكم بعض من هؤلاء لتوضيح الأمر:

رفعت ناشد أرمانيوس، طالب زميل فى مصر الجديدة الثانوية، عاقل جدا هادئ جدا، مسيحى جدا، متوسط الذكاء، يحسب كل شىء، فاتخذته – فى السر- أبا أتذكره حين يهجم علىّ انفعالى ويهددّنى اندفاعى، فأتراجع وكأنه يمنعنى بهدوئه ورزانته، ثم حسن قنديل (سفيرنا فى أكثر من بلد فيما بعد- رحمه الله)، كان قارئا نهما، لزم الفراش شهورا طويلة بسبب حمّى روماتيزمية أو ما أشبه، فقرأ كثيرا، وأنا قارئ مقل، فأستشيره فيعرّفنى على روايات نجيب محفوظ فى الأربعينات، ومن يومها. ثم خذ عندك المرحوم الأستاذ الدكتور السعيد الرازقى، كان أبا لى ولغيرى، كان أبا أكثر منى، بل أكثر من اللازم، ولم تـنـقـــلب الأدوار فأتبناه إلا فى مرضه الأخيرحتى ودّعته.

أما طبقة الأبناء /الآباء، فهم كُـــثر، ومازالوا حتى هذه اللحظة يمثلون أبوة خاصّة خفيّة، وهم من ثلاثة فئآت، أولادى وبناتى من ظهرى، ثم زملائى الأصغر وطلبتى، وأخيرا وليس آخرا طبعا: مرضاى.

لا مجال للإطالة فى تفصيل ما أعنىيه من أن ابنى هو أبى، مع أن هذا المستوى يحتاج إلى إيضاح، وكان يمكن أن أتجاوزه باعتبار أنه حاضر أكثر منه تاريخا، لكنى أوردته تأكيدا لما زعمته من البداية وهو أن التكوين هو حاضر متجدد، وليس ماضيا محكيّا، وسوف أكتفى فى هذا البعد بتقديم أمثلة لكل فئة لعلّها تكفى فى هذه العجالة:

فإبنى الأكبر من ظهرى كان ومازال يمثل لى تحديا أتعلم منه، وحين تعثرتْ به الخطى فى مرحلة باكرة من حياته، ثم عاد وأنجز، كتبت إليه أدعوه أن يرانى أقرب، فيتبنانى أفضل، قلت فى ذلك: ” يا ويحك ولدى: من خوفى جشعى.. تحمل عنّى -ولدى- عجزى، وأنا الأقْوَى، أدفعك تواصل سعىى وسلاحك أقصر، إلى أن قلت: سلّمتك سيفك قبل العدّة…، أشهدتك سرى من قهر الوحدة، “

كل ذلك يشير إلى وعيى الكامل باستعمال ابنى أباً بشكل أو بآخر، وأعتقد أن هذا التراوح وتبادل الأدوار بين الأبوة والبنوة كان من أهم ما تكونتُ به ومن خلاله.

أما الأب الإبن الزميل فهو أ. د. محمد شعلان، فقد كان يمثل شيئا عكس ما هو أنا (ربما بقدر ما كان زوج عمتى يمثله لأبى، أو ما كان عبد الحكيم عامر يمثله لجمال عبد الناصر، أو حتى ما كان لاوْ تسو يمثله بالمقابلة بكونفوشيوس) وقد بدأت علاقتنا وهو طبيب امتياز فكنت الطبيب المقيم الذى أعلّمه ألف باء الحرفة، وفى مهنتنا يقفز الصبى ليوازى المعلّم ويصبح زميله بعد عام أو عامين، وقد كان، ثم تفرقتْ بنا السبل، فكانت الخطابات بينى وبينه سلسلة من التكوين المحاوِرِ العميق، وخاصة فى الفترة التى راسلته فيها وأنا فى باريس وهو فى أمريكا، ثم صارت علاقة زمالة، وشركة، ومواجهة، واختلاف، وانفصال، واتصال، وكل هذا فى إطار من الاحترام والحركة أظن أنه كان لها دور هائل فى تكويني، و أتصور أنه لو أتيحت الفرصة لنشر مراسلاتنا، وأغلبها ما زلت محتفظابه، فربما قالت هذه المراسلات للناس وللزملاء، مثل ما قالته المراسلات بين فرويد يونج، أو حتى بين فرويد وفلايس (مع الفارق طبعا).

أما مرضاى فاعتمادى عليهم لأتعلّم منهم هو البعد الأبوى الوحيد فى آلعلاقة حيث لا مسئولية ولا حماية من جانبهم إلا ما ندر. وأكتفى فى هذا باقتطاف ما وصفت به دورهم فى تكوينى يوما قائلا: بس يا خوانّا دى سكّة مدربكة: المريض فيها طبيب،  والطبيب فيها يا حبّة عينى ماشى فْ بيت جحا، ييجى صاحبك ملط إلا مالحقيقة:  ييجى يزقلها فى وشّى وتنّه ماشى، يبقى نفسى أقول دا مجنون وانتهي، بس ما اقدرتش ياناس.

وأخيرا، لا بد من التنبيه وأنا أتحدّث عن التكوين أن الإنسان إنما يتكوّن ليس بما أحاط به ولا بمن تبناه أو حمله أو هداه، وإنما هو يتكون فى النهاية بحصيلة موقفه من كل هذا، ومدى تفاعله وتمثّله لكل هؤلاء. وأحسب أننى أدركت مؤخرا بعض تفاصيل دورى فى استيعاب وهضم وتمثل وتفعيل العوامل التى أحاطت بى، فقد تبيّت أننى رغم كل هذه المواكب من الآباء والأبناء، ورغم كل التفاعل مع كل البشر، ووسط كل هذه الأرضية من الإيقاع والامتداد، فقد ظللت محافظا على وحدتى، راضيا بها، متحركا منها، عائدا إليها، قلت فى ذلك ذات مرّة: “عشقت وحدتى مسيرتى، رضيتُ بالحياة موتاً نابضاً مفجّرا، أستنشق البشرْ  وقلت فى موقع آخر: “من فرط وحدتى علّمت نفسىَ القراءةْ،  فيما وراء الأسطر المنتظمةْ.

كذلك تبيّنت عاملا أخر كان له أ:كبر الأثر فى تكوينى، وهو أننى أخذت الكلام (كل الكلام) مأخذ الجد – فمن خلال علاقتى باللغة شعرت أن الكلام فعل حىّ، وترتب على ذلك أننى -كما وصفنى ذات مرّة أستاذى الدكتور مصطفى زيور – أننى عشت فى مخاض مستمر.

العامل الثالث الذى لا بد أن أبرزه فى هذا المقام هو ما أدركته من قيمة الحركة فى تكوينى، سوآء كانت الحركة جسدية حيث ما زلت أستكشف الدنيا سيرا على الأقدام، أو وراء عجلة قيادة سيارتى، (مما سجلت بعضه فيما يمكن أن يكون من أدب الرحلات نشرمسلسلا باسم: الناس والطريق)، ثم حركة فكرية وجدانية مع كل ما يصلنى من الأصحاء والمرضى من احتمالات أخرى، مستعملا فى ذلك كل ما أمكن امتلاكه من أدوات التعبير، (من أول اللغة العلمية التقليدية حتى اللغة الأدبية بكل أشكالها شعرا ونثرا فصحى وعامية).

خلاصة القول أننى تكوّنت فى إيقاع هادئ، وبلغة محكمة، ووعى ممتد فى رحاب الله، معتمدا على عدد بلا حصر من البشر متفاعلا بهم، أتبادل معهم الأبوة والبنوة فى مرونة نشطة، كل ذلك وأنا محتفظ بوحدتى، مواصلا اندفاعى وتجريبى مما يزيدنى يقينا أنه لم يكتمل تكوينى بعد،

وكيف يكتمل وأنا مازلت حيا أرزق؟

[انتهى مقال الهلال، وسوف يفَصَّل (وقد يعاد) بعض ما جاء فيه فى الفصول التالي]

9 يوليو سنة 2000

أكاد أتقمّص القارئ الآن وهو يقول الآن: فلقتَـنا، كان يكفى أن تقول لنا هذا منذ البداية إن كنتَ مصرّا أن تقول لنا من أنت؟ بدلا من مئات الصفحات التى صدّعتنا بها.

صحيح. اكتشفت ذلك أنا نفسى وأنا أعيد قراءة  هذا “الموجز”،

ثم إن مئات الصفحات تلك لم تُضِف شيئا فى  المناطق الحرجة.

أين البيت؟ أين الجنس؟ أين الشك؟

ثم أين الفكر الذى خرج من هذا البنى آدم؟، وهل له علاقة بما هو؟ بمن هو؟

إذا كانت كل المناطق الأولى “المُأينَنَََََََََََة” حالا (أين – أين – أين.) هى مناطق محظورة بدرجة أو بأخرى فى مجتمعنا هذا، فى زمننا هذا، فإن المنطقة الأخيرة ينبغى أن تُنزع انتزاعا خارج منطقة الحظر. ذلك أنها تتعلق بمسألة أساسية من مسائل المنهج.

المنهج الذى أتبعه كما أشرت سابقا، (وهو منهج تمتد آفاقه إلى الأدب والفن والعلم على حد سواء) هو المنهج الفينومينولوجى، حيث الباحث هو أداة البحث وفى نفس الوقت هو جزء لا يتجزأ من ظاهرة البحث. هذا المنهج ليس هو التأمل الذاتى بحال، بل لعله عكسه. التأمل الذاتى تنشق فيه الذات إلى مُلاحِظ ومُلاَحَظ، لكن هذا المنهج المسمى الفينومينولوجى هو حضور يجمع الذات فى تجلياتها المتضََّمنة فى توجهها الضام مع الموضوع فى آن،

من هنا فإن التعرف على أداة البحث (التى هى أنا فى هذا المقام) هو جزء من التعرف على ما هية البحث، وحين ينتهى مسار البحث فى لحظة بذاته إلى منظومة فروض، ومن ثمّ معالم نظرية، يصبح التعرّف على مُنتجها أهم و أولى.

السؤال الذى يطرح نفسه الآن هو: إلى أى مدى أثرتْ، وتؤثر، السيرة الذاتية فى مسار فكر المفكر؟ وهل هذا التأثير يقلل من مصداقية وموضوعية ناتج فكره، أو أنه يضيف بـعـْدا واجب الاعتبار فى تقييم هذا الفكر، وقد يزيده موضوعية؟

معظم الذىن أضافوا ما يستأهل تكلموا عن سيرتهم، وأكثر منهم فحصوا هذه السيرة فى علاقتها بإنجازاتهم، ومن خلاها. يصدق هذا المدخل أكثر إذا كان موضوع هذا الإنجاز هو ماهية الإنسان، ومساره، ومصيره.

من هذا المنطلق أضع هذا الفرض الذى يقول:

“إن السيرة الذاتية تنضحُ على مسار الفكر أيا كانت مجالاته، سواء فى انتقاء موضوعه، أم فى توجّه تنظيمه، أو فى وعود استخدامه”.

تحديدا فى مجال الطب النفسى يمكن أن نعرف من شخصية سيجموند فرويد وتاريخ حياته وحياة عائلته، بل ومن دينه وتدينه (و”لا تدينه”)، ما نحَى به هذا المنحى، مقارنةً – مثلا -بكارل جوستاف يونج، الذى يسرى عليه نفس المبدأ، ليختلف المسار، وقس على ذلك.

أشرتُ فى بداية هذا الفصل إلى شكّى فى دوافع  تنظير “فـُلَــر تورى” فى مسألة الفصام والفيروس، وكذا فى دوافع  تنظير الزميل الأستاذ (فى غير الطب النفسى) وتفسيره كل الأمراض النفسية والعقلية تفسيرا فيروسيا قريبا من فكر تورى، وإن كان أكثر تعميما. الأول كانت أخته فصامية، والثانى كان أخوه فصامى. فلماذا وأنا عائلتى هكذا وأكثر من هكذا لم أجد مهربا مثلهما أختبئ فيه بعيدا عن هذه الجينات المتهمة بالإغارة على سلامة العقل وتوازن الذات؟ لماذا لم أنتقى من بين نظريات الإمراض وأسباب الأمراض النفسية ما يبرّئ جيناتى أنا الآخر باعتبار أن كل مرضى عائلتى هؤلاء تعرضوا لهذه الفيروسات قليلة الحياء، أو هذا التلوث الكيميائى الداخلي أوالخارجى، أما أنا فلم أتعرض لهذا أوذاك ولهذا أنا تمام التمام؟ ألم يكن هذا أسهل؟

لماذا ذهبت إلى الناحية الأخرى / وهل ثمة علاقة بين ما ذهبتُ إليه فى تنظيرى الخاص  بكل هذا الذى عرفته عن عائلتى صغيرا وكبيرا؟ طالبا ومتخصصا؟

حين تخصصتُ، وشاع صيتى بين الناس، بما فى ذلك أسرتى الكبيرة، أخذ الكثير منهم يترددون علىّ طالبين المشورة أو العلاج، فأكتشف مزيدا من تجليات المرض العقلى والنفسى بكل أنواعه دون استثناء، وبدرجات جسيمة فعلا، فى أقربائى خاصة، وفى نفس الوقت أكتشف ما يتميّز به السالمون منهم من تفرد وعناد وقدرة خاصة على إعادة النظر والتجديد.

منذ ما يقرب من خمس سنوات مات لى قريب وذهبت أؤدى واجب العزاء، وقليلا ما أفعل، وكان دوّارنا مقابل بيت ابن عم لأبى وقد قارب الثمانين، ويعتبر كبير العائلة وهو فلاح، وشيخ، ونائب، لكنّه لم يكمل تعليمه، وإن كان واسع الاطلاع كثير القراءة. وأيضا كثير التدين عميق الإيمان. ثم إنه كان قد أصيب بما أقعده فى داره فلم يعد يقدر حتى أن يعبر الشارع إلى الدوار. ذهبت أعوده، وأعزّىه، وأقبّل يده، وراح المقرئ يقرأ القرآن فى الدوّار. وكان يتلو الآية التى يقول فيها سبحانه وتعالى “.. وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة”، وإذا بابن عمّى الفلاح هذا يقول لى، وهو يحاول أن يكتم ألمه مما أصاب دورة ساقيه الدموية، وهو يعرف أن لقاءه بربه – بدوره – قد اقترب جدا، قال لى بطيبة وتلقائىة: “يعنى بقى هوه كان ناويلها”، ولم أعرف عمّ يتحدث، فاستفسرت، فقال:” ربنا سبحانه وتعالى كان ناوى ينزل سيدنا آدم الأرض أهه من الأول”. وفهمتُ، وتدرّج الحديث بيننا كأعلى ما يكون التفكير النقدى والإبداع والتفهم والحوار والاستغفار وتحمّل الغموض، وكنت أيامها قد بدأ انشغالى برصد ما يسمّى التفكير النقدى الإبداعى عند الشخص العادى.

أحكى هذه الحكاية كعيّنة مما رحت أرصده فى عائلتى من مرض على ناحية، وإبداع على ناحية أخرى، ويبدو أن هذا البحث المتوازن قد شجّعنى على التمادى فى رصد كل صور المرض (والإبداع) فى فروع الأسرة الأبعد. فلم يعد يقتصر التقصَّى على أولاد العمومة الأشقاء وغير الأشقاء، بل امتد لأقارب الدرجة الرابعة وما بعدها.

ربّما لهذا، تبنّيت عدة أفكار تفسر لى ما أحمل من جينات من جهة، وأيضا تسمح لى بمساحة أكبر فى علاج مرضاى من جهة أخرى. ثم إنى  قمت باقتراح عدة رسائل فى الماجستير والدكتوراه، أشرفت عليها لبحث الظاهرة. كان من أهمها الرسالة التى أشرفت عليها وقام بها المرحوم الأستاذ الدكتور أسامة الشربينى عن تواتر الإبداع في عائلات الفصاميين خاصة. كان أ.د. أسامة  شديد الحماس فوّار العاطفة، وحضرهذا وذاك فى بحثه بشكل ما حتى  أنى وجدت نتائجه تتجاوز حتى فروضى، بل إن بعض المبدعين الذين اكتشف قرابتهم الحميمة لبعض مرضى العينة كانوا من الشهرة والريادة بحيث لا يمكن (ولم يمكن) ذكر أسمائهم تحديدا فى نتائج البحث التزاما بأخلاقيات البحث.

ترتب على كل ذلك ظهور هذا  الفرض الذى ما زلت أعتبره شديد الارتباط بسيرتى الذاتية، وموقفى الشخصى الاستطلاعى حتى ممن لم يلجأ لمشورتى. أصبحت أتحرك مع مرضاى فى مساحة أكبر من التفاؤل والحيطة معا، فكأنى أواجه مع كل مريض مسئولية ناتج تفككه، إما لإعادة تنظيم أرقى، وإما لمزيد من التناثر والتفكك، وأصبحتُ أمارس أنا ومن يعمل معى من الزملاء ومن يدرس علىّ ـ نمارس المهنة باعتبار أننا نواكب مرضانا، خاصة فى أزمات مفترق الطرق:

إما الابداع أو الجنون.

فمن تمادى فى طريق التناثر نحاول أن نلُمَّه لنرجع به إلى مفترق الطرق، ثم يا تُرى. ومن هو مبتدئ فى طريق المرض واحتمال الإبداع نحاول أن نعيد توجيه مساره إلى الناحية الأخرى.

رحنا نتعرف على مرضانا ليس من لافتة تشخيصية نصـِمـُهـُمْ  بها دوننا، ولكن من خلال النظر فى زخم طاقة الحياة (والإبداع)، ودورية نمطها وتنظيم إيقاعها، نستزيد من المعلومات  التي يمكن أن تشير إلى نوع الإبداع الممكن، أو نوع المرض المتربص، نحصل على ذلك ليس فقط من المريض، أو عن المريض.  بل من، وعند كل من يمكن أن يزودنا بما يعيننا من الأقارب والمعارف.

وليت الأمر اقتصر على ذلك بالنسبة لى، لأننى اعتبرت نفسى مسئولا عن أولادى ليس فقط فى تعليمهم والوقوف بجوارهم حتى يستقلوا ويتثقفوا، ولكن أىضا مسئول عن محاولة الحفاظ على حسن توجيه طاقتهم الحيوية (الحاملة لبذور كلٍّ من المرض والإبداع ) على اعتبار أن البديل المرضى متربص بهم طول الوقت.. فما دمت أنا الذى نقلتُ إليهم هذه الجينات القلقة المليئة بزخم الحركة، فلا بد أن أتحمّل إكمال مسئوليتى بإعطائهم فرصة حقيقية للاستفادة مما يحملون فى اتجاه التفرد فإعادة التشكيل،

لست متأكدا طبعا إن كنت نجحت أم لا.

وبالنسبة لمسار فكرى التنظيرى، هدانى النظر فى نفسى وفى جينات عائلتى (ومن ثم، مرضاى، ومَـن حولى)  أن يغلب على انتقاءاتى التفسيرية والعلاجية ما يتفق مع فروضى ورؤيتى من مدارس متاحة حالا وتاريخا.

اتفقت مع، واتفق معى، وأخذت من، مننجر Meninger  فكرة المفهوم التوحيدى للمرض النفسى، بمعنى أن أصْل كل الأمراض النفسية واحد لكن تجلياتها تختلف حسب الـظروف والتفاعلات. والزوجة والسن والمرحلة.  ألم تتجلى كل أنواع الأمراض النفسية فى عائلتى على اختلاف درجات القرابة؟

اتفقت مع، واتفق معى، وأخذت من، “هنرى إى” علاقة المرض النفسى بالصرْع، ألم أشاهد وأنا بعد فى التاسعة ابنة عمى وهى تكسر الحوض وتغرق فى دمها، وشقيقتها تصاب بالمرض الدورى ذى العلاقة الوثيقة بالصرّع،

ثم زاوجتُ بين الاستعداد الوراثى وبين مدرسة العلاقة بالموضوع: لأُرجع جذور العلاقة بالموضوع إلى مسارتطور كل عائلة وكل فرد، ذلك المسار الذى تحمله جيناتنا من قديم، وليس لمجرد علاقة الرضيع بأمه مع تجاوز جذور هذه العلاقة الجينية.

وأخيرا والفتُ بين الإيقاع الحيوى الذى يميز دورات الحياة التى عشتها فى علاقة مباشرة مع دورات الليل والنهار، والزرع والفصول، وبين دورات المرض، وحتى دورات النكسة، ودورات التقدم فى العلاج.بل ودورات العبادة.

ولعل هذا الميل الدورى للإعادة فالبسط من جديد، هو المسئول عن نشاطى الذى تَفَعْلَن أكثر وأطول فى دوراتى الحركية الخاصة ما بين الحل والترحال، ما بين الحنين إلى الركن والإقدام على المجهول، ما بين مهنة الفلاح ومهنة البحار اللتان اخترتهما معا (انظر الترحال الثانى)، فضلا عن تعميق برنامج الذهاب والعودة الذى ظهر فى كل هذا العمل من البداية للنهاية.

…..

وتهرب بذرةْ

إلى جوف أرضٍ جديدةْ،

لتكمن فى الكهف بضع سنين قرونا،

يقولون خمسةُ، ستةُ، سبعةْ

وكلبتٌ أمين.

……

وذات صباحْ

تمطى الجنينُ، أزاح ظلامَ الهروب الجبانْ،

ونادى الوليدُ العنيدُ على الشمس: هيا ابتعينى،

نهارٌ جديد.

هذا بعض ما صوّرته مما جاء فى قصيدة دورة عباد الشمس وأهل الكهف، وهى جزء تجلّى شعرا أثناء تنظيرى للسيكوباثولوجى سنة 1979 مدخلا إلى النظرية الإيقاعية التطورية.

وفى قصيدة “نهاية دورة” فى نفس العمل جاء ما يلى:

أخطُّ على صفحتى الآفِلَــةْ:

نهاية دوْرَةْ،

وأصعدُ ذى المرّةِ العاشرةْ،

وبعد المائةْ.

وأسبح فى ضوء يأسى وحيدا

لأمسك خيطا جديدا،

وأمضى عنيداً عنيدا.

وحيدا عنيداً،

عنيداً وحيدا

أخطُّ على الدرب سر الوجود.

28 يوليو 2000

أقلّب فى كتاب “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” جميعه، ذلك الكتاب الذى هو شرح لديوان “سراللعبة”، الذى اقتطفتُ منه هذا الكلام، وأحاول أن أميّز بين ما وصلنى من مرضاى وعائلاتهم وحواراتهم ومسيراتهم وشفائهم وتدهورهم، وما وصلنى من أنباء وأمراض وإبداع وواقع عائلتى، وما وصلنى من سيرتى، فأجد ما يبرر ما ذهبتُ إليه من فروض  تربط بين هذا النوع من النشاط “العلمى” خاصة وبين ما هو سيرة ذاتية.

وأرفض كل المناهج التى تسطح الوجود البشرى إلى ما ليس هو.

كما أحذر نفسى من التمادى.

 

الفصل الثانى

( الفصل السابع عشر: من الترحالات الثلاثة)

الجـــوع!

من كُتْر ما انا عطشان باخاف أشرب كده من غير حساب

لكن كمان:

مش قادر أقول لأَّه وانا نفسى فى ندْعِةْ مَيّه من بحر الحنان!

 يا هلْترى:

أحسن أموت مـن العطش؟

ولاّ أموت من الغَرق ؟!

وجدت ما يلى مكتوبا بالحرف الواحد فى بعض الأوراق. إياها:

 باب اللوق 14 أكتوبر سنة 1976

قال لى بكل ثقة ووضوح :

أنت لا تصلح أن تعالجنى، حوّلنى إلى أحد تلاميذك أو حوارييك حتى أجد مساحة أتحرك فيها.

احترمتُه، وسألته – باستعباط – مزيدا من الإيضاح، فلم يتردد قال:

إن دائرة رؤيتك تغمرنى تماما حتى أُصبح داخلها، فكيف نتحاور، إننى أريد واحدا “ما زال يبحث”، فتتداخل دائرتانا فى منطقةٍ ما، ونظـل مجهولين لبعضنا البعض فى منطقة أخرى، ومن خلال الحركة، والـظلال،  والمحاولة، يمكن أن يحدث ما يفيد.

وافقتُ على الفور دون التمادى فى الاستفسار والنقاش، فقد خِـفت أن أنكشف أكثر، أو أن تمتد رؤيته هو الآخر لتعيقه حتى عن العلاج. هو مُخرج مسرحى (كان مساعد مخرج انذاك) شديد الذكاء، والفن، والإبداع، والمرض.

رحت أسأل نفسى بعدها: ثم ماذا، إذا كانت رويتى (الحقيقية أو المزعومة) قد ضيّقت علىّ الخناق فى علاقاتى العادية، فهل يمتد هذا أيضا إلى مجال مهنتى؟

هل رؤيتى هذه صارت خطيرة أو خطيئة، لى ولهم، عليهم وعلىّ. حتى تصبح عائقا عن الممارسة العادية للعمى الجميل.

حين نقدت مجموعة منال القاضى”يحدث أحيانا” عنونت دراستى النقدية بأن أضفت “أن نرى” فأصبح العنوان “يحدث أحيانا: أن نرى”،

لكن المشكلة التى طرحها هذا الصديق تظهر حين تختفى”أحيانا” هذه ليحل محلها “غالبا”، لأنه يستحيل أن يحل محلها”دائما”.

يارب سترك. كيف أضبط جرعة الرؤية؟ كيف أحدّ منها؟ كيف أختبرها؟

وجدت أيضا ما يلى: الطائف

15 يوليو سنة 1980

لست أذكر مَن مِنَ الساسة (قبل الثورة طبعا) الذى سئل عن إشاعة تكليفه بتأليف الوزارة فنفى ذلك، لكنّه أردف قائلا ” لو عُـرضت علىّ أقبلها “، ذلك أنه سرت إشاعة أننى أرفض الذهاب فى أى مهمة مهنية إلى السعودية (أو دول الخليج عامة)، وبالتالى لم أذهب هناك -عمليا – لأى غرض علاجى مهنى خلال أكثر من أربعين سنة، مع أننى – مثل ذلك السياسى القديم – كنت أقول لنفسى بين الحين والحين أنها “لو عرضت علىّ أقبلها”، لكننى فى نفس الوقت كنت سعيدا جدا بهذه الإشاعة التى حالت دون أن “تَعْرض علىّ” من حيث المبدأ. كنت أدعو الله أن يصدّقوها أكثر فأكثر حتى أصدّقها أنا بدورى، حتى لا أتعرّض لامتحان الرفض الذى لم أقرره بشكل حاسم ونهائى.

هذه المقدمة ضرورية لتفسير تواجدى فى الطائف فى هذا التاريخ، فقد كان ذلك إسهاما فى برنامج تدريبى لأطباء مستشفى شهار للأمراض العقليلة بالطائف، لهذا كان الوقت متسعا تماما للكتابة وإعادة النظر.

بعد ساعة أو ساعتين ألقى فيهما محاضرتى  أخلو لقلمى، وهمى، وفكرى،

بلغنى اليوم (15 يوليو سنة1980) هاتفيا من القاهرة أن محمد إبنى قد حصل على تقدير جيد جدا فى كلية الأداب، وأنه أوّل دفعته رغم التحاقه بهذا القسم بعد بدء العام الدراسى فى هذه الكلية التى لا أحبها، ولا هو.

كما بلغنى أنه فرِح جدا بهذاالتفوق الدال، بعد الصعوبات التى عشتُها معه فى أزمة الثانوية العامة. كنت قد تعجّبت  من درجة الرياضة التى حصل عليها فى الثانوية العامة. كانت أقل من ثلث الدرجة النهائية، أى فوق درجة النجاح ببضعة درجات، وحين سألته بعد أن هدأت العاصفة، اعترف لى أنه كان يريد أن يحل المسألة “بطريقتِه الخاصة”، وأنه رفض – أولم يستطع – أن يتبع القواعد المتعارَف عليها، وأنه نجح فى ذلك أحيانا أثناء استعداده لهذا الامتحان، لكن فى الامتحان لم يسعفه الوقت.

حين أبلغتنى أمه نبأ تفوقه وأنا فى الطائف تصورتُْ أن هذا سوف يفرحنى -بدورى – فى غربتى، وأنه سيعيد لى حسن ظنى بابنى هذا وهو الأكبر والأقرب بشكل ما، ولا أنكر أننى فرحت، لكننى لم أفرح للدرجات أو الترتيب بقدر ما فرحت أنه استطاع أن يرى ما تحققه قدرته لو أنه أراد.

لكننى عدت أقلب فى ذاكرتى فوجدتُ أن صعوبته ليست فقط فى ما ورثه عنى وعن والدى وعن عمّه من أنه “يحب يعمل مدقّ والناس تمشى عليه” لا أن يسير “على المِدَق اللى الناس ماشية عليه”، وإنما تمتد صعوبته إلى هذا النضج (الذِّهْنِى) المبكر الذى أعتبر نفسى مسئولا عنه بشكل أو بآخر، فهو يفهم أعمق لدرجة أنه يفهمنى، صحيح أنه يخاف من هذا الفهم، لكنه يقدم عليه، وهو يطلق من خلال رؤيته الصائبة أحكاما وآراء أشفقتُ عليه منها. ليس هكذا باكرا هكذا!!

حرّك نبأ تفوقه كل ذلك فى نفسى.

قلت فى الفصل السابق أن حاجتى للأب باستمرار ربما هى التى جعلتنى أتخذ من أبنائى -آباءً-  بصفقــة سرية. يبدو أن محمد ابنى قد دفع ثمن هذا الاحتياج مبكرا.هو أول أولادى وأكثرهم عنادا، وطيبة. رحت أعترف له وكأنى أعتذر، وإن كنت قد علّمته ألا يعتذر،رحت أعترف له وأنا أمارس قدرا من “المكاشفة” :

أعترفُ أبوحْ :

إنسانٌ أعزلْ

وقف يصارع كلَّ الأحلاِم،الأوهامِ، وعودَ السعد.

كلَّ الأديان الْمَاأَنْزَلَ ربى منها شيئا.

كلَّ الأشياءِ المفهومـةِ، والمضغومةِ، والمنغومةْ.

……..

هل أصرخُ صرختِـىَ الكبرى؟

هل تـسمعُـنِى ولدى؟

هل تعرفُنِى من خلفِ الأقنعةِ السبعة:

……..

تحملُ عنى- ولدى عجزى؟ وأنا الأقوَى؟

………

لا. ولدى..

الدينا سبتٌ فتهملْ

يأتيك الأحدُ الإثنينِ الجمعةْ.

تُنضجكَ البسمةُ والحيرةُ والدمعةْ.

لا تتعجل ظُهرَكَ صُبحاً قبل الشمس

………….

أرجو صُحبتك لنفسى.

غاصت خُطواتى فىِ ثقل الوهْـمِ الهَمْ.

والواقعُ أوْهَمْ.

………………..

الخوفُ شرائحُ مصقولةْ.

تطفئُ وهْج الحركةْ.

تقصـِمُ نصفَ الزّندِ، وعـُنُـق الرُّسغٍ، وظـِفـْر لسانٍ يتكور.

………………….

سَلمتُكَ سيفـَـك قبل العدّة.

أشهدتُـك سرِّى من قهر الوحـّدة

…………………

وأمَرُّ المر أحبة عينى أولادى:

أن تعرف ما لا تقدرُ تكتٌمهُ،

لكنْ تكتُمُه.

أن تُخرجَ قولاً لم يخطرْ فى بالكْ.

تحسَبُه أنْتَ

تنطلقُ تدافعْ.

تتحدّثُ بلسانٍ غير لسانك،

والآخرُ ميْتٌ صخرٌ أجوفْ.

…………..

فاعذرْنى ولدى أتضَّور جوعاً متَّهماً بالبِطنه.

ركن المقطم. أعلى القاهرة

14 يوليو سنة 2000

عشرون عاما مضت على هذا الاعتراف.

أليس هذا الكلامْ أولى أن يكون هو السيرة الذاتية، أراجع الآن بعض فقرات هذا الاعتراف وأحاول أن أضعه فى سياق هذا العمل، فأجده يُــظهر ما ذهبتُ إليه من أن السيرة تتجلّى أكثر حيث لا يكون الحديث عن السيرة. هذه الصورة التى يرسمها هذا الاعتراف تجزم بأن من يلبس هذه الأقنعة السبعة قد يحتاج إلى سبعة كتب من السيرة قبل أن يعلن من هو، سبعة كتب ليست متتالية.

إذا كانت الظلمات قد وصفت بأنها بعضها فوق بعض، فالحاجة هنا إلى نور كاشف طبقة تلو طبقة قبل أن نقول من هو هذا الذى يكمن وراء كل هذه الأقنعة.

بعض ما كتب محمد يحيى الرخاوى فى الإنسان والتطور. العدد الأول السنة الثالثة يناير 1982.

يغامر كاتب هذا المقال بالاقتراب من طبيعة المعرفة بتصورنسق مسبق، قابل للجدل والتطور، ويسهم فى قضية المعرفة باجتهاد متواضع، وهو يشعر بمخاطرها إلى حد الجنون، وبروعتها إلى حد النبوة.

هذه هى الكلمة التى صدّر بها هذا الطالب فى السنة الثالثة كلية الآداب مغامرة طرح فرض لكيفية التآلف بين المنظومة المعرفية الفطرية والمنظومة المعلوماتية المتاحة، ولا مجال لتفصيل ما جاء بهذه المداخلة،

المهم بالنسبة لى، بعد عقدين من الزمن، وأنا أراجع نفسى وأراجع علاقتى بهذا الشاب، إبني، هومحاولة الإجابة عن هذا التساؤل:

إلى أى مدى تدخل احتياجى للاعتماد عليه فى انطلاقَةِ استقلاله؟

أعرف جوعى للرؤية، (أن يرانى أحدهم بحق) وحاجتى للاعتماد على أب قادر، كما أعرف -مثلما ذكرت فأكررّ- من خلال مهنتى كيف يستعمل معظم الآباء أبناءهم آباءً حاليين أو واعدين، وأنهم يعدّونهم إعدادا لهذا الغرض تحديدا. فهل وقعتُ- شخصيا – فى هذا المحظور؟

حتى لو كنت وقعت فىه فأنا متمسك به، لأن التخلص منه لا يأتى لا بإنكاره، ولا بادعاء الاعتذار عنه،

لا يخلّص الأب من اعتماده على ابنه إلا أن يواصل نموّه هو هنا والآن، ولا يمكن لأحد أن يواصل نموه وحده، أعرف جوعى إليه، إليها، إليهم، رغم ظاهر الاستغناء وكثرة المحيطين، ألم أقل لابنى حالا (ومنذ عشرين عاما) “فاعذرنى ولدى أتضور جوعاً متَّهماً بالبطنه”. ألم أقل”: تحمل عنى ولدى عجزى؟ وأنا الأقوى؟”، ألم أعترف مباشرة أننى : “أرجو صُحبتك لنفسى”؟

لوأننى كنت أكتب سيرتى الذاتية وقت أن كتبت هذا (15 يوليو 1980) هل كانت الاعترافات ستكون بهذا الوضوح والمباشرة؟ هل يمكن أن تُكتب سيرة من غير أن يكشف صاحبها عن جوعه ووحدته، وأثر ذلك عليه وعلى من حوله، هنا والآن، وليس فى الكُتّاب أو فى الحضانة أو فى حديقة الأورمان؟

فى أوائل السبعينات سألنى زائر أجنبى جاء يزورنى فى المستشفى الخاص بى عن مصدر الرعاية والدعم النفسى الذى يُمَكِّننى من أن أواصل بدورى رعاية العاملين معى، والمرضى، والطلبة، والمتدربين، سألنى هذا السؤال حين عرف أن زوجتى من ضمن هؤلاء، الذين يعملون معى فأشُرف عليهم وأدعهم. ولم أعرف الجواب، وحين ابتسم إشفاقا أو تحذيرا احترمتُه وتعلّمت منه.

إن مجرد الكشف عن الأقنعة لا يعنى التخلص منها.

فى أكثر من موقع من التجربة التى لم – ولـن – أذكرها مباشرة فى كل هذا الحكى عشت مواجهة جُوعِى إلى الرؤية والحنان والدعم والاعتماد. عشت كل ذلك بحذرٍ واع، فحال فرط الرؤية دون سلاسة الأخذ الوارد.

كنت منتبها إلى تصوّرهم أننى الأقوى، وأننى الأقدر، وأنّ علىّ – إذن – أن أساعدهم على “النمو” حتى يشتد عودهم، ثم أنمو بدورى، معتمدا على حصاد ما زرعتُ، وكنت أشك طول الوقت فى معنى وجدوى “لعبة التأجيل”. “

بقى كده؟ !!  بكره؟!

ما هو بكرهْ لـهْ بعدِ بكرهْ! فيه إيه بُـكرهْ؟

= بكره حانسمحْ لك تتكلم،. بكره حانسمح لك تتألم.

بكره حتجنى ثمرة كدّك. لمّا نِكبـرْ نبقَى قدّك.

ـ وانا مالى قدْ وما لى حدْ. خايف لتْكُون الحارة سدْ.

والصبر مرارْ.

وانا مش رافض أشربْ كاسُـهْ،

على شرط يكون للكاسْ دا قـرَارْ.

واستحمل طول الليل وحدى،

على شرط الليل ييجى بعده نهارْ

والصَّحرا بنزرع فيها الصبر: تطرحْ حرمانْ،

نسقيه من طولة البال،

وبنحْـدِى كلام ونقول مواّلْ:

جمل المحامِلْ بِرِك،

شِمْتِتْ لَعَادى فيه”.

………..

وشهور وسنين وانا باستنّى

شِلتهَـا على قرنى وباتمنّى

…..

هذا المقلب الأبوى الذى أخذته هو أسلوب متكرر فى مجتمعنا. ثمنه باهظ.

 نصنع صنما، وننسى ضعفه واحتياجه، وحين يتأكد أنه لن يحصل على حقه البسيط فى الأخذ البسيط يتمادى فى التَّصَنّم. فالتأهليه.

كأنه يعاقب نفسه ومَنْ صنعوه فى آن.

شعرت أن هذا “الميكانزم” هو بمثابة “ركلة إلى أعلى“.

لعبة يحذقها المصريون منذ الفراعنة، تنفخ فى القائد أو المسئول حتى تُفـَرْعـِنـُه، فيصدّق، فتعتمد عليه وأنت تمارس العدوان السلبى عقابا له أن صدّقك وتـَفـَرْعـَن. هو لا يجد من يحاوره أو يصده، ولا يلاحظ أنه حُرِمَ من محَــاوِر.

يتمادى حتى يهلك،

تابعتُ السادات وهو يقع فى هذه الورطة بغباء لا يتفق مع تاريخه الشديد الذكاء والمناورة.

كثيرا ما تبدو هذه اللعبة للأب الجائع أنها مسألة مؤقتة، وأن “الأولاد بمجرد أن يكبروا” سوف يستقلون فيسترد هو حريّته، لكن كما بيّنت فى المقتطف السابق مباشرة، فإن هذا التأجيل عادة ما يستمر دون أى ضمان لنقلةٍ أو تبادل أدوار.

 20 سبتمبر 1996

عشت هذه الخبرة المُعَاَدة مرات بلا حصر : خبرة الأمل، فالجوع، فالوعد، فالإحباط.

كنت أحسب أنها نتيجة  همود الآخر، أو كذبه، أو ضعفه، أو تخليه، أو غُلْبه، وليست منى، وإذا بى أكتشف أن الجريمة لها فاعلان – على الأقل،  وأنى مسئول بقدر مسئولية الذى ادّعى أنه تخلّى،

هذه الرؤىة لم تكن جاهزة باستمرار، فوقعت فى لوم الغير وتشويههم.

كأن الجوع حين يشتد يغلق الأبواب، وينكر كل ما لاح ويلوح من ودّ حقيقى،

اكتشفت مثل هذا التعميم الأسود فى ورقة مهجورة،

-1-

كل يومٍ كانَ وعَدا.

كل وعدٍ كانَ حُـلما.

كل حلمٍ كانَ وهْـما.

كل وهمٍ كان يغرى بالتماِدى

فى التمادِى

-2-

فـَتُر الوعىُ تقاطرْ.

قطراتٍ، قطراتٍ قطراتْ،

مثل وقعِ الماء فى حوضٍ لزجْ،

جلدةُ الصنبور فيهِ تالفهْ.

-3-

غابت الشمسُ ولمّا تُشْرقِ

لم تصل أبداً إلى كبد السماءْ.

يرقص العقرب فى كل اتجاه:

وكأنّا قد أردْنا غير ما صِرنا إليه.

-4-

هرب الوعى تسحّبْ.

بين ثنيات السرابْ.

يـُمطرُ الغيم ظلاما كالرمادْ.

ليس ذرّا فى العيون.

بل نذيراً.. أنه:

“مات الضياء”

-5-

لم نقل حتى “وداعاً”

لم يكن أصلاً لقاءْ

وافترقنا وكأنّا ما بدأنا،

لنعيدَ الدورَ باسمٍ مستعار.

بصراحة، حين عثرت على هذا الكلام كدت أنكر أننى أنا الذى كتبته، صورّتُ لنفسى أنه من بعض القصائد التى تصل للنشر فى مجلة الإنسان والتطور، وأنى اعتبرتها غير صالحة للنشر فنحّيتها

لم أستطع أن أتمادى فى الهرب. هذا خط يدى،  هذا الكلام كان بخط يدى وليس على الحاسوب،  ذكرتُ مرارا  أن الوعى بالحال لا يعنى اجتياز المأزق.

حين خاطبت ابنى فى تلك القصيدة (سنة 1980) كنت شديد الوعى بأقنعتى السبعة :

وأنا أتكلم مثل السادهْ.

وأنا أمشى بينهمو كالعادهْ.

وأنا أدهش وكأنى لا أعلمْ.

وأنا أفُتى وكأنى أعلم.

وأنا أضحك وكأنى أفرحْ.

وأنا أحسبُ وكأنى أجمعْ.

وأنا أرنو وكأنى أسمع.

أخطو مغلولاً فوق الأرضِ القبرِ الأملِ الواقع.

تنغرس بقلبى أشواكهُ. أُدمى. أتمرغ بترابهْ.

لا يسكت نزْفى. لا أهربْ.

لم ينفعنى هذا الوعى الحاد فى أن أتخلّى عن أقنعتى أو أن أطمئن لعدم حاجتى إلى بعضها. استمرت  المواجهة  دون أن يشعر أحد،

أتذكر ما أدهشنى مما عثرت عليه فى الورقة الممزقة، “هذا جناه أبى علىّ، وقد جنيت على الجميع”، فأتساءل : أى جناية على الجميع تلك التى جنيتـُها؟

من بين الجنايات المحتملة هو ما ترتب عن آثار هذا  التمادى فى لعبة الجوع بمضاعفاتها عليهم، إلا أن هذه الجناية نفسها كان لها الفضل فى هدايتى إلى مصدر الرِّى النقى. ذلك الرى الذى يجّدد الجوع  فيقلبه سعيا. هو لا يطفئه  ليعود استجداء.

الجوع حضور يتجدد.

لم يُخْلق الجوع لكى نتخلص منه، ولكن لكى يوقظنا إلى حاجتنا فنتجدد به، (أحسب أن هذا الوضوح كان فى خلفية نقدى لرواية إدوار الخراط فى “يقين العطش”.

15 يونيو 1973

كثير من الصور التى تشكلتْ فى محاولتى سبر أغوار النفس وقراءة عيون البشر، كانت نابعة من حدسى  لماهية حضور أفراد “مجموعة المواجهة”، أكتشف الآن أنها كانت تعرّى موقفى أكثر.

كانت إحدى الصديقات، إنجليزية الأصل، متزوجة من صديق رائع جدا، مبدع جدا، طيب جدا، وأشياء أخرى (جدا أيضا، وغيرذلك). لم يكونا من “مجموعة المواجهة” التى أشرتُ إليها من قبل والتى هى عصيّة عن التسجيل، اكتشفت أن هذه الخبرة بوجه خاص تحتاج زمنا آخر، وأدوات أخرى، (مع أن ملامحها ظهرت بشكل أو بآخر فى الجزء الثانى من روايتى “المشى على الصراط”، باسم: مدرسة العراة). أقول إن هذه الصديقة كانت تمارس دورا رائعا لم أفهمه أبدا أو قل لم أقبله، أو لعلّنى خفت منه جدا، كانت فيضا من الحب والحنان غير المشروط، وكما تحفّظتُ سابقا ضد سوء فهم، وسوء استخدام “براءة الأطفال”، وكما لم أُستدرج أبدا إلى صداقة صفقاتية بحتة، (أشرتُ إلى ذلك وسأعود إليه)، وكما لم أفهم ولم أمارس ـ إلا استثناء عابرا ـ ذلك المسمّى “الغرام” بمعناه الشائع، فإنى وقفت أمام هذه الصديقة  التى تفيض بكل هذا الفيض من الحب والحنان بلا شروط، مُعْجبا، ثم طالبا فى السر، ثم متحفظا، ثم رافضا، ثم حَذِرا، ثم متألما،

صغت هذه الخبرة فى وصف إحدى العيون فى ديوانى أغوار النفس. صغتـها فى تشكيل قد لا يصل إلا لفلاح مثلى، ففيه حديث عن الأرض الشراقى التى يشققها الجفاف، وعن الشادوف آلة الرى التى لم يعد يراها أحد حتى فى الأفلام، وعن العزيق، وعن الحرث. تلك الفِــلاحة القديمة بالسرعة البطيئة المليئة بما ملأنى.

بدأتُ هذا التشكيل ناظرا فى عينيها (فى خيالى) منبهرا بكل هذا الفيض من الحب والحنان والعطاء دون تمييز، بدأت ذلك التشكيل الذى أسميته “الترعة سابت فى الغيطان”، بطرح ما وصلنى لأول وهلة من هذا الموقف:

والنظره دى رخْرَه عجب.

ماباشوفشى فيها إلاشىْء كما الحنان.

لا لُهْ شروط ولا سبَبْ.

وللأمانة، ورغم قرّ الجفاف، فقد كان دورى ملاحِظا مثل عامل الرى الذى كان يسير على جسر ترعة “الطويل” فى بلدنا إذا جاء “الدور” حتى يُبْلغ مفتش الرى إذا زادت المياه  حتى فاضت من الجسر هنا أو هناك.

أذكر أنه حين سأل أحدنا هذه السيدة الفاضلة عمّا إذا كان فى مقدورها أن تغمر جفافى أنا أيضا ببعض هذا الفيض،  كانت من الطيبة والرؤية والأمانة أنها تحفّظت، وشكّت، بل وخافَت، لا أعرف لماذا خافتْ. أرجّح أنه كانت على حق.

وأقول لنفسى يا ترى:

هوّا حنان الدنيا كله اتجمّع الليله هنا ؟

عمال بيغمرنا كده من غير حساب

كما ترعه سابت فى الغيطانْ،

إٍللى بطونها اتشققت.

صيغة الجمع هذه “يـُـغمرنا” لم تشملنى على الرغم من وجودى خلال هذه التجربة فى ملقف” كل شىء. الشهادة لله: كان عطاؤها سهلا طيبا لم أفهمه أبدا.

حين عشت لاحقا مواجهة زعم ابن حزم أن الحب يمكن أن يأتى سهلا،  لم أوافقـْه، تصورت  أن ما يجئ سهلا  يذهب سهلا ” كيف تزعم يابن حزم أن حب السهل سهلا، مثلما يأتى يعود؟” (أنظر بعد)، وقد وصفتُ هذه السهولة التى تراءت لى فى عطاء هذه الإنجليزية  الفاضلة مثل الرى”بالراحة” فى بلدنا، وهو التعبير الذى يُستعمل لمن لا تحتاج أرضه لآلة ترفع إليها الماء لوجودها فى مستوى أدنى من مستوى الترعة، تصله المياه بمجرد إزالة سد فتحة التوصيل إليها:

والميه بالراحه بتطفِى فى “الشراقى”

منْ دونْ ولا ساقيه تنوح.

ولا قادوسْ ولا شادوفْ.

وحتى لا أتسرّع، ومع فرحتى باحتمال الرى مهما تمادى تشققى، رحت أعترف بقدرة هذا العطاء على أن يروى العطاشى، والحيارى، من كل لون وشكل:

المية تغمر والحنان بيبشبش القلب الحزين،

والقلب إٍللى مالوش حبيب،

والقلب إٍللى مِْــن عَمَايْلِ الناس بقى حتة خشب،

والقلب إللَّى اتمهمطت دقاته أصبح مثل كوره مْنِ الشراب،

تضربها رجلين العيال طول النهار

وانْ جتْ على أْزاز ام هاشم يبقى يوم أزرق وطين

يالكوره تتشرمط يا إِما ان العيال يتفركشوا

حتى إٍذا ازاز “ام هاشم” ما اتكسرشْ

مش صحت “الأسطى إٍمام” من غفلته

“واللى يصحى الناس ياناس أكبر غلط”!

تختلط عندى الطفولة بالكشف،  وحين نقتل الطفل فينا، فإننا نطفىء تلقائية المواجهة. تتواصل الرؤية والتلويح لى بإمكانية أن أكون ضمن من يغمره بعض ما يفيض لكن الحذر والحسابات تقفر لتحول دون التمادى فى الوهم.

وارجع أشوف نهر الحنان

ألقاه بيطفى فى الشراقى بدون “أوان”……..

حين تُترك الأرض بدون رى قصدا كنوع من التمهيد لزراعةٍ بذاتها، يكون “تعطيشها” هكذا مقصودا، حتى تتشقق وتتعرض للتعرية والشمس بدرجة كافية. ويسمّى الفلاح أول رىة لهذه الأرض المشققة (الشراقى)”طفى الشراقى”،وهو تعبير شديد الدقة، وكأنه يطفئ حريقا:

لكين الشراقى مهما شققها الجفاف؛

الميه راح ترويها صُحْ،

بس ياوِلْدِى خلّى بالَكْ:

إٍن سابت الميّه على العمَّال على البطَّال حاتغرق أرضنا،

حتى لو الأرض شراقى مشققه،

ولاّ الزراعة بدون أصول؟

حساباتى: صحّت أم أخطأت، تفسد كل شىء،لا بد من ضبط الجرعة، والتمييز، والتمهيد، والألم، والانتظار، والتدبير، وكلام من هذا

مـش لازم الأرض تجف وتتعزق

أو ضربة المحرات تشق الأرض تقلب تِبـْـرها

ثم يبدأ التشكيك فى أن صاحبة هذا العطاء هى من هؤلاء الطيبين والطيبات الذين يثقون فى البراءة، ويتجنبون كل أنواع الضغط والألم، تحت راية الرحمة، الرجراجة. ربما ارتبط هذا الاستسهال الدَّمِث بقيم ثقافية مرتبطة بأصل صاحبتنا الغربى الرقيق، أو ربما كان بعض طبيعتها الفنية الراقية، لكن استقبالى يصور هذا وذاك باعتباره استسهالا لا يغنى.

والنظره إٍللى بْتُغْمر الكونْ بالحنانْ من غير حساب بتقول:

“حرامْ”..،

ياناس حرامْ: أرض الشراقى مشققة ـ جاهزهْ ـ بلاش نجرح شعورها بالسلاح…”

فأرد عليها ممعنا فى التشكيك والشجب، وكأنها ليس عندها ما تعطى غير هذا العطف الماسخ.

يا ناس يا هُوه

بقى دا كلام

بقى دا حنان ؟

“الزرع لازم يتروى”؟

أيوه صحيح،

بس كمان.. الزرع لازم يتزرع أوَّلْ،

ماذَآ وإٍلا البذرة حاتْنَبَّتْ وبسْ.

أتراجعُ معلنا مزيدا من الشك والتخوف من هذا النوع من العطاء، أظن أنه يقابل تخوفى من البراءة الضعيفة المخاتلة (أنظرقبلا). يتمادى تشككى إلى الإنكار والمحو. (قلّة مافيش: هو تعبير من بلدنا يشير إلى عدم العدم

يا سِتْ ياصاحْبِةْ بُحور الحب والخير والحنان

إِوعِـى يكون حبك دا خوفْ

إٍوعى يكون حبك دَهُــهْ “قلةْ مافيش”

إوْعى يكون حبك طريقه للهرب من ماسْكةِ المحراتْ وصُحْيانك بطول الليل لَيِغْرق زرعنا.

لكننى أختم التشكيل بإعلان صريح يعترف أن المسألة كلها، أوأغلبها على الأقل هى أزمة الجوع والحذر والتردد والخوف من جانبى أساسا حتى ختمت هذا التشكيل بهذه الجرعة من المكاشفة.

من كُتْر ما انا عطشان باخاف أشرب كده من غير حساب!

لكن كمان: مش قادرْ أقول لأَّه وانا نفسى فى ندْعِةْ مَيّه من بحر الحنان!

يا هلْترَى: أحسن أموتْ من العطش ؟

ولاّ أموتْ من الغَرق ؟!

الركن أعلى القاهرة 16 يوليو 2000

حين قارنتُ ما عثرت عليه من أوراق وجدت نقلات السيرة واضحة ودالة، ففى حين كانت الإشارة (فى رسالتى إلى ابنى محمد من الطائف- 1980) إلى أقنعة سبعة، أصبحوا مائة (سنة 1995)،

وفى حين كان الإعلان عن تجدد الجوع وحيوية العطش متخفيًّا وراء نقد أو رفض هذا الفيض من الحنان الغامر، وجدت فى أوراقى المدونة سنة 1995 ما يعلن خطوة أكثر صراحةً وتعرية أكثر مخاطرة، كنت قد جاوزت الستين: وجدتنى  أداري، ثم أكفكف دمعة تدحرجتْ بعد أن عجزت أن أخفيها أو أنكرها. اكتشفت أن كثيرا مما أشرت إليه سابقا  سواء كان وأنا أنسحب إلى الركن القصى، أو وأنا أرعب من الرفاهية فأتهم نفسى بالعجز عن التمتع (اللاهيدونيا)، اكتشفت أنه كان يخرج رغما عنى فى محاولاتى التى لم يخطر ببالى أنها سيرة ذاتية. كانتا دمعتين : دمعةٌ فـ دمعة:

أنكرتـُها، كفكفتـُها، أخفيتُها. فتدفّقتْ.  فخجِلتُ، لا..

لا تفضحينى إننى أخشى يرَانَـا عابرٌ فى مثل سنى.

لم َ والدى؟

لمَ كلُّ هذا الآنَ؟    كيفَ ؟       ألمْ تمـــُــتْ؟

هلاّ علِـمتَ بأننى قد صِرتُ كهلا؟

مازلتَ تصفـُعـُـنِى إذا ما قلتُ “إِنى”..

إنى أريدْ،…   إنّى أكونْ….، إنى “أنا”..

فكرى يـُلاحقنى،   شِِــعْرى يمزِّقنى،

حبّى لكلِّ الناسِ يجمعُهُمْ، يفرّقـنى.

من لى بها تتلو علىّ من الرُّقى ما قد يلملمنى:

“اللهُ موجودٌ،

“اللهُ لا يـنسَى،

“اللهُ لا يغفُو،

ما أنزل الرحمنُ فرقانا لكى تَشقى،

هيّـا َفنـَـمْ  كـَبِــدِى، هيّـا َفنـَـمْ عــْـيِنى

فألوذ فى حضنهاطفلاً يناغِى ربّه حتى ينام:

اللهُ أرحمُ بِى،

اللهُ أوْلـَى بِى.

اللهُ أقرب منهمو،…، منّى

أنا ما طرقتُ الباب َإلا بعد أن نادتـْكِ كلُّ خلايا جوعى،

جوعى إلى عينٍ ترانى، جوعى إلى أمِّى تهدهدنى،

جوعى إلى بـِنـتِى تزمّلنى، تدثـِّرُنى.

لمَ قلتُ هذا اللغو ياربى؟ لماذا غبتَ عنّى؟

فتركتـَنى أهذى كأنّى:

ما كنتُ يوما سيّدَ العقلاءِ، (سلْهم لا تسَلـْنى).

أنا لم أخنْ أحداً.  ولكنْ معذرهْ، أنا خنــْــتـــُـــنِى،  أنا خنتُ نفسى،

أنا خنتُ سريانَ الرؤى فى عمق حسّى ،

أنا خنتُُ حقّى أن أعيش بغير حزنى.

ستّون عاما ما مضى منها سوى ستون عاما

ستون عاماً، بل يزيدْ.

واليومَ أولدَ ممسكا حبل الوريدْ

والفرْخ ُيبزغُ نافضاً وطْـــأَ السنين.

ماطار فرخـُك بعد ُ سيدتى،

ما شالـَهُ الزَّغـَبُ الجديدْ

والبـُـرغلُ المسحور فى منقارها،

يسَّـاقط العقـدُ الفريد.

-2-

فتسحّبتْ أخرى حسبتُ بأنها همسٌ بعيد،  فمددت كفّى:

بللّتْ قطراتُها  طرْفَ الأناملِ دافئهْ.

فتركتُها تنسابُ فوقَ الخدِّ هادئةً ترطّب مهجتي بعد اللظـى،

وحمدت ربّى:

أفليسَ يفعلُ ما يريد؟

الركن أعلى القاهرة، المقطم 15 يوليو 2000

هل يمكن أن تكتب سيرة ذاتية دون النظر فى علاقة كاتبها بربّه، لا أقول تدينه أو إيمانه؟ عرفت بعد قراءتى لهذه القصيدة أن أهم محور درت وأدور حوله، هو هذه العلاقة. أسِفت لمّا سطّح فرويد علاقة الإنسان بربه. الفرق بين الوالد  وبين رحمة الله كما تجلّت وتتجلى لى لا يمكن إغـفاله، كما لا يمكن الحديث عنه.

لعل محاولتى قراءة  بعض مواقف النفّرى  كانت سيرة ذاتية محددة المنطقة، هى هذه تماما. صدر هذا الكتاب مؤخرا(مواقف النفرى : بين الاستلهام والتفسير أكتوبر 2000)  وأعتقد أنه يعتبر سيرة متخصصة فى هذه المنطقة.  الحمد لله، ـ

الركن أعلى القاهرة، المقطم 15 يوليو(أيضا) 2000

كنت قد هاتفت صديقى (عن بعد) د. أحمد مستجير ليحضر ندوة جمعيتنا لشهر يوليو عن “البيولوجيا كأيديولوجيا ” تأليف ر.س. ليونتن، وترجمة د. مصطفى فهمى، واعتذر بأنه مسافرإلى النمسا يقضى شهرى الصيف مثل كل عام. تذكرت على الفور تلك السيدة النمساوية الرقيقة التى قابلتها بجوار “إجليز” مونتريه، والتى ذكّرتنى بفرويد من ناحية، ونبهتنى إلى تقصيرى فى زيارة بلدها المتميز تاريخا وحاضرا”النمسا”. تطرق بنا الحديث عبر الهاتف حتى ذكّرته بأنه لا يترجم كتابا إلا إذا أحبّه، فضحك ضحكته الجميلة وهو يتصور أننى أشير إلى ترجمته لكتاب جيروم جيروم الأخير “أفكار تافهة لرجل كسول” الذى صدر فى سلسلة كتاب الهلال الشهر الماضى (يونيو 2000). لم أكن قد عرفت به بعد. تمنيت له السفر بالسلامة،

اشتريت الكتاب، وعلمت لماذا فهم أنى قرأته، لأنه كتاب أحبّه هو وجزم أننا (أننى) سوف أحبه. حصل. يقول جيروم ص 38 “….والواقع أننا سنجد فى أغانى مسرحية واحدة لجيلبرت ما يزيد عما يحويه نصف ما كتب من روايات السير الذاتية”.

هذا القول طمأننى لطبيعة هذا الترحال الثالث، ذلك أننى شككت  أننى أحشر قصائدى المتواضعة حشرا لأعبر بها عمّا لم أستطع أن أقوله سردا، حين أعدت قراءة القصيدة السابقة، ثم التالية (انظر بعد) شعرت أنها كانت يمكن أن تـغنى عن الترحالات الثلاثة، طبعا لا، لكلِّ تشكيل زاويته الخاصة وإضاءته الانتقائية.

علاقتى بوالدى لم أكن أدرك أبعادها بهذا القدر حتى هذا التاريخ.

هل يدرك أحد علاقته بأبيه أبدا؟ هل هى قابلة للإدراك أصلا؟

هى عمليّة مستمرة،، تنتقل من جيل إلى جيل؟ نحن نتخلّق من خلال هذه العلاقة الجدلية المتصلة،  لا ينبغى أن يكون همنا أن نحلّها، أو نتصور أننا نرزح أبدا تحت وطأة  آثارها،  إنها طبيعة  متضمَّنة فى الحوار المستمر لجدل الأجيال البيولوجى الكيانى (وليس التنافسى أو التصارعى)

لا مجال هنا لطرح المقولة البديلة التى أسميتها “جدل اسماعيل إبراهيم” الأكثر اتساقا مع ثقافتنا بديلا عن عقدة أوديب وأوهام الاستقلال الباكر أو الكامل.

يبدو أننى بمرور الزمن أصبح أكثر شجاعة فى القدرة على التعرى والمكاشفة، بل والضعف أيضا.

فى نفس التوقيت تقريبا، وكنت قد تخطيت الستين بعامين وبضعة شهور كتبت ما أسميته. “النورس العجوز.. ودُوَارالحرّية”:

 الإسكندرية 23 مايو سنة 1995

أنهكَنـِى التحليقُ فى سمائِها اللعوبْ.  أنهكنِى نجاحِىَ الدؤوبْ.

وصخرتِى تودّع الصلابةْ، لكنّها لا تنكسر.

أريدُ والدِى .

أريدهُ، ودونَ أن يحولَ بينهَا وبينِى،

أريد سجَّانا يفكُّ قيدى،

إذ يـُحكم الأقفال لا أضيعُ حرّا.

أريد أن أنام فى حضنِ التى ترانى: كما أنا. فرخًا صغيراً لائذاً بعُشـِّـهِ، لا فى الأعالى حيث يحسَبُون.  لم ينمُ بعدُ ريشُهُ فلم يَطِرْ أصلاً فكيف تبحثونَ عنه فى السماءِ أيها القساهْ؟

أريد مَنْ تـرانى فاتحاً منقارىَ الطرىّ، ألـقـُطُ من منقارها الحنانَ والأمانَ والحياهْ.  أريد أنطوى تحت الجناحِ أعبُـرُ الفيافىِ دون أن أحلّقْ.

أريد خَـيْزُرانةُ،  تُـِفيقُـنى: أرى بها حدودِى.

أريد جلاَّدا يحول دون قتلى،  يأبى أضيعُ وسْـطَ وهم ذاتـِى

لا تضحكوا على طفلٍ غريرٍ صَدّق الأكذوبةْ. لا تخدعوهُ تتركوهُ فى سمائها والخيط فى أيديكمو كأنه المشانقُ الخفيّّةْ،

لا تزعموا بأنه “أراد”.

النورسُ الجسورُ لم يعُدْ يدورْ.

قد أنهكتـْهُ لــُـعبة الصعودِ، والسرابُ يسبقهْ،

يغمرُه الدُّوار، والفراغُ يخنـُقُـهْ.

قد آن أن يحُطَّ فوق أرضكمْ.

لا ترجموهُ كهلا.

إنْ حطَّ تدفنوه دون مَعْـزَى، تأكُــلُـه الديدانُ وهو بعدُ حيّا

لا لن يعودْ.

أسنـَّـةُ الرماح مُشرعة، تملأ وجهَ الأرض والقلوب.

لم يبقِ إلا أن يظلّ فوقَ الفوقِ ضائعا،

وكلُّ ما يشُدّه يذوبْ.

فتختفى السماء فى الضياء،

ويختفى الضيآء فى الغروبْ.

يتوه فى دوائرِ الصباح والمساء،

يواصلُ التحليقَ صاعدا معانِدا.

….

ما عاد يستطيعْ.  ما عاد يستطيعْ.

الركن أعلى القاهرة، المقطم 17 يوليو 2000

المفروض أن أقول ماذا ألمّ بى وأنا أقرأ هاتين القصيدتين الآن، وإلا فأين السيرة الذاتية؟ لم تُنْشر أى منهما. لم أحاول أصلا. ربما لعدم ثقتى فى شعرى أساسا، وربما لأنه شديد الخصوصية، وربما لأنه قد يعرّينى أكثر مما كنت قد قررت،أفترض أن هاتين القصيدتين تكفيان لحكْى “المختصر المفيد” من سيرتى الذاتية،

يجدر بنا أن نصدّق جيروم جيروم خفيف الظل فى مقولته السابقة، لا أحسب أننى كان يمكننى أن أصوّر هذا الجوع، وهذه العلاقة الجدلية الحيّة بأسلوب آخر، سواء كان سيرة ذاتية أو نظرية علمية، وإن كنت أرجّح أن الرواية بالذات هى المنهج المناسب البديل القادر أيضا.

قبل كتابة هذه “السيرة الخفية بعشرين عاما” كانت ملامح الجوع قد بدأت تطل، لكن التعويضات الجاهزة والمتلاحقة هى التى كانت تغطيها دون أن تخفيها. لكن ثمة إشارات أن هذه الصلابة هى تعويض فى المقام الأول. كان التعويض بكل أشكاله مدبرا، متواصلا، باختلاف أنواعه…….

ولأجمعْ حولى فى إصرارٍ ما يدعمُ ذاتِى فى أعينهم.

ولأصنع حولى سورا من ألفاظٍ  فخمةْ:

درعا يحمينى منهم،  بل من نفسى.

وفى موقع تال فى نفس التاريخ تقريبا (1972) حددت موقفى، و بعض دفاعاتى:

حتى لا تخدعنى كلمات الشعر،

أو يضحك منى من جمعوا أحجارالقصر القبر،

أويسحق عظمى وقع الأقدام المتسابقة العجلى.

أقسمتُ بليلِ ألا أضعف…ألا أنـسى.

هذّبتُ أظافرجشعــى  ولبست الثوبَ الأسمر.

ولصقت اللافتة الفخمة،  وتحايلتُ على الصنعة.

وتخايلت طويلا كالسادة وسط الأرْوقِة المزدانة برموز الطبقة

…..

هأنذا أتقنتُ اللغةَ الأخرى

حتى يُسْمَعَ لى، فى سوق الأعداد وعند ولى الأمر.

كان الأمل فى هذه الفترة يصل إلى درجة الحلم، وكانت الثقة على الرغم من كل الاعتراف بالجوع الداخلى تصل إلى حد الغرور،  فى هذه الفترة بالذات احتدت خبرة تجريب “مجموعة المواجهة” التى ألمحت إليها كثيرا. وهى الخبرة التى لن أتحدث عنها كثيرا أو قليلا، هذه المجموعة التى كانت تلوّح لى بحقى فى الضعف، فى إعلانه، فى معايشته، لكن لحساب النكوص الخامل، والحرية الزائفة، وحين طرحت السؤال” ماذا لو أضعف؟ ” ثارت كل الدفاعات المحتملة تصوّرلى مسئوليتى غير المسبوقة، ويظل الحوار يتواصل بين تقدم وتأخر، لا أنا أستسلم للذة طفلية عابرة، ولا أنا أستطيع أن أواصل لعبة التكيف على حساب فطرتى المنتظِرة

أنفقت حياتى أرعى الطفل الخيّر،

فإذاما حان الوقت لكى أصبح طفلى الطيّب عوقنى الشك،

وتحفّز شيطان الخوف

أراجع هذا الكلام الذى قمت بشرحه تفصيلا  فى كتابى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى”، (دون أدنى إشارة لما هو سيرة طبعا).

بعد ربع قرن وجدتنى أتعرف على نفسى بشكل مباشر، كان المدخل هذه المرّة هو “ما ليس أنا” أكثر منه “من هو أنا”.أتعرف على نفسى من خلال النفى ابتداء، النفى الذى يؤدى أو لا يؤدى إلى  الاثبات،.

المقطم / مارينا 16 – 17 أغسطس 1996

لستُ صندوقَ نذور، سلّموا مفتاحه شيخا ضريرا، طامعاً، فأضاعَهْ،

ما وَفَى النذر لأهله، لا، ولا نال الغنيمةْ.

لستُ “مشفورا” لمن يعرفُ سرّى.

….

لستُ حكِْرا للذى يدفع أكثر.

لستُ “وقْفا” لا يجوز عليه توريثٌ، ولا بيعٌ ولا رهْنٌ مؤجّل، يقطفونَ ثمارَهُ عاما فعاما، قبل أن تَنضُجَ حتَّـى..!! ثم يُـلقون البقايا، وجموعُ الناس ممن يستحقْ قد تراصّوا فى الصفوفْ، لينالوا ما تيسّرْ،من وعودْ.

لستُ إبن الفارض الصّوفىّ، ينسجُه بعيدا لا يُطال.

لستُ مجنونا بليلى، لا، ولا عــفّاً كمثل كُثَيْر عزّهْ، لا، ولا إبنُ ربيعهْ.

لست سيفا فى المعارك، أو قصيدا فى المحافل.

لست أهلا للقيادهْ،  أونديما عند سادهْ.

لستُ مشكاة تضىء بغير زيت.  لست نارا للسراهْ،

إنّما أحمل همّى،  مثل همّ الناسِ. نمضى

ليس يدرى أيّنا: من ينالُ ومن يجودْ

لستُ نسرا يخطف الفرخ ويصعد.

تمّحى السُّحْبُ إذا نحن اغـتررنا بالأعالى،

فاقتربنا من ذُراها، لا نبالى،

فتصيرُ السُّحْب عِهْنا نافــشا مثل السراب،

أو تصير كما الدخان إذا تخثَّر.

يسقط الفرخُ قتيلا،  ويضيع النسرُ فى غيم الغرور.

لستُ أوراقا تُــفــَرّ.  لم أسجَّل بعدُ فى “الشهر العقارى”.

لستُ مظروفا عليه “خاتم النسر و”دمغهْ”.

ما أنا إلا كموجَهْ،

وسط بحرٍ زاخرٍ من نَبْضِ وجْدى. تمّحى فيه الكتابهْ، والحسابْ.

لستُ كلبا شارداً حول صندوق قمامهْ،  ينبش الأشلاء كى يلقطَ جيفهْ.

لستُ “بودليرا” جديدا. إنّما الجيفةُ جيفهْ  ليسَ إلاّ…

لستُ “مكتوبا” أنا “موصَى علىّ”

لستُ معروضا أنا “تحت الطلب”، شاملا أيضا بحسْب الاتفاقْ  شرطَ توصيل المنازلْ!!!!

لا أبيعُ الحبّ فى سوق الأحد،

لستُ عبدا للجسد.

لستُ صندوقا قديما فوق رفّ لامعٍ للعاديات.

لستُ “نصّاً” قابلا للنسخ إنْ أحدٌ أراد.

لستُ من سَقَطِ المتاعْ، لا، ولا من نادِرِهْ.

لستُ معروضا أنا فى وسْط صالة، يشترينى من يزايدْ.

لست إبريقا يَطِنّ إذا نُقِرْ.

لست مزمارا يسلّى الندُّماء.

لست رمزا للذى لا تستطيعْ.

لست مشروعا تشكّلُنى الأمانى،

“ليس مثلى أىُّ شئ “.

يغفر الله لعبدٍ مستجير.

إن كرسيَّى صغيرٌ وبسيطٌ،  بشرىٌّ، وحنونْ.

أنا مثلى مثل ما يمكن يوما أن أكونَه

شرطَ ألا أكتفى يوما بما سوف أكونَه

لست سجّانا لنفسى، أو لغيرى.

لستُ مسجونا كذلك،  رغم ذى القضبان حولى.

لستُ حرّا مثلما يزعُم غيرى.

أنا طفلٌ لا يكف عن البكاءْ، والغناءْ للحياةْ.

إنما سجنى قلوب الناس حولى

هكذا نختار أن نمضىَ والأثقالُ تربطنا بطين الأرضِ، فوق الشوكِ:

يـُنـْضجنا الألم

……………..

الركن أعلى القاهرة، المقطم20 يوليو 2000

لولا أن واكب كل هذا النفى إشارة واضحة  إلى حقيقة، أننى (أننا)، لا أكون إلا ما يمكن أن أكونه باستمرار” أنا مثلى مثل ما يمكن يوما أن أكونَه شرطَ ألا أكتفى يوما بما سوف أكونَه”  لكنت عددتها “ضد السيرة الذاتية”، إننى حين فرحت بالانتقال من الإثبات والحلم الطموح، إلى النفى الحذَرِ، كنت أحسب أننى أقترب مما هو “أنا”، إلا أننى وجدت أن مثل هذا النفى قد يثبت أنه أقرب إلى الفخر منه إلى تقرير الذات،

هنا تجدر الإشارة إلى ضرورة تنقية ما يسمّى السيرة الذاتية من جرعة الفخر الظاهر والخفى، ليس لأن من يحكى عن نفسه لا يحق له أن يفخر بما أنجز، أو بما هو، ولكن لسبب آخر ليس واضحا لدىّ الآن. ربما لأن الفخر يعتبر قشرة إضافية للأقنعة المفروضة، وما السيرة الذاتية إلا محاولة فى عكس هذا الاتجاه، وربما لأن الفخر هو قناع إرادى فى حين أن الأقنعة الأخرى التى يعرّيها أدب السيرة هى أقنعة مفروضة اضطر إليها صاحب السيرة لظروف ما شاع عنه، أو ما يُتوقع منه، أو ما اضطر أن يستره. وقد انتهت القصيدة السابقة بعد كل هذا النفى المشكوك فى جرعة الفخر فيه إلى التأكيد على أن ذلك النفى هو تمهيد للإشارة إلى أن الإنسان، (أننى)، ليس هو ما يريدون، كما أنه ليس هو ما يتصور عن نفسه، وإنما هو “مشروع متجدد” لا يملكه أحد إلا الحقل الذى يتخلّق فيه، ولا يكون إلا ما يَعِدُ به، فقد انتهت تلك القصيدة بهذه الأبيات التى تعلن موقع صاحبها مما لا ينقال.

أنا ملكٌ للتى لا تملكنى.

…..

مِــلكُ نبض الكون والغيبِ اليقين

ملكُ ما يولدُ منى فى رحابِهْ

ملكُ ما يولد فينا عـبر بابهْ

ملكُ من ذا لا يكون

غير ما يمكن يوما أن يكونه:

غير نفسـِهْ، غير رسمهْ

غير ما يرجو ويحسبْ

فإذا كان بوْح هذه القصيدة يشير إلى أن صاحبها حتى هذه اللحظة ليس له رسم ثابت، وأنه لا يجوز له أن يحدد لنفسه شكلا ـ مهما كان طموحا ـ يسعى إلى تحقيقه، فأين السيرة؟ وكيف؟

السيرة الحقيقية هى وصف حركة فى مرحلة أكثر منها تمييز شخص بما هو.

ولعل هذا ما يبرر، أو هو ما كان وراء، هذا التداخل بين السيرة وبين حركة الترحال فى الداخل والخارج، وأيضا ما يفسر تنوّع التناول، و اختلاف الأدوات فى جدلها معاً

لم أشأ أن أشير إلى ما وصلنى من خلال هذا وغيره إلى استحاله الوجود بهذه الصورة إلى كدْحا فى يقين الغيب، سعيا فى رحاب الامتداد، حرصا على دوام التخلّق. هذا بعض ما جاء فى نهاية هذا البوح مما أفردت له تفصيلاً آخر، فى مواقع أخرى، لعل أهمها هو استلهام مواقف النفّرى كما أشرت.

الركن أعلى القاهرة 18/8/2000

لم أشعر باختلاف الموقف تبعا لاختلاف الموقع والزمن مثلما أشعر اليوم.

أمس أمضيت احدى ليالى الحرافيش مع شيخى الجليل وحدنا فى النصف الثانى من اللقاء فى فلفلة فى المنيل بجوار كوبرى الجامعة. لم أختِل به هكذا، ويختلى بى منذ بضعة شهور. كان طيبا قريبا ودودًا فأخذت راحتى معه أكثر (وقد أشير إلى هذا اللقاء فى الفصل الأخير).

أثناء عودتى وأنا فى السيارة حدثنى زوج ابنتى منى د. هانى نواره داعيا لى أن ألحقهم فى مارينا، حاول أن يؤثر على من نقطة ضعف يعرفها حين قال إن ليلى (ابنة ابنتى الصغرى مى) تسأل عنى وتطلب جضورى. طيبت خاطره ولم أعدْه بشىء حين عدت إلى المنزل فتحت التلفاز فوجدت الحفل المذاع من مارينا، شاهدت عزف مجدى  الحسينى، ثم سخف وظرف (معاً) مونولوجست لا أعرف اسمه، ورأيت هانى ومنى وزوجتى وهنا ابنة ابنتى بين الحضور، ابتسمت وأشرت لهم بيدى وأغلقت التليفزيون، وتمت.

أى مرحلة هذه التى أمرّ بها؟ لم أسافر منذ شهرين ولا أشعر بأى رغبة فى السفر. ربما يرجع ذلك لالتزامى بإنهاء هذا العمل، وربما تكون مراجعتى هذا العمل ذاته هى نوع من السفر.

أقف من جديد حول مصداقية علاقة العمل بصاحبه.

كيف يمكن أن نقرأ ما تقدّم فى هذا الفصل بالذات، وفيه ما فيه من  كذب الشعر المحتمل، وميكانزمات النفى (ربما الذى يحمل ترجيح الإثبات) ؟

لاأستطيع أن أعمم. أنـا الذى اخترت من شعرى ما تصوّرت أنه سيرة ذاتية، وبالذات ما تصورت أنه يعبّر عن ما لم أستطع أن أعبّر عنه بغير ذلك.

هذا الفصل كان مغامرة للتعبير عن نقطة أساسية، ألا وهى جوعى إلى الآخر.

كنت – وما زلت إلى حد ما – مقتنعا باستحالة أن ترانى أو يرانى آخر بالقدر الذى أتصور حاجتى إلى ذلك.

خرجتُ من هذه المحاولات الصعبة بفرض لن أعرضه إجمالا أو تفصيلا، أكتفى بالإشارة إلى  أننى أرجح “أن ثم فرق جوهرى” بين المطروح علينا فى مسألة “العلاقة بالآخر” من خلال القيم والنظريات الغربية بالذات، وبين ما هو أقرب إلى الطبيعة مما يمكن أن يكون فى متناولنا.

فرق بين العلاقة (الناضجة) نتيجة لصفقات الاعتمادية الظاهرة والخفية، وبين “التواجد معا” فى محيط ضام مشتبكى (إيمانىّ باللغة السائدة) يسمح بحركة متعددة تخفف من حدّة الرؤية وشروط التعاقد.

ولا أزيد

فقط:

أحاِوْل.

الفصل الثالث

الفصل الثامن عشر: من الترحالات الثلاثة

أمّـى  …

  الأم ليس لها تعريف آخر،

هى صفة قائمة بذاتها لا تحتاج إلى أن توصف بالحنان، أو بالحب، أو بالدفء،

أو غير ذلك،

أحيانا حين أسمع أغانى الأم أبتسم.

 أرفض أغلبها،

 أشعر أن الأم لا تحتاج لكل هذه الأغانى والألفاظ

 لنتعرف على دورها أو نـُقـِرّ بفضلها.

 دبى. أول نوفمبر 1991

وصلتُ أمس من البحرين، كان ثمَّ مؤتمر للتجمع الإقليمى فى الشرق الأوسط للكلية الملكية البريطانية للطب النفسى، هو نشاط ممتد يمثل استمرار انبهارنا وتبعيتنا للإنجليز الذين أصبحو بدورهم تابعين للأمريكيين الذى أصبحوا بدورهم تابعين لمؤسسة مالية نطلق عليها أسماء ظاهرة من بينها النظام العالمى الجديد، وأسماء خفية مما يخدم سائر الأوهام المعاصرة، ومع كل ذلك فنحن لا نفتخر، ولا نشعر بذواتنا إلا حين يرضون عنّا بالنشر أو بالسماح بالمشاركة فى مثل هذه المؤتمرات، وأيضا بالسماح بلصق حروف دالة على الاشتراك فى هذه الجمعية الخوجاتية أو تلك.

يكفى أن تتكلم بلكنة أكسفوردية، وأن يكون عندك عدة شرائح ملونة، بها أرقام منضبطة، حتى تحوز الرضا، وتلحق باسمك عدة حروف من ألطفها أنك “عضو الكونجرس” الأمريكى، مثلا لجراحة الأعصاب أو للأمراض الجسدية النفسية. تصوّر حين يذهب مريض مصرى أو عربى ليعالـَج عند عضوا الكونجرس شخصيا هل يمكن أن نحرم “لاشعوره” من أن يزهو بأنه بين قوسن أو أدنى من البيت الأبيض ليحصل على بركة الصحة والعافية. ويزيد قدرك جدا عند هذه الجمعيات والكليات والخواجات لو أشعت عن نفسك – أو أثبت – أنك تتمتع بكثير من “قلة التعصب”، أما لو أثبت أنك مضطهد أو تنتمى إلى قلّة مضطهدة فقد وصلتَ بالسلامة. وصلت إلى  أين؟ ليس مهما. المهم أنك وصلت، وحزت الرضا والقبول.

شبعتُ حكْيا عن مثل هذه المؤتمرات فى هذه الترحالات من أول مؤتمر باريس فى الفندق الكبير (جراند أوتيل) حتى مؤتمر واشنطون  دى سى الذى شغل مساحة أكثر من اللازم فى الفصل الأخير من الترحال الثانى، إلا أن المؤتمر هنا فى البحرين يحتاج لإضافة قصيرة بشأن اللغة، والثقافة المحلية،

تصورت لو أن الأمر قد انقلب، وأننا البلد المتقدم، وأن الانجليز يسترضوننا وهم يعقدون مؤتمرا فى لندن فى الطب النفسى وليس فى تاريخ بنى أميّة، فهل كانوا سيتكلمون بالعربية؟ نحن لم نتخلّ عن العربية كلغة فحسب، وإنما تخليّنا عنها كخُــلق، كموقف، لأننا تخلينا عن زهو الفخر بأن لنا لغة قادرة متميزة، إننا، ونحن فى بلد عربى -البحرين-، نتكلم الإنجليزية ليس فقط فى قاعة المؤتمرات حيث تلقى الأبحاث العلمية، وإنما فى أروقة الفندق كذلك.

رحت أتابع الكلمات، الأبحاث، الأوراق وكان واضحا طول الوقت أن الأرقام الخالية من المعنى والهدف لها الغلبة بشكل أو بآخر، كانت المناقشات أقرب إلى الهزل شبه السياسى فى دولة متخلفة. الأيدى ترفع، ويبدأ السؤال أوالتعليق بأنه “يا سيادة الرئيس (مستر تشيرمان Ms. Chairman) ثم لا شىء. وكأنى أتابع مسرحية قديمة سخيفة ومدبلجة إلى لغة لا أعرفها (فضلا عن أننى لا أعرف لغتها الأصلية)، وكنت أشاهد الوجوه وهى تسأل سؤالا لا جدوى منه، وإجابته موجودة فى أى مرجع، وحتى إن لم تكن موجودة فلا يوجد وقت للإجابة أصلا، ومع ذلك تتكرر الأسئلة، وتتكرر الإجابات، وأرى الراحة المطئنة على الوجوه المستقرة، وكأن مشاكل الطب النفسى قد حلّت والذى كان قد كان،

كانت الورقة التى قدّمتُها فى هذا المؤتمر عامدا متعمدا هى مقارنة بين الأمثال العامية فى البحرين، والأمثال العامية المصرية فيما يتعلّق بكل من “العلاقة بالآخر”، وأيضا “العلاقة بالواقع”، و ما لهذا وذاك من انعكاسات على ممارسة الطب النفسى محليا. مثلا : حين نقول فى مصر”مبروم على مبروم ما ينفتلش.” يقولون فى البحرين “اِحْشِفِهْ علَىَ احْشِفِهْ ماَ تَلْتصِكْ.” ومثال آخر حين نقول فى مصر “ميّة من تحت تبن.”يقولون فى البحرين تَحْتِ الدَّفِّه حَيَّهْ مِلْتَفِّهْ. وهكذا،

تعمّدت تقديم هذه الورقة بالذات فى مؤتمر ينظمه “الخواجات” كى لا يكون هناك أى احتمال لتقديمها إلا بلغتها الأصلية. بل إن الأمر كان به تأكيدٌ غير مباشر على ضرورة الانتباه إلى اختلاف اللهجات العربية المحلية، ومحاولة تقليل الفجوة بينها. قدّمت ورقتى هذه بلغتى طبعا، مع ترجمة موجز بسيط إلى الإنجليزية بعد كل فقرة أقدّم بها الخلاصة أولا بأول، وأحسب أن الإنجليز احترموا المحاولة أكثر من زملائى من الدول العربية الذىن كان أغلبهم يسألنى فى الأروقة سؤالا مكررا “يعنى عايز تقول إيه،؟” ويلحق هذا بتساؤل حول علاقة ذلك بالطب النفسى، فكنت أقبل اعتراضه، وأشرح ماتيسر، أو أحوّل الأمر إلى مزاحٍ، حسب مقتضى الحال.

من فرط غيظى وجدتُنى أكتب شعرا عموديا وأنا واقف على أطلال الوعى الذى سلّمناه مفروشا لغير ذى صفة، ودون مقابل، وكان شعرا عموديا ساخرا أقرب إلى ما كان يسمّى “الشعر الحلمنتيشى؛ الذى تعلمناه من البعكوكة فى الأربعينات،

كان والدى يجمعنا كل يوم أحد على ما أذكر، فى طنطا، ونحن معه دون والدتى التى كانت عادة تفضل البقاء فى قريتنا بالقرب من بركة السبع، وكنا نقرأ له أو يقرأ لنا أم سحلول، والشيخ بعجر، ثم الشعر الحلمنتيشى الذى أشرتُ إلى بعضه وعارضته فى آخر زيارة لى للمونمانتر، (الترحال الثانى). إن من أسخف ما يتكرر فى مثل هذه المؤتمرات تقديم الشكر والتحيات لرئىس الجلسة قبل المناقشات والمجاملات بطريقة “نعم…… ولكن”.” نعم ما أروع ما قلت، ولكنه ليس له أى معنى”، “نعم أنا أوافقك من حيث المبدأ، ولكن هذا كله لا فائدة منه” (هذه سخرية كاريكاتيرية فانتبه!!).

يسمح سيادة الرئيس بعد إلقاء ثمانية أبحاث بالمناقشة لمدة خمس دقائق. (هكذا الديمقراطية وعظمة الحوار؟)  !!!(شكرا).

أخذ نداء “سيدى الرئىس” (مستر تشيرمان – مستر تشيرمان) يتردد فى رأسى حتى أنشدت واقفا على أطلال وعينا :

قـِفـَانـَبـْكِ “بحرين” التقينـــا بها معا  وكأسـِىَ مثقوبٌ به الوعْـُـى ضُــيـَّعاَ

شرائحُ أرقامٍ تدقّ ٍّ نعوشنـــــــــا    ونخـــّاس أسواق العبيد تربّعـــــــــا

و”مسـَترْ تـِشـِرْمـَن” هاتها ثم هاتها  وإحصاءُ أشلاءٍ بأطــــــلال أرْبـُعــــــا

انتهى المؤتمر أمس، وكان بين المؤتمرين بعض زملائى0(أولادى؟ طلبتى) القادمون من الإمارات. قررت- تخفيفا من آثار العدوان المؤتمراتى- أن أعرُجَ على دبى، ألتقى فيها بمن لم ألق فى البحرين لعلّنى ألتقط أنفاسى بعد اغتراب مهين.

فى دبى دعانى صديق خليجى (يسارى/ناصرى/مسلم جدا/ رجل أعمال..إلخ) إلى محاضرة فى نادى ثقافى فى دبى. وافقت علّنى أستشعر ما ذا يجرى هناك، خاصة وأنا أعتبر أن الإمارات قد حظيت بفرص يمكن أن تعتبر حضارية بشكل ما، أكثر من غيرها.

كلّمت أخى بالهاتف أسأل عن صحة أمى، لم يرد.

كلمت أختى لم ترد، لا أعرف رقم المستشفى.

كنت قد تركت أمّى فى المستشفى بالرغم منى، فقد كان لى دور خاص فى هذا المؤتمر وليس مجرد إلقاء بحث أو مشاركة فى اجتماع. كانت قد أُجرىَ لها منذ بضعة أشهر عملية استئصال ورم من الأمعاء. وتحسنتْ جدا، لكن الأعراض عاودتها بعد قليل، لنكتشف أن خفايا الورم عادت تنمو من جديد، فدخلت المستشفى من جديد. دعوت الله ألا يعرضها وإياى لهذا الامتحان المسمى “العلاج الكيميائى” فقد عاودتنى ذكريات صديقى المرحوم السعيد الرازقى، وعرفت أننى لن أحتمل أن أرى أمى تتعرض لمثل هذه الخبرة وقد بلغت حوالى التسعين عاما.

أنا لا أعرف سنّها بالتحديد، لكن والدى كان يلمّح إلى أنها كانت تقاربه سنا، وكانت هى توافقه على ذلك،

ولمّا كان والدى من مواليد سنة 1900 فقد كان هذا تقديرى لعمرها آنذاك. العجيب أنها عاشت بعد والدى حوالى ربع قرن (تركنا والدى سنة 1968) مع أن طبيب وصديق العائلة، وأستاذ أخى، المرحوم الأستاذ إبراهيم أبو النجا كان قد نبهنا إلى العناية بأمنا بعد والدى. قال إنه يعرف أزواجا كانا مرتبطين ببعضهما ارتباطا وثيقا مثل أمى وأبى، فلمّا مات أحدهما لحقه الآخر بعد بضعة أيام أو أسابيع، بمرض أو بدون سبب ظاهر، وقد صدّقته تماما، وأحمد الله أننا كنا عند حسن ظنه. لكننى، والحق يقال، لاحظتُ أن أمى لم تجزع ذلك الجزع الذى توقعه الدكتور أبو النجا، ولم تتدهورحالتها، بل إننى تصورت أن علاقتها قد توثقت بأبى بعد موته أكثر مما كانت وهو بيننا، مع أن موته كان بالنسبة لى مفاجأة ومحنة خاصة ذكرتُ تفاصيلها من قبل، كذلك توثقت علاقتها بى، أو علاقتى بها، بشكل ربما يرجع إلى ما أشرت إليه من “أبوتى” الجاهزة التى امتدت حتى شملت أبى فى مرضه الأخير ثم أمى بعد وفاته، أصبحت أنا المسئول عنها أساسا، أو تماما، وقد تمّ تنظيم دخل مستقل لها بناء على وصية أبى، ردا لدين أقره على نفسه حين ضم أرضها لأرضه فقال لى إن لها كذا، وريعها خلال 44 عاما كذا، بالإضافة إلى ميراثها الشرعى وكلفنى بتنفيذ ذلك قبل أى تقسيم آخر. وقد كان.

أشرت من قبل كيف كنت متحيّزا لخالتى (أمى الثانية) فى أى خلاف بينهما، ولم أكن أفهم كل هذا الجارى بين شقيقتين لا أخ لهما، وكانت الأكثر تجنيا (وربما ظلما) هى الأقدر والأغنى ذات الزوج والولد (أمى الرحم)، فقد طـُـلُقت خالتى دون أن تنجب بعد حياة صعبة عايشتُ بعضها فى سوق السلاح حيث كانت تقيم أثناء زواجها.

لم تحضر أمى فى هذا العمل بنفس القدر الذى شغله أبى طوال تَرحالاتى هذه. هل معنى ذلك أنها أقل أثرا أو أننى أكثرجحودا؟. أيضا آعترف أن أبى مازال يظهر فى أحلامى، وفى مايسمى شعرى أكثر من أمى (لاحِظ ذلك- مثلا- فى القصيدتين: “دمعتان” و النورس العجوز. فى الفصل السابق). ثم إنى ربما أشرت دون تفاصيل، لتلك العلاقة الملتبسة بين أمى وخالتى، وهما شقيقتان وحيدتان لا أخ لهما (ولا أب). ربما يرجع ذلك إلى ما ألمحتْ به إلىّ أمى سرّا فيما يشبه الوصية عقب نوبة من نوباتها.

كانت أمى تصاب بنوبات إغماء عرفت فيما بعد تخصصى أنها ليست صرْعا حقيقيا، فمن ناحية كانت النوبات مرتبطة بغضب أبى، ومن ناحية أخرى كانت تفيق منها بعد بعض الطقوس التى اعتدناها بالتجربة والخطأ، ومنها “التنفس الصناعى!!” الذى كان والدى يصر على أن نجريه لها ونحن حولها، فإذا طالت النوبة تبادلنا تحريك ذراعيها فى شكل شبه دائرى حسب إرشادات والدى الذى قرأ هذه الطريقة فى كتاب إسعافات أصفر اسمه “الصحة والمرض”، قلّبته مرة وقد نـُزع غلافه مثل رواية الشيخ الصالح، فلم أعرف مَن مؤلفه. كان والدى يحب دائما أن يكرر بعض النظريات العلمية والطبية، ويقول إنه لو كان له الخيار لدرَس ومارس العلوم الطبيعية، وبالذات كان يردد قاعدة أرشميدس بالحرف الواحد، وكذا قاعدة القصور الذاتى. ويفسر بالقاعدة الأخيرة كثيرا من تصرفاتنا وتصرفات غيرنا. حين أصبحتُ طبيبا ابتسمت وأنا أتذكر حكاية التنفس الصناعى هذه.

فى يوم من الأيام اصطحبنى والدى إلى حى الأزهر الشريف، أظن كان ذلك فى شتاء سنة 1945، أول ما نزلنا القاهرة، وسكنا فى مصر الجديدة، ولم يكن الإنجليز قد جلوا من القاهرة بعد، لففنا حول الجامع الأزهر إلى البطنية (لم تكن مركز المخدرات  الأول بعد). أرانى والدى  المنزل الذى كان يقطنه عمى الشيخ (والد ابنة عمى الصرْعية، وأختها الهوسية)، وأىضا أرانى المنزل الذى كانت تقطنه أمى مع خالتى وزوج جدتى الذى كان يتتلمذ على عمّى فى الأزهر، وحكى لى والدى أن هذه العلاقة بين زوج جدتى (لم أره، ولكنّا كنا نطلق عليه لفظ”سيدى السيد”إذا جاء ذكره باعتباره جدنا) وبين “عمى الشيخ”، هى بداية الوصل بينه وبين أمى.

كان “جدى السيد” يحضر إلى منزل عمى الشيخ هذا وهو يجاور الأزهر، وربما يخدمه وهو يحضر بعض دروسه. حكت لنا أمى فيما بعد كيف فقدتا – هى وخالتى – والدهما “على أفندى حسن” الموظف بالأوقاف ولمّا تزل أمى رضيعة. وخالتى جنينا.  من خلال تلمذة “سيدى السيد” على عمى الشيخ، ومن خلال الجوار فى حى الباطنية، تمَّ مايشبه الخطبة بين أبى وأمى.

مرة سألت أبى، مازحا، عما كان يفعله فى هذه الفترة التى لم تصل حتى إلى مرحلة الخطوبة، قال لى إنها فترة طالت لعدّة سنوات حتى تخرّج، ولم يتبسط معى أكثر من ذلك، وإن كنت عرفت من أمى أنها كانت هى وخالتى تلبسان الملاءة اللف، وأنه كان يتبعهما أحيانا، وقد شاهدت خالتى – دون أمى – بنفسى وهى تخطر فى الملاءة وهى تنتقل من بيتها إلى بيت حماتها (قبل أن تُطلـَّـق) فى سوق السلاح،

كنت أداعب أمى وأقول لها إن كانت تستطيع أن تحبك الملاءة الآن مثل زمان أم أنها نسيت، وأحيانا كنت أقول لها إن لـلملائة اللف، بما أظهرت وأخفت، فضل ظهورى فى هذه الدنيا لأصُلحَ الكون (!!).

كانت أمى لا تقرأ ولا تكتب، وكانت وثيقة الصداقة مع الخادمات اللاتى لم يكـّن يقل عددهن عن ثلاثة فى أغلب الأوقات، كما كانت تفضل أن تأكل معهن بعد انتهائنا، وأحيانا كنا نتصور أنها تتحيز لهن ضدنا إذا ما اختلفنا أواشتكت إحداهن من أحدنا. كانت تجالسهن فى المطبخ بعد أن ننتهى نحن من الأكل، وحدنا فى الأغلب، ووالدى وحده كذلك، وخاصة أننا كنا نرجح أنه كان لوالدى أكل مميز عنّا جميعا، وعلمتُ فيما بعد أن ثمة تقاليد غير معلنة تعتبر الأكل بالنسبة للنساء، حتى أمام أزواجهن، عورة بشكل أو بآخر.

ذكرت قبل ذلك كيف كانت أمى تبكى وأبى يكمل لنا الدرجات التى نقصتنا فى امتحان الفترة حتى الدرجة النهائية لكل مادة، وظلت وظيفتها بالنسبة لاستذكارنا هى أن تنصحنا أن نقلل من “كَفْيتنا ” على المكتب وهى تعد لنا الشاى أحيانا، وخاصة قرب امتحانات الشهادات العامة.

أحيانا، وأنا فى كلية الطب، كنت أستعلها (“أستكردها”) فأُجلـِسها بجوارى، وأرغمها أن أسمّع لها بعض دروس الكيمياء الحيوية مثلا أو التشريح، وهى تصبر علىّ، و تدعو لى، وتنصت،  وأنا ماض أسمّع بالإنجليزية، وهى تبتسم، وأنا مُصِرٌّ رغم يقينى بعبثية ما أفعل.

ما الذى كان يدفعنى أن أكمل تذنيبها هكذا لوقت يتخطى وقت المداعبة العابرة؟ أحسب أننى كنت أختبر قربها، وأطمئن إلى حوار بلا ألفاظ.

ثم تأتى الوظيفة الكبرى والأهم فى علاقتها بمذاكرتنا، وهى أن تدعو لنا قبل وأثناء تأدية الامتحانات، وقد أصبح هذا الطقس مقدسا، وهو يتضاعف كلما اقترب الامتحان، ثم ينضبط توقيته بالثانية يوم الامتحان نفسه. كانت تصر على أن تعرف موعد بدء الامتحانات تحديدا حتى تنطلق الدعوات والتسبيح والابتهالات فى نفس وقت البدء، وكأنها تطلق صاروخ أرض جو، بتحديد شديد الانضباط حتى تصوّرتُ أن استجابة دعواتها لا بد أن تكون مبرمجة حتى تصل وتُسجّلُ فى الوقت المحدد لا قبله ولا بعده، وحين كان أحد أخواتى هو الذى يمتحن بينما أنا فى المنزل، أنهيت امتحانى أو لم يحن بعد، كنت ألاحظ تكرار سؤالها عن الساعة، وأحيانا تسألنى “هل يتفق موعد بداية الامتحان مع موعد توزيع الأسئلة؟، وكأن الدعوات التمهيدية شىء، والدعوات التنفيذية شىء آخر، وقد ظلت هذه الطقوس تتطور حتى صدّقتُ أنها من أهم المتغيرات المسئولة عن نجاحنا وتفوقنا أو العكس. وحين زاد هذا الاعتقاد عندى حتى كاد يصبح وسواسا يقينيا، تخلصتُ منه – ولعلى ذكرت ذلك قبلاً – فى أول ثورة شخصية قمت بها بعد تخرجى مباشرة فى سنة الامتياز، حين قررت أن أدعو الله لنفسى مباشرة وليس من خلالها أو من خلال أبى إلا إذا تطوّعا هما دون شروط  معلنة أو خفية !!.

ماذا أعطتنى أمى بالضبط؟

ولماذا لم أذكرها بالقدر الكافى فى ترحالاتى هذه،  مثلما ذكرت أبى مثلا؟

وكيف استفدتُ، أو لم أستفد من جهلها بالقراءة والكتابة؟

وهل كانت تحنو علىّ فعلا، أوعلينا بالمعنى الذى نسمع عنه فى الأغانى والأفلام؟

انتبهتْ زوجتى بعد زواجنا إلى عاطفتى نحو خالتى أكثر من أمّى، ونبّهتنى إلى ذلك، ومع هذا لم أنتبه إلا بعد وفاة والدى.

بعد وفاة والدى زاد حرصى على مشاعر أمى، وعلى الوفاء باحتياجاتها، وعلى إشعارها أن أحدا من أبنائها، وأنا أولهم، لا يصرف عليها مليما، وأنها تعيش من دخلها الشخصى، وليس حتى من خير والدى، لأن وصية والدى كانت أن تسترد ما أخذه منها باعتباره مسئولا عن الإنفاق عليها طول الوقت بالإضافة إلى ريعه طول سنين زواجهما، بالإضافة إلى إرثها الخاص. حين اطمأنت أمى تماما إلى ذلك كانت إذاقامت بإصلاح أو تجديد بالمنزل وشمّت رائحة اعتراض من أحدٍ منّا وضعت إبهاميها تحت إبطها ويداها مبسوطتان وقالت مازحة متحديّة “بفلـــوسى”، تقول ذلك وهى تهز أصابعها الثمانية على الناحيتين. ثم تضحك، فنضحك.

مرة أخرى: ماذا أعطتنى هذه العظيمة طوال سبع وخمسين عاما؟

كنت أمازحها أحيانا وأقول لها لقد ضحكتِ على أبى: قلتِ له اسبقنى وسألحقك حالا، فلمّا صدّق وذهب، رجعتِ فى كلامك، فتنهرنى وقد تنعتنى بما يَعِـّـن لها، لكننى ألمح ضحكتها العابرة وهى تحاول أن تخفيها.

منذ وفاة أبى حتى وفاتها كانت تقرأ له بعض صغار السور عددا معينا من المرّات يوميا، لعلها الصمدية، وتهبها إلى روحه، ولما اعتادت استعمال عدّاد المسبحة، أصبحت دعواتها لنا ـ ثم لأولادنا ـ أثناء الامتحانات بالعدد حسب طول الامتحان وصعوبته. وظلّ الأمر كذلك حتى أصبح أحفادها يتنافسون لإرضائها للحصول على أكبر قدر من دعواتها، وكانت زوجتى تقارن بين دعواتها لأحد أولادنا، ودعواتها لابن أخت لى، أختى هذه  لها فى قلبها موقع خاص. وكان ابنى وابن أختى فى نفس السنة الدراسية، فتلاحظ زوجتى – مازحة أو جادة – أنها إذا اقتربت منها وهى تدعو يوم امتحانهما تتمتم بصوت عال باسم “مصطفى؛ ابنى بدلا من “حازم” ابن اختى، فإذا ابتعدت زوجتى عن مجلس أمى ومسبحتها تبدلت الأسماء.

كانت أمى كثيرا ما تبرر حياتها – فى أواخر السنين -بأنها إنما تعيش حتى يمكن أن تدعو لأحد أحفادها (عادة الأصغر)، وهو يدخل امتحان الابتدائية مثلا. وقد رجّحتُ أن هذا كان مبررا كافيا لاستمرارها.

ماذا يمكن أن تعطى أم لأولادها غير أن تكون أمّا؟

أظن هذا هو ما وصلنى تماما، وتحديدا. الأم ليس لها تعريف آخر،  هى صفة قائمة بذاتها لا تحتاج إلى أن توصف بالحنان، أو بالحب، أو بالدفء، أو غير ذلك، أحيانا حين أسمع أغانى الأم أبتسم وأرفض أغلبها،  أشعر أن الأم لا تحتاج لكل هذه الأغانى والألفاظ لنتعرف على دورها أو نـُقـِرّ بفضلها.

اليوم هو عيد ميلادى، زوجتى معى. كانت معى فى البحرين، وهى تحب أصدقاءنا وصديقاتنا فى دبى، وهى مبتهجة بكل ما يبهجها، معترضة معى على كم الاغتراب الذى عانيناه فىما يشبه العلم فى مؤتمر البحرين، لكنّها لا تعلن ذلك مباشرة، لأن فضل المؤتمرات عليها هو أنها تضطرنى أحيانا إلى السفر إلى حيث لا أريد أنا وتريد هى، وبالتالى تسافر.

زوجتى تعرف أن اليوم هو عيد ميلادى، لكنّها تعرف فى نفس الوقت أنه ليس لى أدنى علاقة بهذا اليوم، بل إننى أكون أكثر حساسية فيه لدرجة رفض التهنئة ممن يعرف عنى ذلك. ولهذا شأن آخر، قد أكون قد تطرقت إليه قبلا.

فى المساء ذهبت إلى اللقاء الثقافى الذى أعدُّوه للحوار معى. كان مسجلا بالفيديو. قدّمتنى زميلتى (تلميذتى) الإماراتية د. رفيعه غباشى بما تيسّر، ووصفنى المضيف الناصرى المسلم الاشتراكى القبَلى الثرى بما ارتأى. قبيل اللقاء، فهمتُ أن مضيفى يـُرجع سبب كل المصائب التى لحقتنا، وستلحقنا، إلى خيانة السادات فى كامب ديفيد، وأن عبد الناصر هو الذى….والذى…والذى..إلخ. قلت ربنا يستر. مع ذلك قدّمنى المضيف بما تيسّر من صفات، يعتقدها فى شخصى. بعد أن قلت كلمة قصيرة عن تخصصى وما آل إليه من تراجع، تحوّل النـِّقاش إلى حوار سياسى حاد، استطعت أن أخرج منه سالما، لا أعرف كيف، لكن يبدو أن الحديث فيما هو “هنا والآن”، وعن المسئولية الفردية، والواجبات الحقيقية التى تنتظر من يحسب الأحداث بوحدات زمن أطول، ومقاييس حضارية أبقى، يبدو أن كل ذلك استطاع أن يخفف من جرعة الـشعارات، وحِدّة التشنج، وقد مرّت الليلة بسلام، وكان تعقيب مضيفى طيبا، وإن كان التعليق انصبّ على “ذكاء التخلّص” أكثر منه على محتوى ما قلت.

كان الاختلاف شديدا. ما زال عبد الناصر يمثل وعيا واعدا فى وجدانهم.

2 نوفمبر 1991 الساعــة 2 ظهراَ

وضعت سماعة التليفون وسكتّ.

قررتْ أخيرا أن تفى بوعدها الذى لم تعِد به أبدا. قررتْ أن تلحق بأبى، لماذا؟ لماذا الآن؟ أما كان يمكن أن تنتظرينى حتى أقبّـل يديك؟ لماذا وأنا مسافر؟ هل كان ينبغى علىّ ألا أسافر؟ تـُرى من كان بجوارك ساعتها؟ الحمد لله. كنت أود أن أحتويك فى هذه الحظة حتى لا ترحلين كلك وحدك، عكس شعورى لحظة فراق والدى حين خشيت أن يلبسنى هو،  هذا هو الفرق.

شكرا يا أمّى أن أعفيتِنى من اتخاذ قرار ألا يهينك هذا الذى يسمّونه “الكيمائى”، أبتْ كرامتك إلا أن تذهبين وأنت مازلت قادرة على المداعبة مثل ما كنت تفعلين ونحن حولك فى مستشفى النزهة. وأنا فى طريقى  إلى المطار. قلت لك ضاحكا : انتظرينى، لا أذكر تحديدا ما الذى جاء بذكر والدى وكأنك طلبتِ منى أن آخذ رأيه أولا.

بكيت كثيرا.  شعرت شعورا لم أفهم له مغزى، شعرت وكأنى كنت فى حاجة أن أقترب منها أكثر، أن أتعرّف عليها أكثر.  أنا بعد منتصف العقد السادس من عمرى، وهى قد ناهزت التسعين، “أتعرّف عليها ؟” الآن ؟ بعد أن استأذنت ؟ أتعرف على مـَنْ؟  كيف؟

لكن هذا هو ما خطر ببالى ولم أصرّح به لأحد أبدا حتى كتابة هذه السطور (يوليو 0002)

حين وضعتُ الهاتف، شعرتُ أن كفى اليمنى بها بعض التنميل، كأنى أمسك بليفة جافة.

أنا فى طنطا، نائم على الأرض، أظن تحتى لحاف قد طُوى مرة واحدة، وأمى ترقد بجوارى على الأرض، كان ذلك فى إحدى زياراتها القصيرة لنا فى طنطا. كانت تأتى لتزور السيد البدوى لا لتزورنا، نحن الذين كنا نذهب لزيارتها. كنا لا نزور السيد البدوى إلا حين تحضر  أمى فنذهب  معها. كنا نفرح ونحن نحك ظهرنا وهو ملتصق بجدار القِبلة الناعمة الملمس وندور مع دورانها، لم تكن قِبلة واحدة بل عدة قبلات بعدد المقامات الصغيرة التى حول مقام السيد وفى رحابه.

أنـا نائم على اللحاف المثنى ثنية واحدة، نائم على الأرض أقاوم النعاس خشية أن تتركنى أمى إذا استغرقتُ فى النوم، أمسك بضفيرتها الخشنة. أنا متصور أننى بذلك سوف أضمن ألا تتركنى بعد أن أستغرق فى النوم، وهى تستسلم منتظرة أن تتراخى يدى -نوما- لتقوم من جوارى. أشعر بحركتها الخفيفة، فأزيد من قبضة يدى على ضفيرتها وأنا أردد “إمسكو شعرك!!”، كم كان عمرى آنذاك؟ هل كنت أحسن الكلام؟ لماذا قلت إمسكو، وليس أمسِك،؟ هل بكيت وأنا أشعر أنها على وشك أن تغادرنى؟ هل قاومتُ النوم مدة أطول؟

أدرك بوضوح لا لبس فيه أن هذا الملمس الذى شعرت به فى كفى الآن بعد سماعى النبأ هو ملمس شعرها فى طنطا، على الأرض. لست أدرى لماذا كانت نومتنا على الأرض؟ أظن أن كل ما كان بالشقة هو سريرين، لنا نحن الثلاثة وأبى، وكانت إذا حضرت أمى إلينا فلا بد أن ينام بعضنا على الأرض.

كنت مازلت أرفض ذلك الشِّعر العمودى الذى قرضتُه عن المؤتمر، حتى لو كان “حلمنتيشيا” أنا لا أحب الشعر العمودى كثيرا، وإن كنت أحترمه، وخاصة أننى عاجز عن قرض إلا كل سخيف منه، ومع ذلك وجدت نفسى أخاطبها:

حنانيك يا أمى وددتُ أقـــولُهــــــــا  “وداعاَ”، وأمسك شعـرَكِ الخشنَ اللمسِ

كمـا كان يغشانى النعاس بحضنها   وأنفاسها تروى البراعم من حـــِســَّى

إلى أن قلت:

وأسرعـتِ أمـّى تـَعـْجـَلـــين لقــاءَهُ   وكـَــم كنـتُ أرجو أن أوسّـدَكِ نفسـى

وأسرعـْتِ أمـّى تـَزْهـُوين كرامـــةً،   وطفـــلك يأبى أن يُسَـــــلِّــمَ لليــــأس

لم أحب هذا الشعر، كما لم أحب شعر ذلك الخطاط المنـشد الذى كان يتردد علينا فى زفتى، كان اسمه “متولى سعده”، وأظن أنه قال فى نفسه شعرا أشبه بالفخر، على ما أذكر: “متولى سعدة الذى ما زال مرتقيا إلى المعالى وعين الله ترعاه”. أما لماذا تذكرت هذا الخطاط “متولى سعدة” بالذات الآن وأنا أرفض رثائى هذا، فلأنه قال شعرا لم أفهم لماذااستقبحته إلا الآن،. قال: ” شاءت إرادة رب الخلق خالقنا – أمى تموت ولا أحضر جنازتها

أما لماذا لم يحضر جنازتها، فلأنه كان فى مستشفى لن أذكر تخصصها.

كان الشيخ متولى هذا، والشيخ عبد العزيز المُصاب باضطراب التآزر العصبى الذى أشرت إليه سالفا من معالم طفولتنا، كنّا نشيّخ أى واحد عنده مرض عصبى أو نفسى أوعقلى أو تخلّف، أيضا كنا نشيّخ كل من يتلو بعض آيات من  القرآن حتى لو لم يحفظه كله، وأيضا من ينشد فى الموالد، كان الشيخ عبد العزيز، (بتاع البُن) لا يستطيع أن يتماسك ثابتا لأى فترة تسمح حتى بمصافحته، ومع ذلك كان الأذكى. أذكى من الشيخ متولى سعده الخطاط. مع أن الشيخ متولى كان فنانا ومُنشدا أيضا. كنت أتأمل توقيعه الصغير الجميل على لافتات بعض المحلات وأكاد أعلن للمارة أننى أعرف صاحب هذا الخط الجميل، كان إنشاده جميلا أيضا. كنا نلتف حوله فى بعض الليالى سواء فى زفتى أو حين يزورنا فى قريتنا فى الإجازة الصيفية،  يدعوه، و يسمح لنا بذلك،  لكنّه نادرا ما يشاركنا.

ما زلتُ أنكر أول مرّة أُطلقُ فيها خيالى وراء الأعداد حتى يفشل أن يتمادى فى ما لا نهاية له، كان ذلك حين أنشد الشيخ متولى سعده مديحه وهو يصلى على النبى إذْ راح يفصّل عددها كما يلى (على ما أذكر):

اللهم صل وسلم على           أحمد محمد نبى الهـُدى

عدد الحصى والثرى والرمالِ وموج البحار وقطر الندى

وعدّ كل شىء وريش الطيورِ وأنفاس خلق بطول المدى

ونحن نردد وراءه البيت الأول بعد إنشاده كل بيت.

ما هذا الشعور الغريب الذى انتابنى بعد سماع نبأ رحيل أمى وكأنى لم أكن متوقعه؟ كيف بدا لى الخبر مفاجِئا مع أننى طبيب، وعارف، ومتوقع؟!  ماهذا الشعور بالضبط، ليس حزنا فحسب،  لا أقصد شعور التنميل فى كفى أيضا، إنما شعورى بها،بأمى،  كلها.

ما معنى أنها ذهبت وأنا ما زلت فى حاجة للتعرف عليها أكثر؟ ألم تكفنى نيف وخمسون عاما لأعرف أمى؟

لماذا لم أشعر بنفس الشعور حين مات أبى وقد كنت بجواره. أشم رائحة الدقيق وقد عفّر رداءها وهى خارجة من القاعة، مع أننا لم نخبز ولم تشارك هى فى الخبير منذ ما يقرب مننصف قرن.

لماذا تتهمنى زوجتى أننى لم أحب أمى بالقدر الكافى؟

لماذا خاطبتها معاتبا فى لوم قاس وأنا أحكى ما يشبه  “السيرة الذاتية ” بحوار فى محاولتى “أغوار النفس”؟ سنة 1974 أثناء فورة تجربة مجموعة المواجهة ؟

هل كنت أحاورها أم كنت أحاور أى أم؟  الأم التي استوردتُها من أوهام الكتب؟

لماذ أسميتُ هذاالحوار بالشعر العامى : “الخلاص”؟

أنا لم أعرفها جيّدا.

خاطبتـُها فى هذه القصيدة بلغة تلك المرحلة التى كتبت فيه هذه القصيدة (1973).

كانت قناعاتى المتعجّلة المنبهرة بما نــقرأ فيما يسمونه العلم تصوِّرُ لى الأم بشكل مجرد، حتى العواطف التى يصفون بها علاقة الأم بطفلها تبينتُ مؤخرا لى أن أغلبها تجريدا وعقلنة فيما يسمونه العلم وليست غمرا دافئا لا يمكن تحديده. صورتْ لى قراءاتى أن على الأم أن “تكون” لتسمح لنا أن “نكون”. لم أكن بعد قد تجاوزت هدف الكينونة الذاتية (أكون أو لا أكون) إلى حتم الصيرورة،

لم أكتشف إلا مؤخرا أن كل ما على الأم أن تكونه، هو أن تكون أما لا أكثر ولا أقل. تكون “أُمًّا” بغض النظر عما هى لذاتها بذاتها.

ذكرت قبلا فى تجاوز مقولاتهم عن العلاقة بالأب أنه ” هل يدرك أحد علاقته بأبيه أبدا؟ هل هى قابلة للإدراك أصلا؟ ونبهت أنها “… عمليّة مستمرة،، تنتقل من جيل إلى جيل؟ نحن نتخلّق من خلال هذه العلاقة الجدلية المتصلة،  لا ينبغى أن يكون همنا أن نحلّها، أو نتصور أننا نرزح أبدا تحت وطأة  آثارها… [أنظر قبلا]  العلاقة بالأم أخطر وأبعد عن الاختزال.

رحت أقرأ قصيدة “الخلاص” بالعامية، وهى تمثل ما سبق أن تصوّرته حوارا بينى وبينها، فجعلتُ أعيد اكتشاف ظروف كتابة القصيدة فأعيد اكتشاف أمى فنفسى.

تتكرر معى حكاية رؤية الأقربين ومصاحبتهم  بعد فراقهم. هل القُـرب يُعمى هكذا؟

هل لا بد أن نبتعد حتى نرى؟ هل الإنسان لوحة تشكيلية لا بد أن تبتعد عنها ثم تقترب ثم تبتعد لكى تميّز ما هى؟

هل يسرى  هذا  على أمى ما سرى على تعرفى بالدكتور سعيد الرازقى والدكتور حلمى نمّر عقب وفاتهما؟

لم أكن أعنى أمى هذه التى ماتت حين كتبت هذا الحوار سنة 1974، ونشر سنة 1978 فى ديوان الشعر العامى الذى أردت أن أصيغ من خلاله خبرة العلاج النفسى، الفردى فالجمعى، ومن ثم خبرة التكامل. الديوان  اسمه “أغوار النفس”.

كنت أيامها ما زلت متأثرا بفكر علم النفس الإنسانى ومسألة تحقيق الذات. تصوّرت أن أمّى كانت ظلا باهتا لوالدى، وأنها لم تحضر فى وعىى – وعينا – بالقدر الكافى، لكننى أتبين الآن كم كنت مخطئا، وكم أن حضورها كان قويا وعميقا، ورغم اعتراضى الشديد على موقفها من خالتى إلا أنها كانت أمى أولا وأخيرا. كنت أحب خالتى لأن من حقها أن أحبها جدا. كانت قد ُطلّقت دون إنجاب، وكانت مظلومة وحيدة أبدا، لكن أمى كانت أمى.

كنت محظوظا كما ذكرت فى الترحال الثانى أن لى أمّين.

ترتيبى الأصغر فى الذكور، وأيضا موقعى المتوسط بين أخوَىّ (أكبر منى) وبين أختىّ (أصغر منى) ربما جعلنى هذا الترتيب  غير قريب منها، ربما جئت بعد أن استكفت ذكورا،  أسمتنى “سوزان” وألبستنى ثوب فتاة حتى لا تحسدنى عماتى الثلاث اللاتى لم تنجب أى واحدة منهن ذكرا إلا بعد ولادتى. كانت أمى كلما أنجبت ولدا أنجبت إحدى عمّاتى بنتا. كانت تنبهّنى ألا أعرى جلبابى فى الشارع، ولم أكن أفهم لماذا زوج عمّتى هو الذى حرّضنى أن أقص جلباب البنات بالمقص، كنا مازلنا فى شارع الشيخ قمر فى العباسية لم ننتقل إلى طنطا بعد، لهذا يمكن أن أستنتج السن، كان سنى أقل من أربع سنوات،.  بتحريض من زوج عمتى أحضر سكينا  وشققت فستانى من أمام، كان المطبخ مقابل حجرة الجلوس  بجوار المدخل مباشرة. حين حضر والدى لاستقبال زوج عمتى ورأى المنظر لم ينهرنى بل ضحك وقرر أن يقبل ثورتى. لا أذكر أنى لمت أمّى لهذا التصرف، ولا أذكر أن معنى لبسى هذا واسمى أنها كانت تعاملنى كفتاة. الذى ربما أذكره أننى كنت “زائدا عن العدد”. ربما.لم أكن قريبا منها، ربما. كانت هى قريبة منى أكثر مما أنا قريب منها، ربما.

بعد وفاة والدى اقتربتُ أكثر فأكثر حتى صرت الأقرب، لكن بمعنى الأب لا بمعنى الإبن.

لماذا شعرت  لحظة رحيلها أنى فى حاجة للتعرف عليها بعد ثمان وخمسين سنة من العشرة الواعية؟ لا أعرف.

حزنت حزنا شديدا.

لم تفاتحنى زوجتى فى حزنى، حـَزَنـَتْ مثلى، وربما أكثر،

حـُزْن زوجتى حقيقى وطيب وبسيط ومألوف،

حزنى لـلـفـقـد مختلف، يأتى ليحل محل حزنى الداخلى الممتد، فيختلط هذا بذاك، ويتعاظم ألمى، وتهجم علىّ علامات الاستفهام كأنها رماح مـُشرعة.

القاهرة فى 6 نوفمبر 1991

بعد عودتى: فوجئت بأن أعدادا هائلة من الزملاء والأقارب والمرضى قد واسونى فى الصحف، ثم راحوا يواسوننى بعد رجوعى مواساة لم أكن أقدّر عظيم معناها من قبل. شعرت أنهم شعروا بمشاعرى. أنا لست مجاملا إطلاقا فى مثل هذه المناسبات، كيف تفضّل الجميع، القاصى والدانى، يحيطوننى هكذا.

قرأت نعى والدتى الذى كتبه زوج أختى فى الأغلب وأسفت أسفا شديدا، هذه التى كتبوا عنها هذا النعى ليست أمى التى أعرفها، التى أحاول أن أعرفهاحتى بعد رحيلها. صحيح أنها أوصت، مازحة وجادّة، أن نكتب لها أكبر نعى ممكن، وكانت بذلك تعارض وصية أبى الذى كان يود لو أن الأمر “يقتصر على تشييع الجنازة”، لكن هذا المنشور ليس نعيا، بل إعلانا.

رجعت أنظر فى ما تصورته حوارا معها فى قصيدة “الخلاص”وأنا أذكّر نفسى أن الإبداع إبداع، وأن الشعر التعليمى هو غير الشعر التشكيلى، وأن أمى التى رحلت لم تكن أبدا هى التى حضرت فى شعرى هذا، فهذه ليست لهجتها، وهى ليست أَمّه، بل “ماما”، وهى قاهرية من الباطنية أساسا، رغم أنها شرقاوية من السعديين مركزمنيا القمح. هذه الأم فى القصيدة فلاّحة من بلدنا شكّلها خيالى واحتياجى معا .  على أفندى  حسن، والدها الذى لم تره، كان موظفا فى وزارة الأوقاف منذ قبل سنة 1910.

هل أنكرالقصيدة برمّتها؟ لا أشعر أن هذا، بالرغم من كل هذه المقدمة، هو من الأمانة التى يمكن أن تكتمل بها مصداقية هذا العمل، أعتقد أن الأم التى وردت فى هذه القصيدة هى الأم التى صنعتها فى خيالى، نتيجة لاحتياجى، وليست أمى التى كانت، التى ذهبت، ربما لهذا جاءنى هذا الشعور الغريب “إننى أريد أن أتعرّف عليها”.

عشت أنا إذن وقد خلقت لنقسى أمّا  ليست هذه التى حضرتنى بعد موتها. ياه !!

هل من السيرة الذاتية أن أذكر علاقتى بأم متخيّلة؟ ولم لا؟ أليس هذا هو ما أعلّمه لطلبتى وزملائى الأصغر حين أقول لهم إن “الحقيقة النفسية” لها نفس الدور والفاعلية مثل “الحقيقة الموضعية”؟ ليكن،

تعرّينى هذه القصيدة إذن، لا تعرّى أمى. إنها تكمل الصورة التى  تعلن أنه كان لى ثلاث أمهات لا أمين،(1)  خالتى، (2)  وأمى  التى صنعها خيالي (3) وأمى الحقيقية التى اكتشفت أنها ذهبت وأنا فأقترب من الستين،  وما زلت فى أمس الحاجة للتعرف عليها.

كم أما وأبا ُظـُلموا ونحن نعاملهم بالصورة التى صنعناها لهم، وليس بما هم؟

الغنيوة التانية  :الخلاص

– 1 –

ليه يامّه ؟ كان ليه ؟

لما انتى “مانْـتِـيشْ” كان ليه ؟

أنا ذنبى إِيه ؟

أنا مينْ ؟ أنا فينْ ؟ أنا كامْ يامّه ؟

أنا إٍيه ؟

جرى إٍيه يا ابنى يا حبة عينى،

طب ما انت أَهه !

بقى دا اسمه كلام

ما هو كله تمام

جرى إٍيه !؟

يا جدع يا أمير ياللى بتدَّى

إٍوعى تْهَدَّى

تَنَّكْ إٍدَّى

بكره تْعَدْى

ياسلام ياولَدْ

ما فى زيك حد

ماتفكَّرشى، دا الفكر مرار

ودا بير يابنى وما لوهشى قرار

بسّ يامّه لو قلتى ليه ؟  كانْ ليه؟

جرى إٍيه ؟ فيه إٍيه ؟ (كان ليه ؟كان ليه ؟) دِهْدِى !

هيَّا دى “عامْلَهْ” !

ولاّ انا قصدى يا ضنَايَـا ؟

دِهْدِىْ !!

– 2 –

علشان يامّه مش على بالِكْ

أنا حاحكيلِكْ:

أنا زرع شْطانى

ولا حدّ فْ يوم جه ورَّانى

ولا شفت ازاى أو كام أو مين

ولا حد عرَف أنا باعمل إٍيه

أو ليه أو فين

لكنى لما بقيت “هوّه”

قالوا: ياسلام

دا شبهه تمام

ما احنا عارفين كِده مِا الأول

وبنخزى العين

دا صحيح يا بنى:

أنا كنت خايفه عليك مالعين

الناس دُول شر

ما وَرًاهم يابنى إٍلا القرّ

هوّا انا كان قصدى ياضناىَ

يا حبة عينى ؟

ماتفكرشى دا الفكر مرار

ودا بير يابنى وما لوهشى قرار

ياريت يامّه كان فكر وبس

دى حاجات من جوّه وبتتحَسْ

ياما نفسى يامّه اصرخ واتـفَـشَ

“جوّا ياَ” ياَمَّا ما بْيِرْحمش

ولا ليَّه يامه فيها ذنب

ولا قادْر اختار:

ياتليَّس يامّـه ولاشوفشى

يارْجع مالأول وأَدوَّر

واحْبل واوْلد

نَفْسِى منْ أوّل  وجديد

وابدى وأَعيدْ

واتألم واصرخ من تانى لو حَدَّ سِمِع

واشرب من شهد الحِنَّيه

من وش سمِحْ

وانْ ماحصلشى  ؟؟؟

حايكون أهون من دا اللى حصل،

يعنى عاجْبِك ؟

واللّه يا ابنى مانى فاهمه

يمكن عاميه،

دى الدنيا ضلام

والناس الشر ..

لم يبطل يوم فى لسانهم قر،

ياكلوك يا ابنى لحَمه طريّه

ويقولوا “يا روحى عليه كان زين”

ليه يا ابنى كده ؟

بتعرض نفسك لِنْياَبْهم

ياكلوك يا ابنى

ويغمسوا بىّ ورحمة ابوك.

– 4 –

لأْ .. ياختى مانيش خايف منهم

أًنا مِسْتَبيَع

الدنيا بخير، وَانا مستبيع

أَنا حابقى أبويا وأُمى كمان

أَنا حابقى كتير

أنا حابقى الناس

أنا حابقى الحب

أنا حابقى “أنا”

إٍزاى ؟

ما اعرفْشْ

أنا لازم “أكون” و “أعيش”

غصبن عنهم

غصبِن عنى

غصْبِن عنَّك

غصبِنْ عنى ؟ !

وانا بـِـدّى أشوفـَـكْ سيدِ الكـلْ،

بسْ ..

ما بسّــشْ، …

ولا سيد الكل ولا ديلهمْ.

أنا حاخد حقى من عينهم.

من بسمة طفل.

أو حنية خالتى أم الخير بياعة الفجل.

أو عم على واقف يضحك وَرَا قدرة فولْ.

أو حتى نِهيق جحش العمده

أو من همسة ورقةْ ورده

من أيُّها حاجة اسمها عايشه

بِتقُول أنا اهُهْ

أنا فيَّه حياه

حا شعر بالنبضة وبالرعشة من أى كلام،

وحاعيش !

واللّه يا بنى محتاره معاك

ما تعيش

مين حيْشَكْ بس ؟

-5 –

وضحكت عليكو وعشت أهُـهْ

أنا اهه .. أنا اهه

أنا اهُـهْ دلوقتى الآن حالا،

أنا اهُـهْ.

إٍزاى دا حصل ؟

أنا ما اعرفشى

أنا اهُـهْ وخلاص،

وباغَـنّى مع نفسى بنفسى

ولاَقِيتْلىِ خلاص

15 يوليو 2000

عذرا أمّى، ظلمتُـك، وكأنى فعلتـُها وحدى، إن كنت قد فعلتـُها أصلا.

قرأت لاحقا (سبتمبر 2000) رواية “العطر”لباتريك زوسكند كما ذكرتُ من قبل، وأعدت اكتشاف مسائل كثيرة تتعلق بما سبق أن أثبته هنا من افتراضات،

ولد جان  باتيست جرينوى سفاحا من أم كانت تتخلص من أطفالها أولا بأول، وحين حاولت أن تتخلص منه عقب ولادتها مباشرة  ضُبطت، وحوكمت، وأعدمت.

أطلق غرينوى من تحت طاولة السلخ “صرخة مدروسة بدقة، ويكاد المرء أن يقول إنها صادرة عن عقل مفكر، أراد بها الوليدالجديد أن يحسم أمره ضد الحب ولصالح الحياة”، لأول وهله  يبدو هذا الاختيار مستحيلا، هل يمكن أن يكون الحب على ناحية، والحياة الناحية الأخرى؟

كان غرينوى بلا رائحة، بلا وصلة بين “لا رائحتة” ورائحة البشر، بلا :تـواجد معا”، فراح يشكّل نفسه بنفسه، يصنّع له رائحة مميِّزة،  نجحَ أن يصنع  كل ما يحقق استمراره، ونجاحه، بل ونجاته من الموت بعد أن أزهق أرواح العذارى ليحقق تصنيع “العطر الإله  البديل” (الوجود المزيف)، نجح فى أن يصنع لكل شىء أراده إلا أن تكون له رائحة مميزة، رائحة يستطيع هو أن يتحقق منها (وبها) متفردا.

وانتهت الرواية بأن الْتـَهـَمه الأوغاد “عن حب”(!!)

الـعَـدَم الذى  انتهى إليه تمّ من خلال علاقة التهامية بديلة عن التخلّق النابض بالناس ومعهم، هو النتيجة الطبيعية لهذا الزيف الخادع الذى يوهم الواحد أنه يمكن أن “يصنّع نفسه بنفسه” مستغنيا عن التواصل  الطبيعى المتخلّق من جدل العلاقة والسعى المشترك فى رحاب الحق المشترك الأعظم.

أين تقع هذه الاستطرادة من هذه المحاولة للمكاشفة؟ لو استطعتُ ألا أجيب لفعلت، لكن هذا الكتاب سوف ينشر، وسوف يقرأه الناس.

خلاصة القوله هو أنى أكتشف أننى كنت أكذب على نفسى وأنا أزعم أننى “أَنا حابقى أبويا وأُمى كمان.،  أَنا حابقى كتير، أنا حابقى الناس. أنا حابقى”أنا”. إٍزاى؟ ما اعرفْشْ. أنا لازم “أكون” و”أعيش”،

أيضا كانت ومازالت خدعة كبيرة حكاية “وحادوّرعلى نفسى بنفسى ولقيت لى خلاص”. أو فى مقولة “أنا حابقى الحب ” (!!) أليس هذا الذى قلتُه يكاد يكون مكافئا للعطر الخادع فعلا الذى كان سببا فى هلاك جرينوى. لكن ربنا ستر !!!!!

هذه الخدعة الكبرى لم أكتشفها طبعا من قراءة العطر .إن ربع قرن من الممارسة والتقليب والمراجعة قد سمح لى  أن أصل إلى ما جعلني أفهم هذا الإبداع الروائى بما ذكرتُ. أتصور أن هذا هو مدخلى لما مارسته وما أمارسه ممايسمى النقد الأدبى.

أى غرورٍ غبى، هل يمكن أن يفعلها أحٌد وحده؟

أيام كتبت هذا الكلام كنت فى بؤرة تجربة تصنيع الحياة كما كان باتيست غرينوى يصنّع العطر. لا أحد يمكن أن يبحث عن نفسه بنفسه، لا أحد يكون  الناس، إلا على حساب علاقته بالناس، لا أحد يصنّع الحب إلا إذا كان ينتحر به، لا أحد يخلّق إله زائفا إلا إذا أصبح قاتلا محترفا.

يبدو أن ما أنقذنى من هذا المصير هو  أمّى الحقيقية وزوجتى الحقيقية وأبنائى الحقيقين وطلبتى الحقيقيين ومرضاى الحقيقيين، ربما لهذا شعرت بعد ما يقرب من ستين عاما، وبعد رحيلها أننى أريد أن أتعرّف عليها، ربما لأشكرها، وربما لأعتذر لها.

كنت دائما متحيّزاً لكِ يا أمّى بشكل ما. أظن أنه لم يكن لكَ أنت تحديدا ولكن لكل ضعيف، وكل أنثى، وكل أقلية، كنت أشك دائما فى موقفى هذا، كنت أخشى دائما أن يكون موقفا هروبيا، حتى النادى الأهلى تحيّزت ضده دون أن أتحيّز للزمالك، حتى الوفد، حزب الوفد بجلالة قدره، أيام عزه، تحيّزت ضده لأنه أغلبية جدا، كنت أتصيّد له المحسوبيات التى بلا حصر، مع أنه – لأغلبيته – كانت المحسوبيات للأغلبية الوفدية.

مازلتُ أذكر أول موقف وقفناه معك فى مواجهة أبى جماعة.

لست أدرى كيف تم ذلك.

13 يوليو سنة 1950

نحتفل اليوم بعيد ميلاد أبى “الذهبى”، يبغ خمسين عاما اليوم. لم نَعْتَدْ ذلك، لست أدرى من منا نحن الثلاثة الذى طلعت فى مخه هذه الفكرة فتحققت؟ لا أعلم كيف وافق والدى عليها، لكنّه وافق، بل خيّل إلىّ أنه فرح بها بشكل أو بآخر، بل ربما هو الذى اقترحها دون أن ندرى. نحن فى الأجازة الصيفية. والدى مشغول طول النهار فى الحقل، كالعادة، والدتى مشغولة فى قاعة الفرن تعد لهذه المناسبة. طبعا لا”تورتة”، ولا شمع، ولاكلام من هذا، نحن لم نحتفل أبدا بعيد ميلاد أحد، لا صغير ولا كبير، ما الحكاية؟

والدى لم يكتب أى منّا فى يوم مولده الحقيقى. كانُ ينشّن على اليوم الذى يتفق فيه مع دخول المدارس، قبلها بشهر أوبعدها بشهر، كان دخول المدارس أول أكتوبر، فكان من يولد فى الصيف يكتبه فى أول سبتمبر أيا كان موعد مولده، وقد ولدتُ فى الثانى من نوفمبر فجاء التقريب بسيطا حيث كتبنى أول نوفمبر، فرقت يوما واحدا، لم يتغيّر برجى، لا أعرف ماذا يفعل أهل هوس الأبراج حين يكتشفون أن آباءهم سجّلوهم فى غير برجهم؟ أختاى كتبهما أبى فى يوم مولدهما مع أنهما الاثنتين ولدتا فى إبريل، يبدو أن الإسراع بتعليم البنات لم يكن يشغله،

ربما لأن أغلبنا لا يعرف عيد ميلاده الحقيقى لم نكن نحتفل بأعياد ميلادنا. وربما لأننا فلاحون لا ننتمى إلى هذا الطقس، ومع ذلك نحن نحتفل اليوم بعيد ميلاد أبى الخمسين لأول مرّة.

ربما خطر ببالى -آنذاك- أن هذا التقليد قد يعنى أننا سوف نحتفل كل خمسين عاما، لست متأكدا. ذبحتْ أمى ودسّت فى الفرن، وعملت الفطير اللازم، لا شمع ولا يحزنون. أنا وأخواى محمد وأحمد فى سرور لم يخلُ من دهشة وترقب. هل معقول أن نجتمع فى مناسبة غير مألوفة هكذا؟ وأن نعيش كل هذا الود الذى لم نعتده معا؟

فى هذا اليوم، رجع والدى بعد المغرب، والدتى ما زالت فى حجرة الفرن (قاعة الخبيز) وإذا بحريقة تندلع، لم تسرِ النار فى الحطب أعلى السطح ولا داخل قاعة الفرن، لكن صوت والدى كان أكثر دويا من قنابل 1948 على القاهرة، ماذا حدث بالضبط؟ لا أحد يدرى، كنا فى الطابق الثالث، نظرنا من الشرفة عن بعد حتى لا يرانا والدى، فلم نسمع سوى صوت والدنا وهو ما زال يدوى وهو ويلعن ويسب، ثم ساد الصمت فجأة. المفاجأة أكبر من أى تصوّر محتمل، تسحّب أخى الأكبر إلى قاعة الفرن بعد أن دخل والدى الطابق الثانى دون الثالث حيث ننتظره.

انتهى الحفل قبل أن يبدأ. وجد أخى والدتى تبكى بحرقة، وهى كثيرا ما تبكى، لكن بدون حرقة. كانت متألّمة جدا، كانت ما زالت تلبس ملابس العمل المنزلى، أو بتعبير أدق: ملابس الفـُـرن، الملابس سوداء والدقيق عليها لا يتميزعن التراب. شعرها المجعد يبرز من تحت منديل الرأس الممزق من ناحية، وهى تبكى بحرقة أكثر. صوتها مكتوم ونشيجها متقطع. عاد أخى وأخبرنا أن والدى لم يعجبه هذا المنظر الذى كانت فيه، ربما كان يتصوّر أنه كان عليها أن تنتهى، و”تغيّر” قبل قدومه. فثار وسب ولعن حين لم يجدها كما تصوّر، واندلعت الحريق. لم نَعْتَدْ من والدى أن تنتظره أمى كما نسمع عن الأزواج الذين يطلبون ذلك، والزوجات اللاتى يقمن بذلك. ماذا حصل هذا اليوم بالذات؟ هل هاج جُوعه فجأة فى مناسبة لمْ يعتدْها؟ هل تصوّر لأول مرّة أنه يمكن أن يجد فى انتظاره من يراه بصورة أخرى، شخصا (أو طفلا) له عيد ميلاد؟

والدى فقد والده وهو فى سن الثانية عشر تقريبا، ربّته جدتى التى كان يتردد وصفها بأنها “كانت فى صرامة الرجال”. فى بعض الشجارات العائلية كان والدى يعايـَرُ بأنه “تربية امرأة”، أو “ابن حسيبة، حتى سمعتـُهُ يرد على هذا الاتهام مرّة وهو يكرر بيتا من الشعر يقول “ولو كان الرجال كمثل هذى: لفُضِّـلت النساء على الرجال”. أيضاً كان يذكّـر مهاجمية أن القمر مذكر والشمس مؤنث.

هل تجرأ والدى  أخيرا، بمناسبة عيد ميلاده هذا،  أن يعىَ بأى درجة مدى حاجته إلى أم جميلة تنتظره طفلا، فلما لم يجد والدتى فى هكذا، كان ما كان؟

هل كان يعانى من الجوع الذى خصّصت له فصلا بأكمله فيما يتعلق بشخصى فى هذا الترحال الثالث؟ فلما هاجت عليه طفولته فى هذا اليوم الذى لم تكن له سابقة، والذى لم يبدُ لأى واحد أنه يمكن أن يتكرر قبل خمسين سنة أخرى؟ هاجت عليه طفولته فلم يجد من “يراه” و”ينتظره” (طفلا له عيد ميلاد) فكان ما كان.

لأول مرة (و لآخر مرة على ما أذكر) عقدنا العزم نحن الثلاثة أن نذهب ونحتج وجها لوجه على ما فعله أبى. لا نعرف كيف فعلناها وخصوصا أخى الأكبر أحمد”.

أخى “أحمد”أكبر منى بـست سنوات، وهو الذى تلقّى من أبى أكبر قدر من التأديب والتجريب (ليصبح قدوة لنا: أنجُ سعد فقد هلك سعيد – هذا ما اعترف به أبى وسبق الإشارة إليه)، لست أعرف كيف تجرأ أخى هذا بكل هذا التاريخ أن يتقدّمنا لنحتج على ما فعله أبى بأمى  وجها لوجه،

الأعجب من ذلك أن أبى كان متأثرا وكاد يعتذر، أذكر مما قاله أنه الآن قد اطمأن عليها، لأنه كان طول عمره مشغولا أنه ليس لها أب ولا أخ، والآن يشعر أننا نقوم بهذا الدعم الذى تحتاجه أمى فعلا، وعلى الرغم من أن تصريحه هذا لم يتكرر بعد ذلك، وأن موقفه هذا كان غريبا علينا جدا، إلا أنه بدا صادقا، وإن كنت لا أذكر إلى أى مدى صدّقتــه يومها.

مرّ ذلك اليوم دون احتفال رغم كل هذه المفاجآت والاعتذار والنشيج.

فى يوم ما سنة 1961:

أعلنت تحيزى لأمى ولبنت أختى فى مناسبة لاحقة، ربما سنة 1961، مناسبة من المناسبات التى كان يفرضها أبى علينا حين تهيج تطلعاته الطبقية، كان زوج أختى ضابطا فى البوليس، وأخذ ترقية مهمّة (ربما لرتبة مقدم) وكان والـدى يقيم عندى مؤقتا لسبب لا أذكره، لعله سببٌ صحّى. كنت قد تزوجت، وتخصصت فى الأمراض الباطنية، وفي طريقى للتخصص فى الأمراض النفسية. طلب منى  والدى أن أدعو العائلة فى بيتى لنحتفل بهذه المناسبة، وقال يومها شعرا متواضعا (سخيفا فى الأغلب) لم أحب شعره أبدا كما لم أحب شعرى  وأكثر، لاأذكر الكلمات تحديدا، لكنه كان يبدأ بتكرار كنية زوج أختى باسم ابنه الأكبر خالد: “أبا خالد فيك كذا وكيت، أبا خالد أنت كذا وكيت..”، لعل والدى كان يحلم بباشويةٍ ما. باشوية يحصل عليها زوج ابنته- فى الخيال- إذا ما وصل إلى رتبة اللواء مثلما كان الحال فى العهد القديم رغم أن الأمور كانت قد تغيّرت وألغيت الألقاب وكذا وكيت، لكن القوانين الداخلية لمن هو فى موقف والدى لا بد أن  تعتبر إلغاء الألقاب عملا “غير دستورى”،

أفهم هذا التناقض أبدا. أبى الزاهد المتقشف يختار أن نسكن فى مصر الجديدة لنتشبه بالذوات، دون  مصروف أولاد الذوات. ويعترض  على زواج  أخى الأكبر من ابنة أخته متهما زوج عمّتى أنه يقتل فى أخى الطُّموح مع أنه هو الذى خطبها له ، لكنّه لم يستطيع أن يتراجع بعد أن لاح له (فى الحلم طبعا) أن أخى يمكن أن  يكون “وزيرا أو كالوزير”، وليس مجرد”عبد البصير” (كناية عن الشخص العادى)،

غاظنى شعره وهو يمجد زوج أختى “أبا خالد” دون ذكر  اسم شقيقته “نهى” ولو بإشارة محدودة، رددتُ على شعر أبى فى هذه المناسبة بكلام منظوم، أسخف مما قال. وذكرتُ فى ذلك أمى من نفس موقف التحيّز للضغيف. أذكر أننى بدأت بالمعارضة مباشرة مخاطبا زوج أختى بتكنيته بابنته “نهى” وليس ببكريه خالد، قلت (على ما أذكر- دون أن أنسى رشوة والدى):

“أبو نهى أبو نهى ربى يديم لنا جدّها، إشمعنى هية اللى ما جاش فى شعر بابا ذكرها، إشمعنى يعنى عشان بِـنيّة ولا يعنى اكمنّها جتْ بعد خالد، بس قولّى هوّا أحسن منّها؟”

ثم ذكرت أمى

” وماما تاخد حقها زى نُهى ما ادّيت لها.. هى صحيح كان نفسها تمسك ربابة تقول بها، تشعِر لكن أنا عنّها راح اترجم اللى ف قلبها….إلخ “-

كان ضعف أمى رائعا، فتعلّمت منها قوة الضعف دون مسكنة.

ربما لهذا احترمت وفهمت قوة وذكاء  الست أمينة، ولم أكره “سى السيد”

25 يوليو 2000

شاركت اليوم فى برنامج على الهواء على قناة النيل للمنوعات تديره سلمى الشماع، وكان الضيوف معى هم فريدة الشوباشى الصحفية، وصلاح عيسى اليسارى سابقا : رئيس تحرير القاهرة، تلك المجلة الثقافية التى حُدّثت مؤخرا لتقول شيئا جديدا.كان الموقف غريبا جدا حيث كنت المدافع الوحيد عن المعنى الإيجابى وراء حضور “سى السيد” القوى فى وعى كل من حوله، وأنه لم يكن متناقضا بقدر ما كان إنسانا متكاملا متناسبا مع عصره، له حضوراته المتنوعة فى دوائره المختلفة، دائرة الأسرة، ودائرة اللهو، ودائرة الأصدقاء والسياسة، وكذا وكيت. العجيب أن معظم استطلاعات الآراء فى الشارع وأيضا المكالمات الهاتفية التى تلقاها البرنامج كانت فى جانب رأى، والأعجب أن المشاركين الثلاثة فى الندوة خلطوا بين التسلط السياسى والحضور الأبوى الواضح المحدد المعالم فى الأسرة، ولم يستطع أى من الضيوف أو المذيعة أن يستوعب فكرة تعدد الذوات وتجلى كل ذات بالتبادل فالتكامل فى مجالها المناسب لها.

أخذتُ على سى السيد مأخذا أساسيا واحدا كما أشفقت عليه من زاوية بذاتها. أخذت عليه أننى حتى لو احترمت كل تجليات حضوره، وعذرتُه، وفهمتُه، فإننى لم أستشعر أبدا أنه “يحترم زوجته”. تكلمتُ عن الاحترام كقيمة لا يصلح الحب إلا بها.

أما شفقتى على “سى السيد” فكانت لأنه بهذا الإلغاء الذى مارسه مع الست أمينة، حرم نفسه من أن يشعر أنها تختاره باستمرار بشكل متجدد، الأمرالذى اضطره أن يروى هذه الحاجة من مصدر خارجى يؤكد له أنه “مرغوب فيه”.الرجل يحتاج أن “يُرى” و “يُطلب” باختيار حر. هذا أساس كل شىء (والمرأة كذلك).

هل كنت أتحدث عنه أم عنى أم عن أبى أم عن أمى؟

قبيل بداية عام 2000 حين استطلعوا رأيى فى روزاليوسف (على ماأذكر) عن أهم سيدات القرن العشرين بمناسبة الاحتفال الخطأ ببداية الألفية الثالثة ذكرت أسماء ثلاثة سيدات: أمى، والست أمينة، وأم نجيب محفوظ.

هل هذا يوضح علاقتى بأمى؟

أنا أعلّم طلبتى وزملائى الآن ألا يكونوا لمرضاهم آباء فقط، أقول لهم لاتصدقوا فرويد هكذا جدا، ليس عالمنا أبوى كما صوّره، فمريضنا يحتاج إلى أم وأب، وأى معالج حاذق، بغض النظر عمّا إذا كان رجلا أو امرأة، يستطيع أن يكون أبا وأما معا، بل ينبغى أن يكون كذلك. وإلا…

أدّعى أننى أمارس الأمومة فى مهنتى بنفس كفاءة ممارستى لدور الأب الذى يغلب على ظاهرى معظم الوقت.

حين أسمع شيخى محفوظ يتحدث عن أمه التى كانت تصحبه فى بداية هذا القرن، والتى كانت تهوى المتحف المصرى، والتى كانت تقف أمام مومياء بذاتها تتأمل، وتجعله يتأمل، أحترم تجربته، وأتعلم من عاطفته نحوها، لكننى أتذكر أمى وأقارن مقارنة أخرج منها بتقدير كبيرلأمى أيضا ودائما.

تذكرتك يا أمى وأنت تضحكين وأنا ذاهب معك للشهر العقارى لتعملى لى توكيلا عاما، وأنت لاتعرفين كيف ترسمين اسمك، كما تذكرت كيف أن والدى حكى لنا أنه أحضرلك فى بداية حياتكما مدرسة لتعلّمك القراءة والكتابة، فتحايلتِ حتى توقفتْ، كنت تغارين منها كما تصورتُ وألمحتِ.

تهمسين لى بما يضحكنى ونحن فى الشهرالعقارى، وأنتِ على وشك البصم دون شعور بالنقص أو الخجل، أنافخور بك يا أمى. أوصلتِ لنا ما جعلنا جميعا هكذا لمجرد أنك أمنا ، هكذا.

أتعرّف عليك الآن أكثر، وأفهم الآن معنى كيف أننى حين وصلنى نبأ رحيلك وأنا مرتحل فى بلاد الله لخلق الله ملأنى شعور بفوات الفرصة أن أتعرف عليك أكثر فأكثر،

لا لم تفتنى الفرصة.

هأنذا أتعرف عليكِ الآن،  الحمد لله،

لا أحد يموت.

القصيدة التى كتبتُها أعاتبك فيها لم تكن لك أنتِ.،

كنتِ الجانب الطيب فيها دون غيره.

لم أكن أعرفك.  كنت أعرف احتياجاتى أكثر من عطائك.

ما زلت أريد أن أعرفك. أن أتعرّف عليك أكثر،

أن أرد لك جميلك فى أولادى الذين تعرفين أنهم بلا حصر.

أنتِ الوحيدة التى يمكن أن تصدقنى.

وأنا أُشهدك على ذلك.

 

الفصل الرابع

الفصل التاسع عشر: من الترحالات الثلاثة

 وهْــلُ المِـرآة

أقلب عيونى ولاّ ابص فى المرايه؟

……………..

أنا لَوْ أبص فى المرايه حَاشُوف “خيال،

إيدُه اليمين إٍيدى الشمال.

وَاقِف بِعيد وَرَا الإزاز.

وَاجِى أقرب للمراية التقى برْد الجمادْ.

وِشَّى يِبطـط، والنـَّفَـس بِيغطى تقاسيمه

كما جبل السحاب قُدام قمر مظلم حزين.

…………..

15 يوليو  2000

“إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”،

فى رحلتى مع النفّرى مؤخرا عرفت نوعا من الترحال غير كل ما عرفت، لا هو ترحال فى الأرض، ولا هو ترحال فى النفس، هو ترحال آخر بين الذوات كلها حالة كونها نبضا حيويا متكاملا لا وصاية عليها من جسد منسلخ أو عقل مستقـل،

إلا أن اتساع الرؤية يترتب عليه أمر آخر غير ضيق العبارة قصورا عن الإلمام بالرؤية أو استغناء عن وصفها، يترتب على هذا وذاك وحدة قاسية أوّلا، متعالية أحيانا، ثم راضية محيطة خلاّقة أبداً.

مررت بأغلب هذه المراحل فى ترحالى الشخصى والمهنى والعلمى.

هذا الفصل هو ترحال آخر. آن الأوان أن أعرض صورتى فى مرآتى من واقع ما مررت به من خبرات، وما حاولته مع نفسى أسوة بما حاولته معهم.

لست أدرى لو أننى لم أمتهن هذه المهنة، هل كانت ستصلنى رؤية ما وصلت إليه سواء فى نفسى أو فى غيرى؟ أنبهر بلا حدود حين أقرأ أدبا يرتحل فيه صاحبنا بنا داخل النفس الإنسانية أبعد وأكثر غورا مما يعرف علماء النفس والطب النفسى جميعا، أعتبر نفسى أكثرحظا من هؤلاء المختصين لأننى أنهل من رؤية الأدباء أولا لأكملها بما يقولون. أعتبر نفسى أقل فرصة من أى أديب إذا أردت أن أترجم ما رأيت إلى لغتهم، لكن لغة الأدب أسعفتنى أكثر من لغة العلم القح، فلجأت إلى كل ما عنّ لى آملا أن يكمل بعضه بعضا كما توحى هذه المحاولات لجمع ما تناثر.

كتبت عن هذا الموقف لمولانا النفرى

الاثنين 16 يوليو 2000

أمس، سألتنى ابنتى الصغرى” مى”  إن كنت سوف أسافر إلى مارينا هذا الأسبوع، لأنها تريد أن تصطحب حماتها، رددت عليها مايفيد أننى لن أغادر “ركنى الجديد” هذا العام، وليس فقط هذاالأسبوع، لم أعد أطيق مجتمع مارينا هذا، طلبت منها أن تسأل أمها قبل أن ترتبط  باستضافة أحد فقالت إن أمها مسافرة غدا، وتصوّرت أنها سوف تسافر إلى الشرقية تزور أختها كما اعتادت كل بضعة أشهر، كلما اشتدت عليها وحدتها، أو ضاقت بى وبسخافاتى، لكنّ ابنتى أخبرتنى ـ بعد أن تعجبتْ قليلا لجهلى بالخبر ـ بأن أمها  سوف تسافر إلى كوالالامبور ومالى مع مصطفى،ابنى الأصغر. نعم؟ نعم؟ كوالا ماذا؟ لم أفهم، لم أرفض، لم أعد فى موقع أسمح لنفسى فيه  بممارسة الرفض، أى رفض.إذن فقد كانت دعوة ابنى لهذا السفر منذ أيام جِد فى جد.

أنا لم أر زوجتى منذ أكثر من شهر إلا فى الندوة الثقافية التى عقدتها فى ركنى الجديد، حضرتْ أول الشهر مثلها مثل آخرين،يبدو أنها  فرحت باستقلالها الذى فرضتُه عليها  حين استسلمتْ لعزلتى من ناحية، ولأنها تقرر لنفسها أخيرا ولا تستأذننى. أرسلت لها مع ابنتى معونة مادية مناسبة لزوم السفر. هاتفتها متمنيا لها رحلة طيبة، وأن تحافظ فى مشيتها لظروف ألمّت بها أخيرا.

ما زلت فى انتظارها بعد أربعين عاما من الزواجٍ الذى لم يستسلم أبدا لما هو زواج.

لم أكن أتصوّر أن هذا يمكن أن يحدث، ليس فقط فى أسرتى، وإنما فى أى أسرة ولأى ظرف، هذا الشاب، مصطفى، ابنى الذى لا أعرفه، هو فى بداية حياته، يسافر ثلاث مرات خلال عام وبعض عام إلى نفس المكان،فى أقصى الدنيا،  لمجرد أنه جميل، من أين له بالنقود؟ صحيح أنه يكسب أحيانا من قيامه لبعض أقاربه بتنفيد بعض ما يسمّى الهندسة الداخلية (مع أنه طبيب نفسى على ما أذكر) لكن هل يكفى هذا المكسب؟ هل يمكن أن يموّل كل هذه الرحلات، زوجته حامل فى الشهر السادس أو السابع، كيف أطاعته؟ ثم هو يأخذ أمه هكذا، فيحمل الاثنين معا ويدور بهما يفرّجهما على الجمال !، أى متعة وأى حركة؟ أى إلحاح بالحركة؟ السفر وحده إلى هناك يستغرق أربع عشرة ساعة، تذكرت بلا مناسبة التاريخ  النفسى الإيجابى لعائلتى، والسلبى أيضا. قلت إن هذا النوع من التصرفات هودليل جديد على شغفنا بما هو غير مألوف، هو نوع من ممارسة الإبداع اليومى كما أحب أن أسميه، على أى حال، أن يسافرأفضل من أن يمرض أو..الله أعلم. مالى أنا؟ رافقتهم السلامة. لكن لا.

رؤيتى ترهقنى وأنا أقول: لا.

لم أعد فى موقع أنفذ فيه ما يترتب على ما هو نعم” أو “لا” كما اعتدت سابقا. كل ما أملكه الآن هو أن أقول أيا منهما. ولنفسى غالبا. هذا نوع من الحرية لم أعتده.

15/9/1980

يــاليتنى طفوتُ دونَ وزْنِ

ياليتنى عبرتُ نهرَ الحزنِ

من غير أن يبتلَّ طرْفى فَرَقَا

ياليت ليلى ما انجلَى،

ولا عرفتُ شفرة الرموِز والأجنّة

هذه الأمانى تتكرر كثيرا، كانت تتكرر بألم صريح، وإن كان عدم تحقيق هذه الأمنية هو نوع من أنواع نِعَم الله على العبد الفقير إليه “أنا”.

لو أننى خُيرتُ بين أن أرى ما رأىت، وبين أن أواصل حياتى بدرجة من العمى (التطنيش بالعامية، والطنبلة بالعربية) لاخترت الرؤية. ثمنها غال، وهى تستأهل. الرؤية. هى رحلة بلا نهاية. بمجرد أن تجد نفسك فيها إن واتتك الشجاعة، ترحل إلى ما لا تعرف. لتعرف ما تقدر عليه، وما لا تقدر عليه، وفى كلٍّ روعة.

ما فائدة أن يسافر ابنى إلى نفس المكان كل هذه المرات؟ الجرعة المنشِّطة هى مناسِبة ومفيدة، لكن الجديد جديد. لماذا لا يجرؤ أن يهاجر إلى ما ليس كذلك؟ ما زلت أتصفح القصيدة التى اقتطفت منها المقتطف السابق. اسمها: “صليل”. عثرت عليها فيما قلّبت من أوراق وأنا أعيد ترتيب المكتبة،

إِى هجرة الطيورْ

فى الشاطئ المهجور ْ

عفواً فعلْتـــُهاَ…

مم يهرب إبنى هذا باستمرار هكذا؟، كان يريد أن أصحبهما إلى ذلك الشرق الأقصى، أنا متأكد أنه كان جادا فى ذلك. اعتدت هذا الموقف منه، ومن أخيه، ومنى. كلما رأى أحدنا جميلا، أو اكتشف جديدا تمنى أن العالم كله يرى رؤيته، يراه معه، يتمتع به فى صحبته أو وحده، تذكرتُ تحذيره لى أن الله سيعاقب من فى مقدوره – ماديا – أن يزور هذا المكان ولا يزوره، وابتسمتُ

الموال الذى ذكرته فى الفصل الأول فى الترحال الأول يعود يتردد،ثم يتحوّر  قائلا” اللى معاه مال يزور “كوالا”، واللى بلا مال، يموت قليل الجمال، والسبب “كوالا”، (“كوالا”: إسم الدلع لـ “كوالا لا مبور).

ليس إلى هذا الحد ولا بهذه الصورة يكون الهرب،

إبنى هذا رغم أنه لا يعمل قريبا منى فى عملى الخاص،  ولا عملى الرسمى إلا مصادفة  (مع أنه مدرس مساعد فى نفس القسم) يريد أن يصحبنى فى هذه الرحلة وهو الذى لم يصحبنى أبدا طوال عمره.  أربع وثلاثين عاما.  هل تغير؟ هل قرر أخيرا  أن يتعرّف علىّ كما أحاول أن أتعرف على أمى حتى بعد رحيلها؟ لم ترحل أمى. ولا أبي. مصطفى يريد أن يحملنى أنا وأمه كل هذه المسافة لمجرد أن يرينا شيئا جميلا؟ مع أنه هنا  لا يصاحبنى فى أى نشاط حر مختار.

منذ حوالى عشرة أسابيع دعوت الأطباء زملائى وطلبتى فى المستشفى إلى العين السخنة احتفالا بالجلاء عن جنوب لبنان. دعوت ابنى هذا – على الأقل بصفته زميلا – أن يشاركنا فرحتنا وأنا غير متأكد إن كان قد فرح لهذا الحدث كما ينبغى أم لا. حضر إلى البحرالأحمر لمدة نصف ساعة أو ساعة، أشفقت على زوجته وبطنها أمامها من هذا السفر هكذا لمجرد إرضائى وليس للمشاركة فى الفرحة. مرّ على ذلك شهران ثم ها هو يجرجرها إلى أقصى الدنيا، الحمد لله أننى لم أصل إلى هذا الحد، هل هو يهـرب فعلا؟

هل الهرب ممكن أصلا؟

من حق أى إنسان أن يهرب. من حقه أن يهرب حتى إلى مهرب آخر يعده بأمان آخر، إلى متى؟

يا ترى هل سيحل ابنى مشكلته، ولو مؤقتا، بهذه الأيام الثمانى التى سيقضى أغلبها فى الطائرة وهو يعين أمه حيناً ثم يسند زوجته الحامل أحيانا، لماذا؟ لماذا ما دام هو بكل هذه الجسارة والمغامرة يُـرعب من حضور، مجرد حضور الندوة الثقافية؟ لماذا يصر أن يرينى جمال ماليزيا، ولايرضى أن أريــَــهُ جمال صراحة وشجاعة جارودى أو صدق كارل بوبر أو عمق باتريك زوسكند؟

حين عاد فى المرة الأولى من رحلة الشرق الأقصى هذه، تلك المرة التى أسماها رحلة شهر العسل (أنا لا أحب هذا الاسم) كان من بين ما حكى (سمعتُه مصادفة، فهو نادرا ما يحكى معى) أنهم هناك مهذبون جدا، أمناء جدا، ويعبدون الأصنام، وأن التماثيل الأصنام تكمن فى بيوتهم وهم يصلون لها، ويسجدون لها، ولم أنبهه أن يفكرفيما يقول لعله ينتقل إلى ما يستحق، أقدّر خوفه، وأنتظرمغامرته.

هل يستطيع مصطفى أن يفعلها وهو يكتفى بهذه الاختراقات الخارجية؟

هل يستطيع أن يتجاوز الدفاعات الدينية التى حدّت من اندفاعاته الكشفية والإبداعية وسهّلت له  نسيان من ليس كذلك؟  هل يمكن أن ينتقل من هذا الحل الدفاعى،وبه إلى إيمان يريه هذه الأصنام من موقع آخر؟ لماذا لا يحضر الندوات الثقافية؟ هى ليست ندوات تماما، نحن لانتبادل فيها الآراء، وإنما نحاول أن نغامر بالكشف المعرفى مثلما نحاول بالممارسة والسفر. من ذا الذى يستطيع؟

يتناقص عدد المترددين على ندوتنا هذه لكنها لاتتوقف.

لا أحد يحضرها من أولادى إلا محمد. لا أظن أنه يحضرها بصفته ابنى.

وأنا؟ ماذا؟ وكيف؟

حين كنت أقلّب فى الأوراق بحثا عن الفصل الضائع اضطررت أن أرى كثيرا من هذه المحاولات المتواصلة التى لم تنشر، والتى كنت فيها أغامر برحلاتٍ إلى الداخل، لم أكن أنظر فى الداخل (استبطانا) وإنما فى “المرآة”. مرآتى قد تكون أنا “الآخر”،وقد تكون هو، أو هى، أو هم. وأحيانا أسمح ببعض صرخات الألم، واستغاثات الرؤية.

لا شىء يحميك من الجديد إذا كنت جادا فى البحث عنه. لا شروط فى البحث إلا امتلاك الحد الأدنى من الأدوات وهو: إن كل شىء جائز.

. أحيانا تعكس مرآتى نفسى، وأحيانا أرى فيها، من خلالى، صور غيرى.

تحضرنى مرايا طه حسين، وكيف قرأها جابر عصفور ،فتجلت له منها ما تجلّى.

فى الفصل قبل السابق  كنت أعرض بعض جوعى وتعمّدت ألا أعرُج إلى جوع من حولى ممن أحبهم. لا أريد أن أعرّيهم حتى  أمام نفسى.

كل ولادة جديد هى موت حتمى قبلا، وحتما، أحيانا يكون الفصل بين الموت والولادة غير منظور. لا ضمان.

يا رعبـَها ولادةٌ كموت ْ

…يا سعد من لم يحملِ الأمانهْ

ياويل من صَاحَبَهَا: فى خِدْرِهَا،

أو عاش ملتفّا بها، وحولها.

صحيحٌ أن الشعر كذب يصل أحيانا إلى حد البجاحة. أنا لا أرضى أن أتنازل عن حمل الأمانة، روعة الوجود بعمق؟ خطورة الرؤية لا تقتصرعلى الرعب المصاحِب للكشف والتعرّى، وإنما على ما تزيحه من طاقة فى نفس الوقت. أن تملك طاقة دافعة إلى ما لا تعرف حين تلوح “القدرة”مرتبطة بـ “الرؤية” يقترب الوجود من إمكانية الخلق.

…يا مِقْوَدَ الزمان لا تُطْلقنى.

ثقيلةٌ ومرعبة:

قولةٌ “كن”.

لوكَانَ: بتُّ بائسا.

لو كان: طرتُ نَوْرَسَا.

لو كَانَ درتُ حول نفسى عَدَمَا.

لا أعرف من ذا الذى يستطيع أن يحملها. حين قرأت النفّرى مستلهِماً، و سجّلتُ ذلك فيما ينشر لى حاليا من أعمال أرجو أن تتكامل، ليس مهما أن تكتمل،  كان من أوضح ما رفضت هو حكاية “قولةُ “كن” هذه” التى فرح بها ذلك الشاب المثابر زميلى فى ا ستلهام النفّرى”إيهاب الخراط”، لا أحتمل قولة “كن”. لا أريدها. أنا أغامر لأكون فأغامر من جديد.  لا يفرحنى أصدرأمرالكينونة،  فيكون ما أريد.

حين تترجح بين التحليق نورسا، والفناء عدما، ثم تتوقف عند الحزن بؤسا، فأنت تملكها بروعتها، ورعبها، وقدرتها، وعمقها.

أفرغتُ كأسى فانصهرتُ جَــذلا

ورحتُ أرضعُ الضياءَ أرتوي

أشيّد الكلامَ والبشرْ

أنهيت قصيدة “رسالة من دون كيشوت” من قبل فى نفس الاتجاه،

كنت أيضا أنظر فى مرآتى، قائلا إنه:

“وبرغم واقعنا الغبى،

ينمو البشر فى ملعبى”.

كنت هنا أكثر تواضعا من حكاية “يـشِّيد الكلام والبشر”. يبدوأننى كنت أكثرجسارة، أى أكثرعمى. لم أكن حينذاك، ونحن فى عمق التجربة  إياها أرفض قولة “كُن”.

كان أحد أصدقائى المرضى على خلاف شديد مع زوجته. كان يعدد عيوبها وكذا وكيت، وحين كنت أنبهه وأساعدهما ونحاول أن يغيّرها وهو يتغير، كان يردعلىّ أنه يريد “واحدة جاهزة”، لا “تفصيل”. هكذا كانت أوهامى أن تكون الحياة ملعبا  أشيدّ فيه الكلام والبشر؟ ثم هأنذا أكتفى بأن أحاول إتقان اللعب لا أكثر.

عندك حق يا مصطفى يا إبنى، عندك حق حين هربتَ منى حتى لا أشيّدك. أول ما تفتّحت عيناك لتتعرف علىّ كنت فى عز التجربة، كان عمرك  سبع سنوات. لا أعتذر لك، ولا أعذرك، أكتفى بأن أدعو لك. خلّ بالك من أمك يا بنى. رافقتكم السلامة.

سوف أنزل الآن بعد خمس سنوات تقريبا من التوقف، لأمشى مشيا “فوارا” مع مرضاى  أختبر فيه ركبتىّ بعد سنين من التوقف (لم أكن أعرف أن ترجمة Brisk” هى “فوار أو نشط”، كنت أترجم Brisk Walking إلى “مشيا قويا”، لكنّه مشى فوّار فعلا”.

مازال أمامى نصف ساعة، وقد قدّرت أن أخفف من جرعة أبعاد “الرؤية” التى هى موضوع هذا الفصل، فأقتطف صورة تتكرر فى وعيى كلما عرجت إلى “آلام الرؤية هكذا “. قلت إننى لم أرصد، ولا أستطيع أن أرصد تلك التجربة (73/1974) كما حدثت، فتحايلت عليها وكتبت بعضها فى الجزء الثانى من روايتى “المشى على الصراط” وأسميته ” مدرسة العراة”، كما صوّرت البعض الآخر من خلال تشكيل  للغة  التى وصلتنى من العيون التى  رحلت فيما ما استطعت.  الصورة التى جاءتنى الآن والتى تدل على روح هذا الفصل كله مما أسميته “آلام الرؤىة” هى صورة قريبة منى جدا، لا يفهمها إلا فلاح عاش أيام كان أغلب الرى بالحلزونة (أوالساقية)، وكان الذى يلف الساقية بقرة على رقبتها ناف (فرع شجرة رفيع مستقيم وطويل) يدور وطرفه الآخر مثبت فى محور بالمركز، وعيون البقرة فوقها غطاء (غُمى) حتى تظن أنها تسير لا تلف. ثم تفك هذه البقرة، ويرفع الغمى من على رأسها، وتربط فى شجرة (توت فى العادة) بجوار الساقية لتحل محلها أخرى حتى تستريح، وهكذا.

تقول هذه العيون وهى مربوطة فى الشجرة بعد كانت تدور معصوبة العينين

أنا كنت بالِف ومش دارية،كان لازْمِـتـُه إيه؟

بتشيلوا الغـُمَا من على عينى وتفكّونى ليه؟

علشان ارتاح؟

هيّه دى راحة إنى أشوف ده؟

لو حتَّى لبست الغُمى تانى ماانا برضه حاشوفْ.

وساعتها ياناس:مش حاقدر الفْ.

ما هولازم الواحد مايشوفشى لو كان حايلف.

الله يسامحكمْ.

دلوقتى:

لاانا قادرة ارتاحْ،

ولاقادرة ألفْ.

لاالدِّمْـعَةْ بتنزلْ،

ولاراضية تجفْ.

الساعة 7.30 صباح  الاثنين 16 يوليو 2000

عائد لتوى الآن من المشى الفوّار مع مرضاى، أخذتُ وابلا دافئا جدا (حلوة “وابلا” هذه، يعنى “دش”)، ياه !! خمس سنوات أو تزيد لم أسِر هكذا، مع مرضاى، أنا أحبهم كثيرا، فضلهم علىّ، مدين أنا لهم. يا تـُـرى هل سيشعر ابنى المسافراليوم مع أمه وزوجه الحامل بهذا الشعور؟ إن كان هو يريدنى – صادقا – أن أتمتع بما تمتع به، فأنا أريده أن يشعر شعورى الآن، بل إنى أريد القارئ أن يشعر شعورى الآن، شعور بسيط، أبسط من أى شىء تتصورنه، ليس شعورا بالسعادة، ولابالرضا، ولا بالحب، ولا بالفخر، ولا بالفرح، ولا بالبهجة، ولا بالتفوق، ولا بالتقدير، هو شعور بالحياة، أو شعور فقط.. هل تتصور أننى أشك أن الناس تمارس شعورها هذا أصلا، لماذا نصر أن نسميه باسم لاحق، كما نصر أن نصف الأمومة بصفة هى أقل من الأمومة مهما بدت طيبة أو جميلة كما ذكرت آنفا.

أكتشف الآن أن الصفة قد تشِّوه الموصوف، بل أكتشف أيضا أن التعريف بالنفى هو أعمق من الإخبار بالتقرير، وأنتبه إلى كل” الليسات” التى وصفتُ بها نفسى فى سياق الجوع إلى الآخر (الفصل الثانى). كنت قد حذّرت أن النفى قد يعنى الإثبات، ومع ذلك، فإن الرؤية التى أتحدث عنها الآن مليئة بالليسات، بل إن أقرب أسماء الله إلىّ هو “ليس كمثله شىء؛،  كنت قد أثبت فى الكتابة الأولى لهذا الفصل الليسات التى ذكرتها فى الفصل السابق ثم خجلت وحذفتها، أكتفى بإضافة ليسات جديدة كما يلى::

3/7/1981

لا… لـستُ ممن يحذق المسير فى الهواءْ

أو من يعومُ فوقَ موجِ الـَّرمـْلِ فى العراءْ

أو يقبضُ الريحَ التى حبِستموها فى القمـِاقـْم

لـستُُ ملاّحا يجوب الخافقين سائحا،

ولـستُُ من جنودِ سـْلطاِن الكلام والمقاِعِد الوثيرهْ،

ولـستُ من حرّاس بيت المال أو بيت القصيد والنَّغَمْ،

ولـستُ ممن يحذقون لــُعبة الأمثالِ والحـِكـَمْ.

[ من قصيدة “زاد الأولياء”].

ويستمر النفى حين أُتّهم بالشعر، وأنا أعرف قدْرى المتواضع  فيه، وأخجل منه، ومع ذلك أحاول أن أدّعى التواضع بالنفى، فى قصيدة أسميتها “يا ليت شعرى، لست شاعرا”. فأقع فى  فى مظنة الهجاء.

14/9/1983

لا أضرب الدفوف فى مواكب الكلام

و لا أدغدغ النغمْ

لا أنحتُ النقوشَ حول أطراف الجمل ْ

أو أطلبُ الرّضَا

و لا أقولُ ما يقرّظ الجمالَ..،

يحتضرْ

أو يُسكر الثوّار بالأمل

17/7/1973

ركبتّاى تنبضان،، دق خفيف يعلن احتمال احتجاجهما على مشى هذا الصباح، ياه!! هل سأُحرم ثانية من هذا الذى أنا، ومرضاى فى أشد الحاجة إليه؟

فجأة هبّت علىّ نسمة غير طيبة، كيف يكتمل هذا الحكى دون نشرالخطابات التى كنت أتبادلها مع شخص مهم فى حياتى، صحيح أننى أعتبره مات يرحمه الله، وهو قد يعتبرنى كذلك، لكنّها خطابات دالة جدا، وهى مازالت عندى، وهى من ضمن ما عثرتُ عليه بين أوراقى المبعثرة. زادت جرعة الكتابة بيننا حين كنت فى فرنسا وكان هو فى الولايات المتحدة، كتبت إليه أتساءل  “..يا طير يا طاير فى السما رايح بلاد الغـُرْب ليه؟ إوعك يكون زهَقَكْ عماك عن أرضنا، عن عصرنا عن مصرنا “..إلخ. هو لم يستسلم للغرب أبدا لكنّه لم يكن إلا غربيا قـُحـّا. لم يصل حتى أن يكون “مستشرقا”. أنا لم أفهم الغرب إلا من خلال نوع حرية صديقى هذا: ومساره ومصيره،  تعلمت منه كل ما هو العكس، وكل ما هو الضد، وكل ما هو السلب، لذلك حرصتُ، حتى بينى وبين نفسى حتى الآن أن أحتفظ له بركن أمين  فى جانب وعيى. لا أنساه مهما كان، ولا أتهمه.  أدعو له بالبعث ولو لحظة واحدة قبل أن يلقى ربه، وأدعو لنفسى بمثل ذلك أيضا،

أشرت فى بداية الترحال الأول، حين احتد وَعـْىُ جـَذْب الموت لى وأنا وسط الجبال،  ذكرت كيف تيقنت أن “قوة الموت” داخلنا، هى دافع الحياة، كذلك عايشت كيف أن قوة الموت خارجنا وتعيينه ماثلا فى شخص حى هو مبرر رائع أن نعيش، سقط الكلام بين صديقى هذا وبينى، أصبحت الحروف بقايا قوالب متناثرة من بناء منهار، اختفت لمعة النظرات، ولم يبق إلا التعازى.ولأننى لا أستطيع، أو لم أقرر بعد أن أنشر خطاباتنا المتبادلة، سوف أكتفى بعرض صورة هذه العلاقة ومغزى تلك الخطابات كنموذج لبعض سيرتى. معه:

كان ْبـيتكلم، وأتْـكلم، ونــتْكلم.. ونحلم.

لما سافرْ، قلنا نكتب.. قال ونتناقش.. ويمكنْ.

وشْبِعْنَا كلام وكْتابَهْ،.. وِهرَبْ

ما تيالاّ نجرّبْ، ونْقَرّبْ:

سيبنا عيوناّ تتكلم

…..

مش يمكن الاَقى البذره الناشفَهْ الخايفَه الضاَّيعه فْ بحر كلام؟

مش يمكن يعرف يسمع همسِ سْكوتى؟

أو يعرف ليه الحربْ وليه الضربْ؟

ودخلت أحسَّسْ،

ولاقيتنى جوّا بحور ضلمهْ، ملهاش شُطآن،

ولا حسّ لموج،

ولا حركــةْ نسمه تهف شراع،

أو حتى تهز القشه العايمه المنسيهْ،

ولا ضربة ديل سمكهْ،

ولا طُحلبْ،

ولا قَوقعْ،

ولا أَىّ حياهْ،

…….

يا خبر يا جدع !!! كدَهُهْ ؟

لا ياعمْ. نتكلّم أحسن.

ما هو أصل المعزى:

“قهْوهْ سادهْ..

وكلامْ”.

17/7/2000 (الساعة 9.35)

حين أنظر إلى الناس وفى الناس، أخجل أن أكون قد تجاوزتُ حدودى.  أنا أحاول أن أمنع نفسى أن أقيسهم بنفس المقياس الذى أقيس به مرضاى، لكننى أسمح لنفسى أن أراها بنفس المنظار الذى أرى به مرضاى. هذا خطأ من حيث المبدأ احتراما لما هو فروق فردية، لكنه خطأ عظيم مستحيل إصلاحه، وليس فى هذا عيب ولا تجاوز، لا ينبغى أن  نعتبر أن الأسوياء مرضى، ولكن يمكن  أن نعتبر المرضى أسوياء ذوو وجهة نظر فاشلة لا أكثر، كثير من الذين عابوا فكر فرويد عابوه من منطلق أنه قاسَ السواء بمقياس المرض، والحقيقة أنه لم يفعل ذلك، وإنما هو رأى الظاهرة البشرية  “معاً. رأى جذور تفاعلاتها، ثم توجهاتها، فوجدها واحدة فى الأساس، وإنما يختلف الأمر فى توظيفها، وأثرها إعاقةً  وشذوذا، أم إنتاجا وتفردا. وقد استفدتُ فائدة قصوى من إزالة الحاجز بين السواء والمرض اللهم إلا فى ما يتعلّق بمقايسس الإعاقة والإضرار، ولم  استثن نفسى ولا عائلتى من استعمال هذا المقياس، بل لعل ذلك أفادنى كما أشرتُ حين عرجت إلى النظر المغمر فى تاريخ عائلتى الكبيرة،  الأمر الذى جعلنى  أعتبر نفسى وأولادى مشاريع مرضى، فأتيحُ لنا فرصة أن “نطب” الناحية الثانية. هذا ما أتصوره. يا رب سترك.

مرّ علىّ ابنى وزوجته منذ قليل يسلمون علىّ وهما متوجهان إلى المطار، إلى ماليزيا فأندونيسيا، نظرت إلى بطنها أمامها وسألتها فقالت إنها فى شهرها السابع فاستدرت لابنى وقلت له إذا نزل حفيدى هناك فسمّه “ينانى يم “، طبعا: أى كلام. شىء أشبه بالنونوة التى أسمعها من هذا الصنف الأصفر الرائع الذى لا نعلم عنه إلا القليل جدا، لا أحب أن أكون منه، ولا أن أن أكون أمريكيا، ولا فرنسيا، ولا سوريا، ولا سعوديا، ياخبر !! ولا مصريا، علّقتُ، بل أحب أن أكون مصريا على شرط ألا أكون ناصريا ولا سادتيا ولا وفديا ولا محفوظيا، رجعنا للالات. من أكون؟

وجدت فى أوراقى المبعثرة هذا التساؤل يتردد بكل طريقة، مباشرة، وغير مباشرة، كما وجدتنـُـى أنتقل من حكاية تقرير الذات، وإثبات الشخصية المتفردة، كما يطل هذا وذاك من وراء “الليسات” المتكررة، وهذه الـ”ولا ولا ت”، لكننى تجاوزت ذلك إلا قليلا، أوهكذا أزعم.

أستطيع من خلال النظر فى معظم أوراقى أن أحدد معالم هذه الرحلة المرآتية (النظر فى المرآة) كما فضلت تسميتها يأربعة  أبعاد:

البعد الأول هو بعد النفى (ما ذُكر حالا من تذكِرَةٍ بـ “الليسات” و الـ”وَلاَ َوَلاََ ت)”.

البعد الثانى هو بعد التعدد وهو ما أتيح لى من رؤية تركيبتى من شخوص (هم أنا) أتكامل بهم وليس فقط أتحاور معهم. كان مثل هذا الاحتمال مرعبا حتى يعد مرضيا أصلا قبل ظهور نظريات التعدد التى تجسّدت ببساطة وعمق فى نظرية التحليل التفاعلاتى (إريك بيرن) ومن قبله يونج.

البعد الثالث هو بـُعـد التناوب بين الحركة والسكون، بين البسط والتمثّل، وهوما ورد طوال هذا العمل بالطول وبالعرض، هربا إلى الركن فاندفاعا إلى الناس، قعود حتى الكمون فبسط إلى المجهول، وهكذا. يمتد هذا البعد إلى ما هو أحلام ونوم ويقظة ودورات مزاج، ودورات إبداع، كل ذلك ليس من وجهة نظر التنظير الذى قمت به فمن مواقع أخرى، وإنما هو ما يتعلق برصد بعض ترحالاتى فى نفسى.ى.

أما البعد الرابع فهو ما يتعلق بهذا السعى المتصل نحو التواصل بما يشمل الوعى بالجوع ومحاولات وإبلاغ الرؤية بأكثر من وسيلة، وبكل أداة متاحة (وغيرمتاحة)، الأمر الذى ترتب عليه (فى الأغلب) قصور كل أداة على حدة.

وإذا كان هذا الترحال الثالث مختصا بتكملة النقص فيما يسمّى السيرة الذاتية، فإن الإشارة إلى هذه الأبعاد يصبح أمرا لازما.

أحسب أننى تناولت البعد الأول (النفى) والثالث (الحركة الدؤوب من جذب الركن إلي مخاطرة  الكشف وبالعكس) بما فيه الكفاية طوال الترحالين الأول والثاني.

يبقى بـُعـْدَا التعدد والسعى للتواصل (علما بأن الأخير قد ورد كثير منه فى الفصل الثانى: الجوع).

عثرت على هذا”الأنا الآخر” نابعا من رؤيتى، وتحمّلى للغموض، واحتوائى للشىء وضدّه،

قلت محاولا أن أزيح هذا “الأنا” الآخر” حين بالغ فى تسفيه مقدساتى وحرق أوهامى، ” أفسِحْ، رعاك الله؟ “. احتدت الرؤية حتى تمنيت العمى.

12/3/1983

لو أننى أعمى أعيش الجهلَ زُرْكِشَ بالأملْ،

لو أننى عشقتُها فخِلتُها ست الحسانْ،

لو أننى أحببتُ طفلا دون أن أرى نذالَتَهْ.

لو أننى حاربْتُ خِصما دونَ أنْ أبكىَ قهْر وحْدَته.

-1-

لمَّا روانى نهْرهُا،

ولقطتُّ حبَّ الحُبِّ من منقارها،

تحنو تمُنِّى وِحْدِتى تذيبُها.

عرَّى الحقيقةَ جائعهْ:

ومضى يحدد كمْ تبيعُ فأشْـترى ،   وكذا هِــىَ.

ففزعت أفقأُ عينَـها، عينِى أنَا،

وعشيتُ من بهْـر الرؤَى،

وضممت حولى وحدتي.

-2-

لمَّا تمايلَ جمعُهم مكبِّرا، مهللا،

فى حب أرضنا الوطن،

أفرغتُ وعيى من خبايا حكمتى،

فأذبتُ نفسى هاتفا:  “يحيا الوطن” !!

فأطلَّ من بين الضلوعْ،

ابنُ السفاح الباسمِ المستهزئِ

[لكلِّ من ولدته أمُّه وطن، مثل الوطن]

يـاأرض ربّى قد وسعْتِِ  الناسَ والسباعَ والطيورَ والحجارةْ،

لكننى أرنو لشبْرٍ واحدٍ: أنَـا،

يضمُّ عظمِى يحتوينى رحِِمَا.

-3-

يا صاحبِى يا ذا الجلالة والحكم:

هدَّمْتَ معبدى.   لوّثت أحلامى، عرّيت آلهتى.

رُدَّ الجهالةَ،  مـِـقْـوَدى.

أفسِح رعاك الله، (من؟)

..يأبى عنيدا.

قلتُ أصرعُــهْ

لمْ أستبن “أنى”..  “أنا”.

هذا الذى شككنى فى الحب،  وفى الوطنية،  وفى براءة الطفولة، وفى سفالة العدو، وفى قداسة أصنامى،  وفى اغتراب آلهتى،  أليس هو “أ نا؟  فإذا كتبت سيرتى الذاتية، فهل أكتب سيرتى أنا، أم سيرته هو.

9/9/1982

من بعدٍ أعمق ظهر لى هذا “الأنــا الآخر” “متعددا” يحاوروننى  مباشرة  فيما أسميته “السلام والصدى:

-1-

ألقَى تحيَة الصباحْ:

المغفرهْ .

ما كنت أحسبـُك النبى المنتظر.

لستَ القدر .

مقابضُ الرياحْ

أسباب  عيّي

قد صار جلدى من رقائقِ الرصاصْ.

-2-

ألقى بوجهىَ القفازْ .

منكَ السماحْ.

طُمِستْ ملامحــِــى .

لم أمتَـشِـقْ دِرعَ النـِّـزالْ .

سلّمتُ سيفى من زمنْ .

ياسَّيدى:

” العفو عند المقدرهْ

والضرب فى مــيْتٍ  حرام

-3-

ألقت تحيّة المساء

الوقت مات،

رُعبا وسهْوا

فتحرّكت رمالهُا المتمعّجة

تحشرجتْ

وانتفضتْ

-4-

ألقت قذائفَ اللهبْ

دبّت حياة الموت فى البقايا

شٌحِذَتْ  نيابٌ لامـــعهْ

وقاطــِعهْ

البسمة الهُلاس

وتفرق الجند المُمَدّدِِ لحدُه

بين الْمـَـضَى  والمـُنْتــَظـَر

-5-

ألْقَى السلام

تردَّدَ الصَّدىَ

مرة أخرى: السيرة الذاتية، سيرتى الذاتية، هل هى سيرتى أم سيرة هذا الآخر؟ هؤلاء الآخرين.

أنبه إلى افتقادى لهذا البعد الواضح فى الحياة العادية،بعد التعدد، وكثيرا ما يتساءل بعض العاديين عن أى تغير فى موقفهم، أو فى طباعهم، أو فى آرائهم، وكذا أى ازدواج أو تعدد، يتساءلون عمّا إذا كان هذا هو انقسام فى الشخصية، أو ازدواج، مع أننى من كثرة ألــفتى لهذا التعدد فى ممارستى مهنتى، ونظرتى فى مرآتى، وتحمّـلُى لمن ليس كذلك، كدت أعتبر أن اختفاء هذا الأنا الآخر هو الذى ينبغى أن يعد من قبيل الخطأ، أو حتى الخطر. ليس معنى وجود هذا “الأنا الآخر” أن يحضر منافسا، أو مخالفا، وإنما هو يحضر مكمّلا ومنضمّا مارا بمراحل الاختلاف والحوار والجدل الضرورى للتكامل.

فى البرنامج الذى أشرتُ إليه وشاركت فيه عن “سى السيد” فى قناة النيل للمنوعات (28 يوليو 2000)  اعتبـر كل الضيوف والمذيعة أن  سى السيد بظهوره المتعدد: متناقضٌ ومنافقٌ ومثلٌ سىء وكلام كثير فى هذا الاتجاه، ولم يخفِّف من وقع ذلك إلا مكالمات الجمهور وإقرارهم لما رأيتُ من حتمية التعدد للتكامل، وضرورة قبول التجليات المختلفة فى المواقف المختلفة.

ثم إنى لما أتيحت لى الفرصة مؤخرا للمشاركة فى بعض مجالس المبدعين، بفضل صحبتى لنجيب محفوظ أساسا، بما فى ذلك الحرافيش، رحت أبحث عن هذا “الأنــا الآخر”لديهم فافتـقـدته بشكل أزعجنى، فرجّحت، فأرجح أنهم اكتفوا بظهوره (ظهورهم) فى إبداعهم دون سائر مجالات ومنظومات وعيهم الأخرى.

بل إنه من فرط قبولى لهذا التعدد كشىء طبيعى، بل وصِحّى ونمائى فهمتُ   التناثر فى الحلم باعتباره خطوة رائعة وضرورية تمثل  روعة وعادية وإبداع ما أسميته “التعدد للتكامل”.

وقد ساعدتنى رؤيتى هذه أن أفهم هذه الموجات الجديدة من الكتابات الجديدة.

وأيضا ساعدنى هذا المنطلق فى إعادة النظر فى بعض تراثنا الشعبى، من أول يا طالع الشجرة (ليست شجرة توفيق الحكيم)، حتى أغنية “اتشعطر وانا المّك،يا غصن البان”،بل إن هذه الأغنية كانت مدخلى لقبول ليس فقط أنا الآخر (أو حتى نحن الآخرون)،بل فى تحمّل التناثر حتى يصير تعددا ضامّا بدلا من أن يتمادى  فى التناثر التفسّخى.

هذا” التناثرالضام “هو ما ظهر لى فى “المرايا”.

-1-

ألمَِلمُنى من شظاياَ المراياَ،

وأقنعُ بالهمسِ وسْط الزحامِ.

بقايا الحديثِ، وسقْط اللقاءِ.

زوايَا النظرْ.

-2-

تمــرُّ الرياحُ محملةًٌ باللقاحِ.

أدفِّئُ بيضِى

أرتّبُ عشِّـى.

أميل مع الميِل أجرى لَهاَ.

أعلّق روحى بمنقارِها.

-3-

أُعـَدّل وجهى

أعــِدُّ ابتسامهْ

أسوّى رباط العنقْ

ألاحقُ دورى

أعُدُّ الخطَى

أرتّبُ لفظي

[ تُــراهَا تَــراني؟]

فألصِـقُ وجْهِىَ بين السياجْ،

فتُغْفلـُنى، أسترِقُّ النظرْ.

وأجمعُنى ضاغطاً بالحزامِ

لنغفو جياعا

-4-

أمدُّ الذراعَ ألامسُ طرْفَ الحــــفيفِ

أرتِّبنى من جديدْ

ألاصقها من بعيدْ

أكوّر مقطعَ لفظٍ وليدْ

أوسِّدُنى عقلة الإصبع

أمَصٌمِصُهَا عـَـلـْـقَـما فى دمى

ألــَـمْلـِمنـِــى

أحتلـــــــمْ.

حين عجزت عن، وخِفتُ من، كتابة تلك  الخبرة الخاصة التى أسميتها “جماعة المواجهة”، اكتفيت بما ظهر متواريا فى كل من الجزء الثانى من روايتى، وأيضا فى ديوانى بالعامية.  فى العمل الأخير قرأت “نفوسا” كثيرة، فى عيون كثيرة، ذكرت بعضها فى هذا العمل هنا وهناك، ثم واجهت نفسى بسؤال واضح يقول:

هل يمكن أن أقرأ صفحة عيونى شخصيا، وما وراءها مثلما فعلتُ معهم، أو فعلت بهم؟

فحاولت،

فكانت العين السادسة عشر بمثابة سيرة ذاتية كاملة مع أنها أكثر إشارة إلى فترة معيّنة، هى أقل من سنتين بقليل، (73/1974) إلا أن الرؤىة  امتدت تتناول ملامح من موقفى، وموقعى وتاريخى، وما شاع عنّى، وما ظننته فى نفسى.

وقد غلبتْ على هذه الخبرة تصوراتى وتصوراتٌ عنى، وبالذات ما شاع فى تلك الفترة من هذه الخبرة من أننى صاحب تأثير خاص (كاريزما)، ولى منهج خاص، بمايشمل أحيانا أننى ديكتاتور قادر على أن أقنع الآخرين والأخريات بما لا يقتنعون به فى الأحوال العادية، وكلام من هذا.  وأيضا اتُّـهِمتُ (أو وصفتُ) بأنى امَلِكُ الوحدة (الشيزيدية) رغم ظاهر التواجد معا، ولم يسلم الأمر فى هذه الفترة أيضا من أن يتطوع بعض أفراد المجموعة (وهم زملاء) من تشريفى ببعض التشخيصات النمطية، وغير النمطية،

وسْط كل هذا حاولتُ أن أرسم صورتى كما تصورتـُها، وهى التى أسميتها “المعلم”،  التى هى أقرب ما يكون إلى هذا العمل باعتبارها: سيرة ذاتية. فى موقف المواجهة قلت فيها ما سبقت الإشارة إلى بعضه مثلا فى “التكوين ” (الفصل الأول فى هذا الترحال الثالث).

طبْ والمعلِّمْ ؟

له عيونْ كمَا العيونْ ؟

بِتقولْ كلامْ هـوَّا الكلامْ ؟

ولاّ كلامْ غير الكلامْ ؟

شيخ الطريقة قاعدْ لِى كَـمَا قاضى الزمانْ.

بِيْقسَّم الأرزاق ويمنحْ صك غُـفران الذنوبْ.

وكإن مشكلة الوجودْ،

ما لهاش وجودْ،

إٍلا حَدَاه.

عامل “سبيل” اسمه “الحياهْ”:

“قال دا يْعيشْ،

وِدى تموتْ،

ودا مـالـوشْ إٍلا كده”.

قاعد يصنَّـف فى البشر حَسَبِ المزاجْ:

واللى بِيِشْبِه حضرتُهْ،  يديه قيراطْ،

فى جنَّتْهُ.

واللى يخالفْ هوّه حُـرّ.

يكتب على قَبْرُه ماشاء.

ميتْ صحيحْ،

لكنُّه حرُّ فْ تُـرْبـتـه.

وانْ قلنا ليه ياعمّنا؟

بِيقول كـمَا قاضِى الزمانْ:

ماقْدِرشِى يمشى عالصراطْ ويكون “كمثلى”

ونقولُّه: مثلك يعنى إٍيه؟

يسكتْ… يِتوهْ

يِسرحْ… يِقفْ !

وعنيه تِقول.. كلام كتير!!

هذه المقدمة الطويلة، ترسم الصورة التى كانت تلوح من قريب أو من بعيد أمام هذه المجموعة “مجموعة الأسوياء” “مجموعة المواجهة” من الأصدقاء والزملاء، ومع أننى لم أعلن أى مذهب، أو حتى نظرية.  كل محاولاتى للتنظير جاءت لاحقة لهذه الخبرة، ربما كانت نتيجة لها.كانت هذه التجربة سنة73/74 فى حين لم أكتب “دراسة فى السيكوباثولوجى إلا سنة 78/79، أما النظرية الإيقاعية التطورية، فقد كتبتها سنة 1980، ولم تنشر مكتملة بعد،

الموقف الذى كان سائدا فى مجموعة المواجهة كان هو الموقف النقدى لكل ما هو “عادى”، وأنه علينا جميعا أن نتبنى موقفا لا أقول ثوريا، ولكن على الأقل هو “موقف آخر”، وبدا أن أكثرنا عنادا والتزاما بالتغير، وإصرارا على نجاح البديل (المجهول)  فى نفسى الوقت هو شخصِى، ومن ثمّ تأكدت فكرة أن لهذه المجموعة فكرا خاص أو مختلفا، أنا مسئؤل عنه، حتى دون أن أعرفه (حتى الآن !!)،

رَّدا على كل هذه الدعاوى حاولت أن أعرّى نفسى أمامهم، وأمامى كالتالى:

– 2 –

يا هلْترى عمَّـال باشوف الناس عشان أهربْ ما شوفشى مين أنا؟

ولاّ باشوفنى الناس؟

نـِـفْـسى أشوفنِـى من بعيد.

من تحت جلْدِى.

من وسط قضبان الحديد.

من غير كلام ولا سلام.

إذا كانت كتابة السيرة الذاتية تمثل تحديا يشكك فى مصداقيتها ومستوى عمقها عند سائر البشر، فإنها بالضرورة كذلك وأكثر عند طبيب نفسى، ذلك أنه شاع – بدرجة من الصدق – أن المشتغل بالطب النفسى قد يكون دافعه أن يعالج نفسه إسقاطا على مرضاه، هذا إذا سلم الحال، أو أن يرى مرضاه بدلا من أن يرى نفسه، وهذه خطوة قد تسهم فى العلاج لوأنها كانت خطوة نحو رجوع إلى ذاته، لكن لو توقف عندها الطبيب شعوريا أو لا شعوريا أصبح متفرجا قاسيا، بل ضارّا، أو ربما راح يختبئ فى بعض المدارس الميكانيكية الهروبية التسكينية. ومع احترامى لكل هذه التخوفات، فقد حاولتُ تجاوزها بأن أمضى محاولا مواصلة الرؤية بالحذرالممكن:

أقلب عيونى ولاّ ابص فى المرايه؟

أنا لَوْ أبص فى المرايه حَاشُوف “خيال”،

إيدُه اليمين إٍيدى الشمال.

وَاقِف بِعيد وَرَا الإزاز.

وَاجِى أقرب للمراية التقى برْد الجمادْ.

وِشَّى يِبطـط، والنـَّفَـس بِيغطى تقاسيمه

كما جبل السحاب قُدام قمر مظلم حزين.

ما يسمى الاستبصار أو التأمل الذاتى هو من أكثرمناهج البحث المشكوك فى قدرتها ومصداقيتها، فيه تنقسم الذات إلى مُـلاحِظْ وملاحَـظ.  الرؤية فى الفقرة السابقة تنفى مباشرة أن حكْـى هذه  السيرة هو استبصار، وخاصة إذا كان المقصود أن يؤدى الاستبصار إلى التذكر، مجردالتذكر لا المعايشة،

الاستبصار هو مجرد حكى عما يصل من الداخل، وتصوير لرسائله، أما ما قصدت به من مواجهة المرآة فهو يشير إلى موقف رؤية أشمل، هو نوع من الكشف الآنى المحاوِر بنوع من الإدراك بعين داخلية، وليس بحكى عقلانى. المرآة ليست صادقة على طول الخط، حتى أن وهْل المرآة Mirror Illusion  إنما يشير إلى أنها  مصدر للخداع “العادى.  حين تنظر فى المرآة ترى نفسك وراءها  المرآة،

لكل ذلك وجب الحذر من الاعتماد على الحكى الشخصى بهذه الوسيلة بالذات(الاستبصار)، فهى مقولة بالتشكيك مهما اجتهــد الحاكى. ربما لذلك غامرت بأن أحاول المكاشفة بأكثر من منهج، من أكثر من زاوية، وبعديد من الأدوات..

وَامّا قلبت عيونى جوّه عميت،

وحاولتَ ابُص.

حاولتْ أَقْرا فى الضَّلام،

مالَقيت كلام.

….

ورْجعت أبصلكم هناك

فى عيونكم انتم.

أنا أبقى مين؟

أقر وأعترف أن كل ما شاع عنى، صدقا أم خوفا أم حبا أم حقدا، فى هذه التجربة خاصة، وربما بصفة عامة، وربما عن أى أحد، كان فيه بعض الحقيقة.

حين يريد الواحد منا أن يتعرف على نفسه فعليه أن يحترم كل هذا بأى درجة كانت، واحترام رأى الآخر لا يعنى التسليم له، وإنما يعنى وضعه فى الاعتبار، ذلك أنه بقدر ما نشكك فى رؤية الشخص نفسه، ينبغى أن نأخذ نفس الحذر أن تكون رؤية الآخر هى رؤية ما يحتاجه، أويتصوره، أو يتمناه، أو يخشاه، هذا الآخر.

وألاقى صورتى زى ما انتم محتاجين:

اللى شايفنى كما النبى.

واللى شايفنى ربنا.

واللى شايفنى وَادْ مرقْع أو حدق.

واللى شايفنى قِفل مقفول من سنين.

واللى شايفنى حرامى أصلى مُعتبر.

كيف يقدم كاتب السيرة الذاتية نفسه للناس مع وضع مثل هذه الآراء فى الاعتبار؟ هو لا يفعل، ولا يحاول أصلا، فإن فعل فهو يتخد موقف الدفاع والشرح والنفى والتفسير. يحدث هذا أكثر فى أوطاننا العربية المجيدة، وأحسب أن هذا بعض ما أشرتُ إليه فى أول فصل فى الترحال الأول فى هذا العمل، فأضيف هنا تنبيها أحسب أن له أثره، وهو ما يتعلق بمسألة منهجية أفادتنى كثيرا فى ترحال الرؤية الذاتية هذه، وهى أن معظم مثل هذه الرؤى وغيرها يمكن أن تكون بدايات، أو بعض جوانب حقيقة ما، لا تكتمل إلا بالاستمرار فى تجميع الأجزاء حتى ترتسم صورة ليست نهائىة بالضرورة.

يـِمْـكِـن أكون أنا كل ده.

لكنى أبداً مش كدهٌ.

شوفوا كويس يا جماعه:

واحد يقول: خايف أشوفك لسَّـه حبّه.

والتانية بتقول: يا حرام !! طبْ حبّه حبّه.

والتالت المسطول لو الكُرْباج يِطرقع جوَّا مُخُّه، يشوف دقيقة،

بس فينُه مْنِ الحقيقة.

والرابع اللِّـى خوفُه عازْلُه جوَّا سجن المزّه، أو جبل الجيوشى

الـوِدْ وِدُّه يشوف ضلام القبرْ،

ولا إٍنه يدوق الصبرْ،

الصبر مرّ، والشوف يضرْ.

واناَ مين يشوفنى ؟

أبقى مين ؟

يتكون رأى الشخص فى ذاته، منذ الطفولة، من خلال آراء الآخرين ابتداء، ثم تتفاعل هذه الرؤى مع الممارسة مع تولّد صورة الذات ليصبح المتاح للحاكى هو كل ذلك، ولا يجوز أن نستبعد هذا التجمّع من أكثر من مصدر ونحن نستمع إلى حكى شخص عن نفسه.

فى مجال الأدب، والسيرة الذاتية صنف هام من الأدب، وكذلك  فى أدب الرحلات، توجد إضافة لهذه الصورة المحكية، حيث يصبح رأى الآخرين من النقاد هو متغيّر مكمّل بالضرورة، وأتصور أن مهمة النقد تحتد أكثر فى مواجهة نقد أدب السيرة، لا لتثبت هذا الحدث أو تنفى ذاك، ولكن لتسبرغور منهج الحكى، وربما لتميز بين سير الفخر والهجاء، وسير الأحلام والدفاع، وسير الكشف والتعرّى.

فى محاولتى المتواضعة أن أكشف عن جوانب ما هو أنا كما أتصور، وكما يصلنى منهم، كنت أعانى مما يمكن أن يسمّى “نقد الرؤية الجزئية دون رفضها”، فما إن يلوح لى أن هناك من التقطـَـنى، ولو بأى درجه، ليس بمعنى أنه رآنى جيدا أو سيئا، ولا حتى عالما أو مبدعا، ولكن بمعنى أنه رأى ما أرى، وأنه أضاف بعض ما غاب عنى، ما إن يلوح لى مثل ذلك حتى أقبله ابتداء ثم أتقمصه، ثم أرفضه إلا قليلا، أو إلا كثيرا، وأحسب أن ما يلى من محاولات هى بمثابة تقمص مجتهد لما تصورته حولى، فتبيّنته لأرى:

– 3 –

… وساعات أبص لإيدى وانا بالعب ببيضتين والحجرْ،

أو لما باقلب فى التِلات ورقات واخبَّى فى الولدْ.

وأقول يا ناس.

بقى دول إٍيدَىَّ اللى بصحيح؟

بقى ده أنا؟

تعلّمتُ، ربما من أصلى الريفى، وربما من حرص والدى، وربما من إصرارى على كشف كل مناورة مثالية أو شبه ثورية تلوّح لى أن  أحذق استعمال أدوات  لعبة الحياة كما هى، هنا والآن،فى بلدنا هذه، فى عصرنا هذا، فى مرحلتنا هذه… إلخ، وكان هذا يبدو لى، وليس فقط لهم، أننى وصلت درجة احتراف امتلاك الأدوات، دون أى ضمان لحسن استعمالها أو هدف استعمالها، هذا الشك مفيدجدا حتى يحذر المغامر بخوض معركة الواقع أن يُسـرَق فيما يسمّى “الغاية تبرر الوسيلة”. وأعتقد أن المقطع السابق ينبه إلى موقفى النقدى طول الوقت من التمادى فى أى مهارة لذاتها، أو الحرص على أى رمز نجاحى دون وضعه فى سياق وجودى كله، لست أدرى إلى أى مدى نجحت.

وساعات أشوفنى حكيم وعمرى ألف عام.

شايف تمام عارف تمام.

كل اللى راح، واللى احنا فيه، واللى حاييجى

بدون أوان

هذه الرؤية نادرة، ولا أعرف أين أضعها فيما هو “أنــا”، ما أعرفه عن نفسى هو كراهيتى للخطب والحكم  والاستشهاد بالأمثال،  لكن ممارسة الحكمة شىء آخر، ربما هو ما كنت أعنيه فى هذه الفقرة، ما أعتبره حكمة قد تفسّر الرؤية التى لاحت من هذه الزاوية. أود أن أعترف هنا بكارثة أعيشها باختيار وشرف، وهى كارثة التفاؤل. فأنا على يقين أن كل زيف زائل. حتى لو نحاربه،  الزيف يحمل مقومات هدمه فى داخله، الشىء الوحيد الذى يمكن أن يجعل الزيف ينجح نجاحا هو قمة الفشل هو أن يقضى على المحيط الذى شاع فيه كلية. فى حالة الإنسان: لو تمادت قيم التكمية (التعامل بالكم دون الكيف)، والرفاهية (بمعنى الدعة دون الجمال) والظلم (حتى لو رفع شاعر الديمقراطية) والتجزىء (العقل على حساب التكامل المعرفى والوجدانى)، وهذا كله زيف وباطل، فسوف ينقرض الإنسان لا محالة. هذه هى الحكمة الوحيدة التى تجعلنى متفائلا مسئولاعن تفاؤلى من ناحية (وهذه هى الكارثة)، وفى نفس الوقت تطمئننى على المستقبل من ناحية أخرى. فهل هذه هى الحكمة التى أعنيها فى الفقرة السابقة؟

….

وساعات أشوفنى أبويا صُحْ.

بس الزيادة إٍنى لابسْ بدلَه وارْطُن بالَّلسانْ،

وأقول كلامْ:

قال إيه لصالح البشر وللتاريخ.

لكُّنه أللّه يِرحمه،

كان يعبد اللوزةْ وطين الأرضْ، وِالورْد الطويلْ،

مزيكته كانت مكنة الرىِّ تغنى تحت جَّميزهْ كبيرةْ مْضلَّلة،

واسأل فى نفسى:

أنهو اللى أصلح للتاريخ ؟

الكلمهْ، والحب السعيدْ فى أُوده ضلمة منعكِـشه ؟

أو لوزه حلوهْ مفتحه ؟؟

استشهدتُ بهذه الفقرة فى حديثى عن والدى فى مقالى فى مجلة الهلال عن التكوين، ولم أتردد فى الإعادة  هنا.

علاقة أبى بالزراعة علاقة متعددة التجليات والأشكال، وقد أثّرت فىّ علاقته بالأرض ربما أكثر من تأثرى  من علاقته باللغة، كان مدرس لغة عربية، وكان يحب اللغة العربية، وكان مزارعا، وكان يحب الأرض جدا، وكنت أستشعر من علاقته بالأرض عدّة أبعاد، فهو صديق حميم لعم محمد السعداوى، أو عم أبو ربيع، أو حتى بيومى أبو نصار، وكلهم خفر ليل. خفراء خصوصيون عملوا عندنا وتركوا فى ليل طفولتى آثارا رائعة.  كان والدى ينام بعد صلاة المغرب، ويستيقظ بعد نصف الليل وهات يا صلاة القيام، وهات يا وِرد. كانت جلسته المفضلة أمام الحظيرة والراكية مشتعلة فى الشتاء يشعلها بنفسه وينفخ فيها، أو بجوار الجرن فى الصيف، فى الجهة البحرية. أذكر أنه  كان المدرس الوحيد فى مدرسة كشك الثانوية بزفتى الذى تبدأ إجازته فى شهر مايو أو يونيو بمجرد انتهاء امتحانات النقل، فلا انتداب فى كونترول، ولا تصحيح لشهادات الثقافة العامة، أو التوجيهية (رابعة وخامسة ثانوي، أيامها)، يعتذر أبى بأى صورة من الصور.

ذات مرّة ضغط عليه الناظر حتى يشارك فى أعمال “الكونترول”، وكانت بمقابل مادى مغرٍ. أصرّ والدى أنه مستغن عن هذا المقابل الذى يحرص عليه زملاؤه، فأصر الناظر على تكليفه، فحكى لى أبى ضاحكا كيف تخلص من هذا المأزق: احتفظ بمسوّدة الدرجات بعد أن بيّضها، ثم سكب الحبر على أغلب ما بيّض من كشوفات، وجعل الناظر هو الذى يناديه ليحاسبه، وربما ليعاقبه، وكان العقاب طبعا أن يحرمه من المشاركة فى الكونترول مستقبلا بعد تدارك الإهمال، فقدّم له والدى  المسودات وانصرف، ولم يُنتدب ثانية أبدا. يضحك والدى وهو يحكى لى هذه الرواية وأنا راكب خلفه على الحمار فى طريقنا إلى الجرن حيث كان كبيرا ذلك العام (ثمانية أفدنة قمحا، واثنان شعيرا)، فـأنتهز فرصة ضحكه فأخبره على نتيجتى آخر العام فلا ينتبه لها كثيرا ولا يسأل عن ترتيبى، فقد كانت أهمية الترتيب فى الفصل فى اختبار الفترة، وكانت نتيجة نهاية العام دون ترتيب على المدرسة، أوهكذا أشعْــنا حتى صدقنا ما أشعناه، المهم هو أن والدى لم يعتن أصلا أن يصدق أويكذب. كان ما يهمه نهاية العام هو أن يتفرّغ لزراعته، وأن ننتقل إلى السنة الدراسية التالية، لا أكثر،، وكان مجموعى -ربما لذلك-  ضعيفا جدافى نهاية كل عام، بالمقارنة بدرجات الفترات،

كان والدى يعتبر الزراعة هى مهنته الأساسية، والتدريس هو الهواية بعض العام.

كان للزراعة دور آخر فى حياة والدى (وحياتنا)، فقد وثقت علاقته بالطبيعة بشكل أكاد أجزم أننا ورثناه منه، نحن جميعا لنا علاقة وثيقة بالشمس والقمر بالذات، حتى أن زوجتى حين لاحظت تعلّقنا جميعا بالشمس، حتى وهى فى عز “نقرة القيالة” كما يقولون، كانت تعلق أننا “عائلة عباد الشمس”، تذكرت ذلك وأنا أكتب عن دورة عباد الشمس وأهل الكهف،بادئآ بأنه

” وطارت وريقة، و أخرى، وأخرى،

وزهرة عباد شمس تهاوت إلى الغرب، قبل الغـروب”

لكن نهاية القصيدة كانت:

“وذات صباح، تمطى الجنين،

أزاح ظلام الهروب الجبان،

ونادى الوليد العنيد على الشمس:  هيّا،..، هيا اتبعينى،

نهار جديدْ”،

أما الدور الثالث الذى كانت تقوم به الزراعة لوالدى فهو إتاحة الفرصة لنوع من الإبداع، كان دائما يحاول أن يغيّر من نمط الزراعة،،  يخطط قصبة القطن بعدد أكبرمن الخطوط المألوفة، يستعمل آلات لم يسبق استعمالها فى بلدنا، ولعل استشهاد أخى الذى ذكرته سالفا “ما احبش امشى على المدق اللى الناس ماشية عليه،أنا أحب اعمل مدق والناس تمشى عليه” هو خير تصوير لهذا الموقف الإبداعى على الأرض.

أعتقد أننا نحن الخمسة قد ورثنا حبه لكل من اللغة العربية، والزراعة، وربما انتقل ذلك إلى أولادى. محمد إبنى الأكبر مزارع أساسا -فى الفيوم- وعمله الرسمى أنه مدرس مساعد بالجامعة يحضّر للدكتوراه فى “النفسية اللغوية” (علم نفس اللغة) لكننى أعتقد أنه يحضرها بطريقة المزارع وليس الأكاديمى، لهذا تأخر كثيرا (لا أعرف كيف جاءنى هذا الانطباع). إبنى الأصغر، مصطفى، الذى هو فى الشرق الأقصى الآن، مزارع حديث، كلما شاهدت ما فعله فى قطعة أرض فى بلد أبى تذكرت حديقة النباتات النادرة فى مونت كارلو، أو حديقة شهاب أحمد مظهر الذى اعتكف فيها أحمد أخيرا حيث أزوره مع بعض الحرافيش كل حين وحين.

هل يوَرث حب الأرض، وحوار الطبيعة، ونبض اللغة أيضا مع ما يورث؟

الحمد لله أننا لم نرث الاستعداد للجنون فقط.

أما البعد الأخير لعلاقة أبى بالزراعة فكان هو الاستثمار، وهو أقل ما كان يهتم به، على الرغم من أنه كان يعتبره علامة نجاح أفكاره، اشترى والدى الأرض من مرتبه، ولم يستعن بالأرض على مرتبه، كان مرتبه سنة 1924 خمسة عشر جنيها بالتمام، وقد عاصرت شراءه لست أفدنة من أجود أراضى المنوفية، فى الأربعينيات،  بمبلغ ثلاثمائة  جنيه نقدا وعدا.

على الرغم من كل هذا الذى ذكرته عن والدى دون أن أخصص له فصلا بأكمله مثلما فعلت مع أمى فإننى لم أستطع أن أنقل الصورة كما ينبغى أن أفعل.

والدى يحضرفى أحلامى بصفة متكررة، وإن كانت تباعدت مؤخرا  بعض الشىء، وهو لا ينهرنى فى أحلامى كما كان يفعل من قبل، لكنه يحضر، وحين عددت حاجتى الملحّة، والمزمنة، إلى والد حاضر (كما جاء فى التكوين – الهلال- والفصل الأول من هذا الترحال) لم يكن ذلك لاستغنائى عن والدى، وإنما  لتقييمى للدورالداعم، والدائم لكل ما هو “والد” فى حياتى (حياتنا). هل حاجتى للوالد هكذا تعنى فى نفس الوقت حفاظى على طفولتى وتمسكى بها،أنا لا أحلم بعودة  أيام الطفولة أبدا، وفى نفس الوقت أشفق علىَّ طفلا هنا والآن. أعترف بها، وأحرص عليها، لكننى لا أستطيع أن أوفى باحتياجاتها..

وساعات أشوفنى طفل.. طفل..،

إٍنتو نسيتوه،

وأهله سابوه،

ولاَ هُوَّا قادر يبقى أبوه،

ولا انتو قادرين تلحقوه،

يا ناس ياهُوه:

يا تلحقوه…، يا تموّتوه.

حتى الآن، كلما قرأت هذه الفقرة تحرّك وجدانى بشكل خاص لا أملك ضبطه. ولا أخفى ـ أليست تعرية ـ أن عينى تدمعان فى بعض الأحيان، مثلما تفعلان حين أقرأ ما أوردته عن البقرة المربوطة بجوار الساقية، “وعْنيها الواسعة تحتيها دمعة،لا بتنزل ولا بتجف ” !!!، وقد ظهر طفلى طول رحلات التعرى هذه، ولست متأكدا إلى أى درجة التقطه القارئ إ ذا كان قد تحمّل طول الحكى حتى وصل إلى هذا الموقع أصلا،

السير الذاتية تحكى عن طفل الأمس، عن أيام البراءة والضعف والقهر والحرمان والخيال والرقة والتلقائىة، وعادة ما تأخذ طفولة أديب السيرة الذاتية مساحة كبيرة جدا وهو يحكى عنها بصدق وعمق وكثير من التفاصيل الطريفة والمؤلمة جميعا، من أصعب وأرق وأصدق وأكذب الحكى عن مثل هذه الطفولة ما جاء بأىام طه حسين.  ولكننى لا أعرف سيرة ذاتية تحكى عن “طفل” كاتبها الآن،

الطفولة لا تموت ولا تختفى، قد يحكى آخرون عن يحيى حقى الطفل الجميل حتى نهاية عمره رحمه الله، وأنا  أرصد حتى الآن طفل نجيب محفوظ ـ أطال الله عمره ـ لكنى أفتقد الحضور الوافى لهذا الطفل فى الحاضر أثناء كتابة السير الذاتية، (كتبت فصلا بأكمله عن طفل محفوظ فى أصداء السيرة، وفيه ظهر طفل الآن أكثر قليلا من غيره من السير، ربما لأنها أصداء).

أنــا أنتمى لمبدأ “الهنا والآن” فى معظم المواجهات والمعايشة، وفى الممارسة المهنية والسياسة، حتى فى قراءتى لـلتاريخ أستدعى التاريخ إلىّ،  لا أرجع إليه. التاريخ هو ما تبقى فينا معنا فاعلا حتى الآن، أما التاريخ الذى تمثله المتاحف وخيالات المؤرخين فهو ما لا يجذبنى كثيرا، وأكاد أقول أنه لا يفرحنى، وقد لايحزننى إلا بقدر ما يحضرُنى لأعيد كتابته الآن، أو هكذا أتصوّر.

من هذا المنطلق  أتصور آن طفلى”الآن” يظهر أكثرفى الرحلات، ومع أصدقائى الأطفال (خاصة بعد أن أكف أبوتى عن ملاحقتهم)، وعند السماح بالضعف، ولو باطنا.

ويتمادى التساؤل عن الصورالأخرى المتعددة التى تتبادل فى المرآة بحثا عن طبقات الذات الحاضرة، التى تمثل السيرة الذاتية الحقيقية،فلا يوازن السماح بظهور “طفل الآن” بكل صدقه وضعفه، إلا تحفز ما هو “ضد الطفل”، الوالد المتحفز المتلفت الشاكّ الجاهز بآليات الكر والفر للهجوم والدفاع على حد سواء.

وساعات أشوفنى وحش كاسرْ.

إٍلَّلى يخالف أدبحُهْ من غير فصال.

ولا أقبل المنطق ولا أقبل جدال.

وأَشك فى النـِّسمهْ، وفى الوردهْ، وِفِى الطَّفْل الرضيعْ،

لو ميّلوا كِده أو كِده،

أحسن يكونوا بيعملوا خطة متينة محكمة ضد “الحياه” !!

قال يعنى ضدى..

ما يْكونشى انا هوّا “الحياه” ؟ !

مع الانتباه إلى هذا التبرير بأن من يهاجمنى (يخالفنى) فى قليل أو كثير، هو لا يخالفنى أنا، وإنما أعتبره – من هذه الزاوية الدفاعية- من أنصار الموت ضد الحياة، نتذكر ما بدأت به هذه الرؤية الذاتية من أنه:

“واللى يخالف هوه حر، ميّت صحيح، لكنّه حر ف تربتته”.

أذكر أننى استشهدت بتعدد هذه الصور فى رؤيتى لنفسى، فى البرنامج الذى أشرت إليه عن “سى السيد”، ولكننى لم أستطع أن أوصّل أن هذه الرؤية المتعددة المتبادلة، لا تكون صحّية إلا إذا كانت تجليات لوجودٍ محورى جامِع يتشكل، طول الوقت،

الفرق بين التمزق والتشتت على ناحية، وبين التجليات للتكامل على الناحية الأخرى فرق لا يظهر مباشرة فيحدد الاختيار، وإنم هو  يتبيّن من المتابعة لمعرفـة الناتج.

أوقف نفسى عن الاستطراد فى هذا التنظير لأنبه للمبدأ الذى ورد ليؤكد  أن هذا الفرق، على غموضه وشكله البسيط، هو السر الذى يميّز  بين الوجود الحى على طريق التعدد للتكامل، وبين  التناثر المتفسخ.

وكتير أشوفنى كل دَهْ !

لكن هناك جوَّا قوى فرق بسيط،

يفرق كتير.

يمكن يكون سر الوجود.

واتمنى يوم قبل ما اموت:

ييجى حد منكم،

” بس بيحب الحياة أكتر ما انا باحبهَّا،

ويْبُص فْ عيونى قوى:

ويقُولَّى “مين”.

أَنا أبقى مين ؟

والفرق دَه.. فرق بصحيح..

ولاّ كلام؟ !! ؟

صعوبة التعرف على هذا الفرق تكمن فى أنه ينبغى أن يرصده آخر، جنبا إلى جنب مع الوعى به، وقياس نتاجه، لأن كل من يسمح لنفسه بالتعدد يمكن أن يصور لنفسه أن هذا التعدد هو الحرية، وهو التفرد وما إلى ذلك، وعلى هذا فإن الحرص على الاستهداء برأى آخر. جنبا إلى جنب مع تقييم الناتج هو الضمان الوحيد.

هنا يصبح التقييم النقدى للسير الذاتية ضرورى فى مواجهة وجهة نظر صاحبها بشكل أو بآخر.

هذه هى مهمة النقد فنقد النقد.

أهلا.

 

الفصل الخامس

 الفصل العشرون: من الترحالات الثلاثة

 …بعض ما تبقى مما لا ينقال

ورأيتـُهُ يسري بأوراقِ الشجرْ ،

وشربتـُهُ قطرا بهيجا في النـَّدىَ

وطعمتـُهُ شهدا رحيقا في الثمرْ،

وسمعتـُه في صمـِت طائرٍ شـَدَا،

صاحبتـُه صمتاً رصيناً في الحجرْ

 الأربعاء 19 يوليو 2000

ماذا يتبقى إذا لم تَـكتـُـب  عما ينبغى أن تكتب عنه ؟ كيف  تزعُـم أنك تتصدّى لما يسمّى السيرة الذاتية  دون العروج إلى المقومات الأساسية لما هو سيرة ذاتية؟

هذا ما سبق الإشارة إليه أكثر من مرّة ولا أجد حرجا فى تكراره.

لماذا يكون المقصود هو الطفولة والأم والأب والدراسة، والورود، والطمو، والفخر، والمديح، دون غير ذلك ؟

هل يمكن أن نعرف أحدا يزعم أنه على  استعداد أن نعرفه دون أن يحدثنا عن : علاقته بالله، و الزوجة، والجنس، والأولاد، والدين، والأخوة، والأخوات، وعمق المهنة.

حاول لويس عوض،  وغير لويس عوض فكان ما كان.

حاول جان جاك روسو ومرّت بسلام على الرغـم من كل الاختزال والتسطيح.

ثم الحديث عن  الأصدقاء ، هل  يُستأذنون؟ كيف ؟ ماذا لو لم يوافقوا؟

لم يبقَ إلا ادعاء التواضع، وتحصيل الحاصل.

هل هذا صحيح؟

أثناء البحث وجدت عددا هائلا من الأوراق بكل تشكيل ولغة. قلت إن أضعف الإيمان هو أن أكمل ما بدأته فى الفصول الثلاثة السابقة بأن أضيف من خلال ما وجدته فى أوراقى المتناثرة ما يكن أن يشير إلى ما عجزت عن الإشارة إليه، أو ما ما خفت من الكشف عنه.

هذا الباب هو بمثابة  إضافات متفرقة مما وجدتُه فى  الأوراق ، أو على الحاسوب مما سبق كتابته، دون قصد سيرة أو مكاشفة، بل حتى دون أن أدرك بوضوح- ساعة كتابته – أنه “أنا”.

أغلب ما عثرت عليه كان مسودات ،هذا أفضل. والباقى لم يكن للنشر ، وهذا جيد.

هكذا كانت الحركة أكثر حرية للاقتراب من المناطق الحرجة.

ثم إن توقيت الكتابة كان  متباعدا عن بعضه البعض مما أتاح تغطية مساحة متسعة من الزمن. فكانت هذه المغامرة بذكر ما قيل بينى وبين نفسى مما لم يكن جاهزا أن ينقال، أو هو ليس جائزا أن ينقال.

أحاول يا موالانا النفّرى “ذكر ما لا “ينقال” بالتجسس على ما قلتُهُ من ورائى.

نجيب محفوظ لم يسمح لنا إلى ببعض ما تردد من “أصداء”، ثم تركنا نحن وشطارتنا نقرأ  زعبلاوى، والطريق. والمرايا، وحكايات حارتنا، وحديث الصباح والمساء ، وكل ما كتب لنتعرّف على سيرته، العقاد الذى غامر مباشرة بما هو “أنــا ” لم يكن هو تماما، ولا حتى كان هو حين تركنا نجرى واءه ، وهو لا يجرى وراء “سار؛ة”.

مسموح أن تكتب فى مسائل الدين والإيمان فى اتجاه واحد، مثلا: رحلتك من الشك إلى الإيمان. غير مسموح أن تكتب فى الاتجاه المضاد حتى لو كان ذهابا وإىابا. يسرى ذلك على المنقذ من الضلال لمولانا الغزالى كما يسرى على مصطفى محمود.

فكرة روايتى الوحيدة (المشى على الصراط) كانت لخدمة هذه المنطقة، بل إنى اكتشفت أن مسودة الجزء الثالث من المشى على الصراط (لم يصدر، وقد لا يصدر) التي أسميتها “ملحمة الرحيل والعوْد”. هى استمرار في نفس الاتجاه،  دهشت لإلحاح هذا الترحال الآخر علىّ هكذا طول الوقت. مع أنه لا يوجدترحال إلا هو.

ثم إنه قد صدر لى منذ شهرين  مجموعتان قصصيتان هما (“ورطة قلم” و “هيا بنا نلعب سويا يا جدى مثل أمس”) رُحت أمر فيهما، وخاصّة فى الجزء المسّمى “متتالية قصصية”، فوجدت أن كل هذه المجموعة يمكن أن “تكشف بطريقتها الخاصة ” ما لا ينقال” من سيرتى الذاتية بشكل أو بآخر.

على العكس من ذلك، رحت أقلب فى كتبى التى صدرت باكرا (منذ أكثرمن عشرين عاما) لأقرر أى منها يستحق إعادة الطبع، فوجدت أن الكتاب الذى بهشبهة سيرة ذاتية، والذى صدر باسم “حيرة طبيب نفسى”، هو أقل كتبى حظا فى المكاشفة.

هاتفتنى الآن عاملة التليفون بالمستشفى وقالت لى إن ابنى مصطفى (وأمه و زوجته) قد وصلا من  كوالا لامبور.

كانت زوجتى قد مرّت علىّ  قبل سفرها  فى ركنى الذى تكرهه أكثرمن القبر (فى الأغلب!!) سلّمتُ عليها، ودعوت لها برحلة موفقة. كانت إحدى السكرتيرات موجودة، قبّلتها (زوجتى لا السكرتيرة) فى جبينها فابتعدت قليلا، وخجِـلت كثيرا، وكأنى خطيب لم يكتب كتابه يحاول تقبيل خطيبته أمام ابنة أختها التى تغار منها، فتخشى الخطيبة أن تسارع بنت اختها بإبلاغ أمها التى قد تسارع بدورها بإبلاغ أمهما لأنها (أختها) التى  لا تحب خطيب زوجتى وكلام من هذا. أى والله، قلت لزوجتي أن تنتبه أثناء المشى. تمنيت لها – صادقا- وقتا طيبا وسلامة مرجوة، أحسست أنها مثل طفلة أخذت الإعدادية، وأصبح من حقها أن تلبس كعبا عاليا، وتسير وحدها، وألا تقول بالتفصيل متى سوف ترجع ما دامت الشمس طالعة.

الطائف  20/9/1981 (عصراَ)

نصحنى “حاوى” وأنا أحكم رباط الحزام غير المخيط حول وسطى عدّة نصائح ذكّرتنى بأمّى وهى تنبهني كلما خرجت دون استثناء إلى أن آخذ بالى من الطريق. أما خالتى فكانت تدعو دعوة أشمل وأعمق بأنه “ربنا يسلّم لك طريقك”. وأحيانا “ربنا يجعل لك في كل خطوة سلامة”. لا أحد يعرف هؤلاء الناس الذين أعتبرهم أصدقائى، لا أحد يعرفهم كما أعرفهم، لا أدّعى أنى أعرفهم أكثر،لكننى متأكد أننى أعرف نفسى من خلالهم، وأنى أحبهم، لأنهم،( وبالرغم من أنهم)، من أسوأ خلق الله. أعنى من أصعب خلق الله0(مثلى)،

تتهمني زوجتي، تصريحا مرّة وضِمْنًا مرات كثيرة، أننى أصادقهم لأنهم ليسوا أندادا منافسين، نفس اتهامها لى فى تفسيرها لصداقتى للأطفال والمرضى دون الكبار والمثقفين. كدت أصدق أننى فعلا لاأصادق إلا الأضعف. ربما. أنا أعرف عن نفسى أننى لا أحب التنافس، لا أطيقه، لا أفهم فيه، لا أفرح إذا انتصرتُ على أحد، أفرح للانتصار نفسه، وليس على أحد. لا أطيق أن ينتصر أحد علىّ، خصوصا لو كان انتصاره   للانتصار أو للقهر والمعايرة. أفرح للانتصار فعلا دون حروف جر، أكاد أرعب أو أتراجع إذا وجدت نفسى حتى دون قصد  فى موقع التنافس،، حاوى، وعم على، وسعيد أبو عيد يحبوننى فعلا، وأنا أحبهم أيضا، لا أعلن ذلك.

لا لهم ولا لغيرهم، لم أجد أحدا يجهل حقيقة هؤلاء الناس أكثر من المثقين واليساريين، فلاح أرض الشرقاوى ليس مصريا، هو فلاح صُنع لينين، أنا أشك أن هؤلاء الذين كتبوا عن الفلاحين هكذا هم فلاحون أصلا، ولا أنا طبعا،الذهاب للقرية كل صيف، وامتلاك أرض، والجلوس على المصطبة، لا يعطيك صفة فلاح. اللهم إلا فى مجلس الشعب، فلاحو خيرى شلبى، وعبد الحكيم قاسم فلاحون، حتى تحب أحد هؤلاء لا بد أن تعرفهم أولا، لا بد أن تتعرف عليهم، لا بد أن تتحمل صفاتهم السيئة، ولؤمهم و”غُــلــْـبُـهُم”، وصدقهم، وطيبتهم، طلبت من السائق أن يتوقف لأجلس فى المقعد الخلفى، الأمر الذى لا أمارسه إلا نادرا، أخرجتُ قلما وورقة، وخطر ببالى أن أكتب نظما سخيفا يتناسب مع نظرة هؤلاء الفوقيين لأصدقائى البسطاء اللؤماء،

20/9/1981 (بعد صلاة المغرب)

العربة تسمى جيمس، وهى الحروف الأولى لشركة جنرال موتورز بالإنجليزية بعد قلب الـ  CإلىS (س)، والسائق أسود، وسود السعودية غير سود أمريكا، وغير سود السودان، يصعب أن تميز اللون فى السعودية، يمكن أن يتميز الفرد بقبيلته، بتاريخ أسرته، بنـَسـَبـِه، بماله، لكنه لا يتميز -عادة- بلونه، الجبال بين الطائف ومكة قوية، والقردة تملؤها قرب الطائف. يمكنك أن تتوقف وأن تلقى لها بعض الـفول السودانى، وأن تتفرج عليها، وهى تتفرج عليك أيضا ربما، كأنك فى حديقة قردة طبيعية مفتوحة، الجبال تختلف عن جبال أوربا، وحتى عن الجبال السوداء المحيطة بالمدينة فى طريق الرياض، لكل جبل، وسلسلة جبال، شخصية خاصة، وحضور مختلف، ورائحة بذاتها.

كنت قد غادرت حاوى وهو يوصينى بنفسى. كيف أتوصى بنفسى؟ لست أدرى. لست السائق، ولا أعرف المخاطر التى ينبغى أن أحافظ على نفسى منها. والتي نبهني حاوى عليها،  حاوى يحبنى، أنا قررت ذلك، هو لا يقول ذلك، وأنا لم أسأله، هذا قرارى أنا.

أنا فى طريقى الآن لأعتمر ليلا فى جو بديع، لم أشارك أبدا فى . تلك العمرات  التسوّقية ، أو  التكفيرية (تكفيرا عن كذب أو سرقة أو كسل أو رشاوى طول العام أو ما قبلها أيهما أقصر) رحلات لا تقوم  بالواجب، بل قد تفعل العكس.

ما دمتُ هنا فى الطائف فى هذه المهمة التعليمية التى أشرت إليها من قِبَل منظمة الصحة العالمية، ومادمنا فى رمضان وللعمرة طعم خاص، فلأعتمرْ.

أعتبر العمرة فرصة للالتقاء بالناس، لم تكن خبرتى فى الحج كذلك. لعلى أشرت إلىها  سنة 1976 حين أديت الفريضة  مع زوجتى فى عربة خاصة من عربات الحرس الوطنى، ولم أشعر فيه بمشقة، ولم أشعر فيها بالناس كما اعتدت أن أفعل فى العمرات التالية. العمرة التى تأتى بالصدفة  أشعر فيها بالناس أكثر مما أشعر بالمكان،  لا أفهم كثيرا معنى الأماكن المقدسة، فكل أماكن أرض الله مقدسة،  أتذكر موقف سيدنا عمر رضى الله عنه أمام الحجر الأسود

ذكّرنى حاوى بعم على السبّاك  الذى ظهرت ملامحه فى روايتى “المشى على الصراط “باسم “عم محفوظ” (لم أستعر الاسم من نجيب محفوظ، وإنما من د.رفعت محفوظ) . تذكرت صديقا ثالثا هو سعيد أبو عيد الذى أهديته كتابى “مثل وموال”. هو خفير فى مزرعة لى فى ما يسمّى “المنوات”، صادقت “سعيد” أبا عيد وهو يعمل فى مزرعة الدواجن وكنت أستطعم الشاى الذى يعمله  شايا ثقيلا سكّره كثير، يصفه هو أنه يقطّع بالسكين ويصفه إبنى أنه “مربّة شاى”، أشربه فى الخمسينة وأنا جالس على الحصيرة فى حجرته الضيقة القذرة التى لا أشعر أنها بلا تهوية إطلاقا إلا بعد أن أغادرها. حجرة ليس لها مساحة لأنها ممتلئة عن آخرها بصناديق و وسائد قديمة وقفف وأشياء مجهولة الهوية، كلها فارغة  أغلب الظن، أبوعيد هذا هو الذى أكد لى أن الفلسفة لا تحتاج إلى شهادة، ولا إلى قراءة أو كتابة،

العربة الجيمس تتلوى ونحن نهبط الجبل ، لا أذكر الأغنية التي كنا نغنيها فى جبال الجيرا(هى نازلة مالجبال عالحصان). ألبّى فى سرى غير متوجه إلى مكّة، أتوجه إلى الله الذى لا أسافر إليه أبدا، هل ينتقل أحد إلى أحد إلا إن كان غير موجود معه؟ معي ورق كثير وأقلام (كالعادة). حتى وأنا ذاهب إلى العمرة ، لم أنس أن آخذهم معى . هذا هو عدم الأمان الذى بدأت به هذه الرحلة (الترحال الأول). لا أجد ما أقوله للسائق، أنا أحفظ هذا الطريق ، لا أجد بي رغبة أن أجامله بحديث لا أريده. أخرجت الورق والقلم دون قصد محدد.

حاوى  هو رجل الاستراحة التى أنزل فيها فى الطائف مع بعض الزملاء.هو من جيزان،  هل يعرف هؤلاء الزملاء الأساتذة من مصر من هو حاوى، وماهى جيزان؟ حين تهبط من أبهى تجد نفسك فى قرّ لا مثيل له، أنت فى اليمن، ولكن الجنسية سعودية، والقات هو الوحيد الذى لم يتخلّ عن هويّته. أهل جيزانلا يحنون إلى الجنسية اليمنية، لكنهم، فى أعماقهم، لا يفخرون بالجنسية السعودية، حاوى يتجنّب الحديث فى هذه المواضيع أصلا، تقمّصت من يعلن وصايته على حاوى وأمثاله فى كل العالم: يتحدث من فوق منبر عالٍ، أو خلف سور شرفة معدّة للخُطب، قد يكتب مقالا ملتهبا فى صحيفة، أوحتى قصة ضد القهر. بدأ القلم يشخبط . هؤلاء “الأساتيذ”

لا يعرفون سوى  الأكابرِ والقممْ، وسوى  الحبيبةِ والعمامةِ والنغمْ،،  وسوى السياسة والفصاحة والقلم.

أما حاوى الذى يقدم لى قدح شاى بعد الظهر (دونأن أطلبه) وهو يحمل جرعة من أمومة لم أشبع منها أبدا، فهذا إنسان لم يدخل وعيهم أصلا. فى وحدتىفى السفر أسمح لمشاعرى أن ترق فى السر، أول دموع فى السفر  فسروها على أنها “الحنين إلى الوطن”. أشرت إليها قبلا. كانت فوق جبال الأرز فى لبنان سنة 4591،فى السفر الحقيقى أشعر أننى عار إلا  من صدقى مع نفسى، هل يبكى الإنسان إذا شعر أنه صادق.فى هذه الأحوال ، أشعر أن أى اقتراب أعشى منى قد يجرحنى، حتي لو كان للتعاطف أوللاطمئنان.  ما زال القلم يبعث ، يخاطب حاوى بعد أن لامَ  “الأساتيذ”.

ولأمتَ جرحِى بابتسامة القدحْ، أمّي أحبَّتْ طفلها، وما أحـَّبـْتـِنى “أنا”، وغادتي مـَالـَتْ إلى : مـَنْ يشتريَ قـْلباً بـَعـيـْن. حاوي أحبّنى أنا.ما صدّقوا.

لم أعد أصدّق أن أمى أحبت طفلها، ولم تحبنى أنا، كتبتُ هذا الكلام سنة 1891، لم أكن قد تعرّفتُ على أمى مثلما ذكرت فى الفصل الثالث من هذا الترحالالجديد. حين كتبت فصل الأم  هذا تبينت  أنه لا توجد أم تضع شرط الملكية مقابل أن تحب طفلها، ماهذاالكلام الفارغ؟ هو ملكها دون شروط. الشرط الوحيد هو أن تكون أمه. تمتلكه له، وليس لها. لم أكن قد تصالحت مع أمى التى ما خاصمتها أبدا، لأنى ما عرفتها أبدا. ألم أعلن أننى بعد وفاتها مباشرة أحسست برغبة عارمة أن أتعرف عليها ؟  شعرت فى قدح “حاوى” بهذاالعطاء غير المشروط الذى أنكرته على أمى مع أن كل عطاءها كان كذلك.

جالسٌ أنا فى الشرفة بعد العصر. حاوى يدخل. يفتح صندوقا صغيرا ويرينى ما بداخله: قرطا من الذهب (كردانا) اشتراه لزوجته فى جيزان. هو لا يرى زوجته هذه إلا مرة واحدة كل عام مثل عمالنا المهاجرين، كان فرحا جدا بالقرط، وفى نفس الوقت أشار إلى أنه إذا باعه بعد عام أو عامين سوف يزيد ثمنه.شككنى فى ابتسامة قدحه. هلى هو يهديه لزوجته أم يعلقه فى رقبتها حتى يزيد ثمنه؟ لمْ أرفضه.

“عم على” السباك لم يعطنى مباشرة لا قدح قهوة، ولا تعظيم خاص، ولا مديح محدد. حين أصابه ماجعله يحتاج طِبّى وخبرتى، كانت العلاقة موضوعية وجميلة، كان له أربعة بنات اكتفى بهن

(جاءتنى إحدى بناته منذ أيام -أثناء كتابة هذا الفصل – تطلب طلبا لم أستطع أن أجيبها إليه، سألتُها عن والدها، فقالت إنه بلغ التسعين، وما زال يتمتع بصحة طيبة، ويبلغنى السلام. كان هذا منذ أسبوع فقط أى يوم 12 يوليو 2000)

بعد أن توقف  عم على عن الإنجاب خمس عشرة سنة رزقه الله بتوأم، ولدين معا، كنت آخد منه ما أشاء وقتما أشاء، وأحيانا كنت أتصنع تلفا فى صنبور غير تالف، لأراه وأتحدث معه بعض الوقت، حدّثنى يوما عن تناسب الأجر مع العمل حديثا تمنيت أن يسمعه وزير التخطيط، من ذا الذى يعرف عم على هذا، وكل عم على، كما أعرفه؟

قد يعرفونهمْ: صورا تطل من الورقْ ،أو في خطابٍ جامعٍ، ، عـَن الـَّدمـَاءِِ والدموعِ والعرقْ

لكن عم على نفسه بلحمه ودمه، وهو يتقن لف الكتان حول سن الصنبور قبل أن يحكم تركيبه، لا أحد يعرفه، علّمنى عم على أن الإنسان الذى يحافظ على علاقته بنبض الطبيعة قد يصاب بنبض المرض. هو لا يتعامل مع أطباء الفيتامينات والمسكنات، خرج من أزمته التى أشرت إليها أقوى وأطيب وأقرب وأكثر إتقانا وأمانة:  علّمتني أباالحسنْ: أن أتـْقـِنَ الرماَيـَة السـِّــقـَاَيهْ، حتى ولو تخبّطتْ خـُطاىَ رُعـْباَ، حتى ولو تدفقتْ مشاعري، في غير موضع المشاعر، حتى ولو تفـرَّقـَتْ أحرفُها،صارت رُطانا نزقا، لفظي عيِىٌ مضطربْ، لا أُحـُسـْنُ الكذبْ.

صديقى الثالث: اسمه سعيد ابنه الأكبر اسمه “عيد”.

أبو عيد هذا له ابتسامة شديدة الذكاء، لا تفارقه، لا ينادينى إلابـ “يابو محمد”، ولا يقول نعم أو أيوه أو آه حين يوافقنى. يقول كلمة مائلة خاصة به، ربما بأهل ناحيته، تقع بين “أيوه” “إيييه”، لا يعرفها إلا من سمعها منه منغّمة بطريقته، حدّثنى مرة عن انتخابات مجلس الشعب حديثا لو سمعه رجال السياسة لخجلوا خجلا قد ينفعهم إذا أرادوا، فكّرت ساعتها أن ما يسمّى البرلمان سيظل خاويا نتيجة لهذا الخجل الذى تخيلته. لكن الخجل أصبح غير مطروح أصلا. أصبح من المشاعر التاريخية ولو أنهم لم يحفظوها حتى فى المتاحف للذكرى. ومع ذلك لا يتكلمون إلا عن 50 %  لأبو عيد ومن هم مثله، خمسون بالمائة كلهم؟ “الذىن اختشوا ماتوا يا أبو عيد”، عرفت عبد الرحمن الأبنودى من بعيد، هذا الرجل يصيغ سعيد أبو عيد وأمثاله فى شعره كما لم يفعل أحد من قبل، يجعلك تكاد تقوم من مقعدك لتقبل أيدى أو رؤوس من يحضرهم فى شعره الجميل، خاصة حين يلقيه هو بلهجته الصعيدية البكر، لكننى يا ليتنى ما عرفت الأبنودىشخصيا. هل هو هو؟ ربما هو اثنين مثلى أو عشرة. كيف يمكن أن يرسم الشاعر صوره لتنطق أبلغ من الواقع وأكثر اختراقا ثم يكون حضوره مختلفا جدا عن هذه الصور، هذه رحمةٌ من  الله، أحيانا أقف أمام بيت شعر من الذى هو، وأقول لنفسى لو أحس به صاحبه أثناء كتابته كما وصلنى أثناء قراءته، لصعقه.

يتكلم المثقفون والشعراء عن عرق الفلاح وفأس الفلاح،  وقد يخطب  الساسة لصالحهم .

ولربما قرأ المحدِّث منهموا أخبارهمْ، أخذ الكراسي باسمهمْ. نظم القصيدَ بوحـْي ما جال الخيالُ بكدحهم. رفع الشعارَ بزعمِ ما فاض الفؤادُ بحبهمْ

رحت وأنا أعمل مع مرضاى فى الأرض بشكل مكثف وحقيقى أيام الحماس والأمل المطلق،رحت أمسك معهم بالفأس. انحيت على الفأس أربع ساعات متصلة، كنا  لا نجلس خلالها إلا لنتبادل أنخاب الماء البارد كل ساعة بالتمام، وكان المرضى يتبدلون علىّ كل ساعة وأنا فوق فأسى، أربع ساعات. أتصبب عرقا. ظهرى يؤلمنى. يشفق علىّ أبو عيد ويتعجب. لا أمانع أن يكون قد اتهمنى أننى مثل مرضاى. علمت من هذه الخبرة معنى كلمة فأس، ومعنى كلمة عزق.

تصورّت أن تعريف العامل والفلاح الذى حيّر رجال الثورة الاشتراكيين، ومن بعدهم فقهاء التشريع والسياسة يمكن أن يحلّ بطريقة عملية، وهو أن يحضر كل من يدّعى هذه الصفة. يعنى كل من يتقدم للترشيح للانتخابات بهذه الصفة (عامل / فلاح)، يتقدم لاختبار “الثقة” مثل قفزة المتقدمين للكلية الحربية، يمارس ما مارست أنا فى هذه التجربة، وهى التجربة. التى فرضتها-أيضا- على إبنى الأصغر حين لمحتُ فيه ما يحتاجها، أقول إننى أقترح أن يُحضر المرشح بهذه الصفة من ضمن مسوغات ترشيحه شهادة أنه استطاع أن “يعزق أربع ساعات متصلة” فى عز “نقرة” “القيالة”، “لا يا عم سعيدة، دى البدلة جديدة، هلاَ هلاّ سعيدة، يا بو بدلة جديدة”. الـله يرحمك يا صلاح يا جاهين

…. تفجّرتْ- بفأسكم  منابعى ضاقت بها حروفنا، تـَرَعـْرعـَتْ بطينكم مشاعري ، تـَبـَرعـَمـَتْ مقابضُ الـَمخـَاوِفِ، تـَفـَتَّحتْ، وأزهرتْ، وأثمرتْ، تفجَّر الحنانُ بالبشــَــر.

طويت أوراقى. لم  أقرأ ما كتبت، نسيته تماما، حين عثرت عليه أثناء بحثى عن الفصل الضائع رفضته، لكنّى تذكرت من خلاله هذا الترحال فى تلك الجبال،علاقتى بهؤلاء الناس جزء لا يتجزأ من سيرتى ونوع وجودى. قلت أكتب ذلك  دون ذكر هذا النظم الدخيل، هل هو دخيل فعلا؟  أنا لم أحل مشكلة هياجشاعريتى الخائبة كلما تعريت أمام الطبيعة مسافرا، رضخت أخيرا لإثباته كما هو ،لأنظر فى معنى ذلك  أنا أو غيرى يوما ما . أثبته وليكن ما يكون.

نبهنى السائق الأسود أننا وصلنا إلى الحرم الشريف.

أنا لا أمارس المهنة خارج بلدى .  ممارسة المهنة ممن هو مثلى فى السعودية تذكرنى بقولى عن  نفسى فى أغوار النفس:”ساعات أشوفه مشخصّاتى، مضحك الملكة الأغا،” لذلك لم أفعلها إلا أربعة أيام خلال أربعين عاما، وعلى الرغم من أننى وضعـت شروطى إلا أن الصورة لم تفارق ذهنى.

أعرف زميلا لى شديد الذكاء، شديد النجاح، يعرف الطريق إلى جيوبهم، وحتى لا أظلمه، وربما إلى قلوبهم، أراد أن يمدحنى أو يلمزنى، فقال إننى لم أُضطر إلى عملية تنظيف أموالى وضميرى كما اضطـُر آخرون ممن لعبوا لعبة الخليج، ولم أفهم تعليقه إلا لاحقا.

ذهبت إلى السعودية شهرا فشهرا (فى 1980، ثم 1981) وكان ذلك للتدريس من قبل هيئة الصحة العالمية، كما ذكرت . كنت أنتهزها فرصة لأكتبوأختلى بنفسى، وأعيد النظر، وكلام من الذى أوجعت وعى القارئ به مئات الصفحات. كنت هناك أنتكس شاعرا خائبا وأنا أقاوم بشدّة، كما كنت أرفض أى مهمة علاج خارج مهمة التدريس التابع لمنظمة الصحة العالمية والتي ذهبت من أجلها.

الناس-حتى المرضى – يختلفون حسب السياق المحيط بهم ، مرضاى الذين يحضرون لى فى القاهرة ليسوا هم هم الذى أقابلهم فى ديارهم حتى لو حملوا نفس الاسم ونفس أرقام الهوية أو جواز السفر .

هل يمكن أن أكتب سيرتى دون أن أعرج إلى تطورى وممارستى لمهنتى، وموقفى النقدى منها؟  أنا لم أستطع أن أختبئ فى كتاب مهما كان مرجعا معتمدا، ولم تخدعنى لافتة أننى طبيب نفسى، ولم تغن كتابة وصفة (روشتة) عن تعرية وعيى جنبا إلى جنب مع معايشة وعى مريضى المتناثر أو الفائر أو المغيّم. حين كتبت قبل أكثر من ربع قرن كتابى “حبرة طبيب نفسى” كان نوعا من السيرة الذاتية المهنية إن صح التعبير. لو فكرت أن أصدر الجزء الثانى منه فأنا أحتاج إلى ترحال مستقل، أكثره لايــنـقال. لماذا؟ لأننا نمارسها بأمانة تتجاوز القيود التى سجن فيها آخرون أنفسهم تحت عناوين حديثة فاشلة أدعو الله ألا نضطر لها.

سوف أكتفى فى هذا الترحال الحالى بالإشارة إلى ما ذكرته إجمالا فى مقدمة ديوانى “أغوار النفس”.لم يقرأه أحد لأنه يقع فى “الربع الخالى” من القراء.  لا هو علاج نفسى، ولا هو شعر عامّى ، ولا هو سيرة ذاتية. فوجدت أن اقتطاف هذا الجزئ الذى هو سيرة فعلا، وربما سيرة أصدق لأنه لم يكتب لهذا الغرض (كما ذكرت تبريرا لهذاالترحال الثالث كله) . فيما يلى هذا الجانب من سيرتى كما سجّلته منذ 1976 وأرجح أنه لم يتغيّر كثيرا. (قمت بتعديل طفيف جدا، وحذف محدود).

قلت أرسم نفسى بالسمّاعهْ والنضارهْ واتـْـدَكْتـٌـرْ وارَيّــح، واقعد ارطنْ باللسان، والنصايحْ، والروشتة، والعلامْ. بس يا خوانّا دى سكة مدربكة.

ييجى صاحبك “ملط” إلا ما الحقيقة، ييجى يزقلها فى وشى وتنّه ماشى، يبقى نفسى أقول دا “مجنون” واستريّحْ. بكره يعقلْ، بكره يهمدْ، بكره يكتِم ْبالدواواللاذى منّه. إلا لأّه، إلا أبــدًا، إلا شُوف:

طب وانا مالى ياعالـم؟ هوّا انا الـلى عٌيِـيت ياناس؟ لَـمْ قدرت اعمى بنواضرى. حتى لو كان العمى “سيم” البضاعة اللى يمشّى الحال ويملا الجيب تمامْ. قلت: إعقل يابن نفسى. قلت: حاسب ما لْفضايح والجُرَسْ. قلت عيش زى اللى عايشين والسلام. بس والله ياعالم لم قدرت. قلت أخطف نظرة عالْـماشىواغمّض من جديد، هيّة نظرة واللى خلقك، لم تنيتها، بس شوفوا اللى حصل:

أما صورة مرعبة يا خلق هوه،..إلحقونى.  قلت غلطان والنبى يا ناس سيبونى. قلت اغمّض تانى حبّه صغيّرين. طب حافتّح ليه يا عالم؟ هيّه فرجة،  بصّ لىصاحبك ولعــّبلى حواجبه:  قال وقعت.

القلم صحصح ونط الحرف منّ لوحده بيخزّق عنيّه. وابتدا قلمى يجرّحنى أنا:

قاللى بالذمةْ، لو كنت صحيح بنى آدمْ، بتحسْ. والناس قدامك فى ألمهمْ، وفْ فرحتهم وفى ميلةِ البخت،  مش ترسمهم للناس؟ الناس التانيةْ. إللى مش قادرةتقولآه عند الدكتور. أصل الآه الموضة غالية، لازم بالحجز، لازم بالدور. مش يمكن ناسنا الغلبانة، إللى لسّه ما صابهاش الدور، ينتبهوا قبل الدحديرة، قبل ما يغرقوا فى الطين ولاّ السبوبة حاتتعطل لو ذعت السر؟ ولا انت جبان؟ بصراحة اناخفت. خفت من القلم الطايح فى الكل كليلة. حايقولوا إيه الزّملا المستنيّةالغلطة؟ حايقولوا إيه العُلَمَا المُكْن؟ (بسكون عالكاف أوعك تغلط) على عالم أومتعالم، بيقول كما راجل الشارع؟

القلم اتهز فْ إيدى، طلّع لى لسانه، يعايرنى إنى جبان. لأ والله  مانا ساكتْ. …………

أنا مالى، أنا لىَّ الناس، وما دمت باحِسْ، والحبر بتاعى ميّة نار، راح اقول.

والخايف يبقى يوسّع، أحسن يتطرطش.  أوتيجى فْ عينه شرارةْ، أو لا سمح الله: يكتشف انه بيحسْ.

أشعر أن  فى هذا المقتطف المحدود، والمقطع من المكاشفة ما يبرر اقتطافه من جهة، وأيضا ما هو أقرب إلى نوع الممارسة التى أمارسها، وأخيرا يكاد يفسّر هذا الإلحاح فى جمع أعمالى المتكاملة بالصورة التى سمحت أن تخرج بها هذه الترحالات.

20/9/1987

أعتمر كثيرا طول مدة وجودى فى الطائف. كل خميس تقريبا، مع أنى ما زلت أعتبر قيام الليل الذى نشأت أتابع أبى وهو يمارسه ليس أقل ثوابا من طقوس العمرة، بل لعلّ الأمر صريح بشأنه، فضلا عن شرف السرّية ، وتنمية الحوار الداخلى، وتعبد حاجة المحتاجين.

أنا أحب السعى والهرولة، نذكرنى – دون أى تفسير – فكرة السعى بين الصفا والمروة  ببرنامج “الذهاب- و- العودة “in-and- out   program   الذى أعتقد أنه جوهر كل حياتى، بل إن هذا العمل الحالى الذى أخبّئه فى طيات الترحال يكاد لايفعل شيئا إلا أن يؤكد أن الحياة ليست إلا برنامج “الذهاب- و- العودة “.تؤكد لى  الهرولة  ما وصلنى أثناء عدوى مع المرضى من حاجتنا  إلى فك تجمد الجسد. أجسادنا أصبحت، أو لعلها كانت دائما منذ رسول الله عليه الصلاة والسلام، معرضه للتيبس مع تيبس الأفكار، نحن نتيبس ونحن نجلس جلسة ثابتة، أو ونحن نمشى مشية نمطية، الجرى به من الزهو ما قد يجعل فك هذا التيبس لحساب التصعيد والتنافس لا التفكيك. فى المشى قد تمشى مرحا وتزهو  على غيرك، أما الهرولة فهى ما تقابل “تعتعة الوعى” التى هى أساسية فى حركية النمو.

الدورات حول الكعبة هى أوثق ما تكون علاقة مع دورات بروتونات الذرة. دورات الإيقاع الحيوى. دورات نبض الكون. أىُّ حدس هذا وأى وعى وأىرحمة،مرة أخرى :  هذا ليس تفسيرا، ولا تبريرا، ولا دعاية ولاشىء البتة، “هذا” “هو هذا”.

ينزل الدين بما هو نحن، ثم نتطاول عليه ونُنَظِّرُهُ،  ونفسّره،  ونعقلنه،  فنبتعد عنه،

نحن نصنّم أدياننا وعقولنا ومناهجنا إلى ما صرنا إليه،

يبدو أن أجسادنا وعقولنا قد أصبحت فى حاجة إلا “هزاز خرسانة”، وليس إلى هرولة حتى يمكن أن تتحرك لتسمح بأى احتمال آخر.

كلما طـُفت وسعيتُ حاورتُ الكعبة وحاورتنى حوارا لا ينقال.

كلما ابتهلت إلى الله بطريقتى وعشمت فيه بمحاولة صدقٍ مجتهد، ورضيت عنه برضاه عنى: أسفتُ على حالنا حتى أكاد أعجز حتى عن الاحتجاج.  وجرىبينى وبينه  ما لا ينقال. يقوم عنى شيطان شعرى الحَصِــرْ باللازم. مهرب من ما لا ينقال إلى ما يمكن.حين حدث ذلك فى العمرة الأولى حسبت أنه مصادفة انفعال، إلا أنه تكرر مرتين. ثم نسيتالأمر كله حتى عثرت على ما عثرت أثناء بحثى عن الفصل المفقود.

عمرة أولى (20/9/1981) الدورات السبع

يتوارى الفرعُ بجوف الشجرةْ،  يورق جذْرٌ تحت الأرض، تتخبّط أحلامُ الناسِ سكارى. فى غابة سيقان عَجْــلَى . ورحت أدورُ أغيبْ، فأصحو أثور:

متى أنتهى؟ متى ينتهون؟ أنارَ السَوادُ على وجهها: دعاءً صلاةٍ وعِشقَا، وتلمسُ أستارَهَا، فأفعلها مثلها. أحاكى اللسان بغير كلام.

يصيح الرجال “هو اللّه أكبر”، هىَ الذات أصغرَ، أصغَرْ . يضيع الصدى وَسْط همس الشفق.  تزاحم كومُ الرجال النساء، فخِفتُ أذوبْ بصمْت الغِناء. بهمس الفضاء، سقوطاً لكلَّ ادعاء، وكلَّ «أنا»

إلى الأرض تحتى نَظرتُ، فما صرتُ إلا قدمْ تموءُ بجنب قدمْ.

وساءلتُــه:

لماذا اتبليتَ العبادَ بذل العناد؟ بلغز الكلام؟ بوهم البقاء؟ بحَدِّّ الفناء؟  لماذا الذكاء الغباء؟ لماذا وعيتُ بأنى «أنا»؟ لماذا امتُحنْتُ بذاتى؟ سُلبتُ ذواتى؟

رفضتُ الحجرْ. . تزاحم فيه سواد البشر، أغظْتُ القدرْ، أدور وأنسى، أدور لأنسى، ندور فنُنْسَى.

شبعتُ رجعتُ أبِّـللُ قَطْـرِى، أفجِّــرُ منِّى الضياءَ المُطَمَّى. وما خِـفتُ منهُ، ومارحتُ عنهُ. وما زاغ عقلى بعيداً هناك هروباً، سوى تحتَ ظل أمانِ الوثوق بيومٍ يعود إليه.  وصليتُ نبضَـهْ، وأغفيتُ دهرَا.

وحين انتبهتُ:  وجدتُ الخبيثَ يلعِّبُ لى حاجبَيْه،  رجعتُ إلى لُعبتى دائريّهْ، وحيداً وحيدا، أصارعنى دينصورا، وياليتنى أستطيع.

عمرة ثانية (27/9/1981) أنهار  المسعى السبـع

الدائرة الدائرة الدائرة تدورْ، والعقل الحس الوجد المسحورْ، مشدودٌ للبؤره. القامةُ مرفوعـهْ، فالركعةُ  فالسجده. دار اللحن تَنَاسَقَ فى أفلاكِ الناسِ الكُثْر

ذرات الرمل الدمع الأنهارْ. البشر المجرى التيارْ، أدخُلُ رحمَ الناسْ، أخرج بهو الناس، بين الحَجَر وبين الصخره أولدٌ ضعفين . بين وجوهٍ بيضٍ سودٍ صفر سمرْ، ولغاتٌ تصل الناس بغير كلام. تصدح  أمواجُ الأنهار:

قال النهر الأول:

لو أن عيون الواحدْ، لاقت عين الأخرْ، ولمَّدةِ بسمهْ، فاضطرب الواحْ، وابتسم الأخرْ، وَلمدَّة همسهْ:  لتغير وجهُ  الكون.

قال النهر الثانى:

لو أن المسعى أفشى سره، والناس امتزجت كتفاً كتفاً، قلباٌ قلباً، كعباً قدما، والهرولة تحطِّـم قضبان الجسدِ الصنمِ السجانْ، لترعـرَع َ زهرُ العدلِ بقلبِ الكونِ الناسِ الربْ، ولفاحَ عبيرُ رحيق العرق الجهد، يكتمل الناسْ، بجوار الناسْ.

قال النهر الثالث:

هبت رائحة الصُّحبْة، صحبة وجهِ امرأة ٍتحمل طفلا، والرجل الأسمر يسبح فى عرقه، وعجوزٍ يدفعها مرتزقٌ يلهثْ، والمرتزقُ الـْـيـَلْهث. أين القبلة؟

لو أن الناسْ، أنِسَتْ رضيت بالناسْ، لتغير حالُ الناسْ.

قال النهر الرابع

لو أن السعىَ تناغم بعد السعىِ إلى السعىْ، لرجعنا أطهر من طفلٍ لم يولد بعد، لا نتكاثر بالعدة والعد، ولعاد المعنى، يملأ وجه الكلمهْ، يهتز الكون: لو يعنى القائــلُ «أهلاً»، أن «أهلاً»

قال النهر الخامس:

لو أن الناسْ، إذ يعلو بعضٌ منهم فوق البعض: درجات. يعرف ذاك الأعلى خطر الرفعهْ، وخز المِقْرَد، لَخَــلتْ أدوار الناس العليا، لا يجرؤ يسكنها إلا حملة سر الكلمة

قال النهر السادس:

لو أن الكلمهْ، لو أن الفعل، لو أن الله،… لو ماتت “لو”، لانتظم السعى، وامتد الوعى

قال النهرالسابع:

فُتحتْ أبواب الرحْمة قسراً، لّما جعل الله الناسْ، يَرَوُنَّ الناسْ، مثلهمو. مثل الناسْ.

…..:

وتضاءلتِ الذات تَفرقَّت الكلمةْ، دارتْ عجلاتُ اللعُّبه، تعزف لحناً تكراراً، وتوارى الحلم. تنعكس الدوره، عادت تقفز “لو”:  «لو أن الدائرة اعتدلتْ..» لو؟ ثانية «لو»؟

لعن الله الدرب الأسهلْ

كتبتُ مرة  فى العامود الذى كنت أكتبه أسبوعيا تحت عنوان  “تعتعة”(الدستور) لأكثر من عام :

من قواعد التعتعة أن تطلق لخيالك العنان، ولكن على أرض الواقع ، قيل وكيف كان ذلك ؟ قال: تلعب لعبة “لو لم”، ثم تلحقها أو تسبقها بلعبة “لو”، وبذلك تستطيع  أن تعيد النظر فى الناس والأحداث والمبادئ والتاريخ،

وكم فزعت من هذه اللعبة حتى الرعب -خاصة حين يقترب اللعب من المسلمات والبديهات -فأتوقف فى كثير من الأحيان وأسأل الله الستر، خذ عندك -مثلا- : ماذا “لو لم” تقم ثورة يوليو؟  ماذا “لو لم” يمت جمال عبد الناصر يوم أن مات، وظلّ(أطال الله عمره!!) حيّا حتى الآن؟ ماذا “لو لم” تصب الرصاصات السادات؟، أما عن لعبة ” لو” فهى أقرب إلى الحاضر ، خذ مثلا : ماذا لو فصل أى عضو مجلس شعب لا يحضر جلستين متواليتين ؟ ماذا لو كان انتخاب الرئيس -مع منع الاستثناء ومنع تعديل الدستور بالمقاس- لثلاث سنوات تجدد مرّة واحدة .. وهكذا..

لكن عدد الدستور  هذا هو عدد العيد وكل عام ونحن وأنتم بكرامة ،إن لم نكن قد نسينا معنى الكرامة، وأن الله كرّم بنى آدم، وأنه -سبحانه- قد دعىالمسلمين منهم للالتقاء كل عام حول بيته الحرام فى الحج، ويأتى حج هذا العام وبيت المقدس تظلله سحابة سوداء هى سرب من جراد نتن، يمطربيت الله المقدس بحجارة من إهانات، وبصاق مسموم، فلا يهنأ لى عيد ، وتقفز إلى وعىى لعبة “لو”:

ماذا لو توجه الحجيج ، كل الحجيج (مليونين) بعد انتهاء مراسم الحج مباشرة إلى القدس ، ولا نطلب من الدول النفطية (والنفط من عند الله كما تعلمون) إلا أن يهيئوا لنا أتوبيسات (وسندوتشات وزجاجات ماء من ماء زمزم ) ، ولن يتكلف ثمن كل ذلك قيمة بضع طائرات ف61، ويمضى الحجيج حتى الحدود، ثم ينزلون فى مسيرة لا تتوقف زحفا إلى القدس ،ممسكين بزجاجات الماء والسندوتشات، غير متسلحين حتى بالحجارة، ويبدأ الاستشهاد: ألف، ونستمر،عشرة آلاف، ونستمر، مائة ألف، خمسمائة ألف،ونستمر، مليون ويبقى مليون، فيصبح المسلمون فى العالم ألف مليون إلا واحد(ذهب شهيدا).

……..

تعتعتى حول الكعبة بين الناس وسط الحركة الدوارة والساعية قديمة، مزعجة.

هيّا نفعلها ونزحف حجا استشهاديا إلى بيت المقدس، وبناقص عشرة مليون مسلم ، يستشهدون بالجملة ، بدلا من أن  نقتهلم بالقطّاعى- فعلا ومجازا- فى الجزائر وعلى موائد القمار والحوار !!

(انتهت التعتعة دون تعليق).

جاء التحايل على ما لا ينقال فى العمرة الثالثة على لسان الكعبة المباركة.

عمرة ثالثة ( الناس والحجارة).

من خلف أستارِ الحجابِ الأسـْودِ، أحجارهـُا دمعتْ دماً،  يا غائـَبا لم يـَعـُدِ، يا مولداً لم يولـَدِ،.. ودوائر الصمت المفرّغِ تـُفـْرزُ الندم

يا مـَنْ تدلّى من مشانق سترتي، حـَجـَري تندّى خجلا، من فرطِ صـَفـْع ِالقبلِ

تتحرك الشفاهُ في تثابرٍ معادْ، تتمايـَلُ الأجسادْ، تـَنـْتـِشـِى، فـَتـَرْتـَخـِى العقولْ:

يا ربّنا، يا ربّنا:  أَدِمْ عـَلـْيناَ نـْعـَمـَةَ العمى ، حرموك َمن شـَرَفِ الألم، فارجع رعاكَ الله. نــمْ.   و الله يـَغـْفـِرُ للـجـَمـِيعْ.

الذاهبون، العائدون، التائهون، النائحون،  لا ينقـُص الحفلُ البهيجُ سـِوَى الدفوفِ الصـُّمَّ والوعـْى المـلوّثِ بالـَّرضـَا.  الذاهلون الخائفون: من بعضهمْ، من قُــربهمْ،، من بـُــعدهمْ،، ياربّ ضلوا الدَّرْبَ دَارُوا حـَوْلـَهـَمْ، بمحلّـِهمْ –

لمّا تسابقت الضباع ُعبادةً محسوبةً للجمعِ أو للمحوِ لا للسعىِ أو للصحوِ،  خافَ الجياعُ: جوعاً أمــرّ. جرعوا الكئوس المترعةْ، بالخدرِ يلتهم الرؤى. رملُ الفلاة أحنُّ من لمس المـَُغيَّبِ بالذهولِ وِبالجشعْ. وكثافة الصـَّخـْر الأصمِّ أرقُّ من رطانة البكمْ.

دارت تئن، تبعثروا، فتداخـَلـَتْ أشباحـُهم، فى ظلِّ فجرٍ كاذبٍ، بـَعـْدَ الأفـُقْ.

20 يوليو 2000

لست واثقا متى أكون أقرب إلى ربى؟ حين أكون وسط الناس، خصوصا الناس الذين لا أعرفهم؟ فى هذه العمرات مثلا، أو فى بلاد الله لخلق الله فى كل بقاع الدنيا؟ أم حين أكون وحدى مع الطبيعة الهامسة، ودوراتها المتناغمة؟ أمضيت عدة سنوات طويلة فيما أسميته: استراحة فى بلد أطلق عليها أنا ومن حولى”المنوات”، وهى بلدة حماى وحماتى. زوجتى صعيدية الأصل، إلا أنها تصر أنها شرقاوية النشأة والطبع، هذه الاستراحة تابعة لمنى الأمير وليس للمنوات، وهى أقرب إلى أبو صير على طريق سقارة،

ذات ليلة سمعت أصواتا هامسة أو مُصَوْصِوَةْ، وأنا معتاد على أصوات الليل فى الحقول، ثم إنى آنس بشكل خاص بصوت الضفادع، وكم أعجبت بـوصف إحسان عبد القدوس لصوت فهد بلاّن أنه مثل صوت ذكر الضفدع، مع أنى لا أعرف هل يوجد فرق بين صوت ذكر الضفدع وأنثاه أم لا، لكن هذا الصوت تحت سريرى الجريد ذى الحشية الكاوتش التى تكاد رخاوتها تلصقنى بأعواد الجريد تحتى، كان صوتا مختلفا، سوسوة على همهمهة غامضة، ولم أحاول أن أستقصى الأمر عدة ليال تالية، بدا لى أننى مؤتنس بهذا الصوت بشكل ما، لكن حركة خفيفة أضيفت للصوت بعد حوالى أسبوع، فنظرت تحت السرير (والسرير الجريد ليس له “تحت”)، فنظرت من خلال عصيّه، فوجدت قنفذة أم تحيط بعدد من أطفالها الرضّع، بعد أن حفرتْ لهم فى أرض حجرتى الطينية حفرة تحميهم من البرد. لم تكن لى علاقة طيبة سابقة بالقنافذ إلا ملاحظة وجه الشبه بين وجه القنفذ ووجه الفأر (وربما الرأس كلها)، ثم ما أتيح لنا من ممارسة قسوة الطفولة غير البريئة ذات مرة، ونحن نحاول أن نتفرج على قنفذ جاء به أحد عمالنا من الحقل، فوضعناه فى إناء متسع به ماء، ثم أخرجناه، وأخذنا نشكه لنتفرج عليه وهو يـنغلق على نفسه فى شكل كرة جميلة رغم شوكها المُــشْـرَع فى كل اتجاه، كنت كلما شبّـهنا فى علمنا الطبنفسى انسحاب الشيزيدى(الانطوائى) إلى قوقعته، أو تحفُّز البارانوى (المتوجس) بأشواكه، أرفض هذا التشبيه، وأقول فى نفسى هؤلاء الناس لم يروا قنفذا فى حياتهم، تماما مثلممثلى العمال والفلاحين فى مجلس الشعب الذين لم يروا فلاحا،

هذه القنفذة الأم تحت سريرى الجريد ليس لها أى علاقة لا بالهرب الانسحابى، ولا بالكر والفر، هى أم مثل كل أم، كنت فى ركنى هذا أصاحب كل ما تدبفىه حياة من نبات أوحيوان، كما كنت أحيّى الجماد بطريقتى الحوارية الصامتة بشكل أو بآخر. كان هذا وذاك يقرّبنى إلى الله بشكل مختلف عن قربى إليه وسط الناس ومن خلالهم.

فى ذلك اليوم كنت أقرأ قصيدة جميلة  لفاروق جويدة. أنا أعتبره شاعرا رقيقا على الرغم من أن زملائه من الشعراء يرفضونه لأنهم ليسوا هو. كانت القصيدة أكثر رقة مما أحتمل، فرُحت أخاطبه ملتمسا له العذر معلنا عجزى عن مواكبته قائلا، وفى نفس الوقت سـرَّبتُ بعض ما لا ينقال.

6-7 يوليو 1981

يا شاعر الوداد والسهاد والمؤانسة معذرةً.

عجزتُ عن نثرِ الورودِ فوقَ موكبِ الأشواق،

….إلى أن قلت

يا شاعرا تمايلتْ أعطافه فوق البراق، فرحتَ تشدو للفراق والعناق، وتجدل الأنغام، ضفائرا من ذهب الكلام، تعوم فى عيونها وترتوى، فتعزف الألحان

ثم قلت:

أحاول التقليد أنكفئْ،  فلم يعلمنى أبى فن الضياعِ الحاذقِ المتمكنِ. يشدنى من سُرّتى حرف النجاة، تــُــرضعنى الطبيعةْ. فوق الصخورأرتطم، تموت آثار القدم،  لا…لست شاطرا،

من فرط وحدتى علّمت نَفْسِىَ القراءةْ، فيما وراء الأحرف المنتظمة. أفسدت شفرة الوداد والتجارة، فلم تعد مشاعرى مجهّزة، لحمل هودج الأميرة.

فجأة أطل علىّ البديل الجميل القاسى المروع الواعد.  شعرت أن وحدتى هذه تقربنى إلى كل الحياة وليس فقط إلى  كل الناس. كيف / هذا هو ماحدث.

وســْط الحياة كلـَّهاَ، (بها… بدونها) : نصبتُ خيمتي: ناجيتُ ثـُعـْباناً وحيداً ذاتَ ليلهْ،  أناملى ترتاح فوق شوك قنفدْ،  حـَضرتُ حفلاً ساهراً في وكـْرِ صـُرْصـُورٍ مـُهـَاِجـْر،  صاحبتُ نملة وحيدهْ،  في رحلة عنيدهْ ، كلَّمت فرخا عاجزا قد أسقطته قسوة الرياح،  حملـُتـُه مـُهـَدـْهِداً لعشِّه فوق الـَّشـَجرْ،…. وفاضَ قلبي بالسماحِ والشـَّجـَنْ. يمامـَتـَان حـَطـَّتـَا عـَلـَىَ فـَنـَنْ

لكنني لم أَسـِتـَطَع أن أصـْحـَبـَكْ، في المـَخـْدَعِ الوثيرْ. فمعذرةْ خـَرَجـْتُ بـَعـْدَ الـَّدائِرهْ.

20 يوليو 2000

هذه القصيدة عثرت عليها أيضا أثناء البحث، ذكّرتنى بعلاقتى بالقنفذ تحت سرىرى الجريد. لكننى بعد هذه السنين ما بين كتابة هذا الكلام وبين قراءته سمحت لى بالنظر. حين قرأت “من فرط وحدتى علّمت نفسى القراءة، فيما وراء الأحرف المنتظمة رعبت من جديد،تذكرت نقدى اللاحق للقصيدة التى كنت أحسب أنى أوجهها لأمى، هذه المحاولات المتفردة هى رائعة وخطيرة فى آن.

أشك كثيرا فى هذا الموقف الذى يبدو متعاليا عن العلاقات البسيطة الحميمة، أو حتى عن العلاقات العمياء الصفقاتية، أعتقد أن محاولة التفرقة بين التبرير والتجاوز الحقيقى هو أمر صعب جدا. لم أستطع أن أحسم الأمر حتى الآن.

إن العلاقة بالطبيعة، وحتى بالله دون الناس هى خدعة كبرى لا يرضى عنها الله.

أنا أحب فان جوخ، أعرفه من خلال أضوائه المشعة، وجنونه. ومن الفيلم الذى مثله كيرك دوجلاس، لكن ما يشغلنى فى فان جوخ بما يناسب السياق الحالىهو علاقته بالطبيعة، ثم بأخيه، ثم بحبيبته، وحين أعاود النظر أتصوّر أنه لم يرَ حبيبته الحقيقية أبدا، ولا حتى أخاه، فحلّت الطبيعة الداخلية والخارجية محل كل الناس، وكل المواضيع الحقيقية ،

تأكدت هذه القضية بشكل عار فى رواية العطر التى أشرت إليها منذ قليل، التأله الزائف (بالعطرالمستحيل) وتشكيل الذات من داخل الذات ، مستحيلات عدمية.

يبدو أننى كنت فى تلك الأيام- فى خلوتى فى المنوات- شديد الاقتراب من نفسى، وحيدا فى نفس الوقت. وجدت أننى قبل هذا الكلام (هذه القصيدة) بثلاثة أيام كتبت أيضا وأنا ألف حول قضيتى الأساسية ، وقضية أى بشر. ووجدت ما ىلى:

3/73/1981

يــا بسمة الرضيعْ،، يا نسمة المساء في الربيعْ، يافـطرتي الوديعهْ، من لي بسيفٍ باترٍ محبَّ؟ ….. ياأمنا الطبيعهْ، الثدي جفَّ والرضيع لا يريد ينفطم

لكـَّنـِنـي برىْء، ، قسما بربّ النـَّاس إننى برىء، جريمتي هويّتي، فقدت مِقْوَدِي، فقادني ذاك الذي قد ألبسوه صورتي، فـَرُحتُ عـَنـْهُ أنسلخ

……

…لــمْ تنمُ بعدُ حول جـْذْعـِىَ الزعانفْ. وريشىَ الزغب، قد طار في غـَيـْرِ اتجاه، فـَغـُصـْتُ في بحورها العميقهْ،  يا هوّلها الحقيقهْ.

العـَلـْقـمُ المعـقُودُ فوق جـِذْعِ شـَجـًرهْ،  اللامع المصقول مثل دمعة المهاجر الوحيد،  قد صار زاد الأولياءِ الرحـَّلِ،  إلى بلاد اللَّه خلْقِ الله في كدْحِ اللقاءْ.

…… يــا شـَوْكها الظــُّنـُون في خميلـِة القلوبِ الوجِلــــــــهْ قد أجهضوا الآمال بعد ما تـَخـَلّقـَّتْ. يــا رجفة الولاَدَةَ الجديدهْ، يـــا رقصة الحبالِ فوق أَفـْواهِ السـَّباِع الجائعهْ.

……. يــــا بطء خطْوِ الموتِ من قبلِ المـَخـَاِض المـُنـْتـَظـَرْ.

بعد عام إلا شهرا انقلب الحال:  الحجرة  تبلطت، والسرير الجريد أصبح أريكتين عربيتين ينضمان إلى بعضهما إذا لزم الأمر ليصبحا سريرا بعض الوقت،  وأنا أكتشف  أنها ليست وحدة مفروضة، وأن الدورات التى أنتمى إليها هى يقين طبيعى لا ينبغى أن أُرعب منه.

صحيح أن كل “دخول” لا يضمن الخروج (الولادة)، وأن استعجال الولادة التالية يتطلب اقتحام الموت الزاحف إلا أن الاستسلام لقدر الدورات هو الاختيار الرائع للحياة، هذاما وجدته مكتوبا بعد عام

5 يونيو 1982

عشقتُ وحدتى مسيرتى، رضيتُ بالحياة موتاً نابضاً مفجّرا،أستنشق البشرْ

أطيرُ ألتقطْ، الحُبَّ والرضا، الحـَبَّ والرحيقْ

أعود أْرنـُو.. أرتقبْ، أخلل المـَساَّمَّ أنتظرْ ،  تهبُّ بالبشائــرْ .

ألفّ دورتى ، أعود للفننْ ، أرتِّبُ الفراشْ ، أنـام أرتجفْ، وأرفض الغطاءْ.      لعلّه يجىءْ

يهتزُّ فرع الشجرة ْ، يضَّاعفُ الألمْ، أخلل المسامّ، أنتظرْ

ألفُّ دورتي: أطيـر أكتشفْ ، جحافلَ الحياهْ، في النهر والجبلْ.

سرقتُ لــمْـستى ،وعُدتُ راضيا ، قبلتُ وحدتي، أمِنْتُ للقــــدرْ .

……

[تلفُّ دائرهْ، تلفُّ وحدهــَـا ، تلــــفُّــــنـــى بها ، ألفـــــــُّها….

تلف دائرهْ، تلف وحدها ، تلفّنــي بها ، ألفـّــها ، تلفُّ دائره………]

20 يوليو 2000

فزعت وأنا أقرأ تاريخ كتابة هذا التصالح:، 5 يونيو مرة واحدة!!؟؟، يبدو أنه حتى خمسة حزيران هذا ابن الـ…….. لا يريد أن يموت، بل إن موته، مثل كل موت، هو الذى يخلّق الحياة.ليكن.

أشعر أننى أطلت. كنت أود من خلال تسجيل هذا الكلام الذى رفضت أن أنشره منذ كتابته حيث أنه لم يرقَ عندى إلى ما يستأهل، لكن لما جاء الأمر إلى ما هو تعرية، وترحال، وسيرة ذاتية، وجدت أنه السياق المناسب الذى يمكن أن يحتوى هذا النبض القاهر.

أنا ما عرجت إلى هذه المنطقة لأتحدث عن وحدتى، وعن ركنى المحلّى فى المنوات، فأنا أكتب الآن فى آخر ركن لجأت إليه أعلى القاهرة ركن فيه كلمعانى الرفاهية (بحساباتى الخاصة، ولغتى الخاصة).

أشعر الآن بنفس شعورى الذى كنته آنذاك فى ركنى المسقف بجذوع النخل الذى آنستنى فيه قبل أن أبلّطه هذه الأم القنفذ الحنون. أقول إننى إنما عرجت إلى هذه الاستطرادات إلا لأنى أريد أن أوصّل علاقتى بربى، وطريقى إليه، من خلال هذا الحوار المعَـاوِد والطبيعة الدوائرية، (الدورية – الإيقاعية- سمّها كما تشاء!!).

أختم هذا الاستطراد بذكر خبرة تقع بين وعيى بحتم الدوائرية طريقا إلى البعث (إعادة الولادة) وبين قبول الوحدة قدرا مرحليا لزوم الانطلاقة الواعدة، بلإننى وجدت مراحل هذه الخبرة التى تعد بالاكتمال حال، قد أطلت فى شعرى المتواضع هذا منذ عشرين عاما (إلا واحدا).

وكأن هذا الكلام (لتكن قصيدة) الذى كتب من عشرين سنة كان فهرسا لهذا الترحال الثالث الذى أجمعه الآن، وعلى الرغم من أننى سمّيته آنذاك “تسابيح” إلا أننى أستطيع الآن بعد قرب الانتهاء من هذه التراحيل الثلاث أن أضع الفرض القائل: إن هذه الترحيلات الثلاثة كانت كامنة طول الوقت بنفس الترتيب، وأن الدورات تتكرر مع اختلاف الطول،ننظر فى “موجز السيرة هذه التى كتبت فى الطائف فأضافت -أيضا- بعدا إلي علاقتى بأمى الحقيقية والمتخيّلة معا.

الطائف 15/9/1981

وفُطمت من قبل الرضـَاعْ، فقبعتُ في ركنٍ قصىٍّ مظلمِ، وحبوتُ جذعي للجدارْ. تمايلت أعطافُهُ، فلـَزمتُ صمـِتى،

أحسب أن لومى لأمى ” ليه يامّه كان ليه، لمّا انتى مانتيش كان ليه” يمكن أن يرجع إلى هذا الزعم بالجوع الأولّى، أقول الزعم، لأننى عشت ردحا من الزمن أتصور صحة مدرسة التحليل النفسى سواء التقليدى (الفرويدى) أو مدرسة العلاقة بالموضوع، وأن الطفل إذا شبع حنانا ورعاية اكتسب مناعةً وتكاملاً وصحة وكلام من هذا، ثم تبينت، وهأنذا أتأكد، أن المسألة ليست ارتواء فى مقابل الجوع، وإنما أن يكون العطش غير قاتل، وأن يكون الارتواء غير مرخٍ لحفز الوجود، تجسّد لى ذلك وأنا أكتب دراستى عن رواية إدوارد الخراط “يقين العطش” الذى قدمتها فى جمعية النقد الأدبى بعنوان “استحالة الممكن، وإمكانية المستحيل”.

إن الرحلة (والترحال) تتم باستمرارية السعى، لا بسلامة الوصول، طرق، فصدّ، فاستجابة، فرفض، فانسحاب،، فطرق وهكذا.

نكمل القراءة. بعد أن: “ولزمت الصمت”:

-2-

وطرقتُ باب أمـُومـَتي، فتنصّتت: هل ياتُرى قد أدركتْ؟، همّت؟  تراجعتْ؟ ماتـَتْ؟  تماوتتْ؟  فاهتاج جوعي للحياه ْ، والنـَّزْفُ من وخز الألمْ، لاَيــْنقطعْ.

أعتقد أن موقفى من أمى، رغم كل شىء، ورغم تراجعى واعتذارى لها، ورعايتى لها، لم يكن متجنيا على طول الخط، والتساؤل هنا عما إذا كانت قد أدركتْ أم لم تدرك أصلا، أهملت أم نسيتْ؟ هو تساؤل مشروع على ما يبدو، لكنها بالقطع ليست مسئولة عن سلبيات النتيجة، فلم تكن ثمة سلبيات حين نتذكر أن اهتياج الجوع فى ذاته ليس إلا حفز للحياة، وأن يقين العطش هو أقرب إلى زخم الحياة من الارتواء المنوّم، أوالتداخل فى المجموع حتى التلاشى أمْنا كاذبا:

يبدو أن عدم انتمائى إلى تنظيم بذاته، أو توقفى عند أيديولوجية ثابتة، أو احتمائى فى ثلة معينة (حتى لو كانت الحرافيش) كان وراءه هذاالوعى بأن التداخل “جدا” يحمل خطر الرخاوة المهترئة،وهو لا يعطى دفئا ولا يعد بانطلاقة، وربما ينتهى إلى كتلة متجمدة بلا معالم، لا مفـر من الرجوع عنها. (إن أمكن).

تأتى الآن مسألة الاحتماء بالأسباب، وقد سبقت الإشارة إليها فى أكثر من موقع. لكن خدعة الامتداد فى الأولاد لم تأخذ حقّها من الاعتراف. أنا لا أنكر أننىمسئول بشكل ما عن توجه تخصص أولادى إلى تخصصى رغم الاختلافات النوعية فى التفاصيل والتخصصات الدقيقة، لكن الوعى ينبه إلى خدعة الأب حين يكتشف أن ابنه ليس هو مهما رسم أن يكون كذلك، فلو أنه (أن الأب) نجح أن يثتَقِّل ابنه مثله فقد ألغى نفسه، ولو أنه فشل، فعليه أن يواصل بنفسه. المطلوب، مما لا يأخذ حقه من العناية أو الدراسة، أن يواصل الأب استقلاله عن ابنه (وليس فقط أن يواصل ابنه استقلاله عنه).

وجمعتُ من أسبابِها: وَلَدِي أَنـَا،  يا لوعتي، لستَ أنا،

حين يصل الأمر إلى أن الحلول الزائفة لا تروى، بل هى تفضى إلا من جوع شريف معلن، إلى زيف سرابى يعد ولا يفى، يصبح تمنّى الموت، أو لعله الرحيل، حلاّ محتملا،بديلا عن الخداع.

وتسرَّبتْ خطواتنا بين الشقوقِ الجائعةْ

ياربنا ياقـَدَري،

جفّتْ مـَنـَابـِعي .

خـُذْني كـَفـَى ، خـُذْني كـَفـَى.

لم يكن هذا يأسا. ربما هو إعلان نهاية دورة من الدورات التى ألححت فى إثبات أنها القاعدة الأساسية للمسيرة الحيوية عامة، والبشرية خاصّة، وتأتى شرعية مثل هذا الإعلان حىن تسقط الحلول الوسط، وفى نفس الوقت يحتد الجوع، ويصبح مأزق النهاية هو السبيل الوحيد للولادة الجديدة،

أظن أننى كنت فى تلك المرحلة قد تخلصت من وهم قهر السعى لما يسمَّـى “إثبات الذات”، تخلّصت منه ليس بإنكار حقى فىه، ولا بتجاوزه بعيدا عنه، وإنما باكتشاف أن تضخّم ما هو “أنا”قد يتمادى تحت هذا الوهم، وأنه بدعةٌ معطلــِّـة، وأن التركيز على هذه المرحلة لا يؤدى إلا إلى مزيد من الانتفاخ فى المحل، لا مواصلة السير.

أقترب من موقفى مما هو التكامل، وهو يقع فى منطقة “ما لا ينقال” على كل حال، وما هذا الذى جاء قرب نهاية المطاف إلا إشارات إلى بعض ما هو، وليس هو.

فأضاء وعيي بالمــُنـىَ، تمتد بعد المنتهى ، يــا فرحتي لستُ أنــا

هى فرحة الطير الذي تطايرت خميلـَتـُهْ،  ثم الـْتـَقـَى بأمّه ، حـَمـَلـَتـْهُ تحتَ جـِناحـِهـَا، وأوْدَعـْتهُ في الـَفـنـَنْ. هى فـَرْحة السـَّمـَك الذي رجع المياه، من بعد ما ذاق الجفاف الموتَ فى قر الرمال الساخنهْ

ورضعتُ من مجرى عيون لا تغيض:

ورأيتـُهُ يسري بأوراقِ الشجرْ،

وشربتـُهُ قطرا بهيجا في النـَّدىَ

وطعمتـُهُ شهدا رحيقا في الثمرْ،

وسمعتـُه في صمـِت طائرٍ شـَدَا،

صاحبتـُه صمتاً رصيناً في الحجرْ

لا تكون هذه الرؤىة مأمونة، ولا طيبة، إلا إذا تمّت وسط الناس، لا بعيدا عنهم ولا على حسابهم، ولعل كتابة هذا التشكيل بالذات، وأنا وحدى تماما فىالطائف أواصل ترحالى كل خميس إلى الناس من كل صوب وحدب، هو الذى سمح لى أولا: بالمرور واحدة واحدة عبر مراحل تطورى هكذا، وثانيا: بالانتباه إلى أن يكون التوجه إليه ليس على حساب الاندماج فى الناس ومع الناس طول الوقت.

-3-

وِبـَرِغْم رقصِ الكونِ من حـَوْلىِ بـِنـَا،

قد عاودَتـْني عـِلـَّتِي:

ربي أنا؟ أفلستَ ربَّ الناس؟ أين الناس؟

ورجعتُ أحبو فوق شـَوْكِ حـَنـَاِنهمْ، برحابهمْ

وتظل الحيوية قائمة،ولا تكون مصداقية الكدح إلى وجهه مضمونة إلا إذا ظل السعى مستمرا، ولا يمكن أن يظل السعى مستمرا إلا إذا كانت الدورات قابلة للإعادة حتى على حساب هذه الفرحة اليقينية المطلقة، وهكذا، فلم استغرب أن تكون النهاية:

يـــا مرّ تاريخي القديمْ ،

قد خـِفـْتُ لفّةَ دورتى.

الفصل السادس

 الفصل الواحد والعشرون: من الترحالات الثلاثة

ملامحٌ مِـن تَرحال رابع

 

نحن فى أمس الحاجة أن نظل نسمع ضحكتك المجلجلة

وأنت تحوّر القول الشعبى المصرى إلى:

المدية صابتنى ورب العرش نجّانى“.

يا شيخنا الحبيب:

لا تمُت الآن – ربنا يخليك لنا ولهم.

 

الأربعاء 25/10/1995

اقتربتُ من أذنه اليسرى ورحت أؤكد له أن مشروع السفر قد تأجل إلى أجل غير مسمى، (بما يفيد أنه ألغى تماما)، ارتاحت أساريره وكأنه لم يكن يصدق، كان توفيق صالح قد هاتفنى أمس وقال لى إن الأستاذ متوتر جدا من حكاية سفر الإسكندرية، وأنه (توفيق) وعده أن نعدل، وأنه سوف يكلمنى فى ذلك، وطلب منى أن أوافق على العدول عن السفر، وألا أنتظر حتى لقاء الحرافيش يوم الخميس، وأن أسارع بطمأنته بكل وضوح.

تألمت أشد الألم وخجلتُ مما فعلت، وسارعت بالذهاب إليه فى بيته، وأخطرته بهذا العدول. حين شاهدت تلك الراحة العميقة تغمره، ثم تطل من ورائها فرحة طفلية شديدة الطيبة والإشراق، وكأنه أُعفى من عقاب لم يكن يستأهله من أصله، حين لمحت كل ذلك تعحّبت وسألت نفسى: إذا كان رفضه شديد الوضوح هكذا، فلمَ وافق أصلا؟ كنت فى بيته الكريم حوالى الساعة الحادية عشرة صباحا، وتجرأت أن أسأله عما خطر ببالى:

أطرق نجيب محفوظ برأسه صامتا ثم رفعها فى حياء قائلا:

– لقد وافقتُ من أجلك. لقد ذكّرتنى أنك لم تطلب منى أى طلب من قبل، وأن هذا الطلب هو لك شخصيا، ورجوتَنى أن أقبل من أجل خاطرك، فما كان أمامى إلا أن أقبل.

خجلت من نفسى مرة أخرى، ومن سوء تقديرى، ومن إلحاحى، ما هذا الذى فعلتـُه؟

معظم أصدقائه الذىن يعرفون طباعه كانوا يحكون لى عن تعلّقه بالإسكندرية، وحبه لها، وعن أصدقائه هناك، وعن حبه لرحلة الصيف الطويلة، أو المتقطعة، من أيام كازينو بترو، حتى قبل الحادث بقليل، ثم إنهم وثقوا فى قدرتى على إقناعه بما يرفض ابتداء، ونجد فيه صالحا له. نقوم بهذا الضغط الودود بعد أن نتيقن أيضا من أن جانبا بداخله يرغب فيما نضغط عليه به.

حدث ذلك منذ أول يوم خرجنا فيه-بعد الحادث- فى عيد ميلاده إلى الهرم، 11 ديسمبر 1994، وفى مناسبات كثيرة بعد ذلك، نجحتُ فى هذه المهمة عدة مرات بدرجة جعلتهم يثقون فى قدرتى على النجاح فى قفز حواجز الطريق الصحراوى معه. أقنعونى مائة فى المائة أنه إذا ذهب إلى الإسكندرية ـ معنا ـ مرة واحدة، فإنه سوف يكسر الهيبة التى يستـشعرها، وأنه يمكن أن يذهب بعد ذلك معنا ثانية فكثيرا، ثم منتظما، وحين اقتنعتُ مستلهِما نفس الخطوات التى ثبت نجاحها من قبل بالنسبة لما كان يرفضه ثم يقبله فيحبه،  قلت لم لا نجرب فيما يتعلق بسفر الإسكندرية. حاولت أن أقنعه بكل الوسائل السابقة. أضفت تأكيدات مطمئنة، قلت له سنذهب: توفيق صالح وأنا معه، وأنى أعددت عربة خاصة مريحة وكبيرة، وبما أنها أول مرة، فإننا سنقيم فى شقتى على البحر ليلة واحدة دون أن نذهب هنا أو هناك، ثم قلت له إن شاء ذهبنا إلى مارينا وخاصة وأن الموسم انتهى، وأنه توجد حجرة مستقلة ملحق بها حمام مستقل تماما، من داخلها. أصرّ على الرفض المتكرر فى طيبة وأدب ورجاء. غامرت ورجوته أن يقبل المحاولة “من أجل خاطرى أنا كطلب شخصى لى”، لا أعرف كيف صدّق أن هذا من أجل خاطرى، فهو يعـلم كثرة أسفارى وحدى، ومع أسرتى، ومع كتبى، ومع حاسوبى مئات الكيلومترات كل أسبوع، يعرف أننى لا أحتاج صاحبا إلا إذا تصادف أن هذا الصاحب هو الذى يواكبنى له، لا أكثر ولا أقل. لكن يبدو أنه – من فرط إلحاحى – صدّق أن هذا طلب خاص بى، وليس من أجل إطلاق سراحه إلى ما يـُحـِبّ.

تعجبت آنذاك أنه وافق أخيرا لكنه اشترط ألا يخلع حلته طوال الليل، وأن يظل جالسا على الكرسى حتى الصباح، ثم نعود، ووافقتُ أنا بدورى على هذه الشروط العجيبة المتعبة له، قلت فى نفسى “وقت الله يعين الله”، متى وصلنا، واطمأنّ، سأكون قد سرقت من زوجته الفاضلة ملابس نوم مـُعـَدّة، وسوف أنجح فى أن أجعله يمدد على الأقل، بمجرد أن يطمئن أننا وصلنا وأنه يستطيع أن يهتدى إلى مكان حجرة المياه داخل الحجرة الخاصة. لكن يبدو أن المناورات المُتَبَادلـة بينى وبينه ظلت تتصاعد حتى وصلت إلى حد الأزمة، هو يوافقنى آمِلاً أن أعدل فى آخر لحظة، وأنا أقبل شروطه أمِلا أن يغيّرها فى آخر لحظة.

بعد أن انتهى الأمر إلى وعد بالرحيل معا هو وتوفيق صالح وشخصى، قابله توفيق منفردا أثناء الأسبوع قبل موعد الحرافيش، لا حظ تكدره وإرهاقه، وحين سأله أجاب أنه لَم ْيـَنـَمْ، وأنه يخفى عنى أنه لم ينم، وأنه فى غاية الانزعاج والتوتر من حكاية السفرهذه، وأنه لا يريد أن يرد لى طلبا. خاف توفيق عليه، فهاتفنى، فعدلت على الفور، فأخبره توفيق بالاتفاق المبدئى على إلغاء المشروع، لكنه لم يصدق تماما حتى كان هذا اللقاء الذى وصفتــُـه تفصيلا. وانتهت الأزمة وأنا فى غاية الحرج والحب والأسف.

الأربعاء 19 يوليو 2000

بدأت حكى الترحال الأول (الناس والطريق) سنة 1984 بذكر علاقة نجيب محفوظ بالسفر، فخطر ببالى أن ألمّح إلى هذه العلاقة بعد أن خبرتُها شخصيا فى ظروف جديدة. لم أكن أعرفه شخصيا حين بدأت تسجيل هذا الترحال الأول، اللهم إلا بعض ساعة التقيت فيها معه فى الأهرام لقاء عابرا فى أوائل السبعينات. لم أكن أبدا من رواد مجلسه أو مجالسه فى أى موقع من مواقع لقاءاته مع مريديه ومحبيه وناسه.

ثم عرفته منذ 1994، بعد الحادث الغادر، عرفته قريبا جدا،

فرحت، وتعـَلـّمتُ،  وتغيّرت، كثيرا بهذه المعرفة.

ثم إن هذا العمل انتقل من أدب الرحلات، إلى ترحالات الداخل/الخارج، إلى أدب المكاشفة الذى ميـّزته بأنه بمثابة السيرة الذاتية “الآنية”، وأحسب أن هذه هى السيرة الحقيقية، السيرة الحيّة هى ما يحدث الآن أكثر منها حكيا لما حدث. ألم نقل ذلك وانتهينا؟

تبينت أنه لا يجوز أن أدّعى أننى كتبت سيرة، أو حاولتُ بوحا، أو اجتهدت فى مكاشفة دون أن أذكرما أعيشه -الآن – طولا وعرضا، ومن أهم معالمه هذه الخبرة الحاضرة مع نجيب محفوظ.

خبرتى معه-كشخص قريب جدا ـ لا تتعدى الست سنوات الأخيرة، وهى محدودة إذا قورنت بمن أعرف ممن يعرفه منذ خمسين سنة مثلا: مثل أحمد مظهر، أوعادل كامل، أو توفيق صالح، أو منذ حوالى ربع قرن مثل جمال الغيطانى وآخرين، خبرتى معه هذه قد حركت وعيى، وقلّبت بعض آرائى، ووضعتنى فى اختبارات تلو اختبارات جعلتنى أعيد النظرفى كثير من الأمور. كانت -ومازالت – من الثراء والعمق بحيث اعتبرتها جاءت فى وقت مناسب جدا من تطورى.

ما زلت أتطور!! أوهم نفسى بذلك وأنا على مشارف السبعين.

أدركتُ من البداية أن القدَر قد أتاح لى فرصة نادرة قد أكمل من خلالها مسيرتى – إن كان بها بقية – فى اتجاه مختلف.

أيضا لاحت لى فرصة أخرى هى أن أرصد هذه الصحبة يوما بيوم.

كنت فى البداية أقابله كل يوم بلا استثناء، حتى يوم السبت الذى يلزم فيه بيته وخصصه للقاء بعض الزوار والصحفيين. كنت لا بد أن أمر لأطمئن عليه وأستزيد من غمر وعيه، وحين تأكدت من جدّية وأهمية ما يصلنى بعد كل لقاء دون استثناء، قلت إنها فرصة للناس أن يعرفوا ما عرفت. وطفقت أكتب لقاءاتى به من الذاكرة بعد عودتى من اللقاء المباشر، أو فى اليوم التالى على الأكثر. استمر ذلك ثمانية أشهر ونصف ملأت فيها بضع مئات من الصفحات، ثم توقفت تماما حتى تاريخه.

أدركت استحالة ملاحقة كل ما تصورتـُه مفيدا، فكل ثانية معه، معهم، مفيدة.

تصورت أن مثل هذا العمل يمكن أن يستغرق وقت فريق من الباحثين لعشرات السنين. ثم إن لقائى به بدأ يقل تدريجيا حتى انتهى الآن إلى يوم واحد فى الأسبوع هو يوم الحرافيش، يوم الخميس من كل أسبوع، حتى يوم الجمعة الذى يشرفنى فيه فى بيتى أصبح هو المضيف صاحب البيت.

من فرحتى بهذا الكرم من جانبه تشجعت ألا أحضر – فى بيتى – معه بانتظام، فتأكد للجميع أنه المضيف فعلاً. يحضر هو ومريدوه دون ضرورة لوجودى كل يوم جمعة من السادسة والنصف إلى التاسعة والنصف مساء، يحضر وهو يعلم أنى أسافر مساء الخميس بعد لقاء الحرافيش أو صباح الجمعة، وهو يشجعنى على ذلك إذْ وهو يعلم ما أقوم به خلال سفرى هذا، وأنى أنجز خلال ثلاثة أيام متصلة كل أسبوع ما لا أستطيع أن أنجزه فى شهر فى القاهرة.

كلما رجعت من سفرتى الأسبوعية وقابلته سألنى: هل تقدّمتَ فى الكتاب ثنائى اللغة فى الطب النفسى (يسميه الموسوعة)؟ كنتُ قد حدّثته عن هذا العمل وكيف أنه من أحد عشر جزءا، وأن كل جزء يقع فى حوالى ثلاثمائة صفحة. ثم يسألنى إن كانت هذه الإجازة تضمنت كتابة مقال فى الأهرام، أو إذا كنتُ قد أنهيت العدد الأخير من مجلة الإنسان والتطور.

كان، ومازال، أكثر منا حرصا علينا، فلم أحس بأى حرج، ولا هو كذلك، وهو يحضر بيته/بيتى دون وجودى. بل إننى حين كنت أشارك فى هذا اللقاء كلما أتيحت الفرصة ولم أسافر، فى بيتى كان يعزم علىّ بالقهوة أو غير ذلك تأكيدا أننى الضيف وهو المضيف.

أتساءلٌُ مرة أخرى: هل يمكن أن أكتب الترحال تلو الترحال لأقدم من خلاله محاولة التعرى أو المكاشفة أو السيرة الآنية (الذاتية). دون أن أعرج على هذه الخبرة الأخيرة مع نجيب محفوظ؟ وإلى درجة أقل مع الحرافيش؟

أنا ليس من حقى، ولا هو فى مقدورى، أن أحكى عن خبرة الحرافيش. كمْ مازحتُ “من تبقى منهم” قائلا إننى لست حتى من احتياطى الحرافيش، أنا نزلت ملعبهم فى الوقت الضائع، أعنى بدل الضائع. (تعمدت أن أتصوّر أنه لا يوجد فرق بين التعبيرين)،

قلت إننى لم أعرف نجيب محفوظ شخصيا قبل هذه السنوات الأخيرة، لكنّه حين طلب منه أحدهم منذ أكثر من عشرين سنة أن يؤلف فرقة كرة قدم -تخيلا ومداعبة – وضعنى حارس مرمى، من أين عرفنى، هذا الرجل آنذاك؟ حين عرجت فى حديث عابر معه إلى الإشارة إلى روايتى الوحيدة أشار إلى ما بها من تميّز فى الحوار بالذات، وأنا أعلم أنه المجامِل المزمن، لكننى حين رجعت إليها بعد هذه الإشارة، وجدت أن من أكثر ما يميزها هو ما بها من حوارات فعلا، فرحت أنه قرأنى ورجحت أننى اكتسبت مزية إتقان الحوار هذه من خبرة العلاج الجمعى بوجه خاص.

حين عرف هذه الأيام أننى كتبت مسودة الجزء الثالث بعد ربع قرن من المحاولة الأولى طلب منى أن أنشر الثلاثة أجزاء مجتمعة.

لم أسأله، لمَ لم ينشر هو الثلاثية مجتمعة، أو لعله نشرها ولم ينمُ ذلك إلى علمى.

هل يمكن أن يكتب أى واحد كائنا من كان سيرته الذاتية. ويكون قد عرف نجيب محفوظ هكذا، أوحتى أقل كثيرا من “هكذا”، دون أن يعرج إلى تأثيره عليه؟

حتى لو لم يكن صاحب السيرة قد عرف نجيب محفوظ شخصيا فلا بد أنه حاضر فى تكوينه، مساهم فى مسيرته، أرجح أنه لا يوجد واحد، على الأقل من جيلى، لم يشترك نجيب محفوظ فى تشكيل وعيه، وكأنه جزء لا يتجزأ من أسرته. كم سرتُ وبجوارى أحمد عاكف فى شوارع السكاكينى وهو يسعل وأنا أكاد أخرج منديلى أناوله إياه، وكم جلست فى قهوة الزقاق أشاهد حميدة رائحة غادية، وكم جلست على الطبلية آكل مع أفراد أسرة السيد أحمد عبد الجواد. فكيف أكتب ترحالاتى أو سيرتى الذاتية دون ذكر هؤلاء الأصدقاء والأقارب.

أما نجيب محفوظ الإنسان الذى لم يقفل باب وعيه أو وقته عن مخلوق كائنا من كان فإن أثره المباشر، وغير المباشر، هو أعمق وأهم من أن تلم به إشارة عابرة فى فصل ختامى لكاتب يحاول.

هل أخصص لرحلتى معه ترحالا رابعا بأكمله؟ هل أستطيع؟ هل أجرؤ؟

ليس الآن.

هل يصدر هذا الترحال الرابع يوما ما؟ هل فى العمر بقية؟

هل تسمح لى واجباتى التى ألزمتُ نفسى بها مؤخرا، آمِلا أن ألملم نفسى فيما تبقّى من وقتى فأسد ديونى التى تثقل كاهلى، وأرد للناس حقهم فيما وصلنى منهم؟

متى يصدر هذا الترحال الرابع؟

ليس الآن، أو ليس أبدا.

قلت أُفرد فصلا أخيرا الآن، أقدّم فيه “إشارات ؛ محدودة لعيّنات من آثار هذه الخبرة الخاصة جداً، ملتزما أن تكون أغلبها مجرد مقتطفات مما سبق نشره.

ليكن فهرسا أو تذكرة أو أى شىء، لكن من غير الأمانة أن أتصوّر أنى أكتب سيرة أو أحاول بوْحا ليس فيه إشارة إلى ما أعيشه الآن مما تفضل بى ربّى وشيخى علىّ.

أبدأ بمقتطف كتبته وأنا أدرسه مبدعا قبل أن أعرفه شخصا

مقدمة كتاب “قراءات فى نجيب محفوظ

 الناشر الهيئة العامة للكتاب سنة1990

 القاهرة فى 16/3/1990.

“فى شتاء 1948، وكنت حول الرابعة عشر، قال لى زميل صديق (المرحوم السفير حسن قنديل بعد ذلك) ونحن  نسير فى جماعة صباحا إلى مدرسة مصر الجديدة الثانوية، قال لى إنه اكتشف من يستأهل القراءة، ونصحنى  بقراءة القاهرة الجديدة، وفعلت، وكنت ما زلت أتحسس بداية طريقى إلى تذوق الكلمة، قبل أن يصبح لى معها شأن آخر.

منذ هذا اليوم بدأت حكايتى معه: تعرفت على نفسى من خلاله: القاهرة الجدىدة، فالسراب، فخان الخلىلى ثم خذ عندك…. حتى تاريخه..!!

تحسست مصر الحارة معه، ممسكا بىده معظم الوقت، لا أتبع.. ولا أفلت.

لست أدرى لــمَ تصوّرته شيخا ضريرا مليئا بالفتوة والحياة واليقظة وحب الاستطلاع، ىمسك عصا بيمينه ىتحسس بها جدران بيوت الحارة وأسوارها المتهدمة، والوشيكة البناء، ويتجنب بها (العصا) عثرات الأرصفة والحجارة. يمسكنى بيده الأخرى طفلا ناظرا يدّعى البصر. لا الطفل يكف عن القفز والتلّفت والتساؤل، ولا الشيخ محفوظ يكف عن الشرح والإعادة.

قابلته فى أوائل السبعينات مرّة واحدة فى الأهرام، ووددت ألا تتكرر المقابلة، مثلما أفعل عادة مع كل من أحب هذا الحب (للأسف).

سألته فى هذه المرّة الواحدة عن خبـــرة عمر الحمزاوى فى الخلاء، وعن التصوف حلاّ، وعن علاقته شخصيا بهذا وذاك، فنبّهنى إلى ما لا أنساه كلما شطحت ألما، أو كدت أنسحب إنهاكا، قال:

إن ما لا يصلح لكل الناس هو حلّ مضروب محدود فى الواقع والتارىخ.

اغتــظت منه حتى كدت أقتنع.

حاولت أن أتقمص سماحته فعجزت، …، أن أستلهم صبره فتوقفت.

رفضت كل أغلفة قصصه، وبعض “سيناريوهاته وسيناريوهات” أفلامه، وكثيرا من نصائحه، ومبالغته -أحيانا- فى الرمز القبيح.

تحفّظت على نوع أصدقائه وبعض خصوصياته وقلّة أسفاره وفرط إنتاجه ولون فرعونيته.

قَبِلْتُه لاعب كرة سابق- بعد دهشة مناسبة- كما قبلته وفدىا قديما، وإبن بلد، وأنيس جليس، وسياسى ملتزم، وحضارى مستوعِب للتاريخ.

واكبتـُه مؤمنا متفردا، وعارفا زاهدا، وفحلا مــُقبلا وغير ذلك من كل ما تنبض به حياة صوّرتـــُـها لنفسى دون أن أبحث فى مصادرها، أو أحاول التحقق من بعض صدقها.

وحين أخذ نوبل بالنقّطُ بعد ألف جولة وجولة فرحت لنا أكثر مما فرحت له، وشكرته أكثر مما هنّأته، وشعرت أنه أضاف إليها تشريفا، وفوّت عليهم مناورة”.

…………..

حين رحت أقرأ الفقرة التى أثبتها هنا قصدا بالبنط الأسود عجبتُ كيف يمكن أن أرصد صورة لم أكن أتصور مكان حدوثها أصلا فى الواقع بكل هذه التفاصيل ثم أراها مجسدة بعد عدة سنوات كما تحدث لى هذه الأيام، أتصور أن واحدا التقط لى وله صورة ونحن نازلين من منزل توفيق صالح، أو ونحن نخطو فى طرقات فلفلة المنيل بجوار كوبرى الجامعة، ثم أقارن بين ما تخيلتُ قبل عشر سنوات وبين ما هو حادث اليوم، فأحترم خيالى وحدسى بحق. أنا لا أتمادى فى تأويل مثل ذلك، ولا أبالغ فى التفسير أو الفرحة. فقط: أتعجّب.

لم أكن قابلته -كما ذكرت فى المقدمة – إلا مرة واحدة. لم أكن أعرف أنى، ولم أكن أنوى، أن أقابله أبدا، لم أكن أعلم أصلا أن بصره أيضا قد ضعُـف هكذا، فلماذا حضرتْـنى وأنا أكتب تلك المقدمة صورة الضرير صاحب البصيرة النافذة، لعلنى كنت أقصد بما أسميته الشيخ الضرير أن بصيرته التى يسحبنى بواسطتها أهم من كلماته التى أحاول أن أمارس قراءتها ناقدا، أو لعلى كنت أقصد أنه حين أغمض عينه عما يعيقه مثلنا. احتدت درايته بدوائر”المابـعـد” فاستطاع أن يضىء الطريق ببصيرته لمن عميت قلوبهم، وأن يسهل مهمة من يحاولون أمثالى،

أفرح حين تعاودنى الصورة ماثلة ونحن خارجان من بيت توفيق صالح ونحن ننزل من على الرصيف، فينبهنى أنه “حاسب فيه حديدة هنا، خلّ بالك”.

مـَنِ الضرير ومن البصير؟ يا لدقّة الصورة القديمة

18 أكتوبر 1994

دخل إلى حجرة مكتبى زميل (د.أسامة عرفة) يعرفنى أحيانا، يتولى أمورا إدارية فى مستشفانا منذ فترة قصيرة، جنبا إلى جنب مع ممارسته فن التطبيب واجتهادات الرؤىة المبدعة. د. أسامة عرفة، كان قد كتب فى مجلة الإنسان والتطور فرضا جيّدا عن ازدواجية الجنس فى التركيب الإنسانى. زميلى هذا له شطحاته ما دامت له إبداعاته. عادى. قلت إنه يعرفنى أحيانا، وجهه يقول أن حادثا جللا قد هزّه هزا، توجست خيفة أن يكون أحد المرضى قد عملها و لم نلحقه، أول ما يخطر ببالى إذا لوّح لى أحدهم بخبر سىء هم مرضاى، ثم آبائى وأمهاتى، ثم أولادى، بهذا الترتيب.

قال د. أسامة: “نجيب محفوظ”.

قفزت مرعوبا متصورا أنه مات، فـَهـِمَ أسامة معنى قفزتى فنفى ذلك بسرعة. أضاف أنهم حاولوا اغتياله، وأنه فى المستشفى، ويقال أنه نجى.

حتى الآن لن أقول ولا أستطيع، ماذا ولا كيف توالت مشاعرى وتساؤلاتى ورفضى وجزعى لا أستطيع فعلاً. لموت الشخصيات العامة شأن فى حياتى مثل موت الشخصيات القريبة وأحياناً أكثر، عندما مات الدكتور أنور المفتى، وكنت أعتبره شخصية عامة جنبا إلى جنب مع أستاذيته لى جزعت جدا جدا، ولم أتصور أننى، أو أننا يمكن أن نعمل فى ذلك مثلما نعمل كل يوم، مات فى روعة نضج منتصف العمر تقريبا بعد أن تحركت فيه اهتمامات إنسانية وسياسية وأدبية ولمّا يبلغ الخمسين، كان قد وصل فى فنه إلى أن أصبح مقصد القاضى والدانى، المهمين وسائر الناس، حتى أصبح طبيب عبدالناصر، أو ثقة عبد الناصر فى الطب. وحين مات فى هذه السن، شاعت الشائعات أن عبد الناصر قتله لأنه أذاع سر مرض نفسى (أو عقلى) ألمّ به. ولم أصدّق هذه الإشاعة أصلا على الرغم من اهتمامات المرحوم د. أنور المفتى بالأمراض النفسية حتى خفت عليه وأنا أتابع مريضا بعصاب القلب وهو يتبعه كظلّه ثقة فيه خفت أن يقتله هذا المريض رجّحت أن د. أنور أخطأ فى تشخيصه بدت لى العلاقة أخطر من مجرد “عصاب القلب”، حين مات أنور المفتى وجزعت جدا رفض جزعى هذا أ. د إرنست شلبى وكان أستاذا مساعدا فى الأمراض الباطنية، وكنت أقوم وقتها بعمل بحث مشترك مع أ.د. إرنست وأنا بعد معيد أو طبيب مقيم لا أذكر، راح النقاش بينى وبينه يدور حول السؤال “هل موت أنور المفتى خسارة قومية أم لا””؟ أنا مصر أنه خسارة قومية وهو يقول العكس.

ما هى الخسارة القومية؟ هل موت عبد الناصر خسارة قومية، والسادات؟ والأسد، ما معنى الخسارة القومية؟

28 سبتمبر 1970

أنا فى مبنى الإذاعة والتليفزيون أسجل حديثا من الأحاديث إياها عن النفسية وهذا الكلام، كان زميلى فى هذه الندوة الإذاعية د. أحمد فائق مدرس علم النفس بكلية الآداب جامعة عين شمس، هو الآن (أغسطس 2000) محلل نفسى متميز فى كندا بعد التسجيل أو قرب نهايته، لا حظنا جوّا غير عادى، الساعة حول السادسة مساء، طرقات المبنى فيها شىء مرتبك، حركة غامضة، همس يتعالى دون أن نعرف بم يهمسون، قال لى د. أحمد إن ثمة شيئا خطيرا قد حدث فى البلد، وافقته نصف نصف، فقد كنا، بعد 1967 لا أعتبر أنى أى شىء يمكن أن يحدث يستحق وصف أنه “خطير”، حدس د. أحمد فائق أنه يبدو أن شخصا مهما قد مات، ولم يزد، تركنا مبنى الإذاعة دون أن نعرف، لكننا سمعنا على البوابة غمغمة تفيد أنه عبد الناصر لست متأكدا. افترقنا وأنا لا أصدق تماما، ولم أكذّب أيضاً، حين وصلت المنزل أخبرت زوجتى بهذا الاحتمال فأسرعت إلى المذياع وكانت اللهجة متغيرة، والأحاديث حلّت محل الأغانى لكن لم يكن الخبر قد أذيع رسميا، خرجنا إلى الشرفة فإذا ببعض النوافذ تفتح ويبدأ كورال النحيب والصراخ و”الصوات” بشكل فاجع. تأكدت من الخبر مع أنه لم يذع رسميا بعد، لم أشعر رغم كل ذلك أنها خسارة قومية. كيف؟ لست أدرى. ربما لأن السؤال عن من يستطيع غير عبد الناصر كان يملؤنى غيظا، ليس فقط لأن السائل لا يحدد “يستطيع ماذا؟”، ولكن لتمادى موقف الاعتماد على شخص واحد فى كل شىء، لم يبق إلا أن يختار عبد الناصر لكل شاب عروسته بالاسم، ما زالت أحداث ومشاعر 9 و 10 يونيو كما شبهّتها من قبل بالنسبة لى مات مات، هناك أيضا عشرون ألفا من خيرة شبابنا ماتوا فى سيناء دون حرب، مات عبد الناصر، يرحمه الله إن أمكن، لكن الصراخ يمتد، والشارع يسَوّد ليس بسبب دخول الليل لبس الشارع عباءة حزن غريب مفهوم. لست حزينا ولا شامتا ولا مفجوعا، شاركتنى زوجتى بعض كل هذا، مات. لم يعلنوا النبأ رسميا لكنّه مات. بدا لى الشعب المصرى يتيما مجروحا غبيا، هل كان جزء من هذا الحزن أنه مات قبل أن يفى بما وعد. قبل أن يصلح ما أفسد، قبل أن يسترد ما فرّط فيه، لا أعرف. أنا لا أكرهه لكننى أعرف أنه أقل من مصر ومن تاريخها ومن ناسها كثيرا جدا رغم “كاريزميته” وذكائه، وأيضا إخلاصه الغبى الذاتى الموهوم.

3 أو 4 أكتوبر سنة 1980

أنا فى ركنى المحلّى فى “المنوات” والسادات يجوب القطر قبيل 6 أكتوبر، وبعد أحداث سبتمبر، وكل رجالات مصر من كل ملة وحزب وثلة ودين فى المعتقل، جنّ هذا الرجل أم ماذا؟ العربة مكشوفة فى المنصورة، وهو يلوّح بيده مثل رمسيس الثانى. ماذا يريد أن يقول هذا الرجل العظيم الغبى الرائع المخدوع أيضاً. ناديت المشرف على المزرعة، المهندس الزراعى على خميس وأشرت إلى الموكب فى التليفزيون. قلت له إن هذا الرجل يا على ينتحر، أنا صعبان علىّ منه، لكننى لا أريده أن يمرت الآن، فى اليوم التالى تأكدت لى خيلاؤه الانتحارية وهو يزور أويفتتح مدينة السلام على ما أذكر، ما زلت فى ركنى الخاص، ناديت على خميس من جديد وكررت له تأكدى أن المسألة خطيرة وأن هذا الرجل يستعجل قدره.

6 أكتوبر 1989

وحصل.

مات السادات “كما أراد”، لم يــغـتـله الإسلامبولى، كل ما حصل أن الإسلامبولى حقق له ما أراد، استأذن وهو فى أوج زهوه، تاركا وراءه أكبر أخطائه. ولو أنه نجا إذاً لتشوّه أكثر فأكثر، أكثر من كل تصور، فلماذا الشماتة يا عمنا يا فتحى يارضوان، ولماذا المعايرة يا أستاذ القلم والعقل المبرمج يا أيها الحرفى العظيم يا هيكل، ولماذا الفرحة يا عم جمال يا غيطانى فى تجلياتك الرائعة، ولماذا الشارع والميدان وصورة القاتل تزيد الميدان فى بلد أحبها جدا وأحترمها جدا وأعتب عليها جدا وآمل فيها جدا. إيران السينما، والتاريخ، والتفكيرالشيعى الرحب (لا شيعة: ولاية الفقيه). ماعلينا، هذا هو ما حصل.

لم أفخر بحساباتى، لم يكن حدسا هذه المرّة، كانت حسابات” واضحة، هذا زعيم وصل إلى أكثر مما يحتمل، فتصرّف عشوائيا خارج مدى رؤيته وهو يحسب أنه ممسك بخيوط عرائسه، لكن كان يمسك بخيوط بلا عرائس، كما كانت العرائس قد استقلت إرادتها لتنقلب عليه وتنفجر فيه. كان داخله يعلم يقينا أن هذا يكفى، فاستعجل النهاية بهذه التصرفات الانتحارية فمات، وهم يحسبون أن أحداً قتله غير نفسه.

حزنت عليه أكثر مما حزنت عل عبد الناصر، هل حزنت أصلا على عبد الناصر؟ حزنت على السادات لأن غباءه غلب توجه بدايته، وفرحت له أنه ذهب قبل أن يتشوه أكثر، يتعرى أكثر فيظهر مشوها أكثر.

حزنت على السادات أكثر حين عيّره خصومه بموته، فتحى رضوان بالذات (وكنت أعرفه جدا) ومحمد حسنين هيكل وكنت أضعه فى مكانه المتواضع جدا على الرغم من كل النرجسية وألعاب التوثيق المبرمج، كان منطقهما غريبا، كانا، مثل كثيرين يثبتون خيانته بموته. رفضت جمال الغيطانى وهو يمجّد قاتله المسكين هذا الاسلامبولى المخدوع أيضا ما هذا؟ ومع كل ذلك لم أشعر أن موت السادات خسارة قومية.

حين دخل زميلى د. أسامة، وهو يعلم كم أحب نجيب محفوظ ليخبرنى بالحادث وحسبته الموت (العادى). شعرتُ أنه لو حدث ذلك فهذه هى الخسارة القومية بحق، أضعاف أضعاف ما شعرت به حين مات أنور المفتى، لكن الله سبحانه أبى أن أخسر ونخسر، لذلك كتبت فرحتى هذه بعنوان غيّره الأهرام، فأثبته هنا.

يا شيخنا: أبى الله إلا أن يحفظك،

ليشرق نوره علينا من خلالك

مثلى مثل كل المصريين، مثل كل المؤمنين، مثل كل الناس، لم أصدق، حتى على مستوى التخّيل.

كيف تجرأ هذا الفتى على شيخنا هكذا…؟ كيف طاوعه قلبه؟ ألم يكن له قلب…؟! ليكن. كيف طاوعه بصره؟ حسّه؟ ألم ينظر فى وجهك شيخى وسيدى، ألم ير انحناءة ظهرك؟ ألم تشرق عليه طيبتك؟ ألم يغمره إيمانك؟ ألم يدرك وهن بصرك؟ ألم ينتبه لضعف سمعك؟ ألم تطلّ عليه من خلال سماحتك ويقظتك شخوص إبداعك: إشراقة وجه الشيخ رضوان، طيبة أحمد عاكف، حيوية السيد أحمد عبد الجواد، وطنية ابنه فهمى وحياء كمال، دعوات الست أمينه أمهما، ألم يغمره نور الجبلاوى من خلالك؟ ألم تحضره حكمة وفتوة وشهامة ونبض عاشور الناجى (الكبير لا الصغير)؟

كيف أصدّق، وكيف تجرّأ

حاولت ُ- بحكم المهنة – أن أتقمص الجانى، لم أستطع أصلا. لو أنه كلب مسعور هائم محموم يعوى ويجرى على غير هدى، ثم طالعته بشاشتـُك لارتدّ على عقبيه دون أن يلمسك. لهذا وغيره فشلت فى تقمّص الجانى.

رحت أتقمص شيخنا فى محنته هذه، فحلّ بى غيظ مرير، ورفضٌ حانق، وغضبٌ حاد، واقتربتْ منّى حسرة مهيضة، وخوف متسحّب، فانزعجتُ من كل هذا وخفت عليك، فدعوت الله أن تكون الإغماءة اللاحقة قد رحمتك من بعض ذلك، وأن يكون التخدير اللازم قبل العملية قد هدّأ روعك حتى لا تشعر بكل ذلك أو ببعض ذلك.

حين رحت أتابع أخبارك، بما هو أنت لا بما تقمّصتُ وتصوَّرتُ، اكتشفتُ أنى أخطأت فى محاولاتى، بل أخطأت فى حقّك. اكتشفت أن موقفك كان – فعلا- أكبر من كل هذا، لم تحقد، ولم تغضب، ولم تخف، ولم تنكسر، يا خبر!! ربنا يخلّيك تــُعلّمنا أكثر فأكثر، تصف الانقضاض الأعمى عليك تقول””.. شعرت كأن وحشا نشب أظافره فى عنقى”، إلا أنك سرعان ما تصف هذا الشاب المسكين لمّا تبيّنت بعض ملامحه وهو يجرى، تصفه أنه كان “… شابا يافعا فى ريعان العمـر… كان يمكن أن يكون رياضيا أو عالــما أو واعـظا “، ثم رحتَ تدعو له ولأمثاله بالهداية، وأنت تقدّر جهد الدولة فى مواجهته “…. ربّنا معكم، وربنا يهديهم “!!!!.

استمرّت محاولاتى التقمص – بحكم المهنة- أيضا، فتصورت أننى شاب من هؤلاء المخدوعين أتابع ما جرى لك، وأعايش موقفك، وأفهم أقوالك، فأفاجأ بك تدعو لى أنا القاتل أو المتربص للقتل، تدعو لى بالهداية. هل أستطيع بالله عليك إلا أن أقول آمين.

وحين أهْتَدِى بك شيخنا سوف أعرف الله الذى أردتَ أن تُعرفـَنِى به طول عمرك على مسار إبداعك، سوف أكتشف أنك لست نيتشه الذى توقّف عند “لا إلـــه”.. ولم يكمل “.. إلا الله” و ومع ذلك اعتبره محمد إقبال مؤمنا رغم أنفه. رحتَ أنت يا شيخنا تكمل ما توقف عنده نيتشه، رحتَ تفتح الآفاق لإيمان أرحب، رحت تدعو من تجرأ فادّعى أن الله غير موجود (تحت وهم علم سطحى)، أن يمتد بوعيه حتى تتسع معارفه ليكتشف الله من جديد. ألم يكن هذا ماقصدته وأنت تسخّر بقيّة عمر “عرفه” كى يعيد الحياة إلى الجبلاوى، ؟

“يا خبر!! كيف لم أتبيّن – أنا الإرهابى المخدوع – كل هذا أو بعض هذا من قبل؟ لماذا لم أنتبه لعمق إيمانك الذى وصلنى الآن فقط وأنت ترحّب بلقاء خالقنا وخالقك؟”.

هل يمكن أن تقول ما قلتَه لمحمد سلماوى إلا أن تكون من الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه. ألست أنت الذى قلت لسلماوى “… أمّا إذا كان (ربنا) يريد الأخرى، فنحن أيضا نحب أن نلقاّه”، ما أحلى “أيضا” هذه!

يا شيخنا: أستحلفك -بأن أدعو ربى – ألاّ تموت الآن.

مازال هؤلاء الشباب الذين طعنوك فى حاجة إليك، لن يشفيهم إلا مثل إيمانك، لن يعلّمهم إلا درس مثل هذا الدرس: حين أرادوا إطفاء نورك – وهو يعكس نور الله علينا إبداعا وإيمانا- أبى الله إلا أن يحفظك ليتم بك نوره عليهم وعلينا.

يا شيخنا

مازلنا فى حاجة إلى بقائك بيننا حتى يتعرّف شبابنا المرتبك ماهية مصر من خلالك، ومعنى التكامل الإيمانى الحر بفضل وعيك، وشرف العطاء غير المشروط من وحى ما ُتمثّل، ، إن الله سبحانه لم يغمرنا بفضله من خلالك فقط، بل من خلال ما حدث من إعجاز الطب المصري، والجراحة المصرية، حين يتخذ الأستاذ الدكتور سامح همّام. (وزملاؤه من حوله) القرار الصائب دون تردد، حين راحوا يتعاملون مع الفقرة العنقية دون تلكؤ، فيحقق الله المعجزة على أيديهم ليحفظك، فيحفظ لنا الأمل، ويثبت أقدامنا بالعمل،

نحن فى أمس الحاجة أن نظل نسمع ضحكتك المجلجلة وأنت تحوّر القول الشعبى المصرى إلى: “المدية صابتنى ورب العرش نجّانى”.

يا شيخنا الحبيب:

لا تمت الآن – ربنا يخليك لنا ولهم.

وإن تمت – بإذن ربنا، لا بمديتهم – فنعاهدك ألا تموت بما تركت فينا ولنا.

ركنى أعلى القاهرة أول أغسطس 2000

حين عثرت على أصل هذا المقال الذى كتبته ولم أكن قد رأىت محفوظ إلا مرة واحدة ذكرتها من قبل، ثم قارنت ما عرفته عنه، ومنه، بعد ذلك، تيقنت أنه كان معى طول عمرى، وأنه لو لم تتح لى فرصة لقائى به بكل هذا القرب، لما تغيرت مشاعرى نحوه، ولا رؤيتى له،

يدور حديثى معه أحيانا حول الموت. حين علم فرنسوا ميتران بمرضه وتيقّن من قرب نهايته سأَلتْه إحدى الصحفيات عن إيمانه، وما ينتظره بعد موته، فأجاب متران بحرص متوسط، إنه يعتبر أن الخلود فكرة مملة. حكيت هذا الحوار لشيخى الجليل محفوظ. أطرَقَ ثم علّق: إن متران مخطئ، لأن قرب الواحد منا من حبيبه من البشرلا يبعث على الملل إطلاقا، فما بالك إذا كان هذا الحبيب هو الله سبحانه. وحين حكيت له عن موقفى ومشاعرى بالنسبة لموت السادات وموت عبد الناصر هز رأسه فى طيبة وأسف، ولم يعلّق.

لم أرَ أبسط ولا أعدل منه فى الحكم على الناس، مع ميل يقل ويزيد حسب كل حالة، فهو متحمس أشد الحماس للنحاس باشا، وحين وصف لى كيف كان يخفق قلبه وهو يشاهد النحاس باشا يسير (يتمشى) على الكورنيش فى الإسكندرية ومحفوظ بعدُ صبيا فيافعا شعرت أننى أمام حب جميل لزعيم أمين،

استطيبتُ النحاس باشا طول عمرى لكننى لم أحبه. رحت أعيد النظر من خلال هذا الحب الذى حكى لى عنه شيخى هكذا. مازلت أذكر كاريكاتير لرخا فى ذكرى 4 فبراير فى أخبار اليوم وقد كتبت عبارة 4 فبراير برسوم متعاقبة للنحاس باشا وهو منثنٍ ثم منحنٍ حتى إذا وصل إلى الراء رسمها بصورته وهو ملقى أرضا ورأسه فى آخر الراء، هذه الصورة ظلت عالقة فى ذهنى تنفرنى من مصطفى وعلى أمين ورخا مرّة، وتشككنى فى وطنية النحاس باشا مرة. حين وصلنى حب نجيب محفوظ للنحاس باشا هكذا راجعت نفسى،  سألته يشرح لى وجهة نظره فى حادث 4 فبراير، أعاد تفاصيل ما حدث بوجدان محب جميل. عرفت كيف أنه المتسامح المتحيز للجزء الخيّر فى أى زعيم، والجزء الواعد فى أى كاتب، حتى كاد تحيزه هذا وسماحه يشككان فى مصداقية شهادته للناس، وأحيانا للأعمال الأدبية،

حين يقترب الأمر من عبد الناصر والسادات، فإن المجاملة وما يشبه الموضوعية تتجلى بشكل تجعله عرضة للهجوم من أنصار هذا أو ذاك. إلا أنه كان يبدو حامدا شاكرا السادات وتحريره الأرض، أكثر مما كان مقدرا عبد الناصر ورغم اعترافه له بفضل محاولة تحرير الناس. وهو يزداد تحيزا للسادات وتسامحا معه كلما ازداد الهجوم عليه من جلسائه أو السخرية منه.

أصِرُّ دائما أن أرفض هذه التسويات الكمّية التى تعدد الحسنات على ناحية والسيئات على ناحية، وتتكلم عن الحل الوسط، والممكن، والتعادلية (مرة أخرى: لماذا حشرتَ الإسلام فى تعادليتك الماسخة يا عمّنا توفيق الحكيم؟) يقولون مثلا: عبد الناصر عمل عشرين عملا حسنا وخمسة نصف نصف وعملا واحدا مثل الزفت، والسادات عمل ثلاثة عشر عملا سيئا وعملين “كلِّـشِـنـكان” (كل شىء كان.ربما) وعملا مجيدا!!!! ما هذا؟ التاريخ ليس حِسبة جمع وطرح مثلما تعدّ علب المعلبات على رفوف محل “بقالة”. هذا التقدير الكمى الأعمى يصبح أكثر خداعا حين تضاف إليه لعبة “نعم…. ولكن”، نعم عبد الناصر ثائر ليس كمثله أحد، لكنه استسلم لمراكز القوى (كأنه ليس هو صانعها). نعم السادات حرر سيناء بذكاء الفلاح المصرى وشجاعة من يدفع حتى سُمعته ثمنا لملء الكف من طين أرضه لكن هو ديكتاتور انتهازى باع البلد مفروشة، هذه طريقة فى الحكم “تميّع ” الأمور تمييعا شديدا. تَخرُجُ منها وأنت فاغـــر فـاك، وقد يتدلى منه لسانك، أو تعمل حركة ببعض أصابعك: السبابة والوسطى معا، أو الوسطى وحده، لكنّك لا تعرف حقيقة معالم الموصوف.

فى إحدى جلسات الأستاذ مؤخرا (يوليو 2000) فى بيتى، سألنى أحد مريديه (أذكر اسمه الأول: إبراهيم، ربما هو أصغر الجالسين هذا اليوم سنا) عن رأىى فى قول سيدنا عمر بن الخطاب، أو لعله أبى بكر: لا آمن مكر الله ولو كانت إحدى قدمىّ فى الجنة”. لماذا سألنى إبراهيم أنا دون الآخرين ودون الأستاذ؟ أنا شخصيا أحترم مكر الـله جدا، وأفرح أنه – سبحانه وتعالى – “.. خير الماكرين”، كما أفرح بجزئية ؛”… ورضوا عنه”، كلما وصف الله تعالى نفسه بصفة، أو أشار إلى فعل وأقارن ذلك بما يماثله عند البشر، أقترب أكثر، “مكروا ومكر الله” – “رضى الله عنهم فرضوا عنه”. لم أرد على سؤال إبراهيم، أنا إيش عرّفنى؟ قبل أن أحيل السؤال إلى شيخنا نجيب محفوظ أسأله أن يقول فى ذلك رأيا نبّهت السائل إلى احتمال ألا يكون هذا القول قد ورد أصلا. علينا أن نحدد مصداقية أى كلام قبل أن نندفع للتفسير والتأويل. طلبت من إبرايهم أن يخفف من حماسه قبل أن يستمع إلى الردود، لوأننا لم نجد ردا مناسبا فقد يثبت أن مصدر هذا القول نفسه يحتاج إلى مراجعة، ربما لم يــُـقل أصلا

هز الأستاذ رأسه وحوّل الكلام قصدا أوبغير قصد، لكننى عدت أرد على سؤال آخر لم يُطرح أصلا. سؤال له علاقة بحكاية عبدالناصر والسادات والتاريخ والتقييم الكمّى للبشر والمراحل التاريخية، وما إلى ذلك.

قلت للسائل: ذكّرنى سؤالك هذا بمسألة أخرى شغلتنى طويلا حتى اهتديتُ إلى حل ّربما يقَــرّب لنا فهم ما تريد، وهى مسألة تتعلق بالحديث الشريف الذى معناه “إن أحدكم ليعمل عمل أهل الجنة، حتى لا يكون بينه وبينها إلا قيراط فيعمل عمل أهل النار فيلقى فيها(فى النار)، وإن أحدكم ليعمل عمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبينها إلا قيراط فيعمل عمل أهل الجنة فيدخلها”. حيّرنى هذا الحديث كثيرا خاصّة وأنا أتلو “فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره”. كيف يتفق هذا مع ذاك. احترتُ طويلا طويلا حتى جاءنى الحل وأنا أقرأ مواقف النفّرى وأستلهمها وأقول “عليها”.

يحذرنا النفرى وسائر آىات وأحاديث الإخلاص والبصيرة من أن نغتر بالسلوك دون صدق النيّة وتوحيد التوجّه، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو جائزة يحصل عليها فهجرته إلى ماهاجر إليه. من هنا تصوّرت أن المقصود بأن عملا واحدا فى عكس الاتجاه قد يـَجُبُّ كل ما قبله فى حالة واحدة : هو أن يكون هذا العمل الأخير قد كشف حقيقة وطبيعة كل ما كان قبله. إن كان ما قبله يبدو خيّرا فإن هذا العمل يقول لنا إن هذا الخيركان زيفا، ولم تكن تلك الأعمال خالصة لوجه الخير أبدا، وإن كان هذا العمل الأخير خيرا، فقد يكون دليلا على أن كل ما بدا لنا شرّا كان يخدم الخير فى نهاية النهاية.

قلت للأستاذ كل ذلك، فهزّ رأسه، وأنا لا أفهم هزّة رأسه فى أحيان كثيرة، أهى هزة مجاملة أم تفويت أم دعوة أن أكمل الحديث. رحت أطبق نظريتى فى حالة عبدالناصر والسادات،

لعل وظيفة صدمة- فهزيمة 1967 هى أنها أظهرت أن ما قبلها لم يكن ثوريا، نقيا، عميقا، ذا معنى شامل قادر على القيام بالنقلة الحضارية والإنسانية التى لوّح بها عبد الناصر ونظامه فى البداية،

ولعل هيجة إغارة المعتقلات فى سبتمبر 1980 قد كشفتْ كيف أن ما قبلها كان اندفاعة جيّدة ومفيدة،  لكنّها لم تكن خالصة لوجه الخير والحضارة والناس.

ما علاقة كل ما سبق بنجيب محفوظ أو بمحاولتى الكشف والمكاشفة؟

هو عيّنة لنوع الحوار الذى كان يدور خلال ست سنوات، ليس معه فقط، ولكن مع حوارييه أيضا من الحرافيش وغير الحرافيش. أليس فى هذا ما يكشف عن موقف الكاتب (الذى هو سيرته الذاتية) فى فترة معينة من حياته، أفضل من سرد الفخر والهجاء وذكريات طفلية عشوائية نمطية ومعادة؟

11/12/1994

بعد عودتى اليوم من أول خروج مع نجيب محفوظ بعد الحادث يوم عيد ميلاده الذى لا يحتفل به عادة (كما أخبرنى)، رحت أتأمل فى هذه الصدفة التى جمعتنى بهذا الرجل لأمر جلل فى حياتى. ليست مصادفة، بل فضل من الله ساقه إلىّ فى بداية عقدى السابع، ربما لأعيد تقييم ذاتى من خلاله. (هكذا أتدلل على الله كلما أتيحت الفرصة(

إثر الحادث، وكما ذكرت حالا، كتبت انفعالى وسجّلته فى المقال الذى أثبت نصّه فى بداية هذا الفصل. حين نشر هذا المقال فى الأهرام كلمنى أ. د. سامح همام بشأنه. شكر لى بعض ما ذكرت عنه، وما بينت فيه من عظيم فضله وفائق مهارته.

سألنى الدكتور سامح همام :

– هل زرت الأستاذ نجيب.

لعله حسِِبَ من المقال أن لى صلة شخصية به.

قلت له :

– لا، بصفة ماذا؟ أنا ليس لى علاقة شخصية به. أنا مواطن أحبه من بعيد. وقد لا أحتمل أن أراه إلا كما رسمه خيالى. أنا مطمئن عليه بفضل الله وفضلك.البركة فيك يا دكتور سامح، أدعو الله أن يتم نعمته عليه وعلينا على يديك ليقوم لنا بالسلامة،

قال أ. د. سامح:

أفضـّل أن تزوره فقد أصبح أكثر إسهاما وأطول صمتا بالمقارنة بالأيام الأولى بعد الحادث.

تغافلتُ مع ذلك، عن طلب أ. د. سامح، وقدرتُ أنه لمح عواطفى فى مقالتى فأراد أن يكرمنى ويطمئننى بإتاحة زيارته. وفى نفس الوقت أبيتُ أن أتصور أن أزوره إلا تلميذاً أو مريداً أو محباً أو تابعاً، أما أن أزوره طبيباً نفسيا فهذا أكبر من طاقتى، طنبـَلتُ(“طنّشت”).

بعـد ذلك بيومين كلمنى العميد د. محمد الحسينى من مستشفى الشرطة، لم يجدنى، ترك رقم هاتفه فتباطأت فى الرد، أخاف من شىءٍ ما، أخاف أن أسمع ما لا يسرنى عن تطور حالة أبى هذا الذى دعمنى طول عمرى حتى الآن عن بعد. أخاف فى نفس الوقت من الاقتراب منه لشدة رغبتى فى الاحتفاظ بصورته كما صوّرتُها لنفسى. توالت مكالمات د.الحسينى من مستشفى الشرطة، تاركا فى كل مرة أرقام هواتفه. أصبح الأمر كأنه تقاعس عن أداء واجبٍ حتمى. ما باليد حيلة. أمسكت بالهاتف وأنا أطلب د. الحسينى، قلبى يدق فعلا. يارب حافظ على الرجل أكثر وأطيب بفضلك، فإن أردتَ يا ربنا أن تجرى بعض فضلك على يدينا، فهذه نعمة لا يصح أن نرفضها.

ذهبت طفلاً يخاف أن يواجه أبيه رغم يقينه بعفوه وحبه وطيبته، طفلا – فى الستين – عليه أن يعود – لأباه ويكون تحت أمره ويطلب رضاه، لا أكثر،

أليست هذه هى الصورة التى رسمتـُـها له قبل ثمان سنوات وأنا أقدّم قراءتى له؟

سوف أذهب بالرغم منى. أنا أرفض أن أكون طبيبه وهو الذى عالجنى دون أن يرانى كل هذا العمر، فلأذهب من أجل خاطر عيون ذلك الطفل الذى بداخلى يتعلق بيده دون إذن منه. وأيضا ربما أرد له بعض جميله الذى أحاطنى به طول عمرى دون لقاء.

……………

دخلت الحجرة مترددا وبسرعة دارت عيناى تبحث عنه وجلا فلم أجده،

كان فى الحمام.

سألت الممرضة عن أحواله فقالت “أحسن”، كلمة نعرف نحن الأطباء أنها مثل قلـّـتها. خرج من الحمام. وقفت لاستقباله. عرّفته بنفسى فهز رأسه ثم أردف بحشرجة خشنة “أهلاً وسهلاً”. أمسكتْ قبضةٌ مجهولة بكل قلبى، أمسكتْ به وتزايذ الضغط حتى عصرته فامتصّت به ما ترقرق فى عينىّ ومنعته أن ينساب،

جلستُ، ملت على أذنه التى علق بها سماعة وأخذتُ أطمئنه،  أطمئن نفسى، وأكاد أقرص وعيى لأتأكد أننى فى حضوره.

بدا لى أنه أكثر طمأنينة منى. رحت – أستلهم منه هدوءاً لا أعرف مصدره.

سألت – كطبيبٍ رغم أنفه – عن النوم، وعن السكر، وعن العلاج الطبيعى، وعن الضغط، وقالوا لى، وأطلعونى على كل ما لزم،

الأرقام كلها معقولة، لكن من أين تأتى الطمأنينة الحقيقية؟

حضرت الزوجة الفاضلة. عّرفنى بها مشيراً إلىّ “… دكتور فلان” وكأنه يعرِفُـنى من قبل. فعلا شعرت أنه يعرفنى من زمن كما أعرفه أنا منذ كنت، هل معقول؟

لم أمكث طويلا حرصا على راحته، انحنيت على يده أقبلها، ثم أقبـّل رأسه مستأذنا.

انصرفت. وما انصرفت، فقد ظل معى طويلاً طويلاً. عميقا ودائمــا.

……

……

قررتُ ألا أذهب إلا إذا استدعونى ثانية، لم أُضف دواء واحداً، ولم أغيـّر نظاماً، ولم أحدد نصيحة ولم أقدم عونا، عصرنى الألم، وأشفقت على نفسى، وعليه، ودعوت الله لكلينا وللناس، هذا هو كل ما حدث.

انشغلت فى مؤتمر من تلك المؤتمرات الـ “تحصيل حاصل”. سعدت بانشعالى هذا لأننى اعتبرته حجة أبرر بها انقطاعى عن شيخى هذا حتى لا أعانى ما عانيت أول زيارة، ثم إننى قررت ألا أزوره ثانية بصفتى الطبية إلا إذا استدعيت لأسباب ملحّة ورسمية.

إنتهى المؤتمر.هاتفنى العميد د. الحسينى وسألنى : أين أنت، ولم لم تعاود زيارة الأستاذ؟ لم اعتذرت، وخجلت، ولم أطل فى السؤال عن سبب سؤال د. الحسينى خشية أن أسمع ما لا أريد، قررت الذهاب فورا.

لم تكن الحال أحسن بل بالعكس.

مررت على العميد د. الحسينى وأنا غير مرتاح لما رأيت، قلت له: إننى غير مطئن.

سألنى هل تنصح بعقار معين أو إجراء معين، فأخبرته برأيى؛ وهو:

إن أستاذنا عاش طول عمره، يتزود بجرعة محسوبة من “الناس” الأوفياء ومن عامة الناس، وما يعانى منه الآن هو “فقر ناس” كما نتكلم عن فقر الغذاء، ونقص الفيتامينات.

ضحك د. الحسينى وسألنى هل يضيف له على التذكرة جرعة معينة من الناس؟ وإذا بمزحته تنقلب إلى جد، فأقول:

هذا بالضبط ما يحتاجه أستاذنا. ذلك أن إدارة المستشفى كانت قد منعت الزيارة بعد أن توافد الناس عليه بكل حب يطمئنون ويتبركون ويدعون بما تيسَّر، أستاذنا بما أصيب به من إعاقة فى حاستى السمع والبصر لا يستطيع أن يلاحق كل هذا النبض الحانى الملهوف ولا أن يرد على أسئلة… ولا أن يجامل عائدا ولا.. ولا.. ولا.. إلخ. وفى نفس الوقت هو بما يتمتع به من أدب ورقة ونبل لا يستطيع إلا أن يحاول طول الوقت أن يتابع ويستجيب فأُنْهِكَ. رأت المستشفى منع الزيارة تماماً إلا على الأهل وبعض الأصدقاء الذين بالغوا هم بدورهم فى عدم زيارة آخرى حرصا على راحته، لم يدركوا بدرجة كافية ارتباط راحته لا بالناس، مع الناس..

قلت للدكتور الحسينى، نضبط جرعة “تعاطى” الناس الطيبين بالاسم والساعة يوميا، وقد كان، عملنا جدولا بأسماء الأصدقاء ومواعيد الزيارة.

اتصلت بالأستاذ جمال الغيطانى – معرفة قديمة حذِرة من جانبى – نال معى فى نفس السنة الجائزة التشجيعية عن روايته الرفاعى، وأنا عن روايتى المشى على الصراط (الواقعة + مدرسة العراة)، حين أصابنى ما أصابنى من النقاد والأدباء، انطلق هو إلى آفاق الإبداع والتراث والتجليات حتى أضاف هذه الأسبوعية الفتية “أخبار الأدب” التى تجدد شبابها باستمرارحتى أتحفنا مؤخرا بمعمار “متون الأهرام”. فى حين انزويت أنا ـ بعد الجائزة ـ خجلاً أن أكون قد أخذت غير حقى، أشعرنى النقاد والأدباء أىامها بما يشبه التطفل على موائدهم، أو هكذا تصورت بعض مناقشات المقاهى الثقافية، اتصلتُ بجمال الغيطانى (وليس له ذنب فى كل هذا فى الأغلب، لكننى كنت قد أحسست بشىء ما منه لم أتبينه، ولم أختبره). اتصلت به وأخبرته بالوصفة التى وصفتها للاستاذ، وهى “جرعة منضبطة من البشر” الطيبين الملتزمين”، مرة يوميا، تزاد عند الحاجة، واتفقنا على جدول بسيط.

قيل لى – فى المستشفى – إنه تم تنفيذ جرعة الناس (تقريبا). صدّقت وحمدت الله، وقدّرت أن الحالة إما ثابتة أو تتحسن.

…..

3 أغسطس 2000

اليوم : أوجزت لنجيب محفوظ مقال محمد حسنين هيكل الذى صدر فى وجهات نظر. مقال طويل هام ممل، ذكّرنى بمقالات “بصراحة” التى و صل بى الأمر قبل أن يركله السادات أن أقرأ آخر المقال قبل أوله لأرى إن كان أضاف شيئا جديدايستأهل مضغ اللبان أم لا، مقال شديد الحرفية، مستعرِضُ التوثيق، جذاب المنظر، كاذب المخبر، كنت قد وصفت لتوفيق صالح كتابات هيكل – خاصة مؤخرا – بأنها تشبه بشكل أو بآخر “أبحاث الترقية” عندنا فى الطب خاصة، أو ربما فى مصرعامة، وقد شرحت ذلك لتوفيق، وأسميته بالزيف الموثق (بالنسبة لأبحاث الترقية)، وبالكذب الموثق (بالنسبة لبعض التاريخ وبعض الاجترارات الصحفية الملتبسة من مثل هذا المقال). الوثائق لا تقول الحقائق. الوثائق تثبت ما سـُمـِحَ بإثباته كتابةً. إذا كنتُ قد شكَّـكتُ فى كل السير الذاتية، كما شككتُ فى التاريخ، أليس من باب أولى أن أشكك فى مثل هذه الوثائق؟ من الذى انتقاها؟ من الذى أودعها؟ من الذى حفظها؟ ومن الذى… ومن الذى….، ؟

أراد هيكل بمقاله هذا أن يقارن (ليقارب) صمود عبد الناصر “النفسى” (فى 1967 بأسفه على قرار الانسحاب)، بصمود تشرشل (سنة 1940) ثم يقارن (ليفارق) احتفالنا البكائى النّعاب بـ 5 يونيو سنة 1967(نحن العرب)، باحتفال فرنسا بـ 11 يونيو سنة 940. على قدر ما احترمت حرفيته رفضت أن يستعملها للاستهانة بعقول من لا يبذل جهدا فى إعادة القراءة.

طبعا لم أقل إلا أقل القليل من كل هذا للأستاذ، وإن كنت لا أستبعد أننى قلته فى مناسبات أخرى. نجيب محفوظ لا ينسى الفضل. وهويلتمس العذر لكل تصرف من كل من كان. حتى لو كان هذا التصرف ضده شخصيا. (أنظر بعد موقفه من كتاب سيرته التى اقترفها النقاش). كل ما علّق به على هذا المقال أنه قال وهو يرفع حاجبيه بحساب: ” لكن تشرشل، وفرنسا، انتصرا”. وسكت.

حين لخّصت له المقابلة التى طالت عشر ساعات بين عبد الناصر وهيكل، وقلت له إن هذه المقابلة إن صحّ محتواها فقد أرادت أن توضح أن قرار الانسحاب لم يكن بأمر عبد الناصر، بل بأمر عبد الحكيم. رحت انبّه استدراكا إلى أننى أعرف قيمة عبد الناصر، وأننى أعرف مزاياه، ويبدو أننى بالغت فى وصف بعض المناقب – ربما تمهيدا للهجوم عليهما (على مبدأ “نعم… ولكن”).حين لاحظ الأستاذ مدحى لعبد الناصر، وهو أمر نادر، ربّت على ساقى وهو يقهقه قائلا:

– ما تخافشى، دا مات”.

وفهمت كيف التقط مبالغتى فى المديح منتظرا ما يأتى بعد “نعم”، مما هو: “ولكن”.

عرجت إلى هذه اللقطة لأقول إنه ما بين ما سجّلت قبلا فى 11 ديسمبر سنة 1994، وبين ما أثبتُ الآن من موجزا لحديث جرى فى 3 يوليو سنة2000 وصلنى من نجيب محفوظ، وعبره، وعبر حوارييه ما لا يصلح له أن يدرج فى فصل عابر.

هو ترحال كامل، بدأته بعد الواحد وستين من عمرى ومازال متصلا، أطال الله عمره، سجلت منه- من الذاكرة :أولا بأول أوبعد حين – أول ثمانية أشهر بالتفصيل، ثم توقفت، وقد أعود للتسجيل، وفى الأغلب لن أعود.

قد أكتب هذا الترحال الرابع، وقد لا أستطيع، أو لعلنى أرحل قبل أن أستطيع، مع أنه قد يثُبتُ أن ذلك هو الأهم بين كل ماسطرت، وقد لا يكون كذلك. لست أدرى.

نجيب محفوظ هذا (الشخص الذى عرفته من ست سنوات، والكاتب الذى عرفته منذ ما يقرب من ستين عاما) هو سجل الحياة المصرية المعاصرة، ليس فقط بما كتبه، ولا بما قاله ويقوله، ولكن أساسا بما كانه ويكونه. حين يكتب يونان لبيب رزق، ذلك المصرى البالغ الدماثة، البالغ الأمانة. عن الأهرام “ديوان الحياة المصرية المعاصرة”. أقف حزينا أمام ما ينشر اليوم فى الأهرام (من إعلانات مثلا) لأننا نسجل على نفسنا ما ينبغى أن نخجل منه.

كان عندى رأى “تطورى” مبالغ فيه، لم أتنازل عنه، لكننى كففت عن الإعلان عنه وعن الدفاع عنه كذلك. هو أن السجل الحقيقى الوحيد للتاريخ هو جينات الكائن الحى، و”دَنَا” DNA الإنسان “الآن” هو تاريخه، لا أكثر ولاأقل،

دعنا من هذا الشطح “العلمى”!! جانبا، ونرجع إلى هذا السجل الحى – أطال الله عمره – لأنبه أن تعبير سجلّ هنا قد يعنى أن ثمة صفحة بيضاء يسجّل فيها أو عليها ما يراد تسجيله. بهذه الصورة نجيب محفوظ ليس كذلك أبدا. فحتى التسجيل البيولوجى الذى أنتمى إليه ليس كذلك، بل إنه نتاج التفاعل بين الدَّنا القائم والمعلومات الجارية (القابل للانطباع منها دون غيره).

نجيب محفوظ كيان فاعلّ مشارك، بقدر ما هو كيان مستقبلٌ راصد.

حين قرأت كتاب النقاش الذى اعتـُبر – للأسف رغم التحفظ فى العنوان، أنظر بعد- بمثابة سيرة محفوظ الذاتية، تساءلتُ من جديد، نفس السؤال الذى بدأت به هذا العمل: هل هناك شىء اسمه سيرة ذاتية؟ إن مجرد فعل الانتقاء، منهجيا أو لاشعوريا، هو أمر مقولٌ بالتشكيك، فما هذا الذى عمله النقاش؟

إننى – مثلا – حين فرحت بصحبة نجيب محفوظ، وقلت إنها فرصة لا تعوّض أن أنقل (أصوّر) للأجيال القادمة ما أتاحه الله لى من بعض ما يصلنى من  رسائل هذا القطب الجليل، لم أستطع أن أسجّل إلا فى ذاكرتى ثم كتابة ما تبقى من كل لقاء بعد يوم أو اثنين، ثم إننى عدلت،  بعد ثمان شهور امتلأتُ خلالها بضع مائة صفحة. عدلت خوفا من العجز عن الإتقان وحمل الأمانة حين يأتى دور الانتقاء.

ماذا فعل النقاش بعشرات (ربما مئات) الشرائط المسجـّلة؟

عشت آلام نجيب محفوظ الصامتة بعد صدور هذاالكتاب دون الرجوع إليه لمراجعة مصداقية الانتقاء، وحين فاض بى كتبت رأىى فى الأهرام مما يجدر تسجيله هنا، ليس فقط لأثبت موقفى تجاه ما لحق، بـشيخى صاحب الفضل، ولكن أيضا لأقرر من زاوية أخرى استحالة كتابة السيرة الذاتية بما فى ذلك هذا العمل الذى أكتبه أنا حالا عن نفسى (طبعا مع الفارق مما لا يحتاج إلى تنويه).

كتبت فى الأهرام تعليقا على كتاب النقاش، وعلى ما ثار حوله من آراء، وانتقادات، وقد وجدت من الأنسب أن أنشر نص هذا المقال كاملا أولا: لأنه يتعلق برأىى فى “منهج ما يسمى بالسيرة الذاتية واستحالة الإلمام بها والشك فى مصداقيتها، وثانيا: لأننى وجدته بمثابة الخطوط العامة التى يمكن أن تعتبر فهرسا لما أسميته “الترحال الرابع: فى صحبة محفوظ” وثالثا: لأنه يبين الحرج الشديد الذى تتحرك فى إطاره علاقتى به، وخاصة فيما يتعلق بالمدى المسموح والخطوط الحمراء، الأمر الذى قد ينتهى إلى العدول تماما عن نشر هذا الترحال الرابع من حيث المبدأ.

وأخيرا لأن علاقتى بمحفوظ هى جزء محورى مما أسميته تحديداً “السيرة الآنِيّة” لمسيرتى التى حرصت أن يكون بها قدرا مناسبا من “المكاشفة”.

السهل والصعب، فى السياسة والحب “

ما كان أسهل على نجيب محفوظ أن يقول للنقاش شعرا فى بطولة وزعامة عبد الناصر، لو أنه رضى أن يـُذكر بما ليس هو، وماذا كان يضيره لو أنه سب اليهود مجتمعين، وليس فقط إسرائيل أو الصهاينة، ثم إنه أسهل وأسهل لو أنه انتهزها فرصة وشتم المتطبعين، وتغزل فى العمال والفلاحين، وأيضا كان سهلا وبريئا ولطيفا ومهذبا أن ينشر محفوظ ثوبه الأبيض (وهو أبيض فعلا) ويذكر لنا عددا من قصص الحب الحقيقى أو المتخيل، وكم كان -حبه فى صباه عذرياً آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، حتى أنه (من فرط عذريته) قد عوض ذلك بخياله الروائى الذى أراد أن يكشف من خلاله للشباب والعامة كيف يتجنبون المنكر، كان كل هذا سهلا يفعله الساسة فى مذكراتهم، وخاصة إذا كانوا من الضباط الأحرار، ويفعله المحبون فى سرد تاريخهم البرىء أمام الحبيب الجديد، وقد يتمادى المحبون – حسب مقتضى الحال – فيكذبون على الجانب الآخر، إن كان المحبوب يفضل صاحب الخبرة السابقة، مع أن كذب السياسى المحب قد يكلفه كرسى الرئاسة فى أكبر دولة فى العالم… إلخ.

لكن محفوظ اختار الطريق الصعب، لأنه الأبقى والأنفع، ولأنه الأصدق والأشجع ولأنه محفوظ. إذا تذكرنا ما علّمتْهُ لنا كتب الحديث الشريف من أن السيرة هى «قول» أو «فعل» أو «تقرير» لوجب لزاما أن ننقل للناس، إلى جانب كلام محفوظ وتسجيلاته، ما يفعله محفوظ ويقره، حتى تكتمل الصورة، ومحفوظَ فعَلَ ويفعل الكثير فى إبداعية يوميه. هو أيضا من القلائل الذين أتاحوا لكل الناس – دون استثناء – أن يروه كما هو، وهو يأكل ويشرب ويعمل عملا راتبا (روتينيا) ويمزح ويمشى فى الأسواق فهذا الكتاب الذى جمعه وحرره النقاش هو بعض محفوظ (على أحسن الفروض) وهذا ما أقره النقاش بأمانه دقيقة فى المقدمة. هو كتاب ناقص، لا يكتمل إلا بلاحق من صاحب السيرة، أو من رواية، أو من كليهما أو غيرهما، وهذا ما وعدنا به النقاش، أما بقية الصورة، أما حقيقة الصورة فهذا أمر اخر.

قبل أن أستطرد فى مناقشة بعض ما جاء فى الكتاب أود أن أشير إلى آفة الكسل التى صبغت حياتنا منذ لوح لنا النظام أن كل ما علينا هو أن نهتف بحياة المنقذ الأوحد، وأنه مقابل ذلك يتكفل لنا بالمسكن والوظيفة ويزوجنا أيضا ببنت الحلال التى قد ينتقيها لنا لو عنده الوقت. ثم إنه مشكورا سيقوم عنا بالتفكير بالمرة، وقد تمادت هذه الآفة ليس إلى العمل فحسب (37 دقيقة عمل فى اليوم!! كما شاع) ولكن إلى كل المجالات فى البحث العلمى ولجان الترقى للأساتذة شخصيا، وسائر الانتخابات، وإلى الإحصاءات ذات الأرقام الرسمية، وغير ذلك بلا حصر، مما لا مجال لذكره حالا. ثم إن آفة الكسل هذه امتدت إلى عقولنا «ونحن نقرأ» «ونحن نفهم» ونحن ننقل ما نقرأ، ونحن نستسلم لما يُكتب، إلى آخر ما تجسد أمام ناظرى وأنا أتابع هذه الضجة التى أثارها كتاب النقاش ونجيب محفوظ.

فى البداية عذرت القارىء بعض العذر، إذ ماذا ننتظر منه وهو يتلقى كتاب سيرة ذاتيه عليها اسم أهم كاتب، (نجيب محفوظ) وقد حاوره ناقد من أبرع النقاد وأحذقهم إعلاما ـ (رجاء النقاش) ونشره ناشر موضوعى ملتزم (مؤسسة الأهرام: مركز الأهرام للترجمة والنشر)؟ ماذا ننتظر من القارىء إلا أن يفعل ما فعل؟ أى أن يلقى بكل أسلحة تحفظه جانبا لتنقلب كل خلاياه إلى « آذان صاغية» كما يقال. إلا أن الآذان الصاغية ليست، أو ينبغى ألا تكون، مثل الأوانى المستطرقة تتساوى فيها أسطح ما يلقى إليها من أى منفذ، ومع ذلك فقد دلت التعقيبات التى نشرت، وأكثر منها مادار فى المجالس الخاصة والعامة، أن أغلب الآذان لم تسمع إلا ما انتقت أن تسمعه دون السياق الذى ذكر فيه، بل أن بعضها سمع ما فى ذهنه هو دون ما رواه النقاش عن الحاكى، ولنبدأ من البداية:

أولا: العنوان لم يذكر النقاش، ولا محفوظ – فى العنوان – أن هذا الكتاب هو «سيرة ذاتية» بل إنه كان مجرد « صفحات من مذكرات، وأضواء جديدة. على أدبه وحياته، والمتأمل فى العنوان لابد أن يدرك أنها مجرد «صفحات من.. » وليست صفحاته كلها، وأنها مزيد من الأضواء الجديدة. إذن فلابد أن تضاف إلى هذه الأضواء الجديدة الأضواء القديمة حتى تكتمل الصورة، فهل توقف أحد عند العنوان أصلا قبل أن يزعم أن هذا الكتاب هو نجيب محفوظ شخصيا بكل ما هو نجيب محفوظ؟

ثانياً: لم يربط قارىء من القراء (أو كاتب ناقد) بين ما ورد فى هذا الكتاب، وبين آخر أروع إبداعات الرجل خاصة وقد اختار لها محفوظ شخصيا اسم «أصداء السيرة الذاتية» وكأننا بإغفالنا هذا الربط، فصلنا الصدى عن الصوت الأصل.

ثالثاً: لم يتوقف أحد – بالقدر الكافى – عند مناقشة منهج الكتاب ومدى التزامه بالقدر اللازم من «المصداقية» قبل أن يندفع ليناقش محتواه، فعلى الرغم من أمانة وطيبة وحيدة النقاش، وعلى الرغم من حبه لمحفوظ الذى لا يخفيه، فإن المسألة تحتاج إلى مراجعة بل مراجعات، فقد علمنا البحث العلمى أن نتأكد بادىء ذى بدء من ثبات ومصداقية الأداة التى نقيس بها سلوكا ما، أو نحكى بها رواية ما، وذلك قبل أن نندفع لنأخذ نتائج القياس بها وكأنها الحقيقة. هنا تطول الوقفة إذا أردنا بحث مصداقية هذا العمل بجد لائق. ولنفترض ابتداء – كما بدا لى أكيدا- أن الراوى نقل الحقيقة، و لا شىء غير الحقيقة، فهل يعنى ذلك أنه قال «كل الحقيقة». أنا لم أفهم ضرورة ذكر قول «كل الحقيقة» وليس فقط الحقيقة ولاشىء غيرها إلا مؤخراً حين فهمت أن إخفاء بعض الحقيقة قد يصل إلى نوع خطير من الكذب. وقد اتضح لى ذلك جليا حين بلغنى كيف أن الوزارء فى البلاد المتحضرة قد يستقيلون، بل إن الوزارة بأكلمها قد تستقيل إذا أخفت بعض الحقائق عن الشعب (اللهم إلا بعض الأسرار العسكرية التى تخفى بقوة القانون) ولكننا منذ إخفاء النتيجة الحقيقية لحرب 1956، حتى إخفاء كلينتون تفاصيل علاقته بالآنسة (!!!) مونيكا لوينسكى رحنا نتعلم أسلوبا جديدا فى التعامل مع الحقائق.

إن علوم الحديث الشريف قد علمتنا كيف ينبغى أن يكون الحرص كل الحرص فى نقل ما يروى، وكيف يستحيل اليقين كل اليقين بالنسبة لما يمكن أن يصلنا، وعلى الرغم من جهد علماء الحديث للتحقق من مصداقية الرواة، إلا أن الأمر لم يسلم أبدا من أن تصلنا أحاديث غفر الله لمن ابتدعها أو تساهل فى نقلها، ولا يتصور أحد أن التسجيلات الصوتية هى المنقذ من هذا الخلط، ولا حتى الكتابة الموثقة بخط صاحبها، ولا مجال لتفصيل ذلك الآن، فقد أعود له فى حديث لاحق. المهم، لقد بدأت لقاءات النقاش مع محفوظ فى «.. أول أغسطس سنة 1990 وكان اللقاء يستغرق.. ما يقرب من ثلاث ساعات، واستمرت هذه اللقاءات حتى أواخر عام 1991» (ص7) ومع ذلك لم نحصل إلا على خمسين ساعة حسب إقرار الراوى!! وقد ظهر جليا فى المقدمة الأمينة المحبة التى قدم بها النقاش الكتاب كيف أنه وقع فى حيرة منهجية لم يجد منها خلاصا إلا فى هذه الصورة البسيطة المتواضعة الصحيحة التى ظهر بها هذا الكتاب هكذا. لا يوجد أى مجال للومه أو تكذيبه، إذ بدا واضحا وصريحا أن ظهور الكتاب بهذه الصورة كان المنقذ الوحيد ضد البديل السلبى وهو ألا يظهر إطلاقا، ومع ذلك تعالوا نقرأ بعض المقدمة:

(أولا) ذكر النقاش (ص7 أيضا) “وأحيانا كنا نعيد الأسئلة، ونعيد تسجيل الاجابات طلبا لمزيد من الدقة والوضوح،

)ثانيا) اثنى النقاش (ص 9) على.. الأصدقاء الذين ساعدونى مساعدة أساسية فى تفريغ شرائط الأحاديث، وترتيبها ترتيبا موضوعيا.

(ثالثا) وعد النقاش بعودة ينتظرها الجميع قائلا (ص 8).. أما التقديم لهذه الأحاديث والتعليق عليها والمقارنة بينها وبين أعماله الفنية، فلم أجد مفرا من تأجيل هذا كله إلى كتاب جديد.

إذن فثمة مراجعة لبعض الأحاديث الغامضة، وثمة آخرون قاموا بالتفريغ ـ (لا مجال للشك فى أمانتهم) وثمة اعتراف بنقص رائع متدارَك بإذن الله، ومع اليقين من حب النقاش لنجيب محفوظ، وحب نجيب محفوظ للنقاش وتقديره لجهده، فإن المنهج البسيط الرائع الذى ظهر به هذا الكتاب، هكذا كان يقتضى فى أبسط صوره ما يلى:

)1)) ان يحترم الراوى ان ما يقرب من ثمانى سنوات مضت بين تسجيل الأحاديث وبين نشر الكتاب، فكان ينبغى عليه أن يفترض تغيرا ما خلال هذه السنوات السبع أو الثمانى من انسان عنده شجاعة التغير، وبالتالى كان عليه ان يرجع إلى الحاكى فى بعض المسائل التى بدت فى صورتها الخام شائكه أو ملغزة؟

(2) حدث فى هذه الفترة للحاكى -نجيب محفوظ- ما لايمكن اغفاله، وهو محاولة الاغتيال، وما ترتب عليها من تمام الإعاقة عن القراءة، وعن الكتابة، بما لانملك معه إلا حمد الله، وقد جاء ذكر ذلك ملحقا بالكتاب. أفما كان الأولى، بعد هذه الخبرة الخطيرة، أن يراجَعَ الحاكى لعل هذه الخبرة قد أنارت له بعض ما غَمُض عليه قبلها؟ إننى أعلم من موقع تخصصى ان مثل هذه الخبرات الجذرية، قد تعرّى صاحبها حتى مرتبة النبوة، إذ قد تكشف عنه غطاءه حتى أننا فى بعض الأحيان نسمى مثل هذه الخبرات الجذرية «إعادة ولادة» مهما بلغت السن، ونشر الأحاديث التى حكيت قبل الحادث يمكن أن يتنافى مع ما احدثته هذه الخبرة الجذرية من كشف ومراجعة، فإذا كان الراوى قد خاف فتح الملف واحتمال التأجيل حتى التراجع، فلا أقل من الاستيضاح فى بعض ما هو ملغز أو شائك، ليس فقط لمرور الزمن وإنما أيضا لوقوع الحادث!!

(3) بلغنى من الحاكى شخصيا، نجيب محفوظ، وهو يلتمس العذر للنقاش أن الفاضلة المسئولة عن النشر السيدة «نوال المحلاوى» قد أرسلت له تطلب منه كتابة مقدمة للكتاب، وانه اعتذر لظروفه (طبعا)، لكن بعد ظهور الكتاب يبدو أن السيدة نوال المحلاوى عادت فأوضحت انها مع طلب المقدمة طلبت بشكل مباشر أو غير مباشر ان يُقرأ الكتاب على صاحبه. ثم إنها فهمت من اعتذار محفوظ عن كتابة المقدمة أنه وافق على عدم قراءته عليه القراءة الأخيرة قبل النشر مباشرة. لا مجال لتكذيب أى من هذه الروايات، إلا أنه يبدو أيضا أن شيخنا الجليل لم يبلغْهُ هذا العرض (قراءة الكتاب عليه قبل النشر) بوضوح كاف، ولا من مصدر مسئول بشكل مباشر، وظروفه الحالية لا تسمح بالاستيضاح أو الإلحاح أفما كان الأمر يستأهل بعد مرور هذه السنين وبعد الحادث وقبل النشر ان يكون هذا الطلب مباشرا ومحددا ومن الراوى المحب شخصيا دون سواه؟ أما كان الأمر يستأهل أن يجلس هو شخصيا عددا آخر من الساعات يقرأ الصورة النهائية حرفا حرفا، والأستاذ مازال والحمد لله يحسن الاستماع (مهما كانت الصعوبة) إذ يستمع بكل اخلاص لكل غث وسمين نشغله به فى كثير من الأوقات.

أكتفى بهذا القدر فى مسألة المصداقية، وصدق الأداة، وما كنا نرجوه، وما كان ينبغى. ذلك أنه على الرغم من كل ذلك، فإن نجيب محفوظ بكل شجاعته وأمانته وحبه للحقيقة وللراوى، صدق أولا بأول، متألما وغير ذلك – على أى مقتطف روى له من الكتاب. وللأمانة فإن من يراه وهو يرفع حاجبيه دهشا حين يذكر له أحدنا – أو غيرنا – فقرة من الفقرات المشكلة، ثم وهو يتساءل (غير منكر) أنا قلت هذا؟ فيقال له: هذا هو المكتوب، فيصدق على الفور، ويبتلع ألمه صامتا، ثم يمضى فى الإيضاح وذكر السياق المحتمل. من يرى هذا المنظر لابد أن يزداد احتراما لهذا العظيم، ولعله يتعلم منه الشجاعة وحب الحق على طول الخط. فإذا انتقلنا إلى محتوى الكتاب وجدنا أنه قد أُخذ عليه أربعة مآخذ رئيسية.

أولاً: قالوا إن أراء محفوظ تغيرت عن تصريحات له سابقة، واستشهدوا على ذلك، وهات يا اتهام بالتقلب والتناقض والتلون…. إلخ.

ثانياً: أخذوا عليه ما جاء فى نقده لحركة يوليو، التى ثوّروها لاحقا، ثم تراجعوا عن هذا وذاك، وشددوا فى لومه على رأيه فى تأميم القناة، وحرب الاستنزاف، وجمال عبد الناصر، ثم ألحق بهذا المأخذ إضافة تكميلية تقول: وأين كنت أيام عبد الناصر؟ ولماذا لم تقل هذا أيامها…. إلخ.

ثالثاً: عابوا عليه ما صرح به شخصيا عن فترة من فترات حياته حين انطلقت طاقته الجسدية أقوى من قدرة ضبطها، ولم يتحرج فى ذكر مسارها هذا مباشرة.

رابعاً: لاموه على ما جاء من نقد مهذب، ومديح قيل انه زائد فى النظام القائم حالياً، وفى رئيسنا الحالى، .

هنا أجدنى أتصدى بشكل عام للرد على بعض ذلك قائلاً:

(أولاً): من حيث المبدأ، سوف نسلم بأن نجيب محفوظ قال كل هذا، لكننا لابد أن نتوقف عند السياق الذى قاله فيه، وكثير منا، نتيجة الكسل الفكرى المخدر للوعى، لا يستوعب حكاية السياق هذه بالقدر الكافى، فثمة أية كريمة تقول “ويل للمصلين”، ولولا علامة الوصل (صلى التى ترسم بعد هذه الأية) لحقَّ للقارىء أن يتوقف وكأن المعنى انتهى. تقول الأية التالية الموصولة: «الذين هم عن صلاتهم ساهون»، وكل ما قاله نجيب محفوظ وحاولوا أخذه عليه، نُزع من سياقه قسرا، سواء بتعسف متحيز، أو بكسل رخو، أو باستسهال متعجل، ولابد من مقالات أخرى مستفيضة لضرب أمثلة تفصيلية لذلك.

(ثانياً): إن الانسان الصادق مع نفسه، الشجاع فى مواجهة الدنيا والناس، هو الذى يستطيع أن يغير موقفه، ليس فقط لأنه كائنا حى يتغير، وانما أيضا لأن التغير واجب كلما تغيرت المعلومات زيادة أو نسخاً أو تصحيحاً، ولابد أننا ننخدع كثيراً فى الهتاف القديم الذى يصيح أنه «يحيا الثبات على المبدأ»، ذلك لأنه إما أنه يشير إلى المبادىء الأساسية فى الحياة، مثل الثبات على مبدأ الصدق، أو مبدأ احترام الرأى الأخر، أو مبدأ الحرية للجميع، وإما أنه هتاف طفلى يعنى الفخر بالغباء الساكن، والعناد المتشنج الذى يصبغ صاحبه صبغة واحدة طول العمر. هذا النداء فى صورته الطفلية لا يفخر به إلا طفل علموه أن يفخر خطأ بمثالية بلهاء. إذن فتغير موقف محفوظ من الحماس لتأميم القنال والفرحة بالاتحاد مع سوريا إلى التحفظ والمراجعة هو أمر يؤخذ له ولا يؤخذ عليه. قس على ذلك كل أنواع التغير الذى صرح بها بل أننى على يقين من أنه: لو أن أحدهم شرح له أكثر كيف أن حرب الاستنزاف لم تكن نزيفاً مزمنا يُقصد به إلهاء الناس دون حرب حقيقية، بل أنها كانت التدريب الطبيعى الذى بدونه ما كانت لتنجح حرب 1973، وأن من أهم ما قام به جمال عبد الناصر قبل أن يلقى ربه هو أنه أمر باستبقاء مجندى المؤهلات بعد انتهاء فترة تجنيدهم، وبالتالى تغيير نوعية الجندى المصرى، ثم تدريبه طول الوقت لعدة سنوات متصلة على ما يمكن أن يأتى بعد، لو أن هذه المعلومات وصلت إليه كاملة هكذا، ثم أخذ رأيه قبل النشر، إذا كان كل ذلك قد وصله بهذا الوضوح فإنى على يقين أنه عنده من الشجاعة مايسمح له أن يغير رأيه فى حرب الاستنزاف، فما بلغنى مما قال مجتمعاً ليس اعتراضا على حرب وانما هو اعتراض على احتمال إلهاء الناس بحرب ليست بحرب، وليست إعدادا لحرب حقيقية، فلو كان صُحِّحَ لصَحَّحْ.

(ثالثاً): إن معايرة البعض له بأنه لم يقل رأيه هذا فى عبد الناصر أيام عبد الناصر، وانه يقول رأيا لينا جدا فى الرئيس مبارك، لأنه مازال فى السلطة، هى معايرة مضحكة، ينسى صاحبها ان محفوظ ليس رئيس حزب سياسى فى بلد غربى ديمقراطى، وان كثيرا من هؤلاء المعارضين الذين يزعمون بطولة غير مطروحة أصلا كانوا من أوائل الذين باعو حتى الاشتراكية أو الشيوعية بحركة تكتيكية خائبة للنظام ذاته حرم من ان يكون له رأى أصلا حتى داخل حجرة نومه.

محفوظ الذكى، المبدع، الملتزم قال ما استطاع، بما كان يسمح به، بل أنه قال ما يجدر به أن يقوله إبداعا لا جدال حوله، سواء فى ثرثرة فوق النيل، أواللص والكلاب، أوالشحاذ، من قبل الكرنك وميرامار، ثم إنه حين نجح فى أن يضبط جرعة النقد ويحسن توقيتها تمكن من الاستمرار حتى اقتنص لنا نوبل (من فم الأسد)، وأيضا استمر يثرى حياتنا بما هو أثمن من نوبل، فإذا قلنا: فلماذا لا يهاجم مبارك الآن بما يرى أنه ليس صوابا؟ لجاء الرد ص 231 وما بعدها فنرصد مقدار ذكائه والتزامه حين يعلن كل اعتراضاته على النظام الحالى بلهجة القائل بالتغيير، الواثق من حسن استماع السلطة له، أو الآمل فى ذلك على الأقل، من أول رفض استمرار قوانين الطوارىء، حتى حتم تغيير الدستور، مارا بضرورة نزاهة وتغيير نظام الانتخابات، وحتم إطلاق حرية إصدار الصحف بلا وصاية، وتكوين الأحزاب بلا لجان.

(رابعاً): إن ما صرح به محفوظ بالنسبة لسلوكه الشخصى الباكر شابا ويافعا، هو من أقسى وأروع ما جاء فى هذا الكتاب، صحيح أننا لم نعتد هذه الشجاعة العارية، لكن من أخذ عليه هذا التصريح نسى أن يذكر أنه أعلن (ص 105) أنه: لدرجة أننى كنت أتوجه بالتوبة إلى الله يومياً وكذلك (ص 296) إن فى أعماق روحى وقلبى إيمانا بالله لم تنتزعه منى دراستى للفلسفة.. إلخ، ولست أدرى إلى متى نظل نكذب على أنفسنا وعلى أولادنا، حتى تسخر فكاهاتهم منا حين يدعى كل أب أنه أول فصله، فيسأل الأبناء: إذا كان كل الأباء أوائل فصولهم فمن كان الثانى فى أى فصل من فصول المدارس؟، أو حين ينكر الآباء الجنس سببا فى التناسل فيدعون أنهم وجدوهم بجوار المسجد، أو على قارعة الطريق، فيسأل الأبناء ذويهم ألم يكن على أيامكم ما هو «زواج» خليق ان ينجبنا مثل سائر الأحياء؟ هذه الأخلاق المسطحة التى تظهر حين يكتب الناس سيرتهم، هى إعلان لكسلنا العقلى عن احترام وعى الصغار قبل الكبار. لا شك أن الصمت أفضل من قصائد الفخر الكاذبة هذه. بل أننى أرى أن ما لحق ببعض كتب التراث من حذف وتشويه تحت زعم تجنب ما يخدش الحياء، لهو جريمة أخلاقية لا يرضى عنها الحياء ذاته، والأولى أن نخجل مما نفعل بتاريخنا لا أن نفخر بتزييفه، فإذا تعرى محفوظ بما يتصور أنه يجعله إنسانا أقرب، وقدرة أصدق فى تعامله مع أخطائه وشطحاته، خفنا مما صرح به، ونحن لا نخاف عليه – على صورته – بقدر ما نخاف أن يضطرنا- بصدقه هذا – ان نتعرى مثله.

وبعد: فإذا كنت قد دعوت كل من يهمه الأمر فى بداية حديثى إلى إكمال الصورة، ولعل خير من يفعل ذلك هو النقاش نفسه كما وعد فى المقدمة، فإننى ابدأ بنفسى لأشير إلى بعض ما وصلنى من فعل شيخنا الجليل ومما تصورت أنه أقره ويقره – وليس فقط من قوله (الذى أتناول بعضه فى قراءتى النقدية لاصداء السيرة الذاتيه فى مجلة «الانسان والتطور» حاليا). السيرة قول أو فعل أو تقريرا، وبديهى أن مصداقية ما أَقره محفوظ قد تكون أضعف مما صرح به، لأنه استنتاج صرف، وعذرى أن من يعاشر شيخنا الجليل مثلما نفعل لابد أن يكون قد حفظ رموز وعلامات ما يُقِرّ وما لا يُقِرّ من الآراء دون أن ينبس شيخنا ببنت خفه كما يقولون، سواء تمَّ ذلك بابتسامة هادئة، أم هزة رأس، أم تعقيب فكه أم تحويل موضوع، وسوف أكتفى بذكر العناوين فى هذه المرحلة كما يلى:

إن محفوظ مؤمن أشد الأيمان وأعمقه، وهو يحب الله، ويحبه الله.

ثم إن محفوظ قد أحب عبد الناصر حبا صادقا، كما أنه كرهه كرها صادقا، كما أن محفوظ قد استهان بالسادات استهانة مبدئية، ثم احترمه احتراما واقعيا، كما ظل ممتنا له بما حرره، داعيا له بالغفران لما شطح منه وبه، وقد فرح محفوظ بتأميم القناة مثل كل مصرى وأكثر، ثم راجع نفسه متألما ألما حقيقيا، حين بدا له أن الثمن باهظ وان الخديعة مرة، وأن الانتصار كذبة.

ثم إن محفوظا انسان يكره الحرب كرها شديدا، لأنه يعشق الحياة والحضارة والإنسان، ويتصور ان الحرب تدمر كل هذا، (وهذا ليس بالضرورة صوابا!!) لكنه مستعد أن يكون أول المحاربين – حتى فى هذه السن – شريطة ان تكون حربا بحق لا نهاية لها إلا بالنصر الحقيقى، أوالاعتراف بالهزيمة، فهو – مثل كل الأبطال عبر التاريخ – يقبل الهزيمة، بشرف المقاتل الذى أخطاه التوفيق، وهو يأبى أن يسميها بغير أسمها، ذلك لأنه يعتبرها البداية الكريمة المؤلمة لكل من أراد ان يتعلم من خيبته البليغة. وعلى قدر كراهية محفوظ للحرب فهو يكره أكثر من يدعى الحرب وهو لا يحارب، ولن يحارب.

كما أشهد أننى رأيته يكره الشر أكثر من أى كاره، وهو لا يفتأ يرى الشر كل الشر ممثلا ليس فى غطرسة إسرائيل فحسب، بل فى كل غطرسة بلا استثناء، سواء كانت يهودية أو صهيونية أو يوغوسلافية أو خليجية أو مصرية.

وهو يعبد الديمقراطية ويدافع عنها حتى لو أدت إلى أن يتولى من حاولوا قتله مقاليد الحكم، لأنه على يقين من شعبه وناسه، وأنهم (ناسنا الطيبين) سيزيحون أهل البغى والفساد متى ثبتوا أنهم كذلك، حتى لو اختبأوا إلى حين تحت دعاوى الدين، سيزيحونهم بالديمقراطية وليس بغيرها ولو بعد حين (لست أدرى كيف؟).

أما نجيب محفوظ الحقيقى، الذى هو ليس تسجيلا على شريط، وليس تصريحا فى صحيفة، وليس أداة تُستعمل من الظاهر تأخذ منه ما شئت لما شئت، وليس شهادة من مثلى تغلفها العواطف ويتحكم فيها ما تيسر من معلومات، أقول أما نجيب محفوظ الحقيقى فهذا هو ما لا نعرفه حتما (من يعرف من؟؟) بل لعله هو نفسه لا يعرفه يقينا.

كل منا يولد وينشأ، ويسير بين الناس، يحضر ويمضى، يقول ويحاول، يخطىء ويصيب، يبدع ويكُمن، ثم هو لا يكون إلا بقدر ما يتخلق ويعاود ولادة ذاته باستمرار.

ثم لا يبقى منه إلا ما ينفع، ويغير.. وليس ما يوصف به أو يحكى عنه.

ان الانسان ليس إلا مشروع دائم التكوين، ومحفوظ هو خير مثال لذلك، فلا توقفوا الزمن لتجسدوا ما تتصورونه، أو تخافون منه، أو تخبئونه، تجسدون فى هذا الشخص الرائع الذى لم يتوقف عن أعادة ايجاد ذاته حتى هذه السن.

إن أهم ما فى هذا الكتاب – على قصوره – هو التحدى الذى ألقاه فى وعيى/ وعينا: ان علينا أن نحاول.

لعل وعسى

انتهى المقال الذى نشر بالأهرام. أكتفى أن أضيف إلى ما جاء فى مبررات تسجيله بالنص أن ما جاء فى نهاية هذا المقال هو عن ماداولته طول الوقت بهذه المغامرة التى أقدمت عليها لإصدار ترحالاتى جميعا، إن الإنسان مشروع لا يكتمل أبدا، ولا يعرفه أحد، ولا نفسه، وعلينا أن نستلهم مما يتاح، وأن نواصل إلى ما يمكن لا أكثر ولا أقل.

مارينا فى 5 أغسطس 2000

حضرت إلى مارينا مرغما. مازال خصامى لها ممتدا رغم زوال أسبابه الظاهرة كما ذكرت، ناسها ليسوا ناسى والله العظيم، لست أنا.

كلّمنى حفيدى “على” أمس، وهو حفيد شديد الذكاء، شديد الخجل، شديد النشاط، يغطى بنشاطه العدوانى خجله، وينفّر منه من يحبه، لكنه طيب خفيف الظل، “على” هذا ابن ابنتى “منى” وقد نبهُتها أنها إن لم تنجح معه، فلن أثق فيها كطبيبة نفسية. منى ابنتى هذه تعتبر إحدى تلميذاتى. هل ظلمتُها؟ هل نجحتُ أنا معها؟ أنا نجحت مع أولادى. أنا أقرر هذا، ربما. بل إننى فخور بهذا، ربما، المهم كلمنى حفيدى على أمس، وأنا بينى وبينه ما صنع الحداد.

على هذا كان صديقى أكثر حين كان أصغر. عمره الآن سبع سنوات.

حين حدثت جريمة الأقصر واغتيل هذا العدد الهائل من السائحين حزنت حزنا شديدا، لاحظنى على وكان حول الرابعة، دار بيننا حوار سجّلته فى العمود الذى كان اسمه “تعتعة” وأكتبه بانتظام فى صحيفة الدستور.

القاهرة فى: 26/11/1997

ليس أكبر من ماربّنا

فى يوم الإثنين المشئوم كنت أسير فى الحجرة غير منتبه إلى الأخبار المعادة بنفس النغمة ونفس الترتيب والتى تسردها المذيعة التى تعتقد أنّها أجمل الجميلات، ثم وصل إلى أذنى وعينىّ -رغما عنّى-خبرٌ جديدٌ، مرعبٌ، خطيرٌ، قبيحٌ، ونذل، كان خبر الأقصر، فنزلت إلى الأرض فورا، وحططت على أريكة غاصت بى حتى كدت أنفذ من قعرها، ووضعت يدى على خدّى وصمتُّ، ولاحظتْ زوجتى ما حلّ بى فسكتتْ، فهى تعرفنى حين أحزن هذا الحزن فلا أنبِسْ، لكنّ “على”-حفيدى (أربع سنوات)- لا يعرف عنى إلا مداعبتى إياه، فتقدّم حذِِرا وهو يتعجّب من أمر جدّه وما أصابه، ولم يجرؤ أن يلمسنى ويشدنى إلى الأرض ليمترغ علىّ وأنا أرفعه بقدمىّ إلى أعلى، قال لى فى حذر :

“جدى إنت زعلان؟”.

رددت فى اقتضاب “أيوه”،  فلم تكفه الإجابة إذ يبدو أن جِلستى ووجهى بيّنَا له درجة من الحزن فوق تصوّره، فتمادى:”إنت زعلان قوى؟”، فكررت ردّى بنفس الاقتضاب ومازالت يدى على خدّى، والأرض تغوص بى أكثر فأكثر: “أيوه”، ولم تكفه الإجابة فمضى يقول:”إنت زعلان أكتر من كل حاجة؟”، قلت بنفس الطريقة :”أيوه”، وكدت أزيحه بيدى بهدوء بعيدا عنى قليلا حتى لا أُضطر إلى نهره بلا ذنب، ولكن يبدو أن حزنى كان أكبر فأكبر، فاستمر قائلا ” إنت زعلان أكبر من ربّنا؟” فقلت مُفحما:لا “، فقال فورا : أيوه، عشان ما فيش حاجة أكتر من ربّنا. فهدهدت ظهره ولم أستطع تقبيله، فقدت كنت ما زلت متجمّدا فى جلستى.

ولم تخفف هذه الحكمة الطفلية عنّى بعض حزنى، فقد كنت مليئا بتلك المرارة الخاصّة البشعة، مرارة ذكّرتنى بطعمٍ قبيح مازالت آثاره فى وعيى أكثر من ثلاثين عاما، من يوم 8 يونيو سنة 1967

(انتهى الجزء الخاص بـ “على”، وعلاقتى  به من قديم…)

سألنى “على” فى الهاتف : هل ستحضر يا جدى لنا اليوم؟ 0يقصد أحضر لهم فى مارينا) سألته بدورى: لماذا أحضر؟ يبدو أننى كنت أريد أن أسمع منه شوقا أو ما يشبه ذلك، فانتظر برهة ثم أجاب، “تبيتُ معنا”.

سُـررت رغم شكى فيما حدث فى هذه “البرهة”،

جلست ألملم نفسى فى الاستراحة القديمة (الرست هاوس)، لكن بدلا من أن أستعيد نشاطى، وأروّض مقاومتى اقتحمـَـنى نوم ثقيل، كنت قد تخلصت من هذه المضاعفة التى كانت تنتابنى أثناء القيادة ليلا، أعنى النعاس أثناء القيادة، تخلصت منها لثلاثة أعوام خلت. أنا أسافر الآن ليلا أو نهارا وحدى لأكثر من ست ساعات إلى دهب. لا أغفو ولا ثانية. لماذا عاودنى النوم الآن؟

عرفت أننى لم أنجح فى إقناع داخلِـى بقبول دعوة حفيدى المشكوك فى حقيقة مصدرها. تحايلت على الحالة، لكن زوجتى لاحظت صعوبة مقاومتى. نصحتنى أن أركن، وأغفو لبضع دقائق، وهى تعلم أننى حذقت هذه الوسيلة السريعة أستعيد بها كل حيويتى، لكننى عاندت مدعيا أن الطريق الجديد إلى العلمين غير آمن. رحت أتثاءب بشكل متلاحق،

قرب مارينا بحوالى عشرين كليلومترا، يبدو أننى تكلمت كلاما استعادته زوجتى، فإذا بى أقول لها إن عبد العزيز (رجلـُنا فى الفيوم) كان قادما فى الاتجاه العكسى على عربة كارو، وأنه عبر الطريق إلى كوم حمادة دون حذر. وأنا أحكى اكتشفتُ أننى كنت أحلم. سبق أن استشهدت بمثل ذلك فى أطروحة علمية لا مجال لتكرارها هنا، انزعجتْ زوجتى بهدوء حتى لا تتضاعف الأمور.

وصلنا مارينا، نسيت فى القاهرة هذه البدعة الجديدة المسماة “المحمول”، نسْـيانى المتكرر لها بدا مقصودا من داخلى أيضا. أنا لا أطيق الهاتف “المحطوط” فما بالك بالمحمول؟ ومع ذلك كان سيساعدنا أن نعرف أين تنتظرنا بنتاى وأحفادى الذين ينتظروننا فى مارينا.

استقبلنى على حفيدى مستيقظا فقلت له شاكّا: هأنذا حضرت من أجل خاطرك بعد المكالمة، فردّ بنفس الصراحة التى عهدته فيها حتى الغيظ، إن “ماما”هى التى قالت لى أكلمك وأقول لك ذلك، فعرفت ما حدث فى “البرهة” إياها أثناء المكالمة، بل ورجحت أنه حتى دعوة “ماما” (ابنتى) له أن يكلمنى للحضور ليلا كانت بناء عن توصية من أمها هاتفيا، فهى – زوجتى – كانت قد اقترحتْ نفس الاقتراح – السفر إلى مارينا – ورفضته متذرعا بأسباب خائبة.

لماذا أذكر كل هذا؟ لأقر وأعترف أننى ما زلت جائعا حتى لدعوة حفيدى أن يرانى مبكرا بعض ليلة؟

ياه!! إلى متى؟ يا خبر!!

كان ينبغى علىّ أن أتذكر محادثة جرت بينى وبين حفيدى هذا قبل ذلك بيوم واحد لأتأكد أنه ليس هو الذى يتكلم بهذا الشوق حتى يدعونى إلى هذا التبكير. قال لى، وحديثنا يتطرق إلى موت جد ابن خاله عمر (حفيدى الأول، وعلى يشير إلى موت جده لأمه د. حلمى نمّر) قال لى “على” هذا(كنت أحسبه صديقى حتى الآن):

– هل تعرف يا جدى أننى وعمر كنا نعرف أن جد عمر مات، وهم يخفون ذلك عنا،

قلت له:  من أين عرفتم؟

قال: هكذا، نحن عرفنا، ولم نقل لهم أننا عرفنا، ما داموا يريدون ألا نعرف.

قلت له”: وماذا فعل عمر حين علم بموت جده”،

قال: زعل، وبعدين خلاص.

قلت له: وماذا ستفعل أنت لو أننى مت؟

قال: سأفرح لأنك لن تنهرنى،

قلت له، “ومن ذا الذى سيعاكسك و يداعبك هكذا”،

قال: دون تردد: “بابا”،

قال: ذلك ثم ضحك عاليا، وفر هاربا، فقمت أعدو وراءه أحاول الإمساك به.

كان هذاالحديث قبل دعوته المزعومة لأحضر مبكرا إلى مارينا بيوم واحد.

متى أتعلّــم؟

كان من أسباب مقاومتى الحضور إلى “مارينا” رغبتى أن أنهى هذا العمل هذا الأسبوع. يكفى هذا، وهأنذا أفعل فى مارينا.

إذا كان هذا الفصل هو فهرس لترحال رابع محتمل، وإذا كنت قد غامرت فنشرت نص ردى على كتاب النقاش، وإذا كنت قد قررت أن أوقف هذا التدفق قسرا، فقد يكون مناسبا أن أكمل المعنى الذى أردت إيضاحه فى ردى على كتاب النقاش من حيث أن معاشرة محفوظ هى فى ذاتها عمل إبداعى تتخلق من خلاله، وبالتالى فنتاجها على الرغم من أصالته ودلالته، هو عصىٌّ عن التسجيل.

إننا أحوج ما نكون إلى أن نعيش ” السيرة الآنية” ما أمكن ذلك، قبل وبعد أن نقرأ أو نحكى السير الذاتية وهى تحل محل صاحبها وكأنها هو، وهى أبعد ماتكون عن ذلك.

حين رفضت كتاب النقاش عن نجيب محفوظ باعتباره “سيرة ذاتية”، رأيت أن أكمل تصحيح الصورة بأن أساهم كلَّ عيد ميلاد فى تقديم بعض جوانب ما يصل إلينا منه. كان من أهم ما يهمنى هو أن أؤكد من خلال عشرته ذلك الفرض الملح الذى شغلنى طول عمرى والذى رأىته يتحقق من خلال صحبتى لهذا القطب الجليل.

يقول هذا الفرض : إن الإبداع فعلٌ يومى قبل أن يكون إنتاجَ بعض الصفوة لتشكيلات جميلة مستقلة عنهم. كنت أشعر أن نجيب محفوظ بعد أن عجز أن يكتب (وقد عاد الآن بإصرار عنيد يكتب أحلام فترة المراهقة) يمارس هذا النوع من “الإبداع المباشر” بأن يتخلـّق بيننا فنتخلّــق من خلاله. وبما أن السيرة الذاتية التى رجّحت أنها الأولى بالتسجيل هى “معايشة الآن”، فقد رأيت أن أورد نصا نشرفى الأهرام بمناسبة عيد ميلاده يشير إلى بعض ذلك. كان ذلك بعنوان:  عش لنا عاما آخر، وأعواما كثيرة،

فى أصداء السيرة الذاتية يقول نجيب محفوظ:

“… تذكّرت كلمات بسيطة، لا وزن لها فى ذاتها، مثل “أنت”، “فيم تفكّر”، “طيّب”، “يالك من ماكر”..، ولكنّ لسحرها الغريب الغامض جُنّ أناس، وثمل آخرون بسعادة لا توصف”.

كانت تلك بداية الانتباه إلى فضل الله علينا بمعاشرته بعد ما كان، فكانت مفتاح تهنئتى له بعيد ميلاده السادس والثمانين، فقد شاء سعد حظى أن أرافقه ثلاث سنوات وشهرا، عدة مرات كل أسبوع، لأتعلّم منه كل هذا: هكذا، وأنا لا أظن – ولا أذكر- أننى جلست مثل هذه الساعات مع أبى شخصيا – طوال خمس وثلاثين سنة-لا تسع وثلاثون أسبوعا-هكذا وجها لوجه، قلبا لوجدان، لسانا لأذِنٍ، وبالعكس.

عرفته بكل هذا القرب بعد الحادث القََدَر، وكان قد توقف عن القراءة قبل ذلك، ثم توقف عن الكتابة بعد الحادث، فزعت أشد الفرغ وآلمه، ورحت أتساءل كيف يمكن لهذا العقل البشرى، لهذا الوعى الخلاق، لهذا الإنسان الحاد التلقى الغامر الإبداع، كيف يمكنه أن يستمر وقد ظلّ أكثر من سبعة عقود يتلقى ليرسل، يتمثل ليقول، يستوعب ليبدع، كيف يمكنه أن يستمر دون قلم و ورقة، دون نشرِ وهجه المتجدد يضيئ وعينا المتلهف، دون تلوين وتشكيل وإعادة تشكيل، دون استلهام إلهى، أو وجْد نبوى؟ وحين لم تسعفنى الإجابة جزعت، وصبرت، وأمِلت، وثابرت، فإذا بعشرتى له وتلمذتى على هدى خطاه الوديعة على أرض الواقع اليومى تخفف عنى ما أصابنى من ألم، وما تصوّرتُ من عجز، إذ راح شيخنا الجليل يجيب على ما حيّرنى بما هدانا الله إليه، فجاءت إجابته – من واقع حركتنا اليومية- ُتحقق لى فرضا طالما شغلنى، وهو: إن الحياة الحقيقية هى الإبداع الحقيقى: قبل وبدون أى ناتج إبداعى آخر خارج عن ذات صاحبه. (خارج “عن”، وليس “من” ذات صاحبه).

قيل وكيف كان ذلك؟

رحت أتأمّل اختراقه لكل ما أصابنا إذ أصابه، رحت أتابعه وهو يروّض الـقدر بفعل هادئ طيّب صبور، ساعة بعد ساعة، يوما بعد يوم، جلسة بعد صحبة، حديثا بعد نكتة، فعاينتُه وعايشته وهو يبنى معمارا جديدا هو ما أسميته فى رثائى لأستاذنا محمود شاكر: الإبداع حى <==>حى (استعارة من التعبير صواريخ جو<=> جو)، أعنى الإبداع الذى يصل مباشرة من وعىٍ يتخلّق إلى وعىٍ يتشكل، دون حاجة لأن يصاغ فى رموز خارج ذات صاحبها، وأنا لا أعنى بذلك -فقط-ما يشبه العلاقة الصوفية التى تتم بين الشيخ ومريديه، ولكنى أتذكر أيضا علاقة الطفل بأمه (وكلاهما يعاد تشكيله إذا صحّت العلاقة الجدلية) كما أتذكر علاقة الولىّ أو النبى بحوارييه قبل الوحى وبعده، وبمعايشة هذا الحل الرائع الذى وفقنا الله إليه بفضل حيوية وشجاعة شيخنا الجليل تأكد لدىّ ضرورة التنبيه لخطأ شائع: حين يقتصر استعمال كلمة “إبداع “على ما ينتجه البشر لا على ما “يكونونه”، ما ينتجه من يسمون المبدعون فى المجال الثقافى أو الأدبى أو الفنى أو العلمى هو بعض تجليات الإبداع لا كلها، ولا هو أهمها.

شغلنى هذا الأمر من قديم حتى وضعت سلسلة من الفروض والنظريات تحاول التنبيه إلى إبداع الشخص العادى خلال اليوم العادى. رحت أقدّم الحلم باعتباره “إبداع كل الناس كل ليلة وكل غفوة”، كما ربطت بين الإيقاع الحيوى (العادى) ونبض الإبداع، كذلك دأبت على التأكيد على دور إبداع القارئ العادى باعتباره ناقدا مبدعا يعيد صياغة النص، كما كررت إصرارى على أن الفلسفة هى فعل حياتىّ يمكن أن يمارسه شخص أمّى، وكلما زعمت ذلك انقضّت علىّ الاعتراضات والاحتجاجات من أهل الصناعة وصفوة المتخصصين، وبديهى أننى كنت أتراجع أمام هذا الرفض الجماعى المتكرر، فلمّا عايشت هذه الخبرة الفريدة مع شيخنا الجليل، سمحت لنفسى أن أتراجع عن التراجع.

أكرمنى الله بصحبة هذا الإنسان المصرى الطيب الرائع كل هذا الوقت، صاحبتُه وقد كفّ عن القراءة والكتابة، ووهن سمعه، وخَفُتَ بصره، لكنّه لم ينهزم ثانية وحدة، فمنذ البداية حين وقفت متألما منزعجا أتساءل بكل ألم: إذن ماذا؟ أفاء الله علينا برحمته فألهم شيخنا هذا أن يمسك بيدى يقودنى إلى معايشة هذا النوع من الإبداع اليومى الذى لا يحتاج من الأدوات إلا صدق الوعى وعمق اللحظة، وبعد أن شكّلنا معا حركة جدول الأسبوع، وبعد أن سمح لى حظى أن ألقاه عدة مرات كل أسبوع ما بين جلسات مفتوحة، وحَرْفَشَةٍ خاصة، تركتُ نفسى أستوعب ما يمارسه شيخنا فينا إذ نتشكل -هكذا- فى حضوره الحى المبدع، فإذا بنا نتعرّف على مقاييس أخرى للإبداع، مثل أن يخرج الواحد منا -من جلسته- غير ما دخل، أو أن يكتشف الواحد منا- وهو يتحدّث إليه- غير ما قصد، أو أن يتذوق الواحد منا طعم الهواء الداخل إلى صدره غير ما ألـِف. كل ذلك من واقع هذه المعايشة البسيطة الصادقة العميقة، إذ راح شيخنا يقرؤنا ويكتبنا ثم يعيد كتابتنا، وهو لا يكتفى بهذا، بل يسمح لنا أن نعيد قراءته واستقبالنا له، أىُّ خبرة وأى تجربة!!!

هكذا تصوّرت أنه قد تحقق “فرض إبداع الحياة فى ذاتها لذاتها – ولو بدرجة ما – من خلال هذه التجربة الفريدة. تأكد لى بجلاء كافٍ أن الإبداع ليس قاصرا على ما يُكتب أو يُنـشر، ولا هو قاصر على تشكيل اللون أو تنغيم اللحن، وإنما الإبداع أساسا هو نوع الحياة التى يحياها الشخص. حين يكون التـَّـلقى طازجا، والدهشة حاضرة، والتعلم مستمرا، والأسئلة لها نفس احترام ويقين الإجابات، تصبح الحياة – مجرد مرور اليوم عليك وأنت حى- إبداعا فى ذاتها، مجرد أن تعىَ كيف تشرق عليك الشمس، أن تسمع همس أنفاسك، أن تتمتع بتأمّل عروق ظهر يدك، أن تعنى لمن تقول له “صباح الخير” أنْ “صباح الخير”، أن تسمح لحلمك أن يبقى فى وعيك بعض الوقت كما هو دون إضافة أو تأويل أو تفسير، كل هذا إبداع فى إبداع، عايشتُ كل ذلك مع شيخنا هذا، فى زمننا هذا طوال ما يقرب من أربعين أسبوعا، فأثرى ذلك كل من شاركنا هذه التجربة الرائعة، فوجدت أن خير تهنئة له فى عيد ميلاده هو أن أنشرخلاصة ما وصلنى منها -هكذا- على الناس.

أولا: يصبح الوجود اليومى إبداعا حيا إذا خرج الواحد من مجلس هذا المبدع مختلفا، وأظن أن هذا ما يحدث فى كل جلسات شيخنا الجليل، يحدث بدرجات مختلفة لمعظم من يحضرها فلا يخرج منها إلا وقد تغيّر فىه شىء ما، شىء طيّب وعميق: أحيانا أحسه بدرجة ما من التحديد، وأحيانا يصل إلى وعيى رغما عنى فأنزعج منه أو أفرح به، وأحيانا أرجّح أنه حدث ولا أدرك تفاصيله، فأنتظر تراكماته مع غيره حتى أستبين.

ثانيا: يصبح الوجود اليومى إبداعا حيا حين لا تمل من صحبة صاحبه رغم جدية أغلب ما يدور فى جلسته، وأراهن لو أن أحدا جلس مع نجيب محفوظ ونظر فى الساعة مرة واحدة يستعجل الوقت (بشرط ألا يطغى على جلسته جسم غريب لحوح لا يعرف طبيعتها).

ثالثا:يصبح الوجود اليومى إبداعا حيا حين يستطيع المختلفون من الحاضرين حول هذا المبدع الحى أن يتحاوروا بشكل آخر، فيتحمّل كل منهم الآخر بدرجة أكبر مما لو تواجهوا بعيدا عنه. ومجلس نجيب محفوظ يشهد له بذلك.

رابعا:يصبح الوجود اليومى إبداعا حيا حين تصبح التفاصيل الإنسانية البسيطة لها نفس أهمية ودلالات القضايا العامة، ففى عز انهماكنا-مثلا- فى تعريف المثقف، أو مناقشة السوق الشرقأوسطية، يسأل نجيب محفوظ عن نتيجة فحص قلب جمال الغيطانى وعن مرض ابنة يوسف القعيد، وعن أخبار ابنى محمد فى نيوزيلاندا، وعن صورة أشعة صدر توفيق صالح، وعن حالة معدة أحمد مظهر، وعن توقيت معاش جميل شفيق، وعن صحة عادل كامل فى أمريكا. كل ذلك فى جِدّة رقيقة عميقة، لا تشعر معها أنها مجاملة عابرة، أو واجب راتب، فنغوص دون أن ندرى فى عمق وجداننا معا، فنتخلّق أرق وأقرب.

خامسا: يصبح الوجود اليومى إبداعا حيا: حين لا يسمّى كذلك، حين يفقد المبدع صفته الشائعة فلا يبقى إلا حضوره الإنسانى العادى، ، فأنت، فى جلسة نجيب محفوظ، لا تملك إلا أن تنسى أنك تجلس مع نجيب محفوظ الذائع الصيت الحاصل على نوبل، الكذا وكيت، بل إنه هو شخصيا أكثر واحد لا يلاحظ أنه “نجيب محفوظ” بل مجرد واحد منا: يقوم لكل قادم، ويرد على كل سائل، مهما صغر أو كان ضيفا يحضر لأول مرّة. وبالتالى يطغى هذا الحضور الإنسانى الرقيق للمبدع الحيوى على بريق إبداعه المعلن الناتج منه بعيدا عنه، وكأن هذا الإبداع العادى هو الأرضية الأصل التى يمارس مثل هذا المبدع من خلالها حضوره الإيجابى فى الحياة، فيصبح أحد مظاهر إبداعه -لا كلها- هو الناتج الإبداعى الذى يظهر فى الأسواق عن طريق دور النشر، لكن أدوات هذا الإبداع الأصل المحيط تختلف عن تلك الأدوات الذائعْة الصيت، فمحفوظ يقرؤنا ويكتبنا بكل اللغات، وكل من عاشره أكثر من مرة لا بد أن يلاحظ لغات تحاوره المتعددة من أول الكلام السهل الممتنع فعلا، حتى الصمت الـمُـفْعَم، مارا بالإيماءة والتفويت، منحرفا إلى القفشة والنكتة، عائدا إلى المباشرة الشُّجاعة فى الاختلاف وإعلان الرأى ورفض أية رشوة لمسايرة الأعلى صوتا أو الأكثر تشنجا، مع أنه لو ساير ووافق وشجب لرفعوه على الأْعناق بطلا قوميا لا مأخذ عليه والعياذ بالله.

ثم إنك لا بد أن تدهش لهذا الإنسان المصرى الشيخ الطفل الطيب وهو يسألك عن تفاصيل اهتماماتك، ويشاركك فى صلب همّك، ويفرح – ربما أكثر منك -لفرحتك، رأيت ذلك وهو يتابع مشروع شركة سينمائية كـُـلف بالإسهام فى إنشائها توفيق صالح، وما كدنا نفرح – نحن الحرافيش – باحتمال عودة توفيق إلى الإخراج من خلال الفرصة المتاحة حتى أُجهضت المحاولة. ظلَّ نجيب محفوظ يتابع الأمر وكأنه هو الذى سوف يعاود الإخراج، ويأسف لإجهاض المحاولة وكأنه هو الذى ضاعت منه الفرصة، ثم إنى عاينت فرحته الغامرة وهو يتابع عودة ظهور مجلة “الإنسان والتطور” التى أتشرف بحمل بعض مسئوليتها، ثم وهو يبعث لى شخصيا ببرقية تهنئة عبر الإذاعة: إننى قد وجدت ناشرا ينشر كل أعمالى، هو يبتهج لتعليق محمد سلماوى على رواية نعيم صبرى الأولى، وكأنه هو الذى يرى عمله الأول ينوّه به فى الأهرام. (إن لم يكن هو الذى أوعز لسلماوى أن يكتب عنها تشجيعا أو تقديرا).

مارينا فى 5 أغسطس 2000

لا بد أن يحضر حالا والدٌ صارم يأمرنى أن أتوقف عن التمادى فى إطالة هذا العمل أكثر من ذلك، نجيب محفوظ لا يصلح أن يقوم بهذا الدور، أظن أن صرامته لم تتجاوز شخصه وربما أهل بيته، لم أره صارما أبدا مع أىٍّ منا، ولا حتى مع أى أحد.

الأب الذى يمكن أن ينهرنى، بل ويوقفنى فورا هو محمود شاكر. شأت فى وضوح صرامته، لم يكن مخيفا لكنّه كان واضحا محددا، ربما أكثر من اللازم. كم أفادنى ذلك طول عمرى، هو الذى نهرنى حين كتبت لأحمد بهجت تعقيبا على رأى فى “صندوق الدنيا فى الأهرام”، وهو الذى كان ينهرنا أن نستسلم لرسائل الإخوان المقتطفة دون أمهات كتب التراث، وهو الذى يستطيع أن ينهرنى الآن أن أتمادى فى هذا العمل أكثر من ذلك. يمكن أن يقول لى كفى حديثا عن نفسك والتفـِـت إلى ما عليك أن تنجزه قبل أن تلحقنى،

يمكن أن يأمرنى محمود شاكر أن أتفرغ لكتابة ما يمكن أن أضيفه فى فرع تخصصى، أو حتى فى مجال عشقى وكشفى فيما هو “النقد الأدبى”.

ينزع القلم منى ويهم أن يقصفه أو يلوّح بقطع تيارالكهرباء عن هذا المكبِت (الحاسوب- الكمبيوتر). أنتبه لقوّة حضوره وضرورة تحديد دوره فيما هو سيرة ذاتية، أو مكاشفة، أو ترحال، سمّها كما تشاء.

أقر وأعترف أنه إذا كان وعيى يتشكل حاليا بعد الستين فى صحبة نجيب محفوظ، فإنه قد تشكل منذ الرابعة عشرة فى بيت محمود شاكر. لم أتفق مع محمود شاكر فى تفاصيل ما كان ينتمى إليه أويدافع عنه، ولا مع نجيب محفوظ، ومع ذلك فالفضل هو فى ما وصلنى من كل منهما – على شدة درجة الاختلاف بينهما – من منهج فى الوجود، وطريقة التفكير، وحب العمل والناس، والطيبة، والالتزام، والإتقان والإبداع. الأب عندى – ربما كما ذكرت – هو موقف وليس محتوى. على قدر حاجتى للأب، قديما، ودائما، وأبدا، فإنى لم أدَعْ أبا يبلّغنى مقولة إلا وناقشتُها: صغيرا: بينى وبين نفسى، وحين كبرت: بينى وبينه.

ذهبت لأبى أستشيره فى أمر زواجى، كان ذلك سنة 1959، وكنت قد عزمت أن أتزوج من طالبة كانت تتدرب عندنا فى العيادة النفسية فى قصر العينى، وكان أهلها من عامة الناس، مثلنا حسب تقديرى، إلا أننى رجّحت أن والدى كان يريد لنا زواجا يسهل له تطلعاته الطبقية. تصورت اعتراضا ومقاومة بلا حدود على مشروع زواجى هذا.. فوجئت بموافقته المبدئىة بسرعة أذهلتنى، حتى شككت فى اتهامى له بهذه التطلعات. حين أردت استدراجه للتأكيد من موقفه، قلت له ما ذا أقول لمن يسألنى “ابنة من تزوجت؟ (وكان هذا هو السؤال المقدّم فى بلدنا عن “من تزوجت؟”) أجاب والدى مازحا: “يا أخى قل لهم تزوجت ابنة ربنا”، لم أصدّق، لابد أننى ظلمته فى اتهامه بالتطلع الطبقى، أو أنه قد تغير كما أعرف عن نفسى، وعن ابنى مصطفى مؤخرا. ومع كل هذا الوضوح سرعان ما تراجع أبى عن موقفه حين قام بزيارة تطوعية إلى بلدة هذه المرشحة للزواج، ولم يقابل أحدا، لكنه شاهد “غسيلا” فوق أحد الأسطح الذى ظنه بيتهم (ثبت بعد ذلك أنه كان بيت الجيران)، فعاد يكتب لى “أن الكتاب يقرأ من عنوانه”، “وأن” البحر عميق، والطريق شاق، والخبرة قليلة، والرحلة طويلة، .. إلخ”. فكتبت له على الفور: “إن البحر عميق وليس أعمق منه إلا النفس الإنسانية، وأن الطريق شاق، وليس أشق منه إلا مخالفة الجبلّة السوية، وأن الخبرة قليلة، ستظل قليلة حتى نقضى، وأن الرحلة طويلة، طويلة فى الدنيا وأطول فى الآخرة، … إلى أن قلت له أنه ليست كل الكتب تقرأ من عناونيها، وأنه طالما حدثنا عن خداع العناوين.”

أسرد كل هذا لأؤكد على أننى على فرط اعترافى بحاجتى لما هو “والد” طول الوقت (هذا ما أكدته طول المكاشفة، وخاصة فى مقال”التكوين ” الذى نشر فى الهلال- واقتطفته فى الفصل الأول.فى هذا الترحال الثالث) إلا أن هذا لا يعنى إطلاقا أننى أحتاج مايقوله أو يعتنقه أى والد أنتمى إليه، بل إننى عادة ما أقف من ذلك موقفا ناقدا صريحا على طول الخط، دون أن أخاف من فقد والديته. ولا واحد منهم فعلا ذلك.

لم أتفق أبدا مع أستاذنا محمود شاكر- كما ألمحتُ- لا فى سلفيته، ولا فى تحيزه المطلق ضد الشيعة، ولا فى تعميمه الشكوك فى كل المستشرقين دون استثناء، كما لم أتفق مع نجيب محفوظ فى تقديسه للعلم (فى حدود المنهج العلمى الذى بلغه باكرا)، ولا فى تقديسه لنمط الديمقراطية الغربية (كما سمع ويسمع عنها)، ولا فى حبه غير المشروط للوفد (القديم).

ويظل محمود شاكر هو والدى مراهقا فشابا، ويظل نجيب محفوظ هو والدى شيخا فكهلا (أطال الله عمره).

إذا كان الترحال الرابع هو فى صحبة نجيب محفوظ (هذا إذا أتيحت فرصة ظهوره أصلا قبل الرحيل الأخير) فأين يقع محمود شاكر. أحسب أن من الوفـاء، قبل ألا تكون فرصة، أن أذكر لهذا الأب الباكر فضله، وأن أثبت فى نهاية عملى هذا ما كتبته ونشرته فى أكثر من مناسبة. قلت :

ماذا، وكيف علّمنى هذا الرجل عبر خمسين عاما

كنت، وما زلت، أتمنى أن يعرف الجيل الأصغر معنى” محمود شاكر”، هذا المعنى الذى لا ينتهى برحيل جسده عنا منذ أيام، وبالرغم من أننى أشعر أننى لست أهلا للكتابة عن هذا الصرح الشامخ، فإننى أشعر أنى مدين له بما علّمنيه، مما حفزنى أن أكتب بعض مما يمكن أن يقع فى دائرة “كيف هو”، أكثر منه تعريفا بـ”من هو”، آمِلا أن تصل الرسالة إلى أصحابها الأصغر فالأصغر.

(1) سنة 7491، مصرالجديدة، شقته فى شارع السبق (هكذا كان اسم الشارع قبل أن يتغير إلى ما لا أدرى) كانت شقته مرتفعة مثل هامته وفكره، ، أمامها خلاء متسع باتساع خيالنا فى تلك السن (14 عاما). كنت أعجب كيف يفتح هذا الرجل العظيم الكبير بيته -بنفسه عادة- لشباب وصبية فى مثل سنّى، كنّا، وظللنا، نذهب له فى أى وقت (وليس فقط فى ندوة أسبوعية)، فنجد عنده طالب العلم والمريد والمستزيد والمتطفل والجاهل والعنيد والشيوعى، والملحد، والصوفى، ونصير السلام ورجل فدائيا إسلام، والكل يخرج غير ما دخل بشكل أو بآخر.

فأتعلّم معنى الاختلاف الرحب، والحوار اليقظ، والحضور المحيط.

(2) سنة 9491 أستاذنا يحيى حقى يجلس فى تواضعه الأليف على طرف الأريكة، يكاد لا يظهر من مسندها، يتكلم همسا، ويتحرك طيفا، ويحلم رقيقا. ترافقه أحيانا السيدة الفاضلة “جان” (على ما أذكر) لم يكونا قد تزوجا بعد، (على ما أذكر أيضا) أكاد أرى مسرى الحب المتبادل بينه وبين أستاذنا وكأنه الماء الرائق الذى رأيته فيما بعد (1954)يتدحرج لامعا كعرق الفضّة فى جبل لبنان،

فأتعلّم نوعا من الحب ظل يرفرف على العلاقة بينهما حتى رحل الواحد تلو الآخر، (ياه!، كذا!!).

حين قابلت أستاذنا يحيى حقى عنده مؤخرا منذ سنوات، لم يتذكرنى صغيرا طبعا، لكنّه راح يثنى على بعض ما أكتب فى الأهرام وغيره، وشعرت أننى مازلت طالب الثانوى ذى الخمس عشرة سنة، إذ وصلنى ثناؤه كأننى أخذت تسعة على عشرة فى موضوع إنشاء صعب، وحين طلب منى أن أقرأ بعض قصصه ناقدا، وأن أكتب عنها، لم تسعنى الفرحة. لم أفعل طبعا. إذ كيف يتجرأ تلميذ الخامسة عشرة أن يعقب على أى كلمة دبّجها أساتذته، فما بالك إذا كان الأستاذ هو يحيى حقى، لكن هذا الأستاذ الرقيق هو نفسه كان أجمل تلميذ عرفته وهو يتتلمذ على يد محمود شاكر وكأنه طفل فى الابتدائية يقفز فرحا فى حوش المعرفة الرحب فى شارع السبق.

فأتعلّم معنى الطفولة المستمرة، والتلمذة المتواضعة المتفجرة المتجددة معا.

(3) سنة 1950: محمود حسن إسماعيل يتكلم وهو نصف نائم (ونصف يقظان طبعا) عن كيف يأتنس بصوت قطرات الماء تنساب من الصنبور التالف فى بيته حتى ينام، وأنه يأبى إصلاحه ليحافظ على هذه الألفة الخاصة، فيضحك أستاذنا ضحكته الجهورية، وأفرح وأنا أرى شاعرية شاعر جميل وهى تزدان بطبع سهل فى فكاهة تسرى صاخبة فى متناول صبى منبهر.

فأتعلم جمال الشاعر وليس فقط جمال الشعر.

(4) حول نفس التاريخ: “دعه يكتبها وأنا أذبحه ذبح الشاة فى البيداء بسكّين بارد”، كانت تلك صيحتة محمود شاكر ذات يوم حين أبلغه أحد الحضور أن أحد عملاقينا (لا أذكر إن كان العقاد أو طه حسين، لعلّه الأخير) قد أبدى فى بعض ما كتب الأستاذ شاكر رأىا شفهيا، فعقّب الأستاذ شاكر أن التعقيب الشفهى لا ينفع ولا يكفى، وأن هذا المعترض، لأنه لا سند له ولا حجة معه، لا يجرؤ أن يكتب اعتراضه وينشره، ثم قال العبارة السالفة الذكر!!

فأتعلّم مسئولية الكلمة المكتوبة، والمقروءة، وشجاعة الرأى، وقوّة التحدى (وأخاف، طبعا).

(5) أوائل الخمسينات أيضا: يرى فى أيدينا تلك الرسائل المختصرة التى كنا نتداولها فى مجموعات الإخوان المسلمين المسماة”الأسر “، فينصحنا حازما ألا نكتفى بهذه الرسائل التى توزع علينا كالمنشورات، وألا نكتفى بحفظ سورتى الأنفال والتوبة دون غيرهما من القرآن الكريم، وأن نأخذ العلم من مصادره الأولى، وألا نتعلّم الاكتفاء بالمنقول مقتطفا ومبتورا..، وحول هذا التاريخ يهدينى سيرة “إمتاع الأسماع” للمقريزى، وقد حققها بنفسه.

فأتعلّم منه معنى “الأصل”، والسياق، والإتقان، وتحيّز الناقل، وأمانة الشارح.

(6) حول نفس التاريخ، تأتى سيرة معاوية بن أبى سفيان بالذم والتهوين – كما اعتدنا- فينبرى ينبهنا أن هذه اللعبة الغربية التى استُدرجنا إليها تلغى تاريخنا برمّته حين تقصره على بضع عشرة سنة (عصرالخلفاء الراشدين) وتشوّه كل ما عدا ذلك، وأن معاوية هذا ومن مثله هم من قادة الإسلام الذين ساهموا فى بناء الدولة الإسلامية حضارة ودينا.

فأحذر منذ ذلك الحين من تشويه التاريخ، ومن المستشرقين خاصة، ومن سهولة استهوائنا وتصديقنا المستسلم لهم، ومن أوهامنا المثالية عن الخلافة الرشيدة دون غيرها.

(7) سنة 1950، بعد ثورة مصدق، يأتى فتى “فدائيان إسلام” (لا أذكر اسمه) فنقابله عند أستاذنا، وينبهر الأستاذ به أىما انبهار (رغم موقفه الذى لم يتغيّر أبدا-على حد علمى- من الشيعة حاضرا وتاريخا)، ولكن سرعان ما يتراجع الأستاذ عن انبهاره بهذا الفتى الفارسى، فنتبعه أكثر حذرا هذه المرة.

وأتعلّم منه القدرة على التراجع.

(8) حول نفس التاريخ، يؤمّنا أستاذنا فى صلاة القيام فى رمضان، ثمان ركعات لا تزيد، تستغرق كل ركعة حوالى نصف ساعة، نسمع فيها قرآنه بصوته الجهورى القوى الرخيم، فأفهم لأول مرة الآية الكريمة”خذ الكتاب بقوّة”.

وأتعلّم كيف تكون القوة فى كل شىء حتى فى القراءة.

(9) فى وقت ما سنة 1591 تأثرت من فرط هجومه على تقليدنا للغرب واستسلامنا لإيحاءات وخبث وتحيز المستشرقين والمستعمرين، ثارت فى قلمى شاعرية خائبة، فكتبت قصيدة تافهة فى هذا المعنى، قلت فيها واصفا حالنا ونحن نقلّدهم كالقطيع الذى يسوقه خواجة”. أراهم يحاكون جهلا ونقصا وناسا ضعافا عديمى الأثر، فحتى المحاكاة لا يتقنوها، مسوخ قرود بقايا بشر”، ويبدو أننى أدركت ركاكتها من البداية، فخجلت أن أناولها له وجها لوجه، فأرسلتها له بالبريد، وتأكدتُ من وصولها بطريق غير مباشر، لكنّه برقته وأبوته لم يعقّب أصلا، لا بالخير ولا بغيره، فاستنتجت رأىه، فتبُت وأنبت،

وأحسب-حتى بعد احتمال نضج شعرى كما يقال لى أحيانا-أن بعض إحجامى عن نشر شعرى الحالى قد يرجع إلى هذه الحادثة.

(10) كان الحوار الذى دار بينه وبين صاحب المقتطف، والذى سجّله فى مقدمة قصيدته شرحا لقصيدة الشماخ. حول افتقارنا هذا الزمان إلى الإتقان، (مرضنا قديم على ما يبدو) هو الحافز الذى دعاه يكتب قصيدتة “القوس العذراء” على قصيدة الشماخ.

فأتعلّم من كل ذلك -أيضا-كيف يكون نقد الشعر شعرا وأن الإبداع ملهم للإبداع.

(11) يناير سنة 1952 ننظر من شرفته إلى القاهرة وهى تحترق فلا يخفى أستاذنا فرحته، وكأن هذا هو الحل، ثم يتراجع عن رأيه بنفس الشجاعة. يتراجع وهو متألم خائف على البلد مهموم بما سيكون.

فأتعلّم منه شجاعة التراجع، (مرة أخرى، ليست أخيرة(.

(12) بعد سنة 1952 ألتقى عنده برشاد مهنا، وهو يبدى رأيه فى الحركة المباركة، ثم يتمادى فى إبداء آرائه الصارخة العنيفة حتى يستضيفوه عندهم حيث كانوايستضيفون أصحاب الرأى.

وأعايش معنى الاختلاف الجهورى الشجاع.

(13) حول سنة 1953 (لا أذكر تحديدا) أحاكَم بواسطة هيئة مصغرة من مكتب الإرشاد(الإخوان) على أنى – وبعض الإخوان الشباب- نذهب عنده، وينصحونا -بالأمر- ألا نفعل، لأنه عميل للسفارة الأمريكية التى سوف تجلب لنا الفتيات لتفسدنا!!!، نبتسم وننصرف غير واعدين بشىء، ويكون ذلك سببا فى تبيّن مصداقية ما كنّا فيه، وتكون نهاية علاقتى (علاقتنا) بالإخوان.

 وتتزايد دروس حرية الرأى

(14) سنة 1956 فى الوقت الذى كادت تخلو مصر الجديدة من ساكنيها تحسبا للغزو، يرفض أستاذنا أن يترك شقته العالية، وأزيز الطائرات المحاربة يكاد يخترقها، ويقول إنه لو اضطر إلى استعمال سكاكين المطبح لقتال المستعمرفى الشوارع متى دخل القاهرة فسوف يفعلها ولو وحده.

(15) فى السبعينات:أكتب فى الأهرام، لأحمد بهجت، أو تعقيبا على أحمد بهجت، لا أذكر، عن تحفظى إزاء اختيار سور القرآن الكريم التى تدرس فى الابتدائى، وكيف يبدأ طفل فى الثامنة مثلا تعرّفه على كتاب الله من خلال امرأة أبى لهب، حمالة الحطب، وكيف نعلّم الطفل معنى الحبل الذى هو من مسد، فى النار ذات اللهب، قبل أن نعمّق فيه معنى أن الله غفور رحيم، وأن إبراهيم كان أوّابا.، وأن الله سبحانه لا يفرق بين أحد من رسله. إلخ، وفى زيارتى التالية للأستاذ شاكرينهرنى نهرا شديدا، ولا أطلب تفسيرا لنهره فأنا أعلمه مسبقا، ولا أرد، ولكننى أخبره أننى لا أتراجع، وتظل أبوته هى هى.

أختلف معه قبل ذلك وبعد ذلك اختلافات كثيرة كثيرة، أغلبها لا أناقشه فيها (لم تعد الفرص كافية)، وبعضها تتاح الفرصة لأخبره عنها، ولا يفسد ما بيننا أبدا، أبدا.

(16)  لا ينال جائزة الملك فيصل، ثم التقديرية (المصرية) إلا مؤخرا، وفى إحدى زياراتى الأحدث له يطلعنى على الخطاب الذى ألقاه فى حفل تسلمه جائزة الملك فيصل، عن كتابه “المتنبى”الذى عارض فيه طه حسين، وكيف أنه رفض اللمز الذى قيل فى حفل تسليم الجائزة، والذى زعموا فيه أن الأستاذ شاكر قدعدل عن هجومه على طه حسين فى هذا الموضوع على الأقل، أو أنه لا بد أن يعدل بمناسبة الجائزة، وفهمت من الخطاب الذى ألقاه ما موجزه: ” أن لايوجد سوى محمود شاكر واحد، إن شئتم منحتموه الجائزة أو فلتحجبوها”، فتتأكد لدىّ معانى العزّة والشموخ، وأتذكر كيف ترك الجامعة المصرية منذ حوالى سبعين عاما حين اختلف مع أستاذه (طه حسين أيضا على ما أذكر).

(ملحوظة: حين قرأت كتابه عن المتنبى لم أوافقه على رأيه  ولا على تبريراته، وإن كنت احترمت بعض ملامح من منهجه).

(17) يدخل مجمع اللغة العربية مؤخرا، وهو الذى ظل يعلّمنا ما هى اللغة، وكيف تنشأ، وكيف نحرص على لغتنا العربية، الرباط المتبقى بين العرب رغم أنوفهم على ما يبدو، والذى بالرغم من ذلك كاد يبلى، على أن اللغة العربية التى كان ينثرها علينا عطرا نافذا، كانت شامخة حين يحسن الشموخ، كما كانت سهلة حين يتطلب الأمر ذلك، حتى بلغت درجة الفكاهة السلسة فى “أباطيل وأسمار” وهو يقرص أذنى د. لويس عوض على حجم وفضل الأخير.

كانت الصفة التى لا يتنازل عنها سهلا، وحزْنا، هى الإتقان فى كل شىء، وفى اللغة بالذات، فى زيارة له فى المستشفى فى مرضه الأخير، جالسته و هو يصر أن يأكل بنفسه مهما ترتب على ذلك، أسأله إن كان يريد شرابا، فيرد “لا.. شكرا”، ثم يبتسم ويردف وكأنه يعاتب نفسه: ما هذا؟ أليس فى هذا نفى للشكر، لا شكرا؟ فأبتسم بدروى وقبل أن أعلّق يردف ثانية ” كان ينبغى أن أقول ” لا أريد، (ثم) شكرا، ثم يردف للمرة الأخيرة قائلا ” ولكن يبدو أن السكتة الخفيفة بين “لا”..، و.. “شكرا” تؤدى الغرض، فأضحك داعيا له، فيضحك مربتا علىّ.

وحين أنقل هذه المقابلة إلى شيخى الجليل (نجيب محفوظ) يضحك بدوره ويحكى لى حين زار كامل الكيلانى وهو محموم بداء الكلى، وكان يرتجف تحت الأغطية، وحين يسأله الأستاذ نجيب كيف حال الكِلى، يطل من تحت الأغطية وهو يرتجف، والحمى تلهب جبينه ويقول معترضا: “الكُلى يا نجيب الكٌلى.

(18) أما محمود شاكر الأب، فقد كان أبى من بين آباء كثيرين، لكنهّ كان أبا هائلا حاضرا فى وعيى برقة جبلية حامية حانية فى آن، بل إننى كنت أشعر أنه والد يحيى حقى شخصيا، رغم تقارب عمريهما، بل إنه كان مفرطا فى الوالدية لكل من يلجأ إليه دارسا مستشيرا.

هذا الأب الجبل المضىء كان فى نفس الوقت طفلا جميلا ومازلت أذكر ضحكته الطفلية وهو يعلّق على إعلان الشاى الذى يكرر كلمة “كواليتى”quality، على أنه، بقدر علمى، لم تطغ أبوته العامة على أبوته الحميمة لأسرته الصغيرة، فراح د. “فهر” يدرس ما يشاء، رغم صعوبة التخلص من مسار أبيه، وظلت زلفى تدرس وتقرأ وترتدى ما تشاء، مع الالتزام بالقيم الحقيقية التى يمثلها معنى ما هو “محمود شاكر”.

 أول أغسطس 2000

اليوم، يسمونه عيد ميلاد المستشفى “دار المقطم. مستشفى المجتمع العلاجى”، هذا الرمز الذى حاولت من خلال مرضاى وتلاميذى فيه أن أجعله مجتمعا (مؤقتا) بديلا، ذلك الحلم الذى راود أغلب الفلاسفة، وعرّى مثاليتهم، وشطحاتهم، ونزواتهم، وتعصبهم، وعنصريتهم، وأيضا جسّد آمالهم، وأحلامهم، وثورتهم، وطموحاتهم. الذى سترنا هو أنه لم يكن بديلا بهذا المعنى اليوتوبى، وإنما كان “بالتعريف؛ مرحليا وعلاجيا، وهو ما يسمّى فى الطب النفسى الحديث “علاج الوسط” الذى كان اسمه فى الطب النفسى القديم (القرن التاسع عشر: العلاج الأخلاقى Moral Therapy). لا يختلف ما يجرى فى هذا المستشفى عن ما يحدث فى أى مستشفى آخر من حيث المبدأ: مرضى، وحقن، وأقراص، وتأهيل- لكنه يختلف كل الاختلاف عن أى مستشفى آخر من حيث “متى”؟ و”من”؟ و”كيف” و “إلى متى”؟ “ثم ماذا” وأخيرا:” نحن هنا”. مما لامجال لتفصيله طبعا.

هذا اليوم الذى يسمونه عيد ميلاد المستشفى أنا لا أنتمى إليه فى كثير ولا قليل لأسباب تتعلق بفكرتى الأساسية عن أعياد الميلاد، وعن ضرورة استبدالها بما أسميته “إعادة ولادة”، وهو أمر متجدد ليس له موعد، ولعل السبب الثانى فى عدم انتمائى هو خوفى الأزلى من أن تحل الفرحة للفرحة محل الفرحة للفعل، ففرحة أى مستشفى هى فى شفاء مريضها، وبالذات فى مجالنا نحن بوجه خاص، هى فى أن يكون الشفاء دالا على نجاح المجتمع العلاجى الذى تمثله المستشفى فى أن يكون معبرا من التواجد المرضى إلى المجتمع الضاغط والمتشكل، مارا بخبرة استيعاب الاختلاف دون التورط فى المرض.

قالت لى ابنتى إنها تريدنى أن أحضر من البداية للنهاية، لأنها لا حظت أننى أحضر نصف ساعة كل عام، ثم أتسحب هاربا، فاشترطت عليها أن يكون المؤدون للفقرات أغلبهم، إن لم يكن كلهم من المرضى والمعالجين، وليس من المحترفين أو المأجورين. قررت – إن أجابوا شرطى- أن أكون أوّل الراقصين مع مرضاى وضيوفى “مثل الأىام الخوالى”.

كنت قد ذهبت إلى زوجتى فى منزلها، منزلنا، منذ يومين. أخطرتُها أن ركنى الخاص هو معد لاستقبالها فى أى وقت، وأننى ما زلت نفس الشخص، للأسف، الذى تورطتْ فى قبول الزواج منه سنة 1959 بعد أن رأت علاقته بالمرضى، وكان يرتدى منظارا، وله شارب، كل ما تغيّر هو أنه لم يعد لى شارب، و أصبح عندى ما يحقق أو على الأقل ينشر بعض أفكارى. أضفت أننى بعد أن سلمت كل أولادى عهدتهم لا أستطيع أن أستمر متزوجا بالمعنى الذى تحلم به كل زوجة وأم وبنت، وأن عليها أن تختار. (تختار ماذا؟ لست أدرى). وانصرفت.

يا خبر!! بعد هذا العمر بعد أربعين عاما أعرض عليها، علىّ، إعادة الاختيار. تكريم هذا أم جرح؟.

قبل ما يسمّى حفل المستشفى بيومين. خرجنا، ورجعنا إلى ركنى أعلى القاهرة، وليس إلى منزلها. فى الحفل فوجئت بزوجتى تشارك فى فقرة غنائية ثنائية مع زميلنا د. سيد رفاعى، غَنّيَا فيها: تعالىِ أقولك حاتقول إىه؟ ثم أدّت هى فقرة منفردة كانت أغنية سيد درويش ” ياحليلة يا حليلةَ، على دى الهليلة”.

هل هذه هى زوجتى؟ هل أفادها بُعْدِى وتصميمى على أن تستقل، لأستقل، لتستقل؟ هل هناك أمل طيب بسيط؟ هل معنى هذا أننى ما زلتُ نفس الشخص؟

هل ستتيح لى هذه التجربة الصداقاتية الاختيارية المستقلة إلا من “برنامج الذهاب والعودة ” الاختيارى فرصة أن أجمع بعض ما رأيت، فى ما يمكن أن ينشر فيصل أو يسجل إلى أن يصل إلى أصحابه؟ ومن بين ذلك الترحال الرابع “فى صحبة نجيب محفوظ”.؟

لاأعرف.

2 أغسطس 2000

سلّمنى رجل الاستقبال فى المستشفى مظروفا من قبل المجلس الأعلى للثقافة فوجدت فيه كتابا جديدا لجابر عصفور، بعنوان “ضد التعصب”، وهو مجموعة مقالات كتبها فى صحيفة الحياة اللندنية أساسا. وكان الإهداء هكذا:

“عمنا الدكتور “….” مع عميق محبتى وتقديرى”.

أنا أعرف جابر عصفور من بعيد. أحترم ذكاءه ونشاطه وحيويته وإتقانه، وحين تولّى رئاسة تحرير فصول، وأرسل يطلب منى الإسهام فى عدد خاص عن الأدب والحرية (وهو ما مثل الأطروحة الختامية فى نظريتى فى الإبداع)، كتب يقترح علىّ المشاركة فى هذا الصدد عن الحرية، ثم ذيّل خطابه الرسَمى بفقرة فرحت لها بقدر ما تعجبت. كنت فى أشد الحاجة إلى ما سجله بالحرف :

” نحن نحبك”.

تذكرت هذا التعقيب الآن وأنا أقرأ إهداءه لى على كتابه الأخير.

أنا لا أحب أن أكتب إهداءات كتبى لمن لا أعرف، قد يجوز أن أوقع عليها حتى تختلف عن الكتب المشتراه، أما تلك الجمل التقليدية “مع تقديرى”، “مع احترامى وأمانىّ”، فهى جمل تجعلنى أشعر بتململ مزعج إذا اضطررت لها. إذا كنت أعرف المهدى إليه فإنى أكتب ما أنتظره منه أوأتوقعه من رأى أو نقد أو رفض أو حاجة أن يرى بعضى بما شاء، وإن كنت لا أعرفه بدرجة كافية، وأشك فى أنه سيقرأ ما أهديته إياه بجدية كافية، فإنى أتشجع أحيانا وأقول له، بعد التوقيع، دعنى أكتب لك الإهداء بعد أن تقرأه، لذلك استقبلت إهداء جابر عصفور كتابه بأنه يعنى ما كتبه، وأنه يحبنى. أما أننى عمُّهم، فهذا أمر آخر لكنّه سرّنى بشكل بآخر.

هل ما زلت بعد كل هذا العمر أحتاج من جابر عصفور هذه الرؤىة وهذا الحب.

هل ما زلت جائعا جدا، هكذا لهذا النوع من العواطف العفوية النبيلة؟

لم أعرف ثلة خاصة بالمعنى الشائع.. لم أنتمِ إلى حزب. لم أشرُف أن أكون حرفوشا قديما رغم أننى حزت المجموع الكافى المجُاَز من مكتب تنسيق الحرافيش، إلا أن ظروف قبولى كان مشكوك فى دوافعها. أكرمنى نجيب محفوظ مرّتين فى “وجهة نظرفى الأهرام”. مرّة وهو يقارن متفضلا ما فعله أ. د. سامح همام بما رتَّبْتُهُ له من جرعة الناس المنتظمة والأماكن المتنوعة (هذاهو كل ما فعلت). والمرة الثانية حين تكلّم عن الحرافيش وعدّنى أننى آخر الحرافيش، ولولا خجل حقيقى لكتبت ما ذكر لأثبت قبولى الرسمى، ومع ذلك ما زلت أعتبر نفسى منتسبا. الحرافيش تاريخ قبل أن أدخل التاريخ. ما حكاية هذا الجوع؟ إلى متى؟

هذا ليس جوعا، هذا مجرد وجود إنسانى يحتاج أن يُرى.

شعرت أن الناس ترانى بعد أن نلت الجائزة التشجيعية فى الرواية سنة 1980 من خلال هذا العدد الهائل الذى قال لى “برقيا” “الله نوّر”. وعلى الرغم من التشكيك فى أحقيتى فى هذه الجائزة من نقاد أفاضل، وعلى الرغم من أننى حصلت عليها بمحض الصدفة حين قدّم الرواية دون علمى صديق أَحَبّها وقدّرها، وعلى الرغم من أنها فى غير اختصاصى، فقد عرفت من خلال وقعها علىّ وعلى الآخرين أن فائدة الجوائز فى أن من ينالها يصله نبأ أنه يُرى. ياه. ما أجمل بناء هذا الفعل للمجهول. “وأن سعيه سوف يُرى”. صدق الله العظيم. ومع ذلك فقد تكرر تحفظى على دلالة الجوائز طول الوقت مع شدة وعيى باحتمالات الحقد والتبرير والاستعلاء وإدعاء الاستغناء. كتبت فى الأهرام فى ذلك بعنوان جوائز وجوائز ما أكتفى بأن أقتطف منه ما يلى:

“…… لابد من الاعتراف بأن جوائز الدولة، وجوائز الدنيا هى من أهم مقدسات العصر، وهى تستأهل ذلك، وكانت طول عمرها كذلك. “

“…. من قديم، ومِنَـح الأمراء والخلفاء للشعراء والمبدعين… كانت دافعاً لاستمرار إبداعهم وإرساء ملك من نهجهم إياه فى نفس الوقت”

ثم ألمحت أن حديثى هذا هو.

“…. عن الذى لم ينل الجائزة، بل هو عن الذى لن ينالها أصلا، ولا أجد حرجا فى الاعتراف من أننى أتصور ما وراء ذلك من أسباب شخصية، … لا تستبعد درجة من الغيرة، بل والحقد”… إلخ.

أكتفى بهذه الفقرات المحدودة لأقول فى هذه المكاشفة غير المحدودة بعض ما يعترينى حين أعرف أن أحد الأصدقاء أو غير الأصدقاء قد نال جائزة ما. مع يقينى أن قيمة الجائزة هى فى إعلان تناسب ذوق، وقيم، وأدوات المانح والممنوح فى لحظة زمنية بذاتها، وأن نوعها، ومستواها، وهوية من يحصل عليها، هى مقاييس لمستوى إبداع معين أو إنجاز معين لعصر معين، وليس لشخص معيّن، إلا أننى فضّلت أن أعترف بضعفى، وحقدى، وألمى، وقلة حيلتى فى معرفة الطريق إليها. أقول هذا وأنا مصر على أن أواصل موقفى الذى لا يعد إلا بذلك.

فى هذا المقال “جوائز وجوائز” رحت أعدد الجوائز الأخرى الخفية والحقيقية غير جوائز الدولة والعالم، ذكرت من بينها جائزة النقاد، وجائزة الناس، و جائزة التاريخ، وجائزة الله وجائزة الرضا عن الذات.

هل كنت أعنى ذلك فعلا، أم أنه كان مجرد تبرير وتعويض وتصبير؟

إذا كنت حقا أعنيه. فلأجرب.

هأنذا أمنح نفسى جائزة المغامرة بنشر هذا الكتاب، هكذا.

المقطم ، فوق القاهرة. .

ركنى القصى !!

19/8/2000

 

الفصل السابع

الفصل الخاتمة

هل انتهيتَ يا سيدى؟

….فلماّ باخت النكت الجنسية الخارجة، وإلى درجة أقل النكت السياسية،

ولمّا فاحت رائحة نتن تمباك تفاح النارجيلة، حدث الذى حدث.

فلماذا تصرّ هى أن تكره أنور السادات كل هذا الكره؟

الأرجح أنها تخجل أن تحبه،

فـلماذا هى تصر على أن تتأكد أننى أحبها هى بالذات؟

أحبها أو لا أحبها، هل هذه هى القضية،؟

أم أن القضية هى كيف نعيش أحرارا حتى لو اتُّهِمنا بالجنون أو الخيانة؟

 الركن أعلى القاهرة فى 31 أغسطس 2000

عدت أقرأ “كناسة الدكان” التى جمعها فؤاد دوارة باعتبارها السيرة الذاتية ليحيى حقى. كان ذلك بمناسبة تقديمنا  كتابه الآخر “فى محراب الفن ….. ” فى ندوتنا الشهرية . وجدت أنه قد أنهى سيرته الذاتية (هو،  أو فؤاد دوارة.) بقصة قصيرة اسمها “كوكو”. لم أفهم. أين موقع هذه القصة فى سيرة يحيى حقى. .حاولتُ جاهدا أن أربط بينها وما هو سيرة ذاتية. فشلت. هل ضُـمّت إلى السيرة بطريق الخطأ ؟

أثناء بحثى عن الفصل المفقود ،عثرت على هذه القصة بعنوان “هل انتهيت يا سيّدى”. لو عثرتُ  عليها قبل ذلك لـضممتها إلى” المتتالية القصصية” فى المجموعة   التى نشرتها حديثا باعتبار أنها أقرب إلى ما هو سيرة. قلت : حتى لو كانت كوكو  قد ضُمّت بطريق الخطأ فسوف أضم أنا قصتى هذه لأختم  بها هذه الترحالات  وأنا أحاول أن أجيب على السؤال الذى تضمّنه العنوان ، غيّرتُ النهاية فحسب.

هل انتهيت يا سيدى”؟

-1-

قالت فاتن فى أدب جم :

“سيدى، هل انتهيت”؟

ترك مفاتيح الحاسوب (الكمبيوتر)، وأخذ ينظر فى وجهها وهو صامت.  لم يلاحظ أن يده اليسرى لا تكف عن التشويح الخفيف المرّة  تلو الأخرى، ولا أن سبابته اليمنى لاتكف عن النقر على المكتب. كانت هذه العلامات كفيلة أن تزيحها من أمامه فى رفقٍ ذاهل. هى طقوس تدرِك فاتن منها أنه ذهب بعيدا هناك إلى أمُورِه الأخرى (الهامّة جدا!!).

عادت فاتن تقول، وهى تحاول أن تبرىء ذمتهالآخر مرة  قبل أن تنصرف، مع أنها تعلم أنه لن يرد، ذلك أن أصابعه قد عادت  إلى مفاتيح الكمبيوتر تدق بلا صوت .

قالت فاتن بصوت هامس  وقد استدارت تهم بالانصراف.

– “هل انتهيت يا سيدى”؟

انتهـى؟ من هذا الذى انتهى؟  ومِـن ماذا؟  من ذا الذى يجرؤ أن ينتهى؟  وهل ينتهى شىء أبدا؟ أسئلة بلهاء لها أجوبة أكثر بلاهة لو أنه حاول.

هو أعقل من أن يحاول.

نظر إليها ولم يقل أيا من ذلك، لم تكن قد انصرفت بعد. عيناه  تقولان غير ذلك، كانتا تعلنان كيف غمره ودٌّ هادىء ويقينٌ محيط حين عاش مؤخرا تلك الخبرة الجميلة التى عرفّته كيف علّم الحق سبحانه آدم الأسماء كلّها.

عاد يكتب وهو يتمتم (وهى ترى تمتمته ولا تحاول أن تفسر منها شيئا). الكتابة تسرى وكأنها لا تصدر عنه، تنساب فتصطف الحروف بجوار بعضها بسخف مزعج،  وهو يحاول أن يلاحقها وكأنه ليس مصدرها.

نظر إليها مرّة أخرى وهى مازالت تنتظر،  راح يتعجب كيف كبر ثدياها إلى هذه الدرجة القبيحة، مُـرضعة هى؟ نعم، ترضع مراد الصغير منذ ستة أشهر، ولكن كيف يعود ثدياها إلى حجمهما الجميل بعد كل طفل، أرضعت جمالات قبل مراد، وقبلها إيهاب، وقبله هانى، وعاد الثديان فى كل مرّة أنضر وأجمل، هذه أمور تحذقها الطبيعة بطريقة سرية. الطبيعة أدرى بأثداء حورياتها.

انصرفت فاتن وكأّنه أجابها، أو لعلّه أجابها.

-2-

“كلا. “لا أريد”. (هو الذى يقول).”ليس مهمّا تحديد هذا الذى لا أريده، ولكننى أيقنتُ الآن أننى  “لا أريده”.

سوف أقول لها إننى لم أشاهد الفيلم الذى أعطنيه حتى ألتقط – قال ماذا؟ – ألتقط ما أرادت أن تبلغنى إياه من خلاله، كيف أرفض دون أن أعرف ماذا أرفض، وهل على الإنسان لكى يكون محقا فى رفضه أن يمارس كل شىء حتى نهايتهه؟ وهل فى العمر ما يسمح بذلك؟ هى لم تقل لى ماذا فى الفيلم، هو فقط حلو جدا جدا، حلو بشكل!!، ولا ينبغى أن يفوتنى. لو أننى حسبتُ ما لا ينبغى أن يفوتنى لا حتجتُ عدّة أضعاف عمرى كى أعدد القائمة، مجرد أسماء وعناوين. لـن أشاهد الفيلم . سوف تشعر هى من خلال هذا الإهمال المقصود: مرة بالمسافة ومرة بالتهديد، ومرة بالعناد، ومرة بالاختلاف، ومرة أهم من كل هذه  المرّات بالتميّز الثقافى الذى يجعلها تتصور أنها مختلفة عن سائر النساء (والرجال أيضا)، النساء اللاتى لا تتميزن إلا بردف وافر وخصر ضامر، والرجال الذين يحبون أفلام اسماعيل يس ومشاهدة مباريات كرة القدم الفاترة.

أنا أحب أفلام إسماعيل يس، أعنى أحب اسماعيل يسن، وأفلامه. لم تصدق  هى أنى أحبه. تعرف نشاطى العلمى والثقافى والإبداعى وتريد أن تصنّفنى مع الذين هم كذلك، علما بأنها ترى أن الذين هم “كذلك” لا يمكن (أو لا ينبغى) أن يحبوا إسماعيل يس. ربما تسمح لهم أن يحبوا عادل إمام، لكن اسماعيل يس لا. أنا أرى أن الفرق  هو مثل الفرق  بين أعواد القصب بجوار مدخل محل عصير فى حى فقير، وبين شظايا شفرات الحلاقة الحادة، وأجزاء المرايا المبعثرة، وأحلام اليقظة، قبل مرور عربة  القمامة.

ثم إنى لا أفهم فى الموسيقى الكلاسيكية، (تقال هكذا : كْلاَسِكْ، خطفا)، ولا أعرف أسماء الممثلين الجدد، ولا المغنيين الأجانب، ولا كيف أرقص كما يحلو لهم أن يحددوا ما هو الرقص، لكننى أحب الرقص، وأرقص بطريقتى، لا هو بلدى ولا هو خواجاتى، لكنهّ رقص حقيقى أذوب فيه مع بعضى، حتى أتعرّف عليه فأصالحه، كى أحبه (جسدى). ثم إنى أحب الناس الذين ليس لهم أسماء أخرى، غير أسمائهم الحقيقية.

انتبه أن فاتن ما زالت تنتظر. مدّ يده إليها وأخذ منها ما تحمل من أورق وأقراص الحاسوب، ربما ذهبت ورجعت ، ربما هو الذى طلب منها ذلك.

خرجت وهى لاتبتسم،  ولاتعبس.، ليس لهم أسماء أخرى غير أسمائهم الأولى العادية، لا اسم تدليل، ولا اسم شهرة، ولا صفة لاصقه بالاسم لتميزه. كانت أسماؤهم – ومازالت – هى : محمد، على، موريس، ابراهيم، حنينة، مراد، فهمى، درويش، زينب، سناء، وائل، لطفى، عمر، اسماعيل، ناهد، سعد، هبة، أسامة. هكذا بمنتهى المباشرة. هل يوجد أبسط وأجمل من أن يكون اسم “عمر” هو “عمر؛ فيكون هو “عمر”.

أعرفهم واحدا واحدا دون كلمة، وأحبهم. وهى لاتنكر علىّ تصورّ ذلك، ولكنها لاتصدّقه، وهى تهمس لنفسها بعيدا عنه دون أن تدرى أن همسها يصله فى نفس الوقت الذى يخطر فى وعيها، تهمس: “أهوَ كلام “. هى تبرر ماتهمس به لنفسها – فيصلنى- بأن هذه الادعاءات المثالية الخائبة ليست إلا هروبا من مسئولية العلاقة الواحدة المحددة، فهى لعبة مفقوسة مهما جمّـلـتْها ألفاظ الأطفال أو شطحات الصوفية.

-3-

حاولتُ أن أقترب من قلبها مرة محاولة عينية، فوضعت أذنى لصق نبضاته، تحت ثديها الأيسر مباشرة. غمرنى خِـدر منمّل، كدت  أغفو، انتبهتُ بإرادة قافزة، سمعت همسا طيّبا وديعا، كان ثديها يحيط بوعيى ثقيلا فى حنان وكأنه يغطّينى فى ليلة شتاء مهجورة، مع ذلك أحسست بوحشة.

لم أعثر على أى من هؤلاء الذين أسميتُهم، ولا على ابن واحد منهم ولا ابنته، ولا أخته، ولا ابن خالته، فانزعجتُ. كذّبتُ نفسى.  أنا المخطىء.  أنا الذى لم أسمع.  هل أنا الأصم أم أن قلبها خال من الأسماء ؟  لم أشعر أنها يمكن أن تشاركنى الاستماع إلى الموسيقى الباطنية التى تنبعث من كل اسم من هذه الأسماء المجردة، الأسماء الأولى.  حتى لو ظل الاسم هكذا مبتدأ ليس له خبر.

هى لاتحب أنور السادات، لا تستطيع أن تسمع همس جبال سيناء الملساء العفية، وهى تردد اسمه، وتدعو له،  تضحك منه.

يقول الجبل بلا اسم :

– أنور السادات.

يرد الصدى:

أنور السادات،  أنور السادات. أنور السادات.

يـقول الجبل :

– الجسور الخائن الرائع.

يردد الصدى :

“الخائن الرائع”، الخائن الرائع. الخائن الرائع، …الرائع، …ئع  …ئع.

تتساءل هى بإنكار: كيف تجتمع الخيانة مع الروعة مع الوطنية . ينصحها هو أن تتأمل  الشُّـعــَبِ المرجانبة المختفية فى جوف خليج رأس محمد، أو حتى  تطيل النظر  فى صورها. هذه الشعب توشوش  فى أذن هواة الغطس الأجانب (الألمان بالذات) بحكايات عن الفلاح المنوفى الذى لم يعرف حفيف الموج ولا همس الجبال أو زئيرها، لكنّه أخذ على عاتقه أن يحررها على حساب تاريخه الشخصى، كانت حسبته غريبة وخائنة ورائعة وشجاعة، عملها والسلام، هكذا، على حساب سمعته واسمه، مـلعون أبو التاريخ الذى يحرم الإنسان من شرف الخيانة لمجرد الحفاظ على اسم لامع على حساب أمة ضائعة مقهورة.

يحاول أن يـفـهِمها أن حسبة السادات امتدت  أبعد من ذكائه، وأرحب من خياله، وأمضى من شجاعته، وأنها حسبة من أعمال القضاء والقدر تنطلق وحدها وتصيب أول ما تصيب من تجرأ على محاولة فك شفرتها. حسبة كانت تنتظر أن تنطلق  بغض النظر عن قصدِ أو تصوّرِ من يطلقها. ثم  أصيب السادات بدُوَار النبوّة نتيجة اختلاط الأسماء والتواريخ ومسارات النجوم.

تحسبه يمزح. تلف ذراعها حول رقبته وتلثم مقدمة جبهته  وهى تضم رأسه إلى صدرها، فيسترخى فى حضن عينيها الخاليتن من حساباته العقيمة.

-4-

إيش فّهمك يا عم يحيى يا حقى  فى موسيقى طلوع الشمس وأنا أجرى وسط مرضاى، ونحن نستحم فى نور الشروق  ونرقص فى هرولة متناعمة نحو الأفق؟

إيش فهمك فى لحن رائحة االعرق ينساب على نصف جسدى الأيمن قبل الأيسر؟  أراهن أنك لم تسمع عن كورال حبّات العرق تتابع فى دغدغدة لاتتكرر. كما أنى لم أسمع عن أسماء أوبراتـِـك التى عددتـَـها بشكل متواضع جميل . أنا أحبك.

-5-

فلماّ باخت النكت الجنسية الخارجة، وإلى درجة أقل النكت السياسية، ولمّا فاحت رائحة نتن تمباك تفاح النارجيلة، حدث الذى حدث. فلماذا تصرّ هى أن تكره أنور السادات كل هذا الكره؟

الأرجح أنها تخجل أن تحبه، فلماذا هى تصر على أن تتأكد أننى أحبها هى بالذات؟ أحبها أو لا أحبها، هل هذه هى القضية،؟ أم أن القضية هى كيف نعيش أحرارا حتى لو اتُّهِمنا بالجنون أو الخيانة؟

-6-

ثم إن الله موجود، نلجأ إليه لنبحر منه، فرادى وجماعات، فلماذا تنازلتْ هى عن حقّها فيه، هكذا دون مقابل. لماذا أمسكت بالمقص الذى استعارته من مجهول، فقصّت به وجودها هكذا فى محاذاة قمة رأسها تماما، بالملليمتر؟ لماذا اختزلــتْه – سبحانه وتعالى – إلى فكرة أو احتياج، مَن ذلك القادر الساحر الخبيث الذى ضحك عليها فشقّها هكذا بالعرض؟ شقها إلى “فوق” “وتحت” فتوقفت جذورها عن الامتداد فى الأرض وتوقفت فروعها عن اختراق السماء، أما البراعم على الجانبين فلم يستطع هذا القادر الخبيث أن يمنعها من الظهور ، لكنها تورق فحسب. لاتزهر، ولا تثمر.

-7-

ينظر إلى الحروف تنساب أمامه على الشاشة يجد أنها  تكتب أشياء أخرى، مذكرة رسمية مرفوعة إلى السيد رئيس مجلس إدارةٍ ما،تنبهه إلى ضرورة الإسراع باتخذا الإجراءات اللازمة لتلافى مضاعفاتٍ أكثر مما حدثت حتى الآن كذا ؟

دخلت فاتن ومعها  أسماء تحمل هى الأخرى أوراقا لم يحضر معهما فؤاد. قالت له فاتن بصوت أكثر وضوحا لم يبلغ حدّ الصياح :

– هل انتهيت ياسيدى؟

تانى!!  لم يرد.

عادت فاتن تقول:

– “سيدى هل تريد شيئا آخر”؟

ابتسم ابتسامة حقيقية لم يعرف كيف أفلتت منه، وقال لها بعرفان ليس فيه شك:

–  شكرا

انصرفتا  وهما سعيدتان. لم تفتح أسماء فمها،  لم تناوله الأوراق التى كانت تمسك بها، لم تسأله شيئا.

لماذا حضرت أسماء مع فاتن؟

طبعا  أريد شيئاً آخر، أريد أن أعيش، أريد أن أراهما سعيدتان، أريد أن أكون جميلا ، وأنتم كذلك.

رأى نفسه وسط ناس يرونه، ويتحمـلونه، ويحاورونه وهم يصعدون معا دون خوف أو تردد، فلماذا يلاحقونه بالاتهامات بالجبن. هم لا يلاحقونه ولا حاجة. هو الذى يتهم نفسه حتى كاد يتيقن أنه فعلا جبان، مع أنه ليس جبانا حتى لو أجمعوا  على ذلك.

– 8 –

دخان سيجارتها يتكثف بينى وبينها  دون غيظ، دخان موصل ردىء للحب (هو الذى يقول)  هو مثير للخيال، ومنعش للحس، (هى التى تقول).

كلما أشعلت سيجارة قال لها – بالألفاظ أو بدونها – “لماذا تدفعينى هكذا بعيدا عنك؟ “فترد عليه  أنه “بالعكس”.

هى تحسن الغناء وتحسن إطلاق سراح الأحلام، وإن كانت لاتتمادى فى الحلم،

لابد من عمل ميثاق جديد للدفاع عن “حقوق الأحلام ” . هذا أصدق من مسخرة حقوق الإنسان.

إن محاولة تحقيق المستحيل أسهل كثيرا من تحقيق الممكن.

أى كلمة عابرة، أى لمحة هامسة، أى اسم عادى، أى ورقة ساقطة، أى شىء هو كل شىء، وهو مقدس وكاف ما دمنا نتمتع بالحق فى الحلم بلا تحفظ.

إذا لم  يتحقق الحلم  فإن هذا لا ينفيه، قد يحافظ على دفعه،

ثم إنه “لا يريد”، “لايريد”.

طيب قل لى: لا يريد ماذا؟

أحس أن المعارف قد تراكمت حتى كادت تطفح على وعيه، حتى كادت تطمس إرادته، فراح يبذل المحاولة تلو الأخرى ليؤكد حقّه فى أن يتوقف،

أن يتمتع بالجهل القوى، بالضعف الجميل، بالخوف الواقع، بالخيبة  الخبرة.

-9-

قالت له فى حنان حقيقى، قبل أن ينقلب هذا الحنان المتسحب إلى كتلة من الغيظ مليئة بشوك قصير رفيع لا يُرى بالعين المجردة، قالت :

– ما هذا؟ ألا تكف عن الحسابات أبدا، كله بالحساب حتى الضعف بالحساب، والخوف بالحساب،  والعجز بالحساب،  والخيبة بالحساب، متى تدرك أن هذا الحساب يمسخ الأشياء فيجعل كل ذلك، ليس كذلك، ليس هو؟

أردفت وهى أكثر غيظا وحبا، لكنّها أخفت صوتا (لعلّها تستطيع أن تكمل قبل أن يقاطعها):

–  ألا تخشى مرة من هذه المرات أن تفلت منك الحسبة بأى سوء تقدير، تسبقك الحسابات فلا تلحقها مثل أنورك الساداتى؟

يصيح بها وكأنه يسبّها أو كأنها سبّت أمه:

– أنت لا تستأهلين أن تنتمى إلى الأرض التى حررها هذا الخائن الرائع الشهيد”

ترد بأنه :

– كيف تكون الأرض حرّة والناس الذين عليها ليسوا أحرارا؟ إنه فعل ما فعل لحسابه الشخصى، حتى لو تصوّر أن شخصه هو مصر، فهو حسابٌ شخصى.

يفُحَمُ فجأة، لا تحضره الحجة، فيسكت عن الرد .

-10-

يابنت الناس، أُفهِمك للمرّة المليون أنهم ليسوا الكتلة غير المميزة التى تتصورينها، بل بالعكس، إنه سبحانه يتجلى فى كل واحد منهم على حدة، هم ليسوا كومة بشر، بل أحياء متفردون، فردٌ بجوار فردٍ، فيه، له، معه، يقتربون بعضهم من بعض، سواء كان ذلك بإرادتهم أم كانوا مرغمين عليه لأنهم أحياء، لأنه لا راد لمشيئته، وهم يحاولون، وهو  يفسح لهم صدره، إليه، ويمكر لهم، وبهم، وهو خير الماكرين هذا التمازج  مفروض حتى نبقى، ونستمر، مرة باسم الحب، ومرة باسم الزواج، تلك المؤسسة التى رغم فشلها الأكبر مازالت تتكرر فى غباءٍ جماعىّ رائِع، ليس مثله إلا غباء الانتحار الجماعى لأسراب السمّان المهاجرة. ومرات كثيرة بدون أسماء.

-11-

رآه مرة  وهم يرقصون معا فى فرحة غامرة ليس لها سبب إلا أنهم معا،  ومرة رآهُ كثيرا كثيرا فيهم وهم يجنون القطن، وملابسهم تقطرعرقا وخدودهم تحمر. ومرة وهم يصلون جماعة فى مسجد ليس به مكبّر، وليس بدروما فى عمارة،  ومرة وهم يصطفون الواحد منهم وراء الآخر فى صف غير مستقيم، وكل واحد على كتفه قصعته الفارغة، والريس عبد الكريم يملأ كل قصعة بغَْرفتين من غَرْفات الخرسانة الأثقل من الرصاص، خرسانة ليس مثل صلابتها إلا صلابة حماة صعيدية تحيط بزوجة ابنها الغائب فى الخليج منذ رمضان الذى فات غير الذى فات.

بأى حق تريد هى أن تتميز عنهم وعنهن.

هى لاتكف عن التصريح أو التلميح بأنها هى التى تفهم، ليس مثلها مثل الأخريات بالردف الوافر والخصر الضامر، كلهن لايفهمن باستثناء صديقاتها الثائرات على المعاش، اللاتى على موعد مفتوح مع “الفارس المهدى المنتظر” الذى هو فنان، ومفكر، وذاهل، ومنافق، ودمه خفيف معا، أىْ والله.

12-

ثم إنه لّما شاهد الفيلم – أخيرا، أخذ يبحث عن إخلاص وأم السعد وأدهم، وأشرف، وعبد الرزاق، وعبد الحى، ومرسى، وعبد النبى، وتفيدة، ومسعد، وأبو عيد، وأم وليد، ولّما لم يجدهم حزن حزنا شديدا، وأحس أنه فقد أهله فى زلزال ليس له دوى، وكأنه كان ينتظر أن يراهم فى هذا الفيلم الخوجاتى بالذات، كيف، هذا ليس شغله، هو ليس وصيا على توقعاته الشاطحة.

أمّا هى فقد فَرِحَتْ جدا لّما علمت أنه شاهد الفيلم أخيرا، أخيرا وَصَله ما أرادت أن تبلغه إياه، وحين سألتْه عن رأيه، تعجّبت لصمته، لم يجرؤ  أن يحكى لها عن افتقاده أهله جميعا بأسمائهم واحدا واحدا، ولا عن احتمال اختفائهم فى شقوق الزلزال السرّى مكتوم الصوت، فأصرّت على معرفه رأيه فاضطَّر أن يعترض – خفيفا خفيفا – على جيمس بوند الأمريكانى الأعمى، وإلى درجة أقل على الشاب الجميل (الحليوة) الذى بدا طول الفيلم “وبراءة الأطفال فى عينيه”، ولم يقل لها إنه يفضل المسرح – إن كان ولابد – لأنه يرى الناس فى المسرح لحما ودما، ناسا لهم أسماء، أما سينما “الجات” هذه فليس فيها ناس، أو على الأقل ليس فيها ناسه هو.

مهارة جيمس بوند الأعمى فى الفيلم ذى العطر الفوّاح – عطر المرأة – هو بالقطع دون مهارة الشيخ إبراهيم عبد الحافظ (أعمى أيضا) الذى كان يدق الطعمية فى الحجر بعد الفجر، ويقرأ القرآن فى البيوت فى الضحى، وعلى المقابر قرب العصر، ويدوّر الطلمبة الماصّة كابسة فى المساء حتى يطف الخزان.

أمّا فى الفيلم فإن جيمس بوند الأعمى قد راح يعلّم المرأة ذات العطر رقصة التانجو بمهارة أمريكية لا يعلو عليه إلا النظام العالمى الجديد، ثم إنه راح يقود السيارة الفيرارو آخر فيرارو، ليرسى بذلك مكارم الأخلاق حتى يتمكن صرب البوسنة من إكمال مهمتهم على خير وجه.

يضعون الأسماء مرصوصة فى نهاية الفيلم، كنا زمان نشاهد الأسماء فى البداية، هل قلّت قيمة أسماء الممثلين فى شهادة ميلادهم بالمقارنة بأسمائهم فى الفيلم ففضلوا أن يضعوها فى الآخر؟ ممكن، المهم أنه راح – بنفس الاستعباط – يبحث عن أسماء أهله  بين الأسماء المرصوصة فى نهاية الفيلم، والتى تتلاحق فى صفوف جميلة ملونة مختلفة أبناطها. لا يجد أحد وقال لنفسه: “أسماء أهلى لاتظهر حتى فى جريدة مصر الناطقة، ولا حتى فى فيلم “الأرض” ثم إنى ضعيف فى الإنجليزية”

– 13-

دخلت فاتن للمرة الثالثة، وكان معها أسماء مثل المرة الماضية، ثم إن فؤاد دخل بعدهما على غير العادة، أخذ يتطلّع فى وجوه الثلاثة، إنه يحبهم فعلا، لمح التردد على وجه فؤاد وهو يدارى خجله أو فرحته، فنظر إلى أسماء فكادت تخفى وجهها فى ظهر فاتن، فهم بسرعة رائعة، قفز من مقعده رافعا ذراعية كما لو كان يبدأ رقصة حذقها قديما، ثم نسيها ثم تذكرها فجأة. وجد نفسه وقد احتضنهما كلٌّ بذراع، فؤاد على ناحية، وأسماء على ناحية، وفاتن تكاد تطير من الدهشة والفرحة معا، لكنها كانت تعرف مدى حبه لهم جميعا، فقط لم تكن متأكده هل حبه لهم أكثر، أم حبّهم له.

ضغط عليهما كلًّ بالذراع الذى يحيطه، فكاد ينسى أنهم ثلاثة

قال، وكأنه يحدّث نفسه : مبروك، مبروك بصحيح.

راح ينظر إلى الثلاثة وهم يخرجون من عنده، أسماء وفتحى فى المقدمة، وفاتن من ورائهما وكأنها تمسك بذيل أسماء (وذيل فتحى أيضا) فى زفة خاصّة.

تعجّب من نفسه كيف مازال يستطيع أن يفرح هكذا رغم ما تبيّن له من سر الخدعة من أول ثانية حتى كلمة “النهاية”.

وقال: يبدو أن المسألة أكبر منه.

-14-

ضغط على المفاتيح، تفتحت له نوافذ العالم ، أخيرا تخلص من وصاية الناشرين والجات والنظام العالمى، أخيرا أصبح له موضع باسمه، له زوار.

يشعر بقيمة وجوده، بالحياة نفسها وليس بذاته، كلما زار موقعه غريب يطّلع على ما أودع فيه من ذاته، أفكاره،  هو لا يستطيع أن يفصل أفكاره عن جسده.

شيخ العرب السيد كان يدعو الله أن يريه الأمور كما هى . هو لا يشعر بوجوده إلا “حين يراه الناس كما هو” .

لا ينفصل فكره عن أى خلية فى جسده، أعظم ما فى زوار موقعه أنه لا يعرفهم، يتزايدون يوما بعد يوم. يبدأ فى الكتابة:

“دعوة مفتوحة لزروار الموقع فى كل أنحاء العالم:

إلى حفل زفاف “أسماء وفتحى”

المدعوون  ضيوفه شخصيا ،

الدعوة عامة تشمل معارف الزوار- ممن ليس عندهم إنترنت – وغيرهم.

أضاف إليها  تأكيدا (ليس تحذيرا) يقول:

“برجاء اصطحاب الأطفال”.

********

انتهى الترحال الثالث  وقد  يليه الترحال الرابع

فى صحبة نجيب محفوظ

*****

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *