الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / جذور وأصول الفكر الإيقاعحيوى (3) مقتطفات: من كتاب “رباعيات ..و.. رباعيات”

جذور وأصول الفكر الإيقاعحيوى (3) مقتطفات: من كتاب “رباعيات ..و.. رباعيات”

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 5-6-2017

السنة العاشرة

العدد:  3565    

جذور وأصول الفكر الإيقاعحيوى (3)

مقتطفات:4-6-2017

من كتاب

 “رباعيات ..و.. رباعيات”

 

 المقدمة

ما زلت أنتهز الفرصة التى منحتها لنفسى أن أوجز فى الوقت المخصص للنشرة اليومية، حتى أتمكن من الوفاء بما عاهدت ربى ونفسى به تجميع أعمالى فى نشر ورقى، شكرا..وبعد الحل الذى آمل ألا يقطعنى عنكم هو هذاالاقتطاف الموجز، مع التعقيب السريع – إذا لزم الأمر- مما أدفع به إلى  المطبعة، مما قد يتيح فرصة لتسجيل تاريخ فكرى، وربك الماضى بالحاضر إذ  يدعم فروضي الجارية حاليا

وبعد

نواصل اليوم المقتطفات من من نفس الكتاب النقدى الجاري طباعته: “رباعيات ورباعيات”، ولن ألتزم بالترقيم المسلسل، لأن المقتطفات تنتقل من الكتاب الأصلى إلى ما يدعمها من خارجه، وبذلك سوف تكون كل نشرة قائمة بذاتها، فهى ليست موضوعا واحدا مسلسلا، ولا يجمعها إلا علاقتها بالفكر الإيقاعحيوى التطورى.

المقتطف (1): (من كتاب: “رباعيات ورباعيات” 1972  (1)   1982 (2)  )

“……. يعيش صلاح جاهين عمق الحزن وقمة الفرح فى نوبات معبِّرة دالة، وهو يمارس هذه المشاعر فى أوج الصحة.. والفرق بين إطلاق الطاقة دون مرض، وانطلاقها عشوائيا دون حدود أو ضابط هو الفرق بين الإبداع والمرض، ففى طور الهوس مثلا نجد أن الاهتمامات المتعددة لا تصل أبدا إلى أى هدف، أما فى حالة الصحة فهى اهتمامات وملكات تعيد تخليق الواقع وتمتلك قدرة إعادة التنظيم فى مثابرة غائية مبدعة.

وعلى الجانب الآخر فإن ثمَّ فرقاً هائلاً حتى التناقض، بين معايشة الألم مع الاستمرار فى مواجهة الحياة واختراق الصعوبات وبين الاستسلام للحزن مع الانهباط (3) الأول يمكن أن يكون قمة الصحة المتمثلة فى اختراق الصعوبات دون إلغاء معايشة الألم الخلاّق، والثانى هو الهزيمة المتسحـِّبة .

ظهر هذا التناوب فى إبداع صلاح جاهين عامة، لكنه يظهر بوجه خاص فى “رباعياته” التى تُمَثل جرعة مكثفة من فكر نابض، تكاد تقترب فى تكاملها من فلسفة حياة بأكملها، وهى تفى بإيضاح هذا التناوب، بين الإقبال والإدبار، أو بين الفرح والانقباض، أو بين الهوس والاكتئاب. وهذا ما التزمتْ به هذه القراءة التى لا تكتمل إلا بالعودة إلى بقية إنتاجه.

التعقيب 2017:

يبدو هذا المدخل للتعرف على طبيعة النفس البشرية من خلال الأعمال الأدبية كان هاجسا ملحما منذ بدأت ممارسة النقد الأدبى بانتظام، وهو المنهج الذى اسميته، كما ذكرت أمس “التفسير النفسى للأدب”  وأعتقد أنه كان ومازال من أهم مصادرى وقد هدانى إلى كثير من معالم الفطرة البشرية، وقد شرحت ذلك تفصيلا فى أطروحات مستقلة

المقتطف (2): (من كتاب: “رباعيات ورباعيات”)

“…… يعلن صلاح جاهين موقفه الوجودى الحائر بشكل مباشر، فى كثير من إبداعاته، وليس فقط فى الرباعيات، فيبدو وهو يدافع – بإبداعه- عن قضية وجوده، بكل الصور، وكأنه يدفع تهمة لا يعرفها، فنراه فى “قصاقيص ورق” فى موقف الاتهام، يطلق غناءه وأنينه وهو يدافع عن جريمة لا يعرف أبعادها ولا دوره فيها، وكأنه مسئول عن ذنب وجوده الذى لم يختره، وهو لا يجد تفسيرا لهذا “الشعور بالذنب” الذى يدفعه إلى “المرافعة”.. الباكية مرة:

مؤيد بكل أنين الكمنجات فى كل الوجود

العذبة البريئة حيناً:

بتهنينة الأمهات للعيال فى المهود

المَرِحة المنطلقة تارة أخري:

بصوت القـُـبل.. وكل ابتسامة بحق وحقيق

فهو يحس أنه فى حياته مهاجَم بغير ذنب، متهم بغير تهمة، أمام أسياد وهميين يريدون نهش لحمه:

سيادى الحدَادِى اللى حايمهْ على رمِّتي

ولعل هذا الموقف هو الدافع الأصيل وراء انطلاقه فى كل هذا الإنتاج الفنى الوفير؛ ليواصل معركة الوجود، فهو إما أن يعبِّر عن صراعاته بهذا الأسلوب، وإما المرض، لذلك نجده يؤكد أهمية التنفيث بالكلام.. وإلا.

ده اللى ما يتكلمش ياكتر همُّه

وهو يحذّرنا من ترددنا عن الإفصاح عن نشيجنا الداخلى بالغناء

ياعندليب ما تخافش من غنوتك

كتم الغنا هوه اللى حيموتك

هذا هو ما فعله صلاح، وإن كان يبدو أنه لم يـُـغنِهِ بدرجة كافية،  إن ما يعنيه صلاح هنا بالغناء، إنما يشمل التعبير والإبداع والتناغم معا، وهذا هو المَخرج الحقيقى السليم لزخم الطاقة الذى تتفجر به النفس، ونكرر من جديد أننا ما لم نجد أسلوبا مناسبا ومجالا كافيا ومتلقيا معايـِشا لتشكيلات هذه الطاقة الحيوية المتدفقة التى تتجمّع فى أروع صورها فى الإبداع، وكأنها تجمع خصلات الإشعاع فى بؤرة هذا التخلّق الجديد، فإن مصير هذه النوبات هو  التشتت بغير نظام، والضغط بغير توجيه فهو المرض.

واختزال الإبداع باعتباره حلاّ لصراع نفسى، هو تسطيح لا يقدّم تفسيرا مناسبا لزخم الإبداع ودوره فى إعادة تشكيل الحياة، وصلاح، ـ مثلا، لا يستعمل إبداعه لمجرد حل الصراع، أو تفريغ طاقة محبوسة، وهو لا يهدف بإبداعه أن يقوم بوظيفة التطهير التى بالغ فى وصف أهميتها أرسطو؛ ذلك أن الإبداع ليس مسألة تفريغ أو تنفيث مثل صمام إناء البخار، وإنما هناك حاجة أصيلة فى الكيان البشرى يمكن أن نطلق عليها: الحاجة إلى الإبداع، حاجة تلح فى التعبير فى أية صورة من الصور بالأداة المتاحة، وإبداع صلاح، فى الرباعيات بوجه خاص، يسرى عميقا، رصينا، رائقا فى آن، حتى يبدو أنه يروى وجودنا مثلما تذوب الثلوج فى عروق الماء المنساب بين صخور الجبال؛ لتكون السيل المتجمع فى نهير جميل، يصبح مصدرا لرِيـِّـنـَا، فنبدع بدورنا ما نستطيع، ونحن نتلقاه.

هيا نسمعه معا وهو يشير إلى القصيدة التى ينوى أن يكتبها، القصيدة  التى تلوّح له حتى يكتبها، التى تلح عليه أن يكتبها؛ ثم إنه بكل سلاسة الوجود، يكتفى بإعلان هذا التهيؤ الجاهز، ثم يعفى نفسه من قهر الالتزام بكتابتها:

ح اكتبها وان ما كتبتهاش أنا حر

الطير ماهوش ملزوم بالزقزقة.

والقصيدة تقول من البداية:

فى يوم من الأيام راح اكتب قصيدة

عن قطتى، عن الكمنجة الشريدة

عن نخلتين فوق العلالى السعيدة

عن العـنب عن الهدوم الجديدة

عن طفل بقميص نوم

عن قوس بعد الصلا فى العيد

عن طرطشات البحر ح اكتب يوم

ح اكتب قصيدة

ح أكتبها وإن ما كتبتهاش أنا حر

الطير ما هوش ملزوم بالزقزقة

هنا تفرقة واضحة بين “كتم الغنا هو اللى حيموتك” وبين “الطير ماهوش ملزوم بالزقزقة“، مع أن كلا منهما يشير إلى وظيفة تدفق الإبداع بشكل يتجاوز مجرد التفريغ والتطهير، حتى لو لم يظهر مباشرة فى الشكل الواعِدِ به.

التعقيب (2017):

دلالة هذا المقتطف فى علاقته بالطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى هو أن هذا الأخير يركز على أن الإبداع أعمق وأهم وأكثر دلالة من أن نقصره  على ناتجه فى صورة الرمزية المعلنة سواء فى صورة شعر أو أدب أو علم أو حتى حضارة، الإبداع من منظور إيقاعحيوى تطورى هو برنامج حيوي  بقائى أصيل، وهو البرنامج  هو الذى أبقى الحياة حتى الآن، وهو الذى طؤرها نوعا بعد نوع بفضل خالقها وخالق وواضع و منظم برامجها.

حين يهم صلاح بكتابة قصيدة، فيكتبها جميلة كاملة  كما أظهر  المقتطف ثم لا يكتبها أصلا، فهو يقدم لنا ما يعلمنا أن المسألة ليست كتابة قصيدة بذاتها  أو قرض شعر أو رسم تشكيلى وإنما هى طبيعة فطرية أصيلة يمارسها الطير وهو يطير وحده وهى يطير مع  أفراد نوعه، وهى يسبح فى الطبيعة ويحافظ على بقائه،  وهو يكمن فى عشه، وهو يزقزق أو لا يزقز،  الطير يكتب قصيدته بمشاركته الإيجابية مع نوعه فيبقى ضمن نوعه، ولعل هذا هو المنطلق الذى كتبت من خلاله فرضى الأساسى عن الأحلام وأنها هى “إبداع الشخص العادى” (مجلة فصول سنة 1985) (4) وأنا لم أربط بين مشاهدتي لجموع (وفرادى) عصافير ما قبل الشروق وهو ما أثبته فى نشرة السبت الماضى وأنا فى مخيلتى هذا الذى قاله جاهين فى هذه القصيدة الرائعة التى كتبت حين لم تكتب، لكننى فرحت بها حين وصلت إلى فى هذه اللحظة تطمئننى إلى مصادرى.

علاقة هذا العمل الحالى (رباعيات ورباعيات)   لا تقتصر على إظهار مدى ارتباط شعر الرباعيات بالذات الإيقاعحيوى على كل مستويات نبضات الوجود، وإنما هى نكشف لنا عن أبعاد بالغة الدلالةن تسهم فى تصحيح مفاهيمنا عن الإبداع، ومن ثم عن المرض النفسى.

إن اختزال وظيفة الإبداع إلى مجرد تفريغ الطاقة، فى إنتاج مرموز محدد خارجنا،  يكاد  يقابل ما عارضته من  اختزال الحلم إلى تفسيره، وايضا من اختزال المريض إلى تشخيصه,

وأيضا إن اختزال مسارات الطاقة البشرية إلى إنجازات سلوكية مهما كانت إيجابية، هو تجاوز لجوهر أصل وجودها طاقة تمثل الحياة ذاتها قبل ناتجها،

وهذا ما سوف نعود إليه مرارا من خلال هذا العمل وغيره

……………..

وإلى الأسبوع القادم مع نفس العمل

 

[1] – مجلة الصحة النفسية (لم أعثر على رقم العدد حاليا) ، وقد أعيد نشره فى كتابي: “حياتنا والطب النفسى” سنة 1972 دار الغد للثقافة والنشر

[2] –   مجلة الإنسان والتطور الفصلية: عدد يناير 1982  مجلة الإنسان والتطور

[3]  –  الانهباط: هى الكلمة التى اقترحها الأستاذ المرحوم أ.د. عبد العزيز القوصي؛ لتكون بديلاً عن كلمة الاكتئاب؛ حتى لا نستعمل الكلمة نفسها فى السواء والمرض، بمعنى أنه إذا وصل الاكتئاب إلى درجة مرضية، سمى انهباطاً، وهكذا نحفظ للاكتئاب حقه فى التواجد كحالة سوية.

[4] – يحيى الرخاوى: “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” مجلة فصول (النفد الأدبى) المجلد الخامس – العدد (2) سنة 1985(ص 67 – 91) وقد تم تحديثها فى “كتاب حركية الوجود وتجليات الإبداع” المجلس الأعلى للثقافة 2007 دون مساس بجوهرها.

النشرة السابقة 1 النشرة التالية 1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *