الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (180) مسيرة الفصام النفسمراضية (5) البداية المشتركة والمسارات المختلفة

الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (180) مسيرة الفصام النفسمراضية (5) البداية المشتركة والمسارات المختلفة

 نشرة “الإنسان والتطور”

نشرة الاثنين: 3-4-2017

السنة العاشرة

العدد:  3502   

 الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (181)

الفصام: مغارة الضياع ووعود الإبداع

مسيرة الفصام النفسمراضية (5)

البداية المشتركة والمسارات المختلفة

 

3-4-2017 

 -1-

رابعا‏: مرحلة ‏البداية‏

مقدمة:

حتى فى هذه المرحلة، وبرغم أنها مرحلة البداية، بداية الفصام، إلا أنها ليست بداية خاصة بالفصام تماما، فمن ناحية نحن ما زلنا نتحرك انطلاقا من “حركية المرحلة المفترقية” بكل احتمالاتها الإيجابية (النمو، والتطور، والإبداع) والسلبية (كل الأمراض والانحرافات النفسية عموما)، وبالتالى فنحن حين نصفها بأنها بداية الفصام لا بد أن نشير إلى أن الملابسات الإضافية هى التى يمكن أن تجعلها كذلك، وأن نضع فى الاعتبار أنها ما دامت بداية تنتمى إلى كل هذه الاحتمالات السالفة الذكر، فتصبح العناية برصدها، والإسراع فى تحديد كل ما يحيط بها، هما السبيل لأن نكون  مساهمين إيجابيين فى تحويل مسارها، حتى لو كانت هى بداية الفصام، حتى لا تكون كذلك، ثم إنها ليست بداية بلا رجعة فهى قابلة للتوقف والمراجعة!.

بعد كل ذلك سوف نتناول هنا ما أسميناه “بداية الفصام” ونحن نضع فى اعتبارنا أنها يمكن أن تسلك أيا من الطرق البديلة باعتبارها مرحلة “مفترق الطرق“، عامة، وأيضا مفترق بالنسْبة للأمراض الأخرى مصداقا لفرض: “الواحدية فى مقابل التفتيت التصنيفى”(1).

هذا، وبما أننى أتكلم عن مراحل تطور النفسيمراضية، فلن أعرج إلى تصنيفات البداية كلينيكيا، فالفصام وعلاجه لا يرتبط بنوع هذه البدايات، بقدر ما يرتبط برصد المرحلة التى وصلت إليها المسيرة، ومواكبتها، وتحمل مسئوليتها، وكل ذلك مرتبط بالنفسامراضية، وليس بالضرورة بنوع البداية سلوكيا، وأعراضا.

 وعموما دعونا نعدد أغلب الأنواع المختلفة للبدايات الإكلينيكية كما يلى:

(1)  ‏البداية‏ ‏المتسللة المتدرجة

(2) البداية ‏النشطة (وهى غير الحادة: أنظر بعد)

(3) البداية  الحادة‏ ‏المتفككة

(4) ‏ البداية  الحالمة (من الحلم  Oneroid)

(5) البداية  المتصلبة‏ ‏الهياجية،

(6) البداية  ‏المتصلبة‏ ‏السـُّـباتية، ‏

(7) البداية  الاكتئابية‏ ‏غير‏ ‏النموذجية

(8) البداية  الهوسية‏ ‏غير‏ ‏النموذجية‏ .‏

مرة أخرى : ومهما اختلفت شكل البدايات سلوكيا، فإن الحكم النهائى، والتناول الفنى العلمى النقدى، كل ذلك يعتمد أساسا على طبيعة وكيفية التعامل مع مرحلة حركية النفسمراضية التى نرصد فيها مسيرة الفصام، وهو ما نركز عليه فى هذا التقديم.

 وتفصيل ذلك :

البداية‏ الدقيقة الحقيقية ‏فى ‏الذهان‏ ‏بصفة‏ ‏عامة‏ ‏ هى بداية‏ ‏فجائية‏ ‏تتم‏ ‏فى ‏لحظة‏ ‏أو‏ ‏جزء‏ ‏من‏ ‏لحظة‏ ‏بشكل‏ ‏محدد، ‏وهى ‏فى ‏الفصام‏ ‏تتصف‏ ‏بنفس‏ ‏الصفات  التى يبدأ بها أى ذهان إذا أحسنـَّا الرصد، والإشكال فى تحديد البداية يبدأ أولا : من عدم تعودنا الاهتمام بالاجزاء الدقيقة جدا للوقت، و ثانيا: لاعتمادنا على الذاكرة بشكل أساسى،

وقد قمت بمواجهة هذا الإشكال فى معظم تناولي لبدايات الذهان وفى نفس الوقت لم أتصور كيف يكون هناك مرض بلا بداية، بما فى ذلك اضطرابات الشخصية التى يزعمون أنها كذلك (بلا بداية)، وسوف أعرض لعيـِّنة من موقفى هذا فيما يتعلق برصد البدايات عموما  دون تخصيص لبداية الفصام حتى أؤكد أن ثمة بداية باستمرار، وأن التشابه يكون أكثر بين كل الاحتمالات الإيجابية والسلبية كلما اقتربنا من البدايات.

 نقرأ معا ما ورد فى الكتاب الأم  (2) عن بداية أخرى:

…لا بد أن نذكـِّر الفاحص الكلينيكى بضرورة البحث عن البداية الحقيقية للمرض، لا إجمالا، ولكن بالمِجهر المكبر، أى ‏بتدقيق‏ ‏مبالِغ‏، ‏وهذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏قد‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏أسميتـُها‏ ‏بداية‏ ‏البداية‏ The onset of the onset ‏لأن‏ ‏السؤال‏ ‏عن‏ ‏البداية‏ ‏جزافا‏ ‏لاشك‏ ‏سوف‏ ‏يغفل‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏اللحظات‏ ‏بصورة‏ ‏أو‏ ‏بأخرى، ‏وعلى ‏السائل‏ ‏ألا‏ ‏يسأل المريض، ‏وكأنه محقق، ‏ ‏عن‏ ‏تحديد‏ ‏اليوم‏ ‏من‏ ‏الأسبوع‏ ‏وتاريخه‏ ‏من‏ ‏الشهر‏، ‏ولكن‏ ‏أن‏ ‏يسأله‏ ‏أسئلة‏ ‏واضحة‏ ‏ومفتوحة‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ وغير مألوفة، ‏ومفاجـِئة‏ ‏بشكل‏ ‏ما‏، ‏كأن‏ ‏يقول‏ ‏له‏ “متى ‏كان‏ هذا”‏؟ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يحدد‏ ‏ماذا‏ ‏يقصد‏ ‏بـ”هذا”‏، ‏أو‏ ‏أن‏ ‏يسأله‏ ‏بطريق‏ ‏غير‏ ‏مباشر‏ ‘‏أين‏ ‏كنت‏ ‏تجلس‏ – ‏أو‏ ‏مع‏ ‏من‏ – ‏عندما‏ ‏حدث‏ ‏ما‏ ‏حدث؟” ‏أو‏ “‏هل‏ ‏كان‏ ‏الوقتُ‏ ‏نهارا‏ ‏أم‏ ‏ليلا”، ‏وهو‏ ‏يقصد‏ ‏بذلك‏ ‏البحث ‏‏عن‏ ‏هذه‏ ‏الخبرة  “‏غير‏ ‏المسماة” ‏التى ‏سبق‏ ‏شرحها، ‏لذلك‏ ‏يحسـُن‏ ‏عدم‏ ‏تسميتها‏ باسم  ‏المرض‏ بشكل مباشر، ‏فلا‏ ‏تسأل‏ ‏المريض‏ ‏متى ‏بدأ‏ “‏المرض”‏، ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏المريض‏ ‏قد‏ ‏لا‏ ‏يعتبر‏ ‏ذلك‏ ‏مرضا‏ ‏أصلا‏، ‏وقد‏ ‏يحدده‏ ‏بفترة‏ ‏لاحقة‏، ‏سواء‏ ‏فترة‏ ‏ظهور الأعراض‏، ‏أو‏ ‏فترة‏ ‏زيادة الإعاقة  ‏حتى ‏التعجيز‏ ‏الذى ‏ألجأه‏ ‏إلى ‏الإستشارة‏.‏

خطوات البداية

ويمكن تقسيم خطوات البداية إلى مراحل متتالية على الوجه التالى:

  • ‏بداية‏ ‏البداية‏ The onset of the onset:‏

‏ ‏هذا‏ ‏التعبير‏ ‏الذى ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏أشرنا إليه‏ ‏‏هو‏ ‏الدال‏ ‏مباشرة‏ ‏على ما ‏أعنيه ‏ ‏بالفجائية المستترة، ‏ولا أجد‏ ‏مناصا‏ ‏هنا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏أكرر‏ ‏أن‏ ‏المريض‏ ‏قد‏ ‏لايذكـُر‏ ‏اليوم‏ ‏أو‏ ‏الشهر‏ ‏أو‏ ‏السنة‏ ‏أو‏ ‏المدة‏ ‏التى ‏مضت‏ ‏على ‏هذه‏ ‏اللحظة، ‏إلا‏ ‏أنه يمكن أن يذكر تفاصيل واكبت لحظة النفلة،  ‏يذكرها‏ ‏مباشرة‏ ‏باعتبارها‏ ‏بداية‏ ‏المرض، ‏وقد‏ ‏يـُرجع‏ ‏المرض‏ ‏بأثر‏ ‏رجعى ‏إلى ‏ماقبل‏ ‏ذلك‏ ‏كما‏ ‏ذكرنا‏ ‏فى ‏المرحلة‏ ‏السابقة، ‏كما‏ ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏يحدد بدايته‏ ‏بفترة‏ ‏لاحقة‏ حين ظهرت الأعراض وهى ‏التى ‏نسميها‏ فى العادة “‏البداية” ونكتفى بها، ‏وكل‏ ‏مريض‏ ‏يستعمل‏ ‏لوصف‏ ‏هذه‏ ‏اللحظة‏ ‏صفات‏ ‏خاصة‏ ‏به، ‏فأحيانا‏ ‏مايسميها‏ “‏الحادث” ‏أو‏ “‏الكسر” ‏أو‏ “‏التغيير” ‏أو‏ “‏القلب” (‏الانقلاب‏), ‏أو‏ “‏المفاجأة” ‏أو‏ “‏العَمْلة”, ‏وكثيرا ‏ ‏ما ينسبها ‏ ‏إلى ‏حادث‏ ‏بذاته‏ ‏قد‏ ‏يؤخذ‏ ‏هذا الحادث على ‏أنه‏ ‏سبب‏ ‏مرسِّب، ‏وقد‏ ‏لايكون‏ ‏له‏ ‏علاقة‏ ‏مباشرة‏ ‏بالبداية، ‏وأحيانا‏ ‏مايعزوها‏ ‏إلى ‏حلم‏ ‏بذاته، ‏وأحيانا‏ ‏ماتحدث‏ ‏أثناء‏ ‏عمل‏ ‏خاص‏ ‏له‏ ‏دلالته، ‏إذ‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏هو‏ ‏المراد بالاحتجاج عليه بالمرض‏ ‏بوجه‏ ‏خاص،‏ ‏فتعلن‏ ‏ثورة‏ ‏الداخل لكنها تُجهض: فهو المرض!!.‏

أمثلة دالة:

كثيرا‏ ‏ما يكون‏ ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏هو‏ ‏الاستذكار، و‏أحيانا‏ ‏يكون اليوم‏ ‏هو‏ ‏يوم‏ ‏بداية‏ ‏العام‏ ‏الدراسى، ‏وربما‏ ‏يكون‏ ‏يوم‏ ‏بداية‏ ‏تنفيذ‏ ‏جدول‏ ‏ما، ‏ولعل من‏ ‏أهم‏ ‏الحالات‏ ‏التى استرعت انتباهى‏ ‏حالة‏ ‏طالب‏ ‏نابه‏ ‏حصلت‏ ‏له‏ ‏هذه‏ ‏البداية‏ ‏بوضوح‏ ‏تام‏ ‏أثناء‏ ‏لعبه دور من أدوار‏ ‏الشطرنج‏، ‏ ‏وكان‏ ‏يعرف‏ ‏عنه‏ ‏تفوقه‏ ‏الخاص‏ ‏في‏ ‏لعبه، ‏وكان‏ ‏تفسيرى‏ ‏لهذا‏ ‏الانتقاء‏ ‏بالذات‏ ‏أنه‏ – فجأة- ‏رفض‏ ‏التفكير‏ الحساباتى ‏الشطرنجي‏ ‏المنطقى‏ ‏بوجه‏ ‏خاص، وأن هذا الرفض كان بمثابة اعلان احتجاجىّ على طغيان غير مشروع للمخ الأحدث (أو النصف الطاغى فى المخ) ، وكأن هذا الرفض كان تعبيرا عن رفض الاغتراب الحديث عامة، وهو الكامن وراء التنافس الأعمى، والسعار إلى التفوق، على حساب كل ما هو غير ذلك !.

وفى حالة أخرى وصلتنى رسالة ذات دلالة من لغة المريض الخاصة عن بداية المرض، حيث أجابنى مريض هوسىّ أن المرض بدأ عنده لحظة الولادة، وحين سألته : إذن متى شُفـِىَ؟ ذكر التوقيت الذى بدأت عنده الحالة الحالية (الهوس)، وربطتُ بين إجابته هذه وبين فرض “صدمة الولادة ” لأوتو رانك Otto Rank ، وبين اعتباره حالة الهوس التى طرأت عليه هى إعلان لبداية شفائه من مرض هذه الحياة المغتربة، التى كانت مفروضة عليه بما استتبعها!! …!!

وقد لا‏ ‏تظهر‏ ‏البداية‏ ‏فى ‏أثناء‏ ‏اليقظة‏ ‏ويحكيها‏ ‏المريض‏،‏ ‏باعتبار‏ ‏أنه‏ ‏استيقظ‏ ‏فوجد‏ ‏نفسه‏ ‏قد‏ ‏تغير، ‏وفى ‏ثقافتنا الشعبية‏ قد ‏يقولون‏ ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏الخبرة‏ أن “البنت: ‏اتبدّلت وهيّا نايمة!”, إذا كانت المريضة أنثى مثلا، وهى إشارة إلى أن التغيـّر الذى حدث هو تغير  نوعى حتى يكاد يصبح بديل الشخص الأصلى، لكن التفسير الشعبى يتمادى إلى أنها – غالبا – إشارة إلى أن ما أصبها هو نتيجة أن الجان مسَّها بلمسة من تحت الأرض، وهو ما يقابل إحلال وعى آخر (أو مستوى وعى، مخ) محل آخر بلغة النفسمراضية التركيبية الأحدث، وقد‏ ‏يدل‏ ‏إقرار أن البداية حدثت أثناء النوم أن النقلة النوعية ‏حدثت‏ ‏أثناء‏ ‏”نشاط الحلم”  فى محاولته إعادة التشكيل التى يقوم بها كل ليلة، لكنها أجْهـِضـَتْ فكانت البداية، وبدأ المرض.

  • الدلالات‏ ‏النفسمراضية ‏لطبيعة‏ ‏هذه‏ ‏البداية‏ ‏:

 ‏إن‏ ‏لهذه‏ ‏البداية‏ ‏، مهما ضؤلت معالمها السلوكية، عدة‏ ‏دلالات‏ ‏نفسامراضية، منها  :‏

‏1- ‏إنها‏ ‏إعلان‏ ‏لتغير‏ ‏نوعى ‏نتيجة‏ ‏لتراكم‏ ‏كمِّى ‏كان‏ ‏يتجمع‏ ‏بالداخل‏.‏

‏2- ‏إنها‏ ‏إعلان‏ ‏ضمنى ‏لتغير‏ ‏الوعى = الوساد‏ ‏الشعورى ( ‏وليس‏ ‏هنا‏ ‏مجال‏ ‏لتفصيل‏ ‏ما أعنيه‏ ‏بالوساد‏ ‏الشعورى ‏كوظيفة‏ ‏أساسية‏, فأكتفى بأن  أشير إلى أنه مستوى وعى اليقظة الظاهر الغالب)، و ‏هذا‏ ‏التغير‏ ‏فى ‏نوع‏ ‏الوعى ‏هو‏ ‏الذى ‏يعطى ‏التفسير‏ ‏المباشر للشعور بالاختلاف برغم أن ‏معظم ‏ ‏الذى ‏يجرى من مظاهر السلوك غالبا ما يظل‏ ‏يجرى ‏كما‏ ‏كان‏ ‏يجرى، ‏ولكن‏…‏بطعم‏ ‏آخر، ‏أو‏ ‏بلا‏ ‏طعم‏ ‏حسب‏ ‏اختلاف‏ ‏تعبيرات‏ ‏المرضى.‏

‏3- ‏إنها‏ ‏إعلان‏ ‏لكسر‏ ‏الغلاف‏ ‏الخارجى ‏للشخص، ومن ثـَمَّ‏ ‏اختراق‏ ما يسمى بحدود الذات،  ‏بقوى ‏أخرى ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏من‏ ‏المفروض‏ ‏أن‏ ‏يـُسمح‏ لها  ‏بالتعبير‏ ‏أو‏ ‏الظهور‏ ‏إلا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏هذا‏ ‏الغلاف‏.‏

‏4- ‏إنها‏ ‏إعلان‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏حدث‏ – ‏نوعيا‏- ‏لايمكن‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏يكمل‏ ‏إلى ‏أعلى ‏أو‏ إلى ‏أسفل‏ ‏قليلا‏ ‏أو‏ ‏كثيرا، ‏وبالفحص‏ ‏المجهرى (‏المكبـِّر‏) ‏للتغيـرات‏ ‏على ‏المدى ‏الطويل‏ ‏يمكن‏‏ ربط ذلك بطبيعة نبضات الإيقاع الحيوى التى تؤكد أنه‏ ‏بعد‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏البداية، ‏تستحيل‏ ‏العودة‏، فالخطوات التالية إما نحو النمو والإبداع أو على الطريق إلى الفصام أو مكافئاته المرضية.

خلاصة القول:

إن البصيرة‏ ‏بأثر‏ ‏رجعى Insight in retrospect : ‏بعد‏ ‏هذه‏ ‏البداية‏ ‏تظهر‏ ‏ماسبق‏ ‏أن‏ ‏أشرنا‏ ‏إليه‏ ‏من أن إدراك توقيت وطبيعة البداية قد يأتى لاحقا بعد التغير السلوكى المرضى الصريح، ‏ويشمل‏ ‏ذلك‏:‏

  • ‏سبق‏ ‏التوقيت‏ Antedating‏أن الفصامى ‏ ‏قد‏ ‏يرجع‏ ‏بداية‏ ‏المرض‏ ‏إلى ‏ما كان‏ ‏يحس‏ ‏به‏ ‏غامضا‏ ‏قبل‏ ‏ذلك‏ حتى قبيل المرض، ثم كيف اتضحت له معالمه بعد إعلان المرض وكأن المرض أظاء الظلمة.

  • إعادة‏ ‏التفسير‏ Reinterpretation ‏ ‏ ‏قد‏ ‏يُراجع المريض ‏ ‏تفسير‏ أفعاله ، بل ‏أحلامه‏ أحيانا ‏بشكل‏ ‏أكثر‏ ‏مباشرة‏ ‏وأوضح‏ ‏تحديدا، ‏وقد‏ ‏يختلط‏ ‏عليه‏ ‏أمر‏ ‏ما إذا‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏الحلم‏ ‏مثلا‏ ‏قد‏ ‏حدث‏ ‏قبل‏ “‏الكسر” (‏بداية‏ ‏البداية‏), ‏أم‏ ‏بعد‏ ‏الكسر‏, ‏وهذا‏ ‏دال‏ ‏على ‏أن‏ ‏الزمن‏ ‏المسجل‏ ‏فى ‏الداخل ‏يختلف‏ ‏عن‏ ‏الزمن‏ ‏المسجل‏ ‏فى ‏الوعى الظاهر، ‏وبمجرد‏ ‏إزالة‏ ‏الحاجز‏ ‏بين‏ ‏الاثنين، ‏تتقارب الوحدات الزمنية، ‏ ‏ويصبح‏ ‏الحدث‏ ‏الذى ‏كان‏ مخفيا فى داخل الداخل، وكأنه ضمن أحداث الواقع الظاهر.

ولمزيد من الإيضاح

 ‏فى تأكيدى المتكرر على الإقرار بفرض أن‏ ‏الجنون‏ ‏اختيار (3)، ‏كنت ومازلت أقابل‏ ‏الاحتجاج‏ ‏تلو‏ ‏الاحتجاج‏ ‏من‏ ‏العصابيين‏ ‏وأغلب الأصحاء العلماء‏ (!) ‏معا‏ ‏بأن‏ ‏هذا‏ ‏منطق‏ ‏غير مقبول‏: ‏أما‏ ‏العصابيون‏ (والأصحاء)  ‏فلعلهم‏ ‏يريدون‏ ‏أن‏ ‏يحتفظوا‏ ‏بخط‏ ‏الرجعة‏ ‏لأنفسهم‏ ‏ربما “‏‏يفعلونها‏ ‏فى ‏الأزمات‏ ‏دون‏ ‏مسئولية” ظاهرة, ‏أما‏ ‏العلماء‏ ‏فعندهم‏ ‏كل‏ ‏الحق‏ ‏فى ‏الاحتجاج‏ ‏على ‏ما يحمله‏ ‏هذا‏ ‏التعبير‏ ‏من‏ ‏تناقض‏، ‏ومرارا وتكرارا‏ ‏حاولتُ‏ ‏أن‏ ‏أفسر‏ ‏معنى ‏هذا الاختيار وحدوده، ‏خاصة ‏حين‏ ‏تحدثت‏ ‏باللغة‏ ‏البيولوجية‏ ‏عن‏ ‏الوراثة‏ (4)، ‏وحاولت‏ ‏أن‏ ‏أتكلم‏ ‏على ‏لسانها‏ ‏مباشرة، ‏والحل‏ ‏الذى ‏يفسر‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏البلبلة‏ ‏هى ‏أن‏ ‏الجنون‏ ‏يصبح‏ ‏اختيارا‏ ‏بتعببير ‏ ‏أدق‏ ‏حين نقول: أنه تبين للمجنون (الفصامى بوجه خاص) ‏‏أنه‏ ‏قد لجأ لهذا الحل المرضى بعد أن ضاقت به السبل، ‏وبقدر‏ ‏مايعترض‏ ‏الهستيرى ‏والعصابى ‏بصفة‏ ‏عامة‏ ‏على ‏مسئوليته‏ ‏عن‏ ‏ظهور‏ ‏المرض‏ ‏وظهور‏ ‏الأعراض ‏يوافق‏ ‏الذهانى (‏الفصامى خاصة‏) ‏ضمنا‏ ‏(أو صراحة أثناء العلاج المكثف عادة) على ‏احتمال‏ ‏أنه‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏اختار‏ ‏هذا‏ ‏الحل، ‏ولكنه‏ ‏لو‏ ‏قوبل‏ ‏قبل‏ ‏هذا‏ ‏الكسر‏ ‏وقيل‏ ‏له‏ ‏هذا‏ ‏الرأى ‏ ‏لثار‏ ‏ثورة‏ ‏العصابى ‏وأكثر، ‏ولكن‏ ‏بمجرد‏ ‏حدوث‏ ‏هذه‏ ‏البداية‏ ‏فإن‏ ‏المريض قد‏ ‏يقرّ‏ ‏بشكل‏ ‏بسيط‏ ‏ومباشر‏ ‏أن‏ ‏مابه‏ ‏هو‏ ‏اختياره، ‏وأحيانا‏ ‏مايقول‏ ‏إنه‏ “‏الحل”, ‏وأحيانا‏ ‏مايقول‏ “‏هكذا‏ ‏آحسن”.   ويتعلق‏ ‏بهذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏ملاحظتان‏:‏

‏(i) ‏شعور‏ ‏المريض، ‏وشكواه، ‏فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏على ‏أنه‏ ‏مدِّع‏ ‏أو‏ ‏كالمدع، وقد يقر بذلك فيتصور ‏الطبيب‏ (‏والفاحص‏) أن‏ ‏هذا‏ ‏اعتراف المتصنـِّع، ‏ولو‏ ‏كان‏ ‏الأمر‏ ‏كذلك‏ ‏فلماذا‏ ‏يعترف‏ ‏المتصنع‏ ‏أنه‏ ‏متصنع، ‏وتفسير إقرار المريض هذا ‏بأثر‏ ‏رجعى هو أن الكسرة الذهانية قد كشفت عن  ‏دور‏ ‏إرادته‏ ‏الداخلية فيما‏ حدث و ‏يحدث‏- ‏فهو‏ ‏لذلك‏ ‏يتصور، ‏بغير‏ ‏وضوح، ‏أن‏ ‏ذلك‏ ‏تمثيل‏ ‏أو‏ ‏ماشابه‏، وأحيانا ما يقولها الفصامى بالألفاظ، “ماتصدقنيش يا دكتور، دانا باتصنّع” ‏

‏(ii) ‏شعور‏ ‏المريض‏ ‏بالذنب‏ “‏الخاص” (‏ليس‏ ‏كما‏ ‏هو‏ ‏الحال‏ ‏فى ‏الاكتئاب‏ ‏بمعنى ‏الإثم‏) ‏ولكنه شعور متعلق بوعيه‏ ‏‏ ‏الضمنى ‏بإرادته‏ ‏التى ‏ظهرت‏ ‏مسئولة‏ ‏مؤخرا‏ ‏عما‏ ‏حدث، ‏وبما‏ ‏أن‏ ‏ماحدث‏ ‏كان‏ ‏ممنوعا‏ ‏من‏ ‏الظهور‏ ‏ثم‏ ‏ظهر “ضد الممنوع”  ‏بناء‏ ‏على ‏قرار‏ ‏داخلى (‏جزئيا‏ ‏بالضرورة‏) ‏فإنه‏ ‏مسئول‏ ‏عن‏ ‏ذلك، ‏وبالتالى ‏فهو‏ ‏مذنب‏ ‏بشكل‏ ‏ما‏، فى حق نفسه كما فى حق الحياة.‏

ونكمل المزيد الأسبوع القادم فى نفس المنطقة “مرحلة البداية”

[1] – يحيى الرخاوى: “الأمراض النفسية: اضطراب واحد وتجليات مختلفة؟  أم أمراض عديدة متميزة؟” (نشرة: 27-2-2016) و(نشرة: 29-2-2016)

[2] – يحيى الرخاوى: “دراسة فى علم السيكوباثولوجى”، دار عطوة (القاهرة)، 1979  ص 167- 168

[3] – نشرة:  (نشرة 13-7-2008 زخم الطاقة، والإيقاع الحيوى، واختيار الجنون “1”) و(نشرة 20-7-2008 زخم الطاقة، والإيقاع الحيوى، واختيار الجنون “2”)

[4] – نشرة: 16-5-2016

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *