الرئيسية / مقالات صحفية / أخبار الأدب / حركية اللغة بين الشعر والشارع

حركية اللغة بين الشعر والشارع

أخبار الأدب 

نشرت بتاريخ: 20  يناير   2013

نبض الناس

حركية اللغة بين الشعر والشارع

اللغة‏ ‏ليست‏ ‏إضافة‏ ‏لاحقة‏ ‏بظاهر‏ ‏الوجود‏ ‏البشرى‏‏، ‏هى ‏التركيب‏ ‏الغائر‏ ‏الذى ‏يمثل‏ ‏الهيكل‏ ‏الأساسى ‏الذى ‏يصدر‏ ‏منه‏ ‏السلوك‏، ويتشكل به الوعى، ‏وهى ‏جزء‏ ‏لا‏ ‏يتجزأ‏ ‏من‏ ‏التركيب‏ ‏البيولوجى ‏للمخ والجسد جميعا. تتوقف حركية اللغة على نشاط الوعى، ومطاوعة المخ دائم التجلى‏ ‏فى إيقاع حيوى نابض، واللغة، مثل المخ ومع المخ،  ‏دائمة‏ ‏التشكيل‏ والتشكل‏، ‏ فى حين أن “‏الكلام‏” ليس ‏إلا‏ ‏بعض‏ ‏ظاهرها‏ ‏فى ‏سلوك‏ ‏رمزى ‏.

الشعر الحقيقى لا يستعمل الألفاظ إلا كوحدات بنائية لتشكيلات لغوية جديدة شكلا وإيقاعا، حالة كونها تعلن حركية ‏الجدل‏ ‏الحركى ‏الولافى ‏بين‏ ‏الظاهرة‏ ‏الإنسانية الوجودية‏ ‏الأعمق وبين الواقع المتجدد بالفعل الخلاق.‏ فى الشعر ‏تتفجر‏ ‏علاقات‏ ‏وتركيبات‏ ‏جديدة‏، ‏تحيل‏ ‏التشكيل‏ ‏اللغوى ‏السابق‏ ‏‏العاجز‏ ‏عن‏ ‏استيعاب الجارى إلى تشكيل أكثر قدرة وأجمل إيقاعا وأطوع مرونة وأدق تصويرا. ينشأ الشعر، بل يلزم،‏ ‏‏ ‏حين‏ ‏ترفض‏ ‏الظاهرة‏ المعيشة ‏أن‏ ‏تـُسجن فى قوالب ألفاظ أعجز عن احتوائها، إذْ ‏ترفض‏ ‏أن‏ ‏تنحشر‏ ‏‏ ‏فى ‏تركيب‏ لغوى ‏‏جاهز.‏ فالشعر- إذن – هو‏ ‏عملية‏ ‏إعادة‏ ‏تخليق‏ ‏الكيان‏ ‏اللغوى ‏فى ‏محاولة‏ ‏تشكيل ‏أقرب‏ ‏ما‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏الخبرة‏ ‏الوجودية‏ ‏المنبثقة‏ ، تشكيل يجمع بين اللغة والصورة والإيقاع فى تناسق جديد مخترق.

على الجانب الآخر فإن الشارع (جمهرة الناس العاديين) يشارك بفاعلية مستمرة فى حركية اللغة، وإن كانت مشاركته ليست دائما إيجابية، فهى تتوقف على درجة تطور المجتمع، ومستوى ثقافته (بالمعنى الأوسع للثقافة)  إن الحركية السلبية تظهر نتيجة اختفاء أو ضعف الوحدة العامة الضامة للمجتمع (المشروع القومى – لا إله إلا الله – الفكرة المحورية…إلخ). فى أوقات التدهور تترهل الكلمات بالتقريب والتداخل حتى لا تعود قادرة على احتواء معان هادفة نابضة، كما تنفصل اللغة المكتوبة عن اللغة المنطوقة، وكذلك تنفصل اللغة الفصحى عن العامية، ولغة الصفوة عن لغة الشارع ..إلخ

الإنسان العادى، حين يصله التهديد بالتفسخ، قد يقبل التحدى فيحترم التشتت ويعتبره تفكيكا بمثابة دعوة إلى تخليق لغة جديدة، عادة تكون أكثر إيجازا، وأقدر تضمينا، وأسرع أداء، تعينه فى حبكة “التمثيل”، ودقة “التواصل” (وهذان هما وظيفتا اللغة الأساسيتان)، أو قد يحدث العكس حسب مدى قدرة المجتمع على احتواء سلبيات هذا التفكك، باعتبارها فرصة للانذار، ودعوة لتخليق الشعر على أرض الواقع، وبهذا تتخلق الفاظ جديدة لا يوجد مبرر لرفضها (أو قبولها)  جملة على بعضها، علما بأنه لا توجد فى أية لغة مترادفات متطابقة، فما ظهر اللفظ اللاحق إلا لقصور فى السابق !!

كثير من المثقفين على المكاتب يرفضون لغة الشارع جملة وتفصيلا، إذ يعتبرونها أدنى من النظر فى مغزى ظهورها، ومعنى حركيتها، وهم يطلقون عليها أسماء من عليائهم تزعجنى، لكن يبدو أن نبض سماحهم كان يقظا حين أطلق عليها أحيانا اسم “بيئة” إذ لا يوجد أجمل ولا أرحب من أن تغطى اللغة البيئة الثقافة التى خرجت منها.

اللغة كائن متطور أبدا، وهى تتجدد مع كل ظهور حقائق جديدة، أو معايشة تجارب غير مسبوقة، أو اكتشاف عواطف غير موصوفة، وعموما مع اتساع الوعى البشرى المتمادى. اللغة الجديدة، بإيجابياتها أو سلبياتها، تظهر فى الشعر وفى الشارع حين تعجز الأبجدية القائمة عن استيعاب الحاجات الحاضرة، وأيضا حين يتفكك المجتمع، وحين يتمادى الاغتراب ويضعف التواصل باللغة السائدة ،  لكن الشعر يبرز ليجمع شتاتها وهو  يتوج تخليقها البديع، والشارع يساهم بما تيسر كيفما تيسر.

وللحديث بقية: عن المعاجم المتاحف، ومستويات الشعر، وفهم أوسع للشارع “البيئة”.

*******

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *