الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى مقتطفات: من كتاب “عندما يتعرى الإنسان” مزيد من المقتطفات: من حكاية: “العلامة”

إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى مقتطفات: من كتاب “عندما يتعرى الإنسان” مزيد من المقتطفات: من حكاية: “العلامة”

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 29-5-2017

السنة العاشرة

العدد: 3558    

إرهاصات  الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى

منذ نصف قرن: (1968)

 مقتطفات:

من كتاب “عندما يتعرى الإنسان”

مزيد من المقتطفات: من حكاية:

“العلامة”

مقدمة:

سبق أن اقتطقنا من هذه الحكاية ما تيسر مما له علاقة بالمنطلق الأساسى للطبنفسى الإيقاعحيوى، إلا أننى وجدت بها من الحوارات ما يدعم موقفنا من نقد الموقف السلطوى لما يسمى البحث العلمى دون مساس بالعلم والمعرفة من كل مناهلهما، فقلنا نستزيد اليوم من نفس الحكاية بلا تعليق.29-5-2017

مقتطفات من حكاية “العلامة”

المقتطف (1)

…………………

قال (المريض العالم):

أقنعت نفسى أننى جئت إليك ‏أتفرج‏ ‏على ‏علمك‏، أو عليك، لن ترتقى أبدا لأن تكون ناسا عندى، أنا دفعت لك تماما كما أشترى كتابا، وعندى أمل ان تكون ‏أسهل‏ ‏فى ‏القراءة‏… ‏أما‏ ‏كونك‏ ‏إنسانا‏ “‏آخر‏” ‏فهذا‏ ‏ليس‏ ‏فى ‏حسابى ‏رغم‏ ‏أن‏ ‏جزءا‏ ‏غائرا‏ ‏فى ‏نفسى ‏يتمناه‏.‏

قلت (الطبيب/الحكيم)‏:

‏= ‏ولكنى ‏إنسان‏، وهذا هو أساس مهنتى.

قال‏:‏

‏- ‏يا ليت، فما هذا الذى  تعلقه على الجدران فى الصالة؟! أنت‏ “‏عالم”‏ ‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏طبيباً‏، ‏هذه‏ ‏هى ‏صورتك‏ ‏عندى، وهى صورة لا تسر بعد ما حدث لى.

‏= و‏هل‏ ‏هناك‏ ‏تناقض بين أن أكون عالما وأن أكون طبيا إنسانا.

قال‏:‏

‏-‏ هذا‏ ‏ما‏ ‏جاء‏ ‏بى ‏إليك‏.. ‏فقد‏ ‏عشت‏ ‏هذا‏ ‏التناقض‏ ‏منذ‏ ‏اللحظة‏ ‏الأولى ‏بين‏ ‏الكتاب‏ ‏والإنسان‏، ‏بين‏ ‏العلم‏ ‏المجرد‏ ‏ونبض الحياة،‏ ‏و‏كانت‏ ‏نهايتى كما ترى: هنا ‏بين‏ ‏يديك‏، ‏هارب‏ ‏من‏ ‏الجنون‏ ‏أو‏ ‏قل‏ ‏هارب‏ ‏إلى ‏الجنون‏. ‏منذ‏ ‏اللحظة‏ ‏الأولى..، منذ ‏ ‏تركتنى ‏أمى ‏دودة‏ ‏تسعى ‏فى ‏صحراء‏ ‏بلا‏ ‏ناس‏، ‏منذ‏ ‏خدعتنى ‏وقالت‏: ‏سآتى ‏حالا‏ ‏ولم‏ ‏تأت‏ ‏أبداً‏، ‏منذ‏ ‏أحبتنى ‏حبا‏ ‏لصقنى ‏بها‏ ‏جزءا‏ ‏منها‏، ‏ثم‏ ‏تركتنى ‏فجأة‏ ‏كتابا‏ ‏ملقى ‏على ‏الطريق‏ ‏تعبث‏ ‏بصفحاته‏ ‏عواصف‏ ‏الصحراء، أعنى حوش المدرسة، وظلت العواصف تقلب صفحاتى‏حتى ‏تمزقت‏ ‏دون أن تتطاير، وها هى بقاياها بين يديك، ‏.. ‏هذا‏ ‏الذى ‏أمامك‏ هو ‏بعض‏ ‏ما تبقى مما لا يصلح لشىء، .. ‏أنا‏ ‏الغلاف‏ ‏والمقدمة‏ ‏والخاتمة،‏ ‏أما‏ ‏محتوى ‏الكتاب‏ ‏فهو‏ ‏ضائع‏ ‏منى، وبالتالى ‏فهو‏ ‏ليس‏ ‏فى ‏متناولك‏.

………..

المقتطف (2)

قال (المريض العالم):

.. ‏وكلما‏ ‏تدرجت‏ ‏على ‏سلم‏ ‏الشهادات‏ ‏‏انزعجت‏ ‏من‏ ‏تلك‏ ‏المقاييس‏ ‏التى ‏تقيم‏ ‏الناس‏، ‏وكان‏‏ ‏آخر‏ ‏المطاف‏ شهادة ‏الدكتوراه‏: ‏رسالة‏ ‏وامتحان‏ ‏يرضى ‏كل‏ ‏الممتحنين‏ ‏بلا‏ ‏استثناء‏ – ‏أى ‏والله‏ ‏بلا‏ ‏استثناء‏ – ‏وتيقنت‏ ‏أن‏ ‏آخر‏ ‏شهادة‏ ‏هى ‏أخطر‏ ‏شهادة،‏ ‏لأنها‏ ‏تعطيك‏ ‏حق‏ ‏الجهل‏، ‏وهى ‏شهادة‏ ‏تُعطى ‏ولا‏ ‏تُؤخد‏، ‏تدل‏ ‏على ا‏لرضا‏ ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏تدل‏ ‏على ‏العلم‏، ‏أما‏ ‏أنها‏ ‏تعطى ‏حق‏ ‏الجهل‏ ‏فهذا‏ ‏أخطر‏ ‏ما‏ ‏فيها.‏ ‏

قلت (الطبيب الحكيم):‏

‏= ‏لا‏ ‏تغالِ‏.. ‏وقل‏ ‏لى ‏كيف؟‏ ‏

قال‏:‏

‏- ‏أنا‏ ‏لا‏ ‏أغالى، ‏ولو‏ ‏لم‏ ‏أكن‏ ‏حاصلا‏ ‏عليها‏ ‏لحسبتُ‏ ‏ذلك‏ ‏شعورا‏ ‏بالنقص‏ ‏أو‏ ‏حقد‏‏ا ‏ولكنى ‏حاصل‏ ‏عليها‏ ‏من‏ ‏أول‏ ‏مرة‏ ‏وبامتياز‏، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فأنا‏ ‏لا‏ ‏أقول‏ ‏إلا‏ ‏الحق‏، ‏فقبل‏ ‏هذه‏ ‏الشهادة‏ ‏يتمتع‏ ‏الطالب‏ ‏أو‏ ‏العالم‏ ‏بفضيلة‏ ‏الحياء‏، ‏فيخشى ‏أن‏ ‏يفتى ‏فتوى ‏دامغة‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏راجعها‏ ‏وحسب‏ ‏لها‏ ‏حسابها‏، ‏أما‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏يحصل‏ ‏عليها‏ ‏فإن له أن ‏يقول‏ ‏ما‏ ‏شاء‏ ‏دون‏ ‏حساب‏ ‏مباشر‏، خاصة فى بلدنا هذا، ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏الخطر‏ ‏بعينه‏، ‏أن‏ ‏يحسب‏ ‏الانسان‏ ‏نفسه‏ ‏عالما‏ ‏بالشهادة‏، ‏فالشهادة‏ ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏خدعة‏ ‏كبرى ‏لأنها‏ ‏من‏ ‏الرموز‏ ‏التى ‏تعدت‏ ‏معناها‏ ‏حين ‏أصبحت‏ ‏غاية‏ ‏فى ‏ذاتها‏، ‏وأصبح‏ ‏تقويم‏ ‏الانسان‏ ‏صغيرا‏ ‏وكبيرا‏ ‏مرتبطا‏ ‏بها‏ ‏ارتباطاً‏ ‏وثيقا‏، ‏وهذا‏ ‏من‏ ‏ضرائب‏ ‏العصر‏ ‏التى ‏لم‏ ‏نجد‏ ‏لها‏ ‏بديلا‏ ‏حتى ‏الآن‏.. ‏

‏قلت‏: ‏

‏= ‏ولكن‏ ‏ماذا‏ ‏ضرك‏ ‏فى ‏كل‏ ‏هذا‏.‏

قال‏: ‏

‏- ‏لا‏ ‏شىء‏ ‏حتى ‏الآن‏ ‏إلا‏ ‏جفاف‏ ‏الحياة‏، ‏وفقد نشوة‏ ‏الانتصار‏.‏ ‏بعد‏ ‏الشهادة‏ ‏الكبيرة‏ ‏عشت‏ ‏الألم‏ ‏الرهيب‏ ‏‏الذى ‏انتهى ‏بكسرى ‏الذى ‏أتى ‏بى ‏إليك‏ ‏هذه‏ ‏هى ‏الحكاية‏.‏

قلت‏:

=  ‏أية‏ ‏حكاية؟‏ ‏

قال‏:

– حكايتى ‏مع‏ ‏العلم‏ ‏والعلماء‏ ‏والبحث‏ ‏والمبادئ‏ ، أنا حين‏ ‏سلكت‏ ‏طريق‏ ‏العلم‏ ‏أصبح‏ ‏للكلمة‏ ‏محراب‏ ‏فيه‏ ‏أرقام‏ ‏وأرقام‏ ‏أهتز‏ ‏لها‏ ‏احتراما‏، ‏وأنحنى ‏أمامها‏ ‏تبجيلا‏، ‏ولكن‏ ‏حين‏ ‏أصبحتُ‏ ‏أحد‏ ‏خدام‏ ‏هذا‏ ‏المحراب‏ ‏اكتشفت‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏به‏ ‏ليسوا آلهة كلهم، ‏هناك‏ ‏أيضا‏ ‏أصنام‏ ‏من‏ ‏الحجارة‏ ‏تبدو‏ ‏عليها‏ ‏سمات‏ ‏الآلهة‏، ‏واهتززت‏ ‏وتشككت‏ ‏وكدت‏ ‏أتراجع‏ ‏وأنا أكتشف أن الأبحاث‏ ‏فيها‏ ‏الحسن‏ ‏وفيها‏ ‏السئ،‏ ‏وحين‏ ‏تقرأ‏ بحثا فأنت ‏إما‏ ‏أن‏ ‏ترفضه‏ ‏وإما‏ ‏أن‏ ‏تقبله‏، ‏ولكنى ‏كنت‏ ‏أحد‏ ‏خدام‏ ‏المحراب‏ ‏وولدانه‏، ‏فمارست‏ ‏تناول‏ ‏الماء‏ ‏المقدس‏ ‏من‏ ‏الداخل‏ ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏دائما‏ ‏مقدسا‏، ‏خصوصا‏ ‏لدى الكهنة الأساتذة  ‏المشايخ‏ ‏والأحبار‏.‏

……………

المقتطف (3)

قال (العلامة)‏:

 – ‏أنا‏ ‏لا‏ ‏أتحدث‏ ‏عن‏ ‏قواعد‏، ‏أنا‏ ‏أتحدث‏ ‏عن‏ ‏تجربتى ‏الخاصة‏، ‏أنا‏ مريض ‏نفسى ‏وأنت‏ ‏طبيب‏ ‏نفسى، ‏وقد‏ ‏تحرجت‏ ‏طويلا‏ ‏أن‏ ‏أقول‏ ‏هذا‏ ‏الكلام‏ ‏بين‏ ‏الزملاء‏، ‏كانوايشعرون‏ ‏أنى ‏أهاجمهم‏ ‏وأكشف‏ ‏عوراتهم‏ ‏فى ‏حين‏ ‏أنى ‏كنت‏ ‏أنقد‏ ‏نفسى ‏معهم‏، ‏كانوا‏ ‏يدافعون‏ ‏عن‏ ‏جلال‏ ‏العلم‏ ‏وهيبة‏ ‏”الأساتيذ”‏ ‏دون‏ ‏محاولة‏ ‏لمناقشة‏ ‏صدق‏ ‏محاولتى، ‏وكأن‏ ‏الأستاذ‏ هو ‏أستاذا‏ ‏لأنه‏ ‏أستاذ‏، ‏وليس‏ ‏لأنه‏ ‏رائد‏ ‏وموجه‏ ‏وناقد‏ ‏وإنسان‏، ‏وظللت‏ ‏أكتب‏ ‏وأخطّئ ‏نفسى ‏وأعمل‏ ‏حسابا‏ ‏للذى ‏يصح‏ ‏والذى ‏لا‏ ‏يصح‏، ‏وأفوّت‏ ‏وأصهين‏ ‏وأسكت‏ ‏وأغمض‏ ‏حتى ‏انكسرت‏، ‏وجئت إليك‏ ‏يا‏ ‏سيادة‏ ‏الأستاذ‏ ‏الطبيب‏ ‏النفسى، ‏ولكن‏ ‏قل‏ ‏لى ‏هل‏ ‏أنت‏ ‏تعترض‏ ‏لأنك‏ ‏أستاذ‏ ‏أم‏ ‏لأنك‏ ‏طبيب؟‏ ‏لمصلحة‏ ‏من‏ ‏تحاول أن تزين لى حقائق ‏عشتها‏ أنا ‏بكل‏ ‏الألم‏ ‏والمرارة‏، ‏وتقول‏ ‏أنت‏ ‏تبالغ؟‏ ‏أنتم‏ ‏الذين‏ ‏تبالغون‏ ‏فى ‏العمى ‏والضلال‏.‏

قلت‏:

= ‏العمى‏ ‏والضلال مرة واحدة؟ هكذا؟

قال‏:

– ‏نعم‏ ‏بحجة‏ ‏احترام‏ ‏الواقع‏ ‏والمجاملات‏، ‏إن‏ ‏الواقع‏ ‏محترم‏. ‏طالما‏ ‏هو‏ ‏صدق‏ ‏وأمانة‏، ‏والمجاملات‏ ‏عظيمة‏ ‏طالما‏ ‏هى ‏الزيت‏ ‏الذى ‏يلين‏ ‏تروس‏ ‏المعاملات‏ ‏الجافة‏، ‏أما‏ ‏أن‏ ‏نرص‏ ‏الأرقام‏ ‏ونتبع‏ ‏مبدأ‏ “‏من‏ ‏سهـَّـل‏، ‏سهل‏ ‏الله‏ ‏عليه”‏ ‏فإن‏ ‏ذلك‏ ‏هو‏ ‏العمى ‏والضلال‏.‏

قلت‏:

= ‏ولكنها‏ ‏تجربة‏ ‏خاصة.. فلماذا‏ ‏تعممها‏؟‏

قال‏:

–  ‏أنا‏ ‏لا‏ ‏أعمم‏ ‏شيئاً‏.. ‏أنا‏ ‏إنسان‏ ‏مكسور‏ ‏ضعيف‏ ‏مهان‏، ‏وملقى ‏فى ‏كرسى ‏فى ‏عيادة‏ ‏نفسية،‏ ‏فى ‏عقلى ‏خلل‏ ‏وفى ‏إدراكى ‏شطط‏، ‏ومن حقى ‏أن‏ ‏أخرّف‏ ‏ما‏ ‏شئت‏، و‏إلا‏ ‏ما‏ ‏فائدة‏ ‏أن‏ ‏يمرض‏ ‏الإنسان‏، ‏أليس‏ ‏المرض‏ ‏سبيلا‏ ‏إلى ‏حرية‏ ‏ما‏، ‏ألا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏عذرا لأمثالى ليقولوا ما يشاؤون، أم أنه دائما‏ ‏علقه‏ ‏قبل‏ ‏وبعد‏ ‏الحديث‏ ‏الطليق؟

….…..….

المقتطف (4)

قال‏:

– نعم‏ “‏ذلك‏ ‏اليوم”‏.. ‏كنت‏ ‏هناك‏، ‏وكان‏ ‏بحثا‏ ‏ضخما‏ ‏مفتخراً ‏به‏ ‏من‏ ‏الجداول‏ ‏أربعة‏ عشر ومن الصفحات‏ ‏ما‏ ‏يربو‏ ‏على ‏العشرين‏، ‏كنت‏ ‏أعرف فيه‏ ‏نقطا‏ ‏ضعيفة‏ ‏وكم‏ ‏هاجمتها‏ ‏فى ‏غير‏ ‏هوادة‏، ‏ومضت‏ ‏الأيام‏.. ‏حتى ‏دخل‏ ذ‏لك‏ ‏البحث‏ ‏سرداباً ‏‏خفياً‏ ‏فى ‏جانب‏ ‏ذاكرتى ‏ثم‏ ‏اضطررت‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏اليوم‏ ‏أن‏ ‏أقدّمه‏، ‏ووجدتنى ‏أستحضره‏ ‏وأنا ‏أكاد‏ ‏أفخر‏ ‏به لحسن ترتيبه‏، ‏ووجدتنى ‏أدافع‏ ‏عن‏ ‏نقط‏ ‏ضعيفة‏، ‏كم‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏رفضتُها‏، ‏وفجأة‏ ‏حدث‏ ‏الذى ‏كانْ‏. ‏

قلت‏:

= ‏وما‏ ‏الذى ‏كان؟‏ ‏

قال‏:

‏- أثناء إلقاء البحث، ‏اخترق‏ ‏رأسى ‏من‏ ‏الداخل فجأة، ‏ما‏ ‏بين‏ ‏عينىّ: ‏صاروخ‏ ‏مثل‏ ‏السيف‏ ‏المحمى ‏على ‏النار‏، ‏واضطربت‏ ‏الألفاظ‏ ‏أمام‏ ‏عينى ‏وأصابتنى ‏دوخة‏ ‏وعجزت‏ ‏عن‏ ‏الاستمرار فى إلقاء البحث، كيف‏ ‏أدافع‏ ‏عما‏ ‏لا‏ ‏أعتقده؟‏ ‏وفى ‏أى ‏مجال؟‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏العلم؟‏ ‏أحسست‏ ‏بأنى ‏داعر‏، ‏لا‏ ‏تؤاخذنى ‏فى ‏التعبير‏، ‏ولكن‏ ‏لا‏ ‏تنس ‏أنى ‏مريض‏، ‏وأنى ‏ما‏ ‏مرضت‏ ‏إلا‏ ‏لآخذ‏ ‏حقى ‏فى ‏التعبير‏، ‏فحيث‏ ‏تكون‏ ‏السلامة‏ ‏تكون‏ ‏المجاملة‏ ‏ويكون‏ ‏الكلام‏ ‏ممنوعاُ‏ ‏والسكوت‏ ممنوعاً أيضا‏. ‏

قلت‏:

‏= ‏ولكن‏ ‏هذا‏ ‏البحث‏.. ‏.. ‏ماذا به؟ ، ماذا حدث فى ذلك اليوم، هل اكتشف أحدهم فى المناقشة أن به شىء؟‏ ‏

قال‏:

‏- لا .. ‏ليس‏ ‏به‏ ‏شىء‏، ‏هذه هى المصيبة‏،  ‏ولأنه‏ ‏ليس ‏به‏ ‏شىء‏ ‏فقد‏ ‏كُسرتُ‏ ‏لأننى اكتشفت أننى‏ ‏أدافع‏ ‏عن‏ ‏لا شئ‏، ‏هل‏ ‏يمكن أن‏ ‏تتصور‏ ‏إنسانا‏ ‏يمسك‏ ‏بكل‏ ‏أسلحته‏ ‏للدفاع‏، ‏ثم يكتشف أنه يدافع عن أعدائه هو، ‏تقضى ‏عمرك‏ ‏تدافع‏ ‏عن‏ ‏محتويات ‏خزانة‏ ‏عقلك‏ ‏ثم‏ ‏فى ‏لحظة‏ ‏يقظة‏ ‏تفتح‏ ‏الخزانة‏ ‏فإذا‏ ‏بها‏ ‏خاوية‏ ‏على عروشها‏، ‏حينئذ‏ ‏تصعق‏ ‏وتدور‏ ‏الأسئلة‏ ‏تلسع‏ ‏رأسك‏ ‏ثم تنطلق السهام الملتهبة المصنوعة ‏ من‏ ‏معدن‏ ‏صلب، تشل عقلك، وأعتقد أن أحدها هو الذى أصابنى بين عينى، كدت أراه فعلا وهو ينطلق نحوى، شعرت أننى لو مضيت أدافع نفس الدفاع، كأننى أحلف بمقام الشيخ الذى تحت القبة، ولا أحد يعرف سواى أن المدفون تحت القبة هو حمار نافق، وليس شيخا ذا كرامة.

قلت”:

= ولكن ليست كل الأبحاث هكذا.

قال‏: ‏

‏- ‏آه ‏.. ذكّرتنى، ‏مرة‏ ‏من‏ ‏ذات‏ ‏المرات‏ ‏كنت‏ ‏أجلس‏ ‏وكان‏ ‏ذهنى ‏خاليا‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏شىء‏، ‏كنت‏ ‏فى ‏حديقة‏ ‏ما‏.. ‏أمسك‏ ‏زهرة‏ ‏جميلة‏ ‏وكأنى ‏مراهق‏ ‏يتأمل‏ ‏التوافق‏ ‏بين‏ ‏ذاته‏ ‏وبين‏ ‏الكون‏، ‏وخطر‏ ‏ببالى ‏وبدون‏ ‏سابق‏ ‏إنذار نفس التعبير الذى قلته انت الآن: ‏”‏أنه‏ ‏ليست‏ ‏كل‏ ‏الابحاث‏ ‏هكذا”‏.. ‏فرد‏ ‏آخر‏ ‏من‏ ‏داخلى ‏يقول‏ ‏”هكذا‏ ‏كل‏ ‏الأبحاث‏”، ‏وأفقت‏ ‏من‏ ‏لحظة‏ ‏التوافق‏ ‏والانسجام‏، ‏وجعلت‏ ‏أتأمل‏ ‏مشكلتى ‏المحيرة‏، ‏وارتسمت‏ ‏ابتسامة‏ ‏ما‏ ‏على ‏عقلى، ‏ونظرت‏ ‏للوردة‏ ‏فى ‏يدى ‏وأخذت‏ ‏أقطف‏ ‏أوراقها‏ ‏وأنا‏ ‏أردد‏ ‏”ليست‏ ‏كل‏ ‏الابحاث ‏هكذا”‏… “هكذا ‏كل‏ ‏الابحاث”… “ليست كل الأبحاث هكذا”… هكذا كل الأبحاث”،‏ ‏وظننى ‏الناس‏ ‏عاشقا‏ ‏ينتظر‏ ‏عشيقته‏ ‏ويسأل‏ ‏الوردة‏ “‏ستحضر‏.. ‏لن‏ ‏تحضر‏..” ‏ووجدت‏ ‏عنق‏ ‏الوردة‏ ‏وقد‏ ‏تعرى ‏من‏ ‏جمال‏ ‏الوريقات‏، ‏وأنا‏ ‏اتساءل‏ ‏تساؤلى ‏الذى ‏لا‏ ‏ينتهى، ‏وهتف‏ ‏لى ‏هاتف‏ ‏أن‏ ‏مصير‏ ‏الطبيعة‏ ‏فى ‏المعمل‏ ‏الجاف‏ ‏الذى ‏ينسى ‏نبض‏ ‏الانسان‏… ‏مثل‏ ‏مصير‏ ‏الوردة‏ ‏بين‏ ‏يدى ‏إنسان‏ ‏قلق‏ ‏أوشك‏ ‏على ‏الانهيار‏، ‏وتبينت‏ ‏ساعتها‏ ‏أن‏ ‏الانهيار‏ ‏قادم‏ ‏لا‏ ‏محالة‏ ‏ورفضته‏ ‏وتمنيته‏ ‏فى ‏ذات‏ ‏الوقت.. ‏

…………………..

المقتطف (5)

قلت‏:

‏= ‏سوف‏ ‏نبدأ‏ ‏برفض‏ ‏ما‏ ‏رفضت‏. ‏

‏- ‏حقاً؟

‏= ‏ولم‏ ‏لا؟‏ ‏

– لأنى مريض؟

‏= ‏بل‏ ‏هو‏ ‏رفض‏ ‏الزيف‏ ‏والخداع‏. ‏

– ومن قال لك أنه زيف وخداع؟

= أنت الآن.

– وكيف تصدقنى وتكذب لجنة التحكيم التى أجازت نشر البحث فى أحسن المجلات؟

= لم أجد أى مبرر أن أكذبك، ولا أى مصلحة لك فى أن تكذب علىّ، ووجدت أن الأقرب لى هو أن أبدأ بأن ‏أقبلك‏ ‏بكل‏ ‏ما‏ ‏تحويه‏ ‏وتمثله‏ ‏وتقبله‏ ‏وترفضه.. ‏فهل‏ ‏تقبلنى ‏أنت؟

‏- ‏أنا؟‏.. ‏أنا‏ ‏أخاف‏ ‏منك.‏ ‏

‏= ‏عندك‏ ‏حق‏، ‏فى ‏أزمتك‏ ‏هذه‏ لك كل الحق أن ‏تخاف‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏الكلام‏ ‏وكل‏ ‏الناس.. ‏ولكن‏ ‏للأمر‏ ‏وجه‏ ‏آخر.‏ ‏

‏- ‏وأخاف أيضا من  ‏هذا الوجه‏ ‏الآخر.‏ ‏

‏= ‏ولكنك‏ ‏لا‏ ‏تعرفه‏.‏

‏- ‏أنا‏ ‏خائف.. ‏طيور‏ ‏فكرى ‏تهرب‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏الأقفاص‏. ‏

‏= ‏ولكنها‏ ‏لو‏ ‏استمرت‏ ‏فى ‏السماء‏ ‏بلا‏ ‏حدود.. ‏فسوف‏ ‏تهلك أنت وهى.‏ ‏

‏- ‏ستبحث‏ ‏لها‏ ‏عن‏ ‏عش‏ ‏ولو‏ ‏فى ‏القطب‏ ‏المتجمد.‏ ‏

‏= ‏تهلك‏ ‏من‏ ‏البرد‏ ‏والوحدة‏. ‏

‏- ‏أفضل‏ ‏من‏ ‏السجن‏ ‏داخل‏ ‏الخداع.‏ ‏

‏= ‏ولكن‏ ‏هناك‏ ‏احتمال‏ ‏آخر‏. ‏

‏- ‏أى ‏احتمال‏؟

‏= ‏الإنسان.‏ ‏

‏- ‏هو‏ ‏الذى ‏أشقانى ‏وعذبنى ‏حتى ‏انكسرت.. ‏أمى ‏كانت‏ ‏الإنسان‏ ‏الأول‏ ‏فى ‏حياتى ‏ثم‏ ‏تركتنى ‏دودة‏ ‏تسعى ‏فى ‏صحراء‏ ‏المدرسة‏ ‏بين‏ ‏حروف‏ ‏جافة‏ ‏وطباشير‏ ‏أكلح‏ ‏لا‏ ‏نبض‏ ‏فيه‏، ‏ثم‏ ‏سجنت‏ ‏وأنا‏ ‏أبحث‏ ‏عن‏ ‏الانسان‏ ‏بين‏ ‏صفحات‏ ‏الكتب‏، ‏ثم‏ ‏فجعتُ‏ ‏وأنا‏ ‏أفتقدُ‏ ‏الإنسان‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏العلم‏ ‏الجامد‏‏.

قلت‏:

= ‏ولكن‏ ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏أن‏ ‏نكف‏ ‏عن‏ ‏التعليم‏ ‏أو‏ ‏نهاجم‏ ‏الكتب كلها‏ ‏أو‏ ‏نحطم‏ ‏قدسية‏ ‏العلم‏.‏

وبعد

نلتقى الأسبوع القادم مع حكاية أخرى

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *