الرئيسية / الأعمال العلمية / كتب علمية / كتاب: مراجعات فى لغات المعرفة

كتاب: مراجعات فى لغات المعرفة

  • الإهداء والمقدمة 
  • عن مضمون مفهوم كلمة “العلم” بين الاختزال والخلط والترهل 
  • اللغة العربية وتشكيل الوعى القومى 
  • العالم بين استحالة الإلحاد وسجن التدين السطحى 
  • الإيمان… ومنهح المعرفة الكلية المباشرة 
  • المعرفة… والجسد (اختزال فطرة الناس و (الوجود) إلى عقل بلا جسد) 

مراجعات فى لغات المعرفة

حول مفهوم العلم، ونبض اللغة

وتشكيل الوعى والتدين والفطرة والإيمان

أ.د. يحيى الرخاوى

إن الذين عنوا بإنشاء هذه السلسة ونشرها، لم يفكروا إلا فى شئ واحد، هو نشر الثقافة من حيث هى ثقافة، لا يريدون إلا أن يقرأ أبناء الشعوب العربية. وأن ينتفعوا، وأن تدعوهم هذه القراءة إلى حياة عقلية أرقى وأخصب من الحياة العقلية التى نحياها.

طه حسين

إهـــداء

إلى جيل

“عمر محمد يحيى الرخاوى

أملا فى مالا نعرف …”

مقدمة

إننا أحوج ما نكون فى هذه المرحلة الخطيرة من تطورنا إلى أن نلتزم الحذر كل الحذر ونحن نستعمل المفاهيم الشائعة، ونحن يخيل إلينا أننا نعرفها خير المعرفة وأدقها، مفاهيم مثل “العلم والتدين والإيمان، والفطرة، والوعى”، ويبدو هذا بالغ الأهمية ونحن نحاول التوليف بين المناهج المختلفة، أو نحن نحاول التمييز المحدود بين المنظومات المتعددة.

وتبدأ الموضوعات بمراجعة لكلمة “العلم” واستعمالاتها المتعددة، وكيف تشوهت بالاختزال أو الخلط أو الترهل أو بذلك كله، ثم وقفة مراجعة لما آلت إليه إشكالة اللغة العربية فى علاقتها بتشكيل الوعى القومى، وخطورة التمادى فى الانسلاخ عنها، أو البدء بغيرها ونحن نتعرف على أبعاد ووجدان الأمة ونبض عواطفها، أما الموضوعات الأخرى فهى تدور فى المنطقة الحرجة حو العلم والإيمان وهى المنطقة التى تشوهت من فرط الخلط فى المنهج، أو احتكار مصدر المعرفة، أو اختزال أدوات النظر.

 وقد سبق أن قدمت بعض هذه الموضوعات إما فى ندوات ثقافية أو نشرت فى مناسبات خاصة، والباقى ينشر لأول مرة لتكامل القضية المعروضة.

أ.د. يحيى الرخاوى

عن‏ “مضمون” ‏مفهوم‏ ‏كلمة‏ “العلم”:‏

بين‏ ‏الاختزال‏ ‏والخلط‏ ‏والترهل

حين‏ ‏نحاول‏ ‏تعريف‏ “ما‏ ‏هو‏ ‏العلم” ‏فى ‏ندوة‏ ‏عن‏ ‏علاقة‏ ‏الإعلام‏ ‏العلمى ‏بالثقافة‏ ‏العلمية‏، ‏ينبغى ‏أن‏ ‏ننتقى ‏جانب‏ ‏التعريف‏ ‏الذى ‏يخدم‏ ‏قضية‏ ‏هذه‏ ‏الندوة‏ ‏أساسا‏، ‏إذ‏ ‏يخاطب‏ ‏المتلقى ‏النوعى ‏فيها‏، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏يبدو‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏مفر‏ ‏من‏ ‏مراجعة‏، ‏تفصيلية‏ ‏نسبيا‏، ‏حتى ‏يتضح‏ ‏الهدف‏ ‏الذى ‏عقدت‏ ‏من‏ ‏أجله‏ ‏الندوة‏ ‏أصلا‏، ‏إذ‏ ‏ننقى ‏الكلمة‏ ‏مما‏ ‏شابها‏ ‏من‏ ‏خلط‏، ‏وما‏ ‏أصابها‏ ‏من‏ ‏اختناق‏، ‏وما‏ ‏اعتراها‏ ‏من‏ ‏ترهل

وقد‏ ‏يكون‏ ‏معنى ‏اختيار‏ ‏واحد‏ ‏مثلى ‏لهذه‏ ‏المداخلة‏، ‏ممن‏ ‏ليست‏ ‏له‏ ‏صفة‏ ‏علمية‏ “بحتة”، ‏هو‏ ‏من‏ ‏ضمن‏ ‏ما‏ ‏يحدد‏ ‏المطلوب‏ ‏من‏ ‏تقديم‏ ‏هذا‏ ‏التوضيح‏ ‏العملى ‏اللازم‏ ‏حيث‏ ‏إننى ‏بذلك‏ ‏قد‏ ‏يمكن‏ ‏اعتبارى ‏ممثلا‏ ‏للمستهلك‏ ‏لمفهوم‏ ‏وكلمة‏ “العلم”. ‏

وبداية‏ ‏أنبه‏ ‏أننى ‏اهتديت‏-‏مؤخرا‏- ‏إلى ‏تعريف‏ ‏للثقافة‏ ‏العلمية‏، ‏يقول‏:‏

“… ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏التسخير‏ ‏العملى ‏لمعطيات‏ ‏العلم‏ ‏فى ‏تسهيل‏ ‏وتنظيم‏ ‏السلوك‏ ‏اليومى ‏المادى ‏الظاهر‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏التقنية‏ (‏التكنولوجيا‏)، ‏فإن‏ ‏تسخير‏ ‏معطيات‏ ‏العلم‏ ‏فى ‏تشكيل‏ ‏وعى ‏الناس‏ ‏وتنظيم‏ ‏مستويات‏ ‏الوجود‏…..، ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏هو‏ ‏المعنى ‏من‏ ‏هذا‏ ‏المفهوم‏ ‏الجديد‏ ‏المسمى ‏الثقافة‏ ‏العلمية”.‏

ثم‏ ‏تأتى ‏هذه‏ ‏المناسبة‏ ‏لأتبين‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التعريف‏ ‏ذاته‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏تعديل‏ ‏وإيضاح‏، ‏فتعبير‏ “معطيات‏ ‏العلم” ‏لايعنى “فعل‏ ‏العلم” ‏ولا‏ “عملية‏ ‏العلم” ‏ولا‏ “حقيقة‏ ‏العلم” – ‏وبالتالى ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تقتصر‏ ‏الثقافة‏ ‏العلمية‏ ‏على ‏تسخير‏ ‏معطيات‏ ‏العلم‏، ‏حتى ‏لو‏ ‏تحدد‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التسخير‏ ‏هو‏ ‏لصالح‏ ‏تعميق‏ ‏الوعى ‏ودفع‏ ‏الإبداع‏.‏

وهأنذا‏ ‏أحاول‏ ‏التقدم‏ ‏بتعريف‏ ‏أكثر‏ ‏تطورا‏، ‏وربما‏ ‏أشمل‏ ‏إحاطة‏ ‏يقول‏:‏

الثقافة‏ ‏العلمية‏ ‏هى ‏تحقيق‏ ‏التطبيق‏ ‏العملى “لفعل‏ ‏العلم” – ‏تفكيرا‏ ‏وإنجازا‏ ‏وناتجا‏- ‏فى ‏إعادة‏ ‏تنظيم‏ ‏الوجود‏ ‏البشرى ‏لعامة‏ ‏الناس‏، ‏حالا‏ ‏ومستقبلا‏، ‏وخاصة‏ ‏فى ‏مجالى ‏تعميق‏ ‏الوعى ‏وتحريك‏ ‏الإبداع‏.‏

فما‏ ‏هو‏ “فعل‏ ‏العلم”: ‏تفكيرا‏ ‏وإنجازا‏ ‏وناتجا‏ ‏؟

ومن‏ ‏هم‏ “عامة‏ ‏الناس” ‏الذين‏ ‏سوف‏ ‏يسهم‏ ‏العلم‏ ‏فى ‏تنظيم‏ ‏وجودهم‏ ‏بتعميق‏ ‏الوعى، ‏وتحريك‏ ‏الإبداع؟

ها ‏‏كم‏ ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏خطرلى ‏من‏ ‏تنويعات‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏تمييز‏ ‏وتوضيح‏ ‏مبدئييـن‏، ‏وكلها‏ ‏فيها‏ ‏كلمة‏ “علم” ‏مع‏ ‏أنها‏ ‏تختلف‏ ‏فيما‏ ‏بينها‏ ‏اختلافا‏ ‏ينبغى ‏تمييزه‏.‏

مفهوم‏ ‏العلم‏ ‏من‏ ‏الإحاطة‏ ‏والشمول‏ ‏إلى ‏الاختزال‏ ‏والثبات‏:‏

إن‏ ‏ما‏ ‏لحق‏ ‏بكلمة‏ ‏العلم‏ ‏مؤخرا‏، ‏يكاد‏ ‏يخرج‏ ‏بما‏ ‏هو‏ ‏علم‏ ‏عن‏ ‏أصل‏ ‏مفهومه‏، ‏بل‏ ‏إنه‏ ‏مسئول‏ – ‏ولو‏ ‏جزئيا‏- ‏عن‏ ‏استعماله‏ ‏فيما‏ ‏هو‏ ‏ضده‏، ‏فأنت‏ ‏حين‏ ‏تصف‏ ‏بحثا‏ ‏ما‏ ‏بأنه‏ “علمى” ‏وآخر‏ ‏أنه‏ “غير‏ ‏علمى”، ‏أو‏ ‏حين‏ ‏تصف‏ ‏حديثا‏ ‏بأنه‏ “علمى” ‏أو‏ ‏أنه‏ “غير‏ ‏علمى”، ‏أو‏ ‏حتى ‏حين‏ ‏تصف‏ ‏ثقافة‏ ‏بأنها‏ “علمية” ‏وأخرى ‏بأنها‏ “غير‏ ‏علمية”، ‏وكذلك‏ ‏الإعلام‏.. ‏إلخ‏. ‏إنما‏ ‏تفعل‏ ‏ذلك‏ ‏بتسليم‏ ‏تلقائى، ‏وكأننا‏ ‏اتفقنا‏ ‏مـرة‏ ‏واحدة‏، ‏وإلى ‏الأبد‏، ‏على ‏ما‏ ‏هو‏ ‏علمى ‏وما‏ ‏هو‏ ‏غير‏ ‏ذلك‏ (‏مع‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏لم‏ ‏يحدث‏، ‏وربما‏ ‏لن‏ ‏يحدث‏ ‏أبدا‏ ‏بهذه‏ ‏الصورة‏ ‏الوثقانية‏ ‏المحدودة‏، ‏بل‏ ‏الأهم‏: ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يصح‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏هكذا‏ ‏أصلا‏).‏

وقد‏ ‏حدث‏ ‏هذا‏ ‏التشويه‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏ ‏نتيجة‏ ‏عوامل‏ ‏كثيرة‏ ‏أهمها‏:‏

‏1- ‏غلبة‏ ‏أو‏ ‏اقتصار‏ ‏استعمال‏ ‏كلمة‏ ‏علم‏ ‏على ‏العلوم‏ ‏الطبيعية‏ (‏وأحيانا‏ ‏العلوم‏ ‏البحتة‏، ‏أو‏ ‏العلوم‏ ‏المنضبطة‏ ‏أو‏ ‏المحددة‏).‏

‏2- ‏ارتباط‏ ‏كلمة‏ ‏علم‏ (‏أكثر‏ ‏فأكثر‏) ‏بكم‏ ‏وطريقة‏ ‏تقديم‏ ‏المعلومات‏ ‏والنتائج‏ (‏فى ‏شكل‏ ‏أرقام‏ ‏وإحصاءات‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏).‏

‏3- ‏قصر‏ ‏كلمة‏ ‏علم‏ ‏على ‏ما‏ ‏ثبت‏ ‏بالتجربة‏ ‏مع‏ ‏الإقلال‏ ‏النسبى ‏من‏ ‏دور‏ ‏الملاحظة‏ ‏بطبقاتها‏: ‏سواء‏ ‏كانت‏ ‏الملاحظة‏ ‏المقننة‏ ‏أو‏ ‏الملاحظة‏ ‏المباشرة‏ ‏المفصلة‏، ‏أو‏ ‏الملاحظة‏ ‏المتضمنة‏ ‏للباحث‏ ‏داخل‏ ‏الظاهرة‏ (‏الفينومينولوجية‏).‏

‏4- ‏التأكيد‏ (‏لدرجة‏ ‏استبعاد‏ ‏ما‏ ‏دون‏ ‏ذلك‏) ‏على ‏ضرورة‏ ‏الإثبات‏ ‏بالإعادة‏ (‏المكررة‏) ‏قبل‏ ‏السماح‏ ‏بتصنيف‏ ‏الناتج‏ ‏بالملاحظة‏ ‏تحت‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏علم‏.‏

‏5- ‏المغالاة‏ ‏فى ‏أهمية‏ ‏ارتباط‏ ‏كلمة‏ “علم” ‏بكلمة‏ “معمل”.‏

‏6- ‏ارتباط‏ ‏كلمة‏ ‏علم‏ ‏بكم‏ ‏الوثائق‏ ‏والمستندات‏ ‏المدعـمة‏ (‏وخاصة‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بالعلوم‏ ‏الحكائية‏ ‏أو‏ ‏العلوم‏ ‏التاريخية‏).‏

‏7- ‏ارتباط‏ ‏كلمة‏ ‏علم‏ ‏فى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الأحيان‏ ‏بالملموس‏ ‏والمحسوس‏ ‏دون‏ ‏المستنتج‏ ‏والمستخرج‏.‏

‏8- ‏الخلط‏ ‏بين‏ ‏العلم‏ ‏كماهية‏، ‏ونشاط‏ ‏متميز‏، ‏وبين‏ ‏الحصول‏ ‏على “شهادة” ‏أو‏ ‏درجة‏ ‏أو‏ ‏وظيفة‏ ‏لها‏ ‏صفة‏ ‏لاحقة‏ ‏تسمـى ‏علمية‏.‏

‏9- ‏تخصيص‏ ‏مؤسسات‏ ‏بذاتها‏ ‏لتتصف‏ ‏بصفة‏ “العلم” ‏وكأنها‏ ‏نافية‏ – ‏ضمنا‏- ‏لما‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏خارجها‏ ‏باعتباره‏ ‏ليس‏ ‏علما‏ (‏أو‏ ‏ليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏علما‏)، ‏مع‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏بداخل‏ ‏هذه‏ ‏المؤسسات‏ ‏فى ‏الدول‏ ‏النامية‏ ‏كثيرا‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏هو‏ ‏الذي‏: ‏ليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏علما‏. (‏مثل‏ ‏بعض‏ ‏مراكز‏ ‏البحوث‏، ‏وأحيانا‏ ‏الجامعات‏).‏

وبدلا‏ ‏من‏ ‏البدء‏ ‏بمحاولة‏ ‏تعريف‏ ‏العلم‏، ‏سوف‏ ‏أحاول‏ ‏أن‏ ‏أقدم‏ ‏عددا‏ ‏من‏ ‏المصطلحات‏ ‏غير‏ ‏الشائعة‏ ‏التى ‏يجدر‏ ‏أن‏ ‏نفكر‏ ‏فيها‏ ‏بهدوء‏، ‏وربما‏ ‏ندعو‏ ‏إلى ‏استعمالها‏ ‏تحديدا‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏تتداخل‏ ‏المفاهيم‏ ‏بمجرد‏ ‏أن‏ ‏ننطق‏ ‏كلمة‏ “العلم” ‏خاصة‏ ‏فى ‏صيغة‏ ‏المضاف‏ ‏إليه‏، ‏وفى ‏صيغ‏ ‏أخرى ‏أيضا‏، ‏وأنا‏ ‏أتصور‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الورقة‏ ‏تقدم‏ ‏من‏ ‏وجهة‏ ‏نظر‏ ‏المستهلك‏ ‏الذى ‏أمثله‏ ‏حالا‏، ‏مستهلك‏ ‏العلم‏، ‏وبالتالى ‏فإن‏ ‏ما‏ ‏يهمنا‏ ‏هو‏ ‏توضيح‏ ‏تنويعات‏ ‏حقيقية‏ ‏وتفصيلية‏ ‏لما‏ ‏يصل‏ ‏إلى ‏وعى ‏المستهلك‏ ‏تحت‏ ‏نفس‏ ‏المسمى (‏العلم‏) ‏رغم‏ ‏اختلاف‏ ‏أشكاله‏، ‏ومن‏ ‏ذلك‏:‏

‏1- ‏فعل‏ ‏العلم‏ (‏التفكير‏ ‏العلمى‏): ‏هو‏ ‏فعل‏ ‏إنسانى ‏كلى ‏يتميز‏ ‏أساسا‏ ‏بغلبة‏ ‏نوع‏ ‏من‏ ‏التفكير‏ ‏يتصف‏ ‏بالتسلسل‏ ‏المنظم‏ ‏من‏ ‏الملاحظة‏ ‏إلى ‏الفرض‏ ‏إلى ‏التحقيق‏ ‏إلى ‏المراجعة‏ ‏إلى ‏التكذيب‏ ‏إلى ‏فرص‏ ‏التوسيع‏ ‏إلى ‏إعادة‏ ‏صياغة‏ ‏الفرض‏ (‏الفروض‏) ‏وهكذا‏، ‏باستمرار‏، ‏وكثيرا‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏فعل‏ ‏العلم‏ ‏باسم‏ “التفكير‏ ‏العلمى”، ‏وقد‏ ‏قصدت‏ ‏استعمال‏ ‏كلمة‏ “فعل” ‏هنا‏ ‏قصدا‏، ‏حتى ‏أنفى ‏أنها‏ ‏عملية‏ ‏تنظيرية‏ ‏معقلنة‏ ‏فقط‏.‏

2- ‏منـتـج‏ ‏العلم‏: ‏هو‏ ‏الشخص‏ ‏الذى ‏يمارس‏ ‏فعل‏ ‏العلم‏ ‏بمنهج‏ (‏أو‏ ‏مناهج‏) ‏محددة‏، ‏وبدرجة‏ ‏ما‏ ‏من‏ ‏التخصص‏، ‏بحيث‏ ‏يكون‏ ‏ناتج‏ ‏هذه‏ ‏الممارسة‏ ‏إضافة‏ ‏منظمة‏، ‏لعدد‏ ‏من‏ ‏المعارف‏ ‏تتصف‏ ‏بدرجة‏ ‏من‏ ‏العمومية‏ ‏والتماسك‏ ‏والتمحور‏ ‏حول‏ ‏محور‏ ‏ضام‏.‏

‏3- ‏معطيات‏ ‏العلم‏: ‏هى ‏المعلومات‏ ‏التى ‏تخرج‏ ‏من‏ ‏فعل‏ ‏العلم‏ ‏وإنتاجه‏ ‏إلى ‏ظاهر‏ ‏الوعى، ‏فالسلوك‏، ‏وذلك‏ ‏نتيجة‏ ‏لممارسة‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏النشاط‏ ‏بما‏ ‏يتميز‏ ‏به‏ ‏كل‏ ‏من‏ (1)، (2) ‏لتصبح‏ ‏هذه‏ ‏المعلومات‏ ‏فى ‏متناول‏ ‏الاستعمال‏ ‏العملى ‏اليومى (‏فى ‏مجال‏ ‏التكنولوجيا‏)، ‏أو‏ ‏فى ‏متناول‏ ‏التمثـل‏ ‏الإنسانى ‏الشخصى ‏والعام‏، ‏لتوسيع‏ ‏الوعى ‏وتعميقه‏ ‏وتحريك‏ ‏الإبداع‏ (‏الثقافة‏ ‏العلمية‏).‏

‏4 – ‏إنجازات‏ ‏العلم‏: ‏هى ‏النجاحات‏ ‏والمعالم‏ ‏التى ‏تحققت‏ ‏وتتحقق‏ ‏فى ‏المجالين‏ ‏سالفى ‏الذكر‏ (‏التكنولوجيا‏ ‏والثقافة‏ ‏العلمية‏)، ‏نتيجة‏ ‏تطبيق‏ ‏معطيات‏ ‏العلم‏ ‏فى ‏كل‏ ‏من‏ ‏الفعل‏ ‏اليومى ‏وتشكيل‏ ‏الوعي‏.‏

‏5- ‏مستهلك‏ ‏العلم‏: ‏هو‏ ‏المتلقى ‏الذى ‏يستعمل‏ ‏معطيات‏ ‏العلم‏ ‏وإنجازاته‏ ‏فى ‏تسهيل‏ ‏حياته‏ ‏اليومية‏، ‏وكذلك‏ ‏فى ‏تطوير‏ ‏ذاته‏ ‏ومجتمعه‏، ‏يحدث‏ ‏هذا‏ ‏إما‏ ‏بإرادته‏ ‏الشخصية‏ ‏المعلنة‏، ‏أو‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏أن‏ ‏يندرج‏ ‏فى ‏مجتمع‏ ‏منظم‏ ‏يسمح‏ ‏وينظم‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الاستهلاك‏ ‏والاستيعاب‏، ‏بطريقة‏ ‏تلقائية‏ ‏راتبة‏.‏

‏6- ‏حامل‏ ‏العلم‏: ‏وأعنى ‏به‏ ‏المحافظ‏ ‏على ‏المعلومات‏ ‏الناتجة‏ ‏من‏ ‏فعل‏ ‏العلم‏ ‏وإنتاجيته‏، ‏سواء‏ ‏كان‏ ‏كتابا‏ ‏أو‏ ‏منسوخا‏ ‏أو‏ ‏شريطا‏ ‏أو‏ ‏قرصا‏ ‏أو‏ ‏مكتبة‏ ‏أو‏ ‏وثيقة‏، (‏وإلى ‏درجة‏ ‏أقل‏ ‏حاليا‏) ‏أو‏ ‏راويا‏ ‏أو‏ ‏مؤرخا‏ ‏شفاهيا‏.‏

‏7 – ‏ناقل‏ ‏العلم‏ (‏موصـل‏ ‏العلم‏): ‏وهو‏ ‏الذى ‏يقوم‏ ‏بتوصيل‏ ‏معطيات‏ ‏وإنجازات‏ ‏العلم‏ ‏من‏ ‏المنتج‏ ‏إلى ‏المستهلك‏ (‏بالمعانى ‏الإيجابية‏ ‏السابقة‏ ‏أو‏ ‏حتى ‏بالمعانى ‏السلبية‏ ‏اللاحقة‏)، ‏ويشمل‏ ‏ذلك‏ ‏الناقل‏ ‏الإنسانى (‏المعلم‏)، ‏والناقل‏ ‏الأحدث‏ ‏بكل‏ ‏أنواع‏ ‏إنجازات‏ ‏التكنولوجيا‏ ‏المتاحة‏ ‏لوسائل‏ ‏التوصيل‏ ‏المعاصرة‏.‏

وقد‏ ‏يمثل‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏حافظ‏ ‏وموصل‏ ‏العلم‏ ‏عنصرا‏ ‏فى ‏مؤسسة‏ ‏أكبر‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تسمى ‏مجازا‏ ‏مؤسسات‏ “تسويق‏ ‏العلم” ‏أى ‏ترويجه‏ ‏وتوصيله‏ ‏إلى ‏المستهلك‏، ‏بما‏ ‏يسمح‏ ‏بانتشار‏ ‏فاعليته‏، ‏ولعل‏ ‏لجنتنا‏ ‏المتواضعة‏، “لجنة‏ ‏الثقافة‏ ‏العلمية” ‏هى ‏أحد‏ ‏أمثلة‏ ‏ذلك‏ ‏على ‏مستوى ‏تشكيل‏ ‏الوعى ‏الإنسانى، ‏كذلك‏ ‏فإن‏ ‏الإعلام‏ ‏يعتبر‏ ‏من‏ ‏أكبر‏ ‏الأجهزة‏ ‏قدرة‏ ‏على ‏تسويق‏ ‏العلم‏.‏

‏[‏ملحوظة‏ : ‏ما‏ ‏سبق‏ ‏من‏ ‏تنويعات‏ ‏لايعنى ‏بأى ‏حال‏ ‏من‏ ‏الأحول‏ ‏تعريفات‏، ‏وإنما‏ ‏هى ‏تحديد‏ ‏غلبة‏ ‏دور‏ ‏بذاته‏، ‏إذ‏ ‏أن‏ ‏أيا‏ ‏مما‏ ‏سبق‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يتصف‏ ‏بأكثر‏ ‏من‏ ‏صفة‏ ‏أخرى ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏]‏

الأوجه‏ ‏السلبية‏ ‏التى ‏تتعلق‏ ‏بكلمة‏ “العلم” (= ‏ضد‏ ‏العلم‏)‏

‏1- ‏خطأ‏ ‏استعمال‏ ‏العلم‏ (Misuse): ‏هو‏ ‏استعمال‏ ‏معطيات‏ ‏ومنجزات‏ ‏العلم‏، ‏استعمالا‏ ‏قاصرا‏ ‏أو‏ ‏ضيقا‏ ‏أو‏ ‏محدودا‏ ‏أو‏ ‏مغلوطا‏ ‏دون‏ ‏قصد‏ ‏سييء‏ ‏مسبق‏ (‏وهذا‏ ‏هو‏ ‏الاستعمال‏ ‏الشائع‏ ‏عند‏ ‏العامة‏ ‏فى ‏الدول‏ ‏المتخلفة‏، ‏وعند‏ ‏بعض‏ ‏غلاة‏ ‏عبدة‏ ‏العلم‏ – ‏أنظر‏ ‏بعد‏) .‏

‏2- ‏سوء‏ ‏استعمال‏ ‏العلم‏: (Abuse) ‏وهو‏ ‏استعمال‏ ‏معطيات‏ ‏العلم‏، ‏بسوء‏ ‏قصد‏ ‏ظاهر‏ ‏أو‏ ‏خفى – ‏فيما‏ ‏يضر‏ ‏التفكير‏ ‏العلمى ‏أو‏ ‏يجمـد‏ ‏الحركية‏ ‏العلمية‏، ‏أو‏ ‏غير‏ ‏ذلك‏ ‏مما‏ ‏هو‏ “ضد‏ ‏العلم”.‏

كذلك‏ ‏يدخل‏ ‏فى ‏سوء‏ ‏استخدام‏ ‏العلم‏ ‏تسخيره‏ ‏لأهداف‏ ‏غير‏ ‏إنسانية‏ (‏مثل‏ ‏صناعة‏ ‏السلاح‏ ‏أو‏ ‏تشكيل‏ ‏الوعى ‏بما‏ ‏يفسده‏: ‏غسيل‏ ‏المخ‏، ‏أو‏ ‏تبرير‏ ‏القهر‏ ‏أو‏ ‏الاستعباد‏ ‏أو‏ ‏تأكيد‏ ‏العنصرية‏… ‏إلخ‏) ‏

ويشمل‏ ‏كل‏ ‏من‏ (1)، (2) ‏مايلى ‏من‏ ‏أمثلة‏ :‏

أ‏- ‏اختزال‏ ‏العلم‏: ‏ويدخل‏ ‏هذا‏ ‏فى ‏خطأ‏ ‏الاستعمال‏ ‏وسوء‏ ‏الاستعمال‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏له‏ ‏صورا‏ ‏عديدة‏ ‏فرعية‏ ‏تفصيلية‏ ‏تبرر‏ ‏عرضه‏ ‏منفردا‏، ‏فاختزال‏ ‏العلم‏ ‏هو‏ ‏نوع‏ ‏شائع‏ ‏فى ‏الدول‏ ‏النامية‏ ‏عامة‏، ‏كما‏ ‏يلاحظ‏ ‏فى ‏مصر‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏، ‏وهو‏ ‏يعنى ‏عرضا‏ ‏جزئيا‏، ‏أو‏ ‏إيجازيا‏ ‏لمعلومة‏ ‏علمية‏، ‏دون‏ ‏سياقها‏ ‏أو‏ ‏أخذ‏ ‏جزئية‏ ‏من‏ ‏المنجزات‏ ‏العلمية‏ ‏وتعميقها‏ ‏فى ‏غير‏ ‏موقعها‏… ‏الخ‏.‏

ب‏- ‏تشويه‏ ‏العلم‏: ‏وخاصة‏ ‏بخلط‏ ‏منهج‏ ‏من‏ ‏مناهج‏ ‏المعرفة‏ ‏بمنهج‏ ‏آخر‏ ‏بقصد‏ ‏التسوية‏ ‏الزائفة‏، ‏لتحقيق‏ ‏أغراض‏ ‏لا‏ ‏تمت‏ ‏إلى ‏طبيعة‏ ‏العلم‏ ‏بـصـلـة‏، ‏ومن‏ ‏ذلك‏ ‏بعض‏ ‏التداخل‏ ‏التعسفى ‏بين‏ ‏منظومات‏ ‏المعرفة‏، ‏بقصد‏ ‏التعميم‏ ‏أو‏ ‏لى ‏الذراع‏ ‏أو‏ ‏التعصب‏ ‏أو‏ ‏الإعلان‏ ‏أو‏ ‏الترويج‏، ‏وأكثر‏ ‏هذه‏ ‏النماذج‏ ‏شيوعا‏ ‏هى ‏مسألة‏ ‏التفسير‏ ‏العلمى ‏لبعض‏ ‏نصوص‏ ‏الدين‏، ‏وبدرجة‏ ‏أقل‏ ‏الترويج‏ ‏لعلمنة‏ ‏الفن‏ ‏مثل‏ ‏علمنة‏ ‏النقد‏ ‏الأدبى، ‏وإلى ‏درجة‏ ‏أقل‏ ‏أيضا‏ ‏تلك‏ ‏التداخلات‏ ‏الوثقانية‏ ‏لبعض‏ ‏العلوم‏ ‏النفسية‏ ‏فى ‏تفسيرات‏ ‏فعل‏ ‏سياسى ‏مثلا‏…‏الخ‏.‏

جـ‏- ‏عبادة‏ ‏العلم‏: ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يسمى “الدين‏ ‏العلمى” ‏حين‏ ‏يصبح‏ ‏العلم‏ ‏بمثابة‏ ‏قيد‏ ‏أيديولوجى ‏على ‏مصادر‏ ‏المعرفة‏ ‏من‏ ‏روافد‏ ‏أخرى (‏مثل‏ ‏الدين‏ – ‏الإيمان‏ – ‏والفن‏)، ‏ويتطلب‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏العبادة‏ ‏تجميد‏ ‏المعبود‏ ‏وتصنيمه‏ – ‏مثل‏ ‏أغلب‏ ‏العبادات‏ – ‏بحيث‏ ‏يحول‏ ‏ذلك‏ ‏دون‏ ‏مرونته‏ ‏ومراجعته‏ ‏وتكذيبه‏ ‏وامتداده‏، ‏وإبداله‏، ‏ويصبح‏ ‏العلم‏ ‏إلها‏ ‏ينزل‏ ‏الوحى، ‏وليس‏ ‏كيانا‏ ‏دائم‏ ‏التغيير‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الممارسة‏ ‏المتجددة‏، ‏وأحيانا‏ ‏ما‏ ‏تكون‏ ‏هذه‏ ‏العبادة‏ ‏أو‏ ‏النقد‏ ‏هى ‏الدافع‏ ‏المسئول‏ ‏عن‏ ‏الاستقطاب‏ ‏المؤدى ‏إلى ‏التمسك‏ ‏الجامد‏ ‏بنص‏ ‏دينى ‏على ‏أقصى ‏الطرف‏ ‏الآخر‏، ‏ولسان‏ ‏الحال‏ ‏يقول‏ : ‏عبادة‏ ‏بعباده‏ ‏فالله‏ ‏سبحانه‏ ‏أولى، ‏ثم‏ ‏تتمادى ‏الصورة‏ ‏إلى ‏أصنام‏ ‏لا‏ ‏تمت‏ ‏إلى ‏عبادة‏ ‏الله‏ ‏بصلة‏، ‏رغم‏ ‏أنها‏ ‏قد‏ ‏تحمل‏ ‏لافتات‏ ‏دينية‏.‏

د‏- ‏تخزين‏ ‏العلم‏: ‏وينطبق‏ ‏تعبير‏ ‏خازن‏ ‏العلم‏ ‏على ‏العالم‏ ‏المنغلق‏ ‏على ‏ذاته‏ ‏دون‏ ‏امتداد‏ ‏فى ‏تلاميذه‏، ‏كما‏ ‏ينطبق‏ ‏على ‏حجز‏ ‏العلم‏ ‏عن‏ ‏مستهلكيه‏ ‏بانفصال‏ ‏العلم‏ ‏عن‏ ‏المجتمع‏.‏

هـ‏- ‏احتكار‏ ‏العلم‏: ‏وهذا‏ ‏احتمال‏ ‏وارد‏ ‏حين‏ ‏يصبح‏ ‏العلم‏ ‏ثروة‏ ‏خاصة‏ ‏لفئة‏ ‏بذاتها‏ ‏دون‏ ‏سائر‏ ‏الناس‏، ‏وليس‏ ‏حقا‏ ‏عاما‏ ‏للناس‏ ‏كافة‏، ‏واحتكار‏ ‏العلم‏ ‏قد‏ ‏يأخذ‏ ‏صورا‏ ‏صريحة‏ ‏مثل‏ ‏الاحتفاظ‏ ‏بأسرار‏ ‏علمية‏ ‏مثل‏ ‏سر‏ ‏تفجير‏ ‏الذرة‏، ‏ولكنه‏ ‏قد‏ ‏يأخذ‏ ‏أشكالا‏ ‏أخطر‏ ‏وأخفى، ‏حين‏ ‏يأخذ‏ ‏شكل‏ ‏تصدير‏ ‏ظاهر‏ ‏العلم‏ ‏دون‏ ‏حقيقته‏، ‏أو‏ ‏ممارسة‏ ‏التباهى ‏بقشور‏ ‏ناتج‏ ‏العلم‏ ‏دون‏ ‏امتلاك‏ ‏ناصية‏ ‏منهجه‏، ‏يقوم‏ ‏بذلك‏ ‏عادة‏ ‏المستهلك‏ ‏الأدنى، ‏فينقسم‏ ‏الناس‏ ‏إلى ‏منتج‏ ‏ومبدع‏ ‏فى ‏ناحية‏ ‏فوقية‏، ‏ومستهلك‏ ‏تابع‏ ‏فى ‏الناحية‏ ‏الدونية‏، ‏رغم‏ ‏أن‏ ‏الجميع‏ ‏يتصورون‏ ‏أنهم‏ ‏يعيشون‏ ‏تحت‏ ‏مظلة‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏حياة‏ ‏عصرية‏ ‏علمية‏.‏

و‏- ‏شبه‏ ‏العلم‏: (‏العلم‏ ‏الزائف‏(Pseudoscience ‏وهو‏ ‏النشاط‏ ‏الذى ‏يأخذ‏ ‏شكل‏ ‏العلم‏ ‏وظاهر‏ ‏منهجه‏ ‏دون‏ ‏أى ‏من‏ ‏معناه‏ ‏وغائيته‏ ‏وحركيته‏ ‏وإضافاته‏ ‏ومرونته‏ (‏وأحيانا‏ ‏يطلق‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏التعالمية‏).‏

وبعد‏:‏

فكل‏ ‏هذه‏ ‏التصنيفات‏ ‏الجديدة‏ – ‏الإيجابية‏ ‏والسلبية‏ – ‏لا‏ ‏تظهر‏ “هكذا” ‏فى ‏الاستعمال‏ ‏اليومى ‏بالصورة‏ ‏التى ‏بيناها‏ ‏هنا‏، ‏لكنها‏ ‏تستعمل‏ ‏جميعها‏ (‏سلبية‏ ‏وإيجابية‏) ‏بشكل‏ ‏متداخل‏ ‏أو‏ ‏متبادل‏ ‏خفى ‏فاسد‏.‏

‏ ‏ومن‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏وجب‏ ‏التنبيه‏ ‏على ‏أن‏ ‏صفة‏ ‏علم‏ ‏متى ‏لحقت‏ ‏بموصوف‏ ‏ما‏، ‏صبغته‏ ‏صبغة‏ ‏بذاتها‏ ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏قريبة‏ ‏أو‏ ‏بعيدة‏ ‏عن‏ ‏مفهوم‏ ‏العلم‏ ‏تحديدا‏ ‏مناسبا‏ ‏يساعدنا‏ ‏على ‏فهم‏ ‏كلمة‏ “علم” ‏بمضمونها‏ ‏السليم‏. ‏

ثم‏ ‏أحاول‏ – ‏من‏ ‏وجهة‏ ‏نظر‏ ‏مستهلك‏ ‏العلم‏ ‏أساسا‏ – ‏أن‏ ‏أتقدم‏ ‏خطوة‏ ‏نحو‏ ‏اجتهاد‏ ‏مناسب‏ ‏يصلح‏ ‏أن‏ ‏نتعرف‏ ‏من‏ ‏خلاله‏ ‏عن‏ ‏حقيقة‏ ‏ما‏ ‏نعنيه‏ ‏ونحن‏ ‏نستعمل‏ ‏كلمة‏ “العلم”.‏

وكل‏ ‏من‏ ‏ناقل‏ ‏العلم‏، ‏ومستهلكه‏، ‏يهمه‏ ‏الاستعمال‏ ‏اللغوى ‏للفظ‏ ‏العلم‏ ‏وما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يتضمنه‏، ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏يعنيه‏ ‏تفصيل‏ ‏المنهج‏ ‏وشروط‏ ‏تطبيقه‏ ‏لتكون‏ ‏المعرفة‏ ‏علما‏، ‏لذلك‏ ‏سوف‏ ‏تكون‏ ‏محاولتى ‏هنا‏ ‏مهتمة‏ ‏أكثر‏ ‏بالإحاطة‏ ‏بمضمون‏ ‏كلمة‏ “علم” ‏أكثر‏ ‏منها‏ ‏مركزة‏ ‏على ‏تحديد‏ ‏منهج‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏علم‏. ‏وإليكم‏ ‏بعض‏ ‏أحوال‏ ‏مضمون‏ ‏الكلمة‏ ‏والتى ‏مازالت‏ ‏المعاجم‏ ‏تحتفظ‏ ‏بها‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، ‏مع‏ ‏ملاحظة‏ ‏أننى ‏فى ‏هذه‏ ‏الفقرة‏ ‏أستلهم‏ ‏تاريخ‏ ‏تطور‏ ‏مضمون‏ ‏الكلمة‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏تنويعات‏ ‏حضورها‏ ‏المعجمى ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏الاعتماد‏ ‏على ‏محدودية‏ ‏تعريفها‏، ‏

ونبدأ‏ ‏بكلمة‏ ‏علم‏ ‏بالإنجليزية‏ Science ‏لنكتشف‏ ‏أن‏ ‏المضمون‏ ‏ظل‏ ‏رحبا‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏ ‏ثم‏ ‏ضاق‏ ‏مؤخرا‏:.‏

1- ‏العلم‏ ‏هو‏ ‏حالة‏ ‏أو‏ ‏حقيقة‏ “أن‏ ‏نعرف” ‏

ويشمل‏ ‏هذا‏ ‏التعريف‏ ‏أن‏ ‏العلم‏ ‏هنا‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يقابل‏ ‏فعل‏ ‏المعرفة‏، ‏أو‏ ‏حالة‏ ‏كوننا‏ ‏عارفين‏، ‏وهذا‏ ‏يتضمن‏ ‏المعايشة‏ ‏والاستيعاب‏، ‏قبل‏ ‏وبعد‏ ‏تنظير‏ ‏المعلومات‏ ‏وتنظيمها‏.‏

2- ‏العلم‏ ‏هو‏ ‏المعلومات‏ ‏التى ‏نتحصل‏ ‏عليها‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الاستيعاب‏ ‏أو‏ ‏التعرف‏ ‏أو‏ ‏التمكن‏ ‏من‏ ‏أى ‏مجال‏ ‏من‏ ‏مجالات‏ ‏التعلم‏. ‏

ويشمل‏ ‏هذا‏ ‏درجة‏ ‏من‏ ‏تعميم‏ ‏وسائل‏ ‏التعرف‏ ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏التمكن‏، ‏لكن‏ ‏يكاد‏ ‏يحدد‏ ‏هذا‏ ‏التعريف‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ ‏النشاط‏ ‏فى ‏إطار‏ ‏التعلم‏، ‏وما‏ ‏لم‏ ‏يتسع‏ ‏معنى ‏التعليم‏ ‏والتعلم‏ ‏ليشمل‏ ‏تغيير‏ ‏التركيب‏ ‏فإن‏ ‏التعريف‏ ‏يصبح‏ ‏قاصرا‏، ‏ورغم‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التعريف‏ ‏لا‏ ‏يؤكد‏ ‏على ‏التخطيط‏ ‏الهادف‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏العملية‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏السياق‏ ‏يوحى ‏بذلك‏، ‏ليس‏ ‏من‏ ‏جهة‏ ‏الفرد‏ ‏فقط‏ ‏وإنما‏ ‏بصفة‏ ‏عامة‏.‏

3- ‏العلم‏ ‏هو‏ ‏منظومة‏ ‏شاملة‏ ‏من‏ ‏الأحكام‏ ‏والرؤى ‏العامة‏، ‏وذلك‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏إثباتات‏ ‏منهجية‏. ‏

وهذا‏ ‏مدخل‏ ‏يوسع‏ ‏مفهوم‏ ‏العلم‏ ‏بدرجة‏ ‏كافية‏ ‏لكنه‏ ‏لا‏ ‏يحدد‏ ‏منهجا‏ ‏بذاته‏، ‏وهو‏ ‏لا‏ ‏يقصر‏ ‏بعض‏ ‏المعارف‏ ‏دون‏ ‏غيرها‏ ‏على ‏ما‏ ‏هو‏ ‏علم‏، ‏وتضمين‏ ‏الرؤى ‏هنا‏ ‏فيما‏ ‏هو‏ ‏علم‏، ‏وكذلك‏ ‏عدم‏ ‏تحديد‏ ‏نوع‏ ‏خاص‏ ‏من‏ ‏المناهج‏ ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يوسع‏ ‏دائرة‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏علم‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏].‏

4- ‏العلم‏ ‏هو‏ ‏نوع‏ ‏من‏ ‏المعارف‏ ‏أو‏ ‏النشاط‏ ‏الذهنى ‏الذى ‏تتبدى ‏فيه‏ ‏العلوم‏ ‏كأمثلة‏. ‏

إذن‏ ‏فالعلم‏ ‏الفلانى ‏هو‏ ‏مجرد‏ ‏مظهر‏ ‏نوعى ‏لنشاط‏ ‏معرفى ‏ذهنى ‏أشمل‏، ‏إحدى ‏تجلياته‏ ‏تظهر‏ ‏فى ‏صورة‏ ‏هذا‏ ‏العلم‏ ‏أو‏ ‏ذاك‏.‏

لكن‏ ‏المعانى ‏الأحدث‏ ‏للعلم‏ ‏جعلت‏ “ما‏ ‏هو‏ ‏علم‏ : ‏أكثر‏ ‏حبكة‏، ‏وأوضح‏ ‏تنظيرا‏ ‏مثل‏:‏

أ‏) ‏العلم‏ ‏هو‏ ‏فرع‏ ‏من‏ ‏الدراسة‏ ‏يصف‏ ‏منظومة‏ ‏متماسكة‏ ‏من‏ ‏الحقائق‏ ‏المبنية‏ ‏أو‏ ‏الملاحظات‏ ‏المرصودة‏ ‏أو‏ ‏الحقائق‏ ‏الملاحـظـة‏ ‏المنسقة‏ ‏والمصنفة‏ ‏حتى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تندرج‏ ‏فى ‏قانون‏ ‏شامل‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يحددها‏ ‏بقواعد‏ ‏عامة‏ ‏بما‏ ‏يشمل‏ ‏تحديد‏ ‏مناهج‏ ‏تعتمد‏ ‏عليها‏ ‏لاكتشاف‏ ‏حقائق‏ ‏جديدة‏ ‏داخل‏ ‏ذات‏ ‏المجال‏.‏

ب‏) ‏العلم‏ ‏هو‏ ‏النشاط‏ ‏الذهنى ‏المهتم‏ ‏بالحقائق‏ ‏النظرية‏ ‏فى ‏مقابل‏ ‏الفن‏ ‏الذى ‏تنصرف‏ ‏أحكامه‏ ‏إلى ‏إحداث‏ ‏تأثير‏ ‏بذاته‏.‏

جـ‏) ‏العلم‏ ‏هو‏ ‏النشاط‏ ‏المقنن‏ ‏الذى ‏يدرس‏ ‏العالم‏ ‏الطبيعى ‏وقوانينه‏، ‏مما‏ ‏يتطلب‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏استبعاد‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏الرياضيات‏ ‏والنشاط‏ ‏الكهنوتى ‏واللاهوتى ‏والديني‏.‏

ونلاحظ‏ ‏هنا‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏التعريفات‏ ‏الأحدث‏ ‏ضاقت‏ ‏بالقياس‏ ‏بما‏ ‏سبق‏.‏

وبالنسبة‏ ‏لاستلهام‏ ‏اللغة‏ ‏العربية‏ ‏نجد‏ ‏أن‏ ‏الأمر‏ ‏أكثر‏ ‏فضفضة‏، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏أبعث‏ ‏على ‏الحركة‏ ‏والمغامرة‏ ‏بتوسيع‏ ‏المفهوم‏، ‏فبعض‏ ‏المعانى ‏التى ‏شدتنى ‏إلى ‏ما‏ ‏هو‏ ‏علم‏ ‏هى ‏أنه‏:‏

أ‏- ‏يعنى ‏الشهادة‏ ‏والمعرفة‏ ‏والكشف‏ ‏والحدس‏ ‏معا‏.‏

ب‏- ‏وهو‏ ‏يشمل‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏العلم‏ ‏يأتى ‏من‏ ‏مباشرة‏ ‏التعرى ‏أمام‏ ‏كون‏ ‏أقدر‏.‏

جـ‏- ‏وقد‏ ‏تأكد‏ ‏جانب‏ ‏الممارسة‏ ‏فيما‏ ‏جاء‏ ‏من‏ ‏إضافة‏ ‏المهارة‏ ‏والتدريب‏ ‏كوسيلة‏ ‏لاكتساب‏ ‏العلم‏ ‘… ‏بالمزاولة‏ ‏وطول‏ ‏الدراية‏ ‏حتى ‏يصبح‏ ‏غريزة”.‏

ومن‏ ‏هنا‏ ‏فـرق‏ ‏هذا‏ ‏التعريف‏ ‏بين‏ ‏المتعلم‏ ‏والعالم‏ “فالأول‏ ‏يحصل‏ ‏على ‏المعارف‏، ‏ولا‏ ‏تصبح‏ ‏جزءا‏ ‏من‏ ‏كيانه‏، ‏والثانى ‏يخرج‏ ‏بغريزة‏ ‏التعلم‏ ‏ربما‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏أسميناه‏ “فعل‏ ‏العلم”.‏

لكن‏ ‏ثمة‏ ‏تحذير‏ ‏من‏ ‏ترهل‏ ‏واختلاط‏ ‏استعمال‏ ‏كلمة‏ “علم” ‏فى ‏اللغة‏ ‏العربية‏ ‏لارتباطها‏ ‏بورود‏ ‏هذه‏ ‏الكلمة‏ ‏فى ‏القرآن‏ ‏الكريم‏ ‏والأحاديث‏ ‏النبوية‏ ‏بشكل‏ ‏متنوع‏، ‏وبمضامين‏ ‏تتراوح‏ ‏بين‏ ‏الضيق‏ ‏المحدد‏ ‏والشمولية‏ ‏الفضفاضة‏.‏

لذلك‏ ‏أرى ‏أن‏ ‏كلمة‏ ‏العلم‏ ‏فى ‏اللغة‏ ‏العربية‏ ‏قد‏ ‏وردت‏ ‏فى ‏النصوص‏ ‏الدينية‏ ‏و‏ ‏الشرعية‏ ‏بمضمون‏ ‏أبعد‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏عن‏ ‏المفهوم‏ ‏الجامع‏ ‏المانع‏ ‏الذى ‏يحدد‏ ‏معناها‏ ‏المعاصر‏، ‏ولا‏ ‏المعنى ‏المراد‏ ‏إبلاغه‏ ‏للعامة‏ ‏ونحن‏ ‏نسعى ‏إلى ‏ترويج‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏ثقافة‏ ‏علمية‏.‏

على ‏أن‏ ‏حضور‏ ‏كلمة‏ ‏علم‏ ‏فى ‏اللغة‏ ‏العربية‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏التصوف‏ ‏كان‏ ‏مختلفا‏، ‏ولا‏ ‏يحسب‏ ‏أحد‏ ‏أن‏ ‏لغة‏ ‏التصوف‏ ‏هى ‏لغة‏ ‏خاصة‏ ‏نادرة‏، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏العامة‏ (‏فى ‏مصر‏ ‏خاصة‏) – ‏كثيرا‏ ‏ما‏ ‏تتلقى ‏وتستعمل‏ ‏الكلمات‏ ‏وهى ‏تحمل‏ ‏مضمون‏ ‏لغة‏ ‏الصوفية‏، ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏تحمل‏ ‏مضمون‏ ‏اللغة‏ ‏التقليدية‏ .‏

وفى ‏حين‏ ‏لا‏ ‏تظهر‏ ‏كلمة‏ “العلم” ‏هكذا‏ ‏فى ‏معجم‏ ‏إبن‏ ‏عربى -‏مثلا‏- ‏نجد‏ ‏أن‏ ‏النفرى‏([1]) ‏قد‏ ‏أحاط‏ ‏بها‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏جانب‏، ‏ومن‏ ‏أهم‏ ‏إنجازات‏ ‏النفرى ‏فى ‏هذا‏ ‏الصدد‏ ‏إشاراته‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏العلم‏ ‏الحقيقى”‏لا‏ ‏ضد‏ ‏له” ‏مؤكدا‏ ‏أن‏ ‏الجهل‏ ‏ليس‏ ‏عكس‏ ‏العلم‏ ‏هكذا‏ ‏ببساطه‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏الجهل‏ ‏الحقيقى (‏الذى ‏ليس‏ ‏ضد‏ ‏العلم‏) ‏هو‏ ‏نوع‏ ‏من‏ ‏المعرفة‏ ‏الفائقة‏,‏

ولا‏ ‏مجال‏ ‏لتفصيل‏ ‏ماذا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تستلهم‏ ‏مناهج‏ ‏العلم‏ ‏الحديث‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏العمق‏ ‏عند‏ ‏النفرى ‏خاصة‏، ‏وهو‏ ‏يحدد‏ – ‏مثلا‏ – ‏أنواع‏ ‏المعرفة‏، ‏والعلم‏، ‏والمواقف‏ ‏وغيرها‏، ‏لكن‏ ‏إهمال‏ ‏هذا‏ ‏الثراء‏ ‏أو‏ ‏إنكاره‏، ‏والاكتفاء‏ ‏بما‏ ‏نستورده‏ ‏من‏ ‏مناهج‏ ‏مختزلة‏، ‏إنما‏ ‏يؤدى ‏إلى ‏خنق‏ ‏لفظ‏ ‏العلم‏ ‏داخل‏ ‏قوالب‏ ‏تحول‏ ‏دون‏ ‏حركته‏ ‏وتطوره‏، ‏وهذا‏ ‏هو‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏ما‏ ‏يحرمنا‏ ‏من‏ ‏استلهام‏ ‏تراثنا‏ ‏بغير‏ ‏وجه‏ ‏حق‏. ‏وأختم‏ ‏هذا‏ ‏الاستطراد‏ ‏بالإشارة‏ ‏إلى ‏مقتطفين‏ ‏من‏ ‏النفري‏* : ‏الاول‏ : ‏يجعل‏ ‏العلم‏ ‏دابة‏ ‏من‏ ‏الدواب‏ ‏فى ‏الطريق‏ ‏إلى ‏المعرفة‏، ‏والثانى : ‏ينبه‏ ‏إلى ‏الفرق‏ ‏بين‏ “جريان‏ ‏العلم” “وعين‏ ‏العلم”([2]) ‏وألسنة‏ ‏العلوم”، ‏وأعتقد‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التمييز‏ ‏يتعلق‏ ‏بموقف‏ ‏الإعلام‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ (“جريان‏ ‏العلم”)، ‏والتحذير‏ ‏من‏ ‏الإكتفاء‏ ‏بتسميع‏ ‏العلم‏ ‏والرطانة‏ ‏بلغته‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى (‏ألسنة‏ ‏العلم‏)، ‏ثم‏ ‏التنبيه‏ ‏إلى ‏ضرورة‏ ‏الغوص‏ ‏إلى ‏فعل‏ ‏العلم‏ ‏وجوهر‏ ‏المعرفة‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏ثالثة‏ (‏عين‏ ‏العلم‏). ‏

وأحسب‏ ‏أن‏ ‏الوقت‏ ‏قد‏ ‏حان‏ ‏بعد‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏المقدمة‏ ‏لننتقل‏ ‏خطوة‏ ‏أخرى ‏إلى ‏محاولة‏ ‏تعريف‏ ‏مناسب‏ ‏لما‏ ‏هو‏ ‏علم‏، ‏وبالتالى ‏لصفة‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏علمي‏.‏

دعونا‏ ‏نحاول‏:‏

‏”العلم‏ ‏هو‏ ‏نشاط‏ ‏معرفى ‏يتبع‏ ‏منهجا‏ ‏له‏ ‏معالم‏ ‏واضحة‏، ‏ليست‏ ‏ثابتة‏ ‏ثباتا‏ ‏مطلقا‏، ‏وهذا‏ ‏النشاط‏ ‏ينتج‏ ‏عنه‏ ‏بشكل‏ ‏غالب‏ ‏منظومة‏ ‏من‏ ‏المعلومات‏ ‏متماسكة‏ ‏داخليا‏، ‏وعامة‏ ‏نسبيا‏، ‏على ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏هذه‏ ‏المنظومة‏ (‏أ‏) ‏قابلة‏ ‏للمراجعة‏ (‏ب‏) ‏محتملة‏ ‏الخطأ‏ (‏جـ‏) ‏قابلة‏ ‏للتصحيح‏ (‏د‏) ‏قادرة‏ ‏على ‏تفريخ‏ ‏توجهات‏ ‏وفروض‏ ‏جديدة‏، (‏هـ‏) ‏قابلة‏ ‏بدورها‏ ‏للمراجعة‏. ‏والتكذيب‏ (‏و‏) ‏وقادرة‏ ‏أيضا‏ ‏على ‏تجديد‏ ‏منهجها‏ ‏أو‏ ‏اتباع‏ ‏مناهج‏ ‏جديدة‏ ‏لإضافة‏ ‏معلومات‏ ‏جديدة‏ (‏ز‏) ‏وقادرة‏ ‏كذلك‏ – ‏بالممارسة‏ – ‏على ‏شحذ‏ ‏المهارة‏ ‏أو‏ ‏تعميق‏ ‏الوعى” ‏أوكليهما‏.‏

ولا‏ ‏أتصور‏ ‏أنى ‏بهذا‏ ‏الاقتراح‏ ‏المحدد‏ ‏قد‏ ‏حللت‏ ‏هذا‏ ‏الإشكال‏ ‏المعقد‏ ‏للاقتراب‏ ‏من‏ ‏مفهوم‏ ‏العلم‏، ‏بل‏ ‏لعلنى ‏أضفت‏ ‏مشاكل‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏التى ‏واجهناها‏ ‏فى ‏البداية‏، ‏فكل‏ ‏لفظ‏ ‏داخل‏ ‏هذا‏ ‏التعريف‏ ‏المقترح‏، ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏تحديد‏، ‏وهو‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏بابا‏ ‏خطيرا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يسمح‏ ‏بنفاذ‏ ‏ما‏ ‏ليس‏ ‏علما‏ ‏بدرجة‏ ‏أو‏ ‏بأخري‏.‏

ولكن‏ ‏بما‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الورقة‏ ‏تهتم‏ ‏أكثر‏ ‏بالتطبيق‏ ‏العملى ‏من‏ ‏وجهة‏ ‏نظر‏ ‏المستهلك‏، ‏فإن‏ ‏هذا‏ ‏التعريف‏ ‏يشير‏ ‏بوضوح‏ ‏إلى ‏رفض‏ ‏حبس‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏علم‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏الإطار‏ ‏الضيق‏ ‏الذى ‏شاع‏ ‏عنه‏ ‏مؤخرا‏.‏

ولعل‏ ‏تناولنا‏ ‏لماهية‏ ‏العلم‏ ‏من‏ ‏جانب‏ ‏علاقته‏ ‏بمنظومات‏ ‏ومناهج‏ ‏المعارف‏ ‏الأخرى، ‏وكذلك‏ ‏القيم‏ ‏الأخرى ‏المحايثة‏ ‏والمتداخلة‏ ‏معه‏، ‏لعل‏ ‏فى ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏التناول‏ ‏ما‏ ‏يضيف‏ ‏بعض‏ ‏الصور‏ ‏مما‏ ‏يهم‏ ‏المستهلك‏ ‏كما‏ ‏أسلفنا‏.‏

ونورد‏ ‏هنا‏ ‏بعض‏ ‏هذه‏ ‏التداخلات‏ ‏والمقابلات‏ ‏مع‏ ‏المنظومات‏ ‏الأخرى.‏

‏1 – ‏العلم‏ ‏والدين‏:‏

إن‏ ‏أكبر‏ ‏ضرر‏ ‏لحق‏ ‏بكل‏ ‏من‏ ‏العلم‏ ‏والدين‏ ‏فى ‏مجتمعنا‏ ‏خاصة‏، ‏والمجتمعات‏ ‏الإسلامية‏ ‏عامة‏، ‏كان‏ ‏ومازال‏ ‏نتيجة‏ ‏تلك‏ ‏المحاولات‏ ‏الخاطئة‏ – ‏علما‏ ‏وتدينا‏ – ‏للخلط‏ ‏بين‏ ‏هاتين‏ ‏المنظومتين‏ ‏خلطا‏ ‏سطحيا‏، ‏وهو‏ ‏خلط‏ ‏كثيرا‏ ‏ما‏ ‏يغلب‏ ‏عليه‏ ‏الانفعال‏ ‏أو‏ ‏التعصب‏ ‏أو‏ ‏لى ‏الذراع‏.‏

والتأكيد‏ ‏على ‏فض‏ ‏الخلط‏ ‏هنا‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏أن‏ ‏الدين‏ ‏منفصل‏ ‏عن‏ ‏العلم‏، ‏أو‏ ‏أن‏ ‏العلم‏ ‏ليس‏ ‏له‏ ‏ما‏ ‏يدعمه‏ ‏ويوجهه‏ ‏ويضاعف‏ ‏فاعليته‏ ‏من‏ ‏الدين‏، ‏والإيمان‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏يجرى ‏من‏ ‏ترجمة‏ ‏واختزال‏ ‏أولى ‏للحقائق‏ ‏وتشوية‏ ‏للمناهج‏ ‏واستعمالها‏ ‏فى ‏غير‏ ‏موضعها‏، ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏يباعد‏ ‏بين‏ ‏الدين‏ ‏والعلم‏، ‏ويشوههما‏ ‏معا‏، ‏وليس‏ ‏هذا‏ ‏مجال‏ ‏لتفاصيل‏ ‏بهذا‏ ‏الشأن‏ ‏ونكتفى ‏فى ‏هذا‏ ‏الصدد‏، ‏أن‏ ‏نكشف‏ ‏عن‏ ‏مخاطر‏ ‏هذه‏ ‏المحاولات‏ ‏الخلطية‏، ‏التى ‏تؤدى ‏إلى ‏خلخلة‏ ‏مفهوم‏ ‏العلم‏ ‏وطمس‏ ‏معالمه‏، ‏ناهيك‏ ‏عن‏ ‏الاستهانة‏ ‏بحقيقة‏ ‏الدين‏ ‏ودوره‏ ‏الإيجابى، ‏وذلك‏ ‏لأن‏ ‏هذه‏ ‏المحاولات‏ ‏السطحية‏ ‏تظهره‏ ‏بمظهر‏ ‏الذى ‏يعانى ‏من‏ ‏الشعور‏ ‏بالنقص‏، ‏فهو‏ ‏يحاول‏ ‏أن‏ ‏يكمل‏ ‏نقصه‏ ‏بما‏ ‏ليس‏ ‏فيه‏ ‏وما‏ ‏ليس‏ ‏له‏. ‏

‏ ‏وفيما‏ ‏يلى ‏محاولة‏ ‏للتذكرة‏ ‏بمخاطر‏ ‏هذه‏ ‏المحاولة‏ ‏لخلط‏ ‏الدين‏ ‏بالعلم‏، ‏وبالعكس‏ ‏تحت‏ ‏عنوان‏ ‏التفسير‏ ‏العلمى ‏للنص‏ ‏الدينى، ‏أو‏ ‏التصفيق‏ ‏غيرالناضج‏ ‏لما‏ ‏يصور‏ ‏على ‏أنه‏ ‏سبق‏ ‏علمى ‏جاء‏ ‏به‏ ‏النص‏ ‏الدينى … ‏الخ‏.‏

‏(‏أ‏) ‏العلم‏ ‏نص‏ ‏غير‏ ‏ثابت‏، ‏يمكن‏ ‏الانتقاص‏ ‏منه‏ ‏والزيادة‏ ‏عليه‏، ‏وتحويره‏ ‏فى ‏أى ‏وقت‏، ‏بأى ‏صورة‏.‏

أما‏ ‏النص‏ ‏الدينى ‏فهو‏ ‏نص‏ ‏ثابت‏ ‏فى ‏ذاته‏ (‏وإن‏ ‏كان‏ ‏متجدد‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏الإلهام‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏الممارسات‏ ‏الخلطية‏ ‏السطحية‏).‏

‏(‏ب‏) ‏العلم‏ ‏قابل‏ ‏للتكذيب‏، ‏وأى ‏علم‏ ‏غير‏ ‏قابل‏ ‏للتكذيب‏ ‏لا‏ ‏يعتبر‏ ‏علما‏.‏

والنص‏ ‏الدينى ‏غير‏ ‏قابل‏ ‏للتكذيب‏، ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏من‏ ‏سيكذبه‏ ‏هو‏ ‏كافر‏ ‏من‏ ‏وجهة‏ ‏نظر‏ ‏المتدين‏ ‏على ‏الأقل‏، ‏علما‏ ‏بأن‏ ‏هذا‏ ‏الخطاب‏ – ‏تفسير‏ ‏الدين‏ ‏بالعلم‏ – ‏يوجه‏ ‏للمتدين‏ ‏أساسا‏، ‏وبالتالى ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏هناك‏ ‏مجال‏ ‏أصلا‏ ‏لاستعمال‏ ‏هذا‏ ‏الخلط‏ ‏المغرض‏ ‏لديه‏، ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏احتمل‏ ‏التكذيب‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏فإن‏ ‏المعرفة‏ ‏التى ‏لا‏ ‏تحتمل‏ ‏التكذيب‏ ‏ليست‏ ‏علما‏.‏

‏(‏جـ‏) ‏العلم‏ ‏مفتوح‏ ‏النهاية‏:‏

والنص‏ ‏الدينى ‏منته‏ ‏الصياغة‏ (‏وإن‏ ‏ظل‏ ‏مثير‏ ‏الإلهامات‏ ‏جديدة‏).‏

واكتفاء‏ ‏بهذه‏ ‏الملاحظات‏ ‏الثلاثة‏ ‏نستطيع‏ ‏أن‏ ‏نخلص‏ ‏إلى ‏القول‏ ‏أن‏ ‏العلم‏ ‏ليس‏ ‏له‏ ‏علاقة‏ ‏مباشرة‏ ‏بالنص‏ ‏الديني‏. ‏حتى ‏لو‏ ‏ورد‏ ‏فى ‏النص‏ ‏الدينى ‏ما‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏بعض‏ ‏المعلومات‏ ‏التى ‏تتفق‏ ‏كثيرا‏ ‏أو‏ ‏قليلا‏ ‏مع‏ ‏معطيات‏ ‏العلم‏ ‏المعاصر‏.‏

أما‏ ‏علاقة‏ ‏العلم‏ (‏كمصدر‏ ‏للمعرفة‏) ‏بالدين‏ ‏والإيمان‏ (‏كمصدر‏ ‏مواز‏ ‏لاتساع‏ ‏الوعى ‏وتحصيل‏ ‏المعارف‏)، ‏فهى ‏علاقة‏ ‏وثيقة‏ ‏ومتكاملة‏، ‏من‏ ‏حيث‏ ‏الالتقاء‏ ‏فى ‏هدف‏ ‏واحد‏، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏نوع‏ ‏المعرفة‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تصل‏ ‏للفرد‏ (‏والجماعة‏) ‏من‏ ‏خلال‏ ‏التدين‏ ‏لا‏ ‏ينطبق‏ ‏عليه‏ ‏نوع‏ ‏المعرفة‏ ‏التى ‏تصل‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏علم‏، ‏وبالتالى ‏هما‏ ‏ينفصلان‏ ‏تماما‏ ‏فى ‏الشكل‏ ‏وإن‏ ‏اتفقا‏ ‏فى ‏الهدف‏ ‏وفى ‏ضرورة‏ ‏التكامل‏ ‏فيما‏ ‏بينهما‏ ‏لصالح‏ ‏مسيرة‏ ‏الإنسان‏.‏

‏2 – ‏العلم‏ ‏والغيب‏ ‏والخرافة‏:‏

يشيع‏ ‏بين‏ ‏الناس‏ ‏استقطاب‏ ‏سخيف‏، ‏وهو‏ ‏الاستقطاب‏ ‏الذى ‏يكاد‏ ‏يقول‏ ‏إن‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏ليس‏ ‏علما‏ ‏هو‏ ‏خرافة‏، ‏وهذا‏ ‏الاستقطاب‏ ‏يضر‏ ‏بالعلم‏ ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏يحجم‏ ‏الخرافة‏، ‏ويؤدى ‏هذا‏ ‏الاستقطاب‏ ‏كذلك‏ ‏إلى ‏الترادف‏ ‏بين‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏خرافة‏ ‏وما‏ ‏هو‏ ‏غيب‏، ‏وأيضا‏ ‏ثمة‏ ‏ترادف‏ ‏خاطيء‏ ‏بين‏ ‏ما‏ ‏هو‏ “لا‏ ‏لعلم” ‏وما‏ ‏هو‏ “جهل”، ‏وكل‏ ‏هذه‏ ‏أخطاء‏ ‏شائعة‏ ‏ينبغى ‏الوقوف‏ ‏عندها‏، ‏وهى ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏تفصيل‏ ‏ليس‏ ‏هذا‏ ‏مجاله‏، ‏وأكتفى ‏فى ‏هذا‏ ‏الصدد‏ ‏بالإشارة‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏سبق‏ ‏التنوية‏ ‏عنه‏ ‏فى ‏تناول‏ ‏النفرى ‏لهذه‏ ‏المسألة‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏العلم‏ ‏ليس‏ ‏ضد‏ ‏الجهل‏، ‏فهناك‏ ‏جهل‏ ‏إيجابى ‏متفتح‏ ‏يسمى ‏الغيب‏ .‏

أما‏ ‏الخرافة‏ ‏فهى ‏تشمل‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏الجهل‏ ‏العشوائى ‏السطحى ‏الانفعالى، ‏القابل‏ ‏للانتشار‏ ‏فى ‏غياب‏ ‏المعلومات‏ ‏الأكثر‏ ‏حبكة‏ ‏وفائدة‏.‏

وهنا‏ ‏يمكن‏ ‏تعريف‏ ‏الغيب‏ ‏على ‏أنه‏ “علم‏ ‏لم‏ ‏يـدرك‏ ‏بعد”، ‏له‏ ‏حق‏ ‏الظهور‏ ‏متى ‏ما‏ ‏أتيحت‏ ‏له‏ ‏الفرصة‏ ‏المناسبة‏ ‏والمنهج‏ ‏الملائم‏.‏

هذا‏، ‏ولابد‏ ‏من‏ ‏الاشارة‏ ‏هنا‏ ‏إلى ‏النقلات‏ ‏العملاقة‏ ‏الأحدث‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بقوانين‏ ‏الشواش‏ (chaos)‏خاصة‏ ‏مما‏ ‏يؤكد‏ ‏فكرة‏ ‏هذا‏ ‏المسار‏ ‏المتفتح‏ ‏نحو‏ ‏يقين‏ ‏بغموض‏ ‏محكم‏، ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏افترضت‏ ‏أنه‏ ‏الغيب‏، ‏ليس‏ ‏بمعنى ‏الاختفاء‏ ‏وإنما‏ ‏بمعنى ‏الامتداد‏ ‏غير‏ ‏المتضح‏ ‏أبعاده‏ ‏حالا‏.‏

‏3 – ‏العلم‏ ‏والفن‏ (‏والأدب‏):‏

كما‏ ‏أن‏ ‏الدين‏ ‏مصدر‏ ‏مواز‏ ‏للعلم‏ ‏لتحصيل‏ ‏مزيد‏ ‏من‏ ‏المعارف‏ ‏وتعميق‏ ‏الوعى، ‏كذلك‏ ‏الفن‏ (‏ونكتفى ‏بمثال‏ ‏الأدب‏ ‏هنا‏) ‏هو‏ ‏أيضا‏ ‏مصدر‏ ‏للمعارف‏، ‏وكل‏ ‏من‏ ‏المعارف‏ ‏الواردة‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏الخبرة‏ ‏الدينية‏ ‏والأدب‏ ‏تسهم‏ ‏فى ‏تشكيل‏ ‏الوعى ‏بقدر‏ ‏وافر‏، ‏وإن‏ ‏كانت‏ ‏عادة‏ ‏لا‏ ‏تشارك‏ ‏فى ‏تقنين‏ ‏وتيسير‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏سلوك‏ ‏يومى ‏أصلا‏، ‏وبالتالى ‏فإن‏ ‏علاقة‏ ‏العلم‏ ‏بالأدب‏ (‏وبالدين‏) ‏فى ‏الإسهام‏ ‏فى ‏تشكيل‏ ‏وعى ‏عامة‏ ‏الناس‏ ‏بما‏ ‏هو‏ ‏أثرى ‏وأنفع‏ ‏هى ‏علاقة‏ ‏تقع‏ ‏فى ‏نطاق‏ ‏الهدف‏ ‏المشترك‏ ‏المتضمن‏ ‏فى ‏تعريف‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏ثقافة‏ ‏علمية‏ (‏تخصص‏ ‏لجنتنا‏)، ‏وليس‏ ‏فى ‏نطاق‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏علم‏ ‏بحت‏.‏

من‏ ‏هذا‏ ‏المنظور‏ ‏فإن‏ ‏العلم‏ ‏يشترك‏ ‏مع‏ ‏الأدب‏ (‏والفن‏ ‏عامة‏) ‏فى ‏المنبع‏ ‏والمصب‏ ‏دون‏ ‏المسار‏ ‏واللغة‏، ‏أى ‏فى ‏مرحلة‏ ‏بعث‏ ‏الإنتاج‏ ‏وحفز‏ ‏التشكيل‏، ‏ثم‏ ‏فى ‏مرحلة‏ ‏توسيع‏ ‏الوعى ‏وإثراء‏ ‏الوجود‏، ‏لكن‏ ‏ما‏ ‏بين‏ ‏المنبع‏ ‏والمصب‏ ‏تختلف‏ ‏طرق‏ ‏التوصيل‏ ‏والنقل‏ ‏والصياغة‏ ‏اختلافا‏ ‏جوهريا‏، ‏فمنتج‏ ‏العلم‏ (‏الحقيقى‏) ‏ومنتج‏ ‏الأدب‏ ‏يعتمد‏ ‏إنتاجهما‏ ‏على ‏كم‏ ‏المعلومات‏ ‏ومرونة‏ ‏التحريك‏، ‏والقدرة‏ ‏على ‏إعادة‏ ‏التنظيم‏ ‏فى ‏آن‏، ‏ويصب‏ ‏انتاجهما‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏فيما‏ ‏أشرنا‏ ‏إليه‏ ‏من‏ ‏توسيع‏ ‏الوعى ‏وإثراء‏ ‏الوجود‏، ‏لكن‏ ‏شكل‏ ‏الناتج‏ ‏ولغته‏ ‏يختلفان‏ ‏اختلافا‏ ‏جوهريا‏ ‏فى ‏كل‏ ‏من‏ ‏المنظومتين‏، ‏فبعض‏ ‏المبدعين‏ ‏العلماء‏ ‏الذين‏ ‏أضافوا‏ ‏جديدا‏ ‏يصفون‏ ‏حالة‏ ‏كونهم‏ ‏فى ‏منبع‏ ‏الإبداع‏ ‏وصفا‏ ‏فنيا‏ ‏دقيقا‏، ‏كما‏ ‏يحددون‏ ‏توجه‏ ‏إبداعهم‏ ‏بشكل‏ ‏متكامل‏ ‏نابض‏ ‏ممتد‏، ‏وعلى ‏الجانب‏ ‏الآخر‏ ‏نجد‏ ‏كثيرا‏ ‏من‏ ‏الأدباء‏ ‏قد‏ ‏توصلوا‏ (‏ليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏الخيال‏ ‏العلمى)، ‏إلى ‏مباديء‏ ‏وحقائق‏ ‏علمية‏ ‏ثبتت‏ ‏صحتها‏ ‏بعد‏ ‏حين‏ ‏بالمنهج‏ ‏العلمى ‏السليم‏.‏

إذن‏، ‏ونحن‏ ‏نبحث‏ ‏عن‏ ‏مفهوم‏ ‏عصرى ‏للعلم‏ ‏له‏ ‏علاقة‏ ‏بالثقافة‏ ‏العلمية‏ ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏نصالح‏ ‏بين‏ ‏العلم‏ ‏والفن‏ (‏والأدب‏) ‏ليس‏ ‏فقط‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏التأكيد‏ ‏على ‏أهمية‏ ‏العلوم‏ ‏الإنسانية‏ ‏واختلاف‏ ‏مناهجهما‏، ‏وإنما‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏التأكيد‏ ‏على ‏وحدة‏ ‏البدايات‏ (‏المنبع‏)، ‏ووحدة‏ ‏الغايات‏ (‏المصب‏).‏

‏4 – ‏العلم‏ ‏و ‏العالم‏:‏

حاول‏ ‏الكثيرون‏ ‏أن‏ ‏يفصلوا‏ ‏بين‏ ‏العلم‏ ‏وبين‏ ‏منتجه‏ (‏العالم‏) ‏باعتبار‏ ‏أن‏ ‏موقف‏ ‏العالم‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏متعادلا‏، (‏غير‏ ‏شخصى) ‏وقد‏ ‏يجوز‏ ‏هذا‏ ‏بالنسبة‏ ‏لعلم‏ ‏المعامل‏ ‏المرتبط‏ ‏بأدوات‏ ‏عيانية‏ ‏وأرقام‏ ‏مرصودة‏ ‏بأجهزة‏ ‏مستقلة‏، ‏لكن‏ ‏هذا‏ ‏الأمر‏ ‏يتراجع‏ ‏حتى ‏الفشل‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏العلوم‏ ‏الإنسانية‏، ‏وحتى ‏فى ‏العلوم‏ ‏الطبيعية‏ ‏أو‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏بالعلوم‏ ‏المحكمة‏ ‏أو‏ ‏المنضبطة‏ ‏فإن‏ ‏الانتقاء‏ ‏والتفسير‏ ‏والخلاصة‏ ‏تعتمد‏ ‏على ‏موقف‏ ‏العالم‏ ‏الشخصى ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏.‏

وقد‏ ‏حاول‏ ‏المنهج‏ ‏الفينومينولوجى ‏أن‏ ‏يتخطى ‏هذا‏ ‏الفصل‏ ‏بين‏ ‏العلم‏ ‏والعالم‏ ‏حين‏ ‏اعتبر‏ ‏الباحث‏ ‏جزءا‏ ‏لا‏ ‏يتجزأ‏ ‏من‏ ‏الظاهرة‏ ‏قيد‏ ‏البحث‏، ‏وينبغى ‏ألا‏ ‏يقتصر‏ ‏المنهج‏ ‏الفينومينولوجى ‏على ‏العلوم‏ ‏الإنسانية‏ ‏فحسب‏.‏

‏5 – ‏العلم‏ ‏والأخلاق‏:‏

حاول‏ ‏الكثيرون‏ ‏أيضا‏ ‏فصل‏ ‏العلم‏ ‏عن‏ ‏الأخلاق‏، ‏فصلا‏ ‏حاسما‏ ‏وواضحا‏، ‏ويبدو‏ ‏هذا‏ ‏مستحيل‏ ‏خاصة‏ ‏فيما‏ ‏يسمى ‏بالعلوم‏ ‏الإنسانية‏، ‏وكذلك‏ ‏فيما‏ ‏هو‏ ‏وصلة‏ ‏بين‏ ‏العلم‏ ‏والناس‏ (‏الثقافة‏ ‏العلمية‏ ‏والإعلام‏ ‏العلمى ‏كأمثلة‏)، ‏وبالتالى ‏لا‏ ‏يوجد‏ ‏عالم‏ ‏إنسان‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يستبعد‏ ‏البعد‏ ‏الأخلاقى ‏فى ‏أثناء‏ ‏ممارسته‏ ‏لفعل‏ ‏العلم‏، ‏أو‏ ‏حتى ‏حمله‏ ‏أو‏ ‏نقله‏ ‏أو‏ ‏تسويقه‏ ‏أو‏ ‏استهلاكه‏، ‏وقبل‏ ‏أن‏ ‏نتمادى ‏فى ‏شرح‏ ‏وتوضيح‏ ‏الوصلة‏ ‏الضرورية‏ ‏بين‏ ‏الأخلاق‏ ‏والعلم‏ ‏يجدر‏ ‏بنا‏ ‏توضيح‏ ‏ما‏ ‏نعنيه‏ ‏بالأخلاق‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏: ‏فنحن‏ ‏نستبعد‏ ‏ابتداء‏ ‏الوقوف‏ ‏عند‏ ‏الأخلاق‏ ‏الجاهزة‏، ‏أو‏ ‏الأخلاق‏ ‏المفروضة‏ ‏أو‏ ‏الأخلاق‏ ‏القاهرة‏ ‏أو‏ ‏الأخلاق‏ ‏المجـمدة‏ ‏أو‏ ‏الثابتة‏، (‏ولامجال‏ ‏للتفصيل‏ ‏طبعا‏)، ‏وإنما‏ ‏الذى ‏نريد‏ ‏أن‏ ‏نؤكده‏ ‏هو‏ ‏مفهوم‏ ‏الأخلاق‏ ‏بمعني‏: ‏أمانة‏ ‏الموقف‏، ‏ومصداقية‏ ‏الرصد‏، ‏ومسئولية‏ ‏الفعل‏، ‏والتوازن‏ ‏الذاتى، ‏مع‏ ‏التأكيد‏ ‏على ‏العلاقة‏ ‏الوثيقة‏ ‏بالواقع‏، ‏كذلك‏ ‏نرى ‏أن‏ ‏التأكيد‏ ‏على ‏صفات‏ ‏العالم‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏قدرته‏ ‏على ‏الحوار‏، ‏وعلى ‏المراجعة‏ ‏وعلى ‏التكذيب‏ ‏هو‏ ‏جانب‏ ‏خلقى ‏أساسا‏.‏

ثم‏ ‏إن‏ ‏رفض‏ ‏احتكار‏ ‏العلم‏ ‏أو‏ ‏خزنه‏ ‏هو‏ ‏موضوع‏ ‏أخلاقى ‏فى ‏المقام‏ ‏الأول‏.‏

وأخيرا‏ ‏فإن‏ ‏توجيه‏ ‏ناتج‏ ‏العلم‏ ‏لصالح‏ ‏الذات‏ ‏دون‏ ‏الناس‏، ‏أو‏ ‏لصالح‏ ‏فئة‏ ‏معينة‏ ‏من‏ ‏البشر‏ ‏دون‏ ‏غيرهم‏ ‏هو‏ ‏موقف‏ ‏بعيد‏ ‏عن‏ ‏الأخلاق‏ ‏يضر‏ ‏بغايات‏ ‏العلم‏ ‏حتى ‏ينقص‏ ‏ويشوه‏ ‏مفهومه‏.‏

لكن‏ ‏السؤال‏ ‏الذى ‏يطرح‏ ‏نفسه‏ ‏هنا‏ ‏هو‏:‏

‏ ‏هل‏ ‏تنتفى ‏صفة‏ ‏العلم‏ ‏عن‏ ‏النشاط‏ ‏المسمى ‏كذلك‏ ‏إذا‏ ‏افتقر‏ ‏مـنتج‏ ‏العلم‏ ‏بالذات‏ (‏وليس‏ ‏ناقله‏ ‏أو‏ ‏مسوقه‏) ‏إلى ‏هذه‏ ‏القيم‏ ‏الخلقية؟

والإجابة‏ ‏بالنسبة‏ ‏للنشاط‏ ‏الفردى، ‏أو‏ ‏النشاط‏ ‏المحدود‏، ‏هى ‏بالنفى ‏حتما‏ : ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏العلم‏ ‏يظل‏ ‏علما‏ ‏متى ‏توفرت‏ ‏له‏ ‏شروطه‏ ‏الأخرى ‏من‏ ‏الانتظام‏ ‏والعمومية‏ ‏والانضباط‏ ‏والقابلية‏ ‏للتكذيب‏. ‏لكن‏ ‏أهمية‏ ‏البعد‏ ‏الأخلاقى ‏تتضاعف‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏أخذنا‏ ‏هذا‏ ‏النشاط‏ ‏العلمى ‏المحدد‏ ‏فى ‏سياقه‏ ‏العام‏، ‏داخل‏ ‏مجموعة‏ ‏المنتجين‏ ‏والمسـوقين‏ ‏والحاملين‏ ‏والمؤثرين‏ ‏والمستهلكين‏، ‏إلخ‏. ‏هنا‏ ‏يجدر‏ ‏بنا‏ ‏أن‏ ‏نتذكر‏ ‏خطورة‏ ‏عدم‏ ‏الانتباه‏ ‏إلى ‏البعد‏ ‏الأخلاقى، ‏وأبسط‏ ‏تذكرة‏ ‏نشير‏ ‏إليها‏ ‏هى ‏قضية‏ ‏العالم‏ ‏النفسى ‏البريطانى “سيريل‏ ‏برت” ‏حين‏ ‏أثبت‏ ‏زعما‏ ‏علميا‏ ‏يؤكد‏ ‏تفوق‏ ‏ذكاء‏ ‏الرجل‏ ‏الأبيض‏ ‏عن‏ ‏ذكاء‏ ‏الرجل‏ ‏الأسود‏، ‏الأمر‏ ‏الذى ‏عاد‏ ‏إلى ‏الظهور‏ ‏مؤخرا‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏الأبحاث‏ ‏الجديدة‏، ‏وخاصة‏ ‏مع‏ ‏موجة‏ ‏العنصرية‏ ‏الجديدة‏، ‏وهنا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نشير‏ ‏بتحذير‏ ‏واضح‏ ‏إلى ‏خطورة‏ ‏هذا‏ ‏البعد‏ ‏الأخلاقى ‏فيما‏ ‏تقوم‏ ‏به‏ ‏شركات‏ ‏الدواء‏ ‏وشركات‏ ‏السلاح‏ ‏فى ‏اختيار‏ ‏منهج‏ ‏للبحث‏ ‏العلمى ‏دون‏ ‏سواه‏، ‏ثم‏ ‏فى ‏تسويق‏ ‏معطيات‏ ‏العلم‏ ‏لهلاك‏ ‏البشر‏ (‏تجارة‏ ‏السلاح‏) ‏أو‏ ‏للتدخل‏ ‏العشوائى ‏فى ‏التركيب‏ ‏الفطرى ‏لتسويق‏ ‏منتج‏ ‏كيميائى ‏بذاته‏.‏

ثم‏ ‏إن‏ ‏قضية‏ ‏الموقف‏ ‏الأخلاقى ‏وارتباطها‏ ‏بالعلم‏ ‏تقفز‏ ‏إلى ‏الصدارة‏ ‏حتما‏ ‏ونحن‏ ‏فى ‏صدد‏ ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏استعمالات‏ ‏العلم‏ ‏العملية‏ ‏فى ‏تشكيل‏ ‏الوعى، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏أخلاق‏ ‏حامل‏ ‏العلم‏ ‏وناقله‏ ‏ومستعمله‏ ‏هى ‏التى ‏تحدد‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏ ‏موقفه‏ ‏من‏ ‏انتقاء‏ ‏المنهج‏ ‏وطريقة‏ ‏التوصيل‏ ‏ومسئولية‏ ‏التعليم‏.‏

إذن‏، ‏فالمسألة‏ ‏الأخلاقية‏ ‏قد‏ ‏يتواضع‏ ‏دورها‏ ‏عند‏ ‏منتج‏ ‏العلم‏ ‏الملتزم‏ ‏بمنهجه‏، ‏لكنها‏ ‏تتضاعف‏ ‏أضعافا‏ ‏كثيرة‏ ‏بالنسبة‏ ‏لناقل‏ ‏العلم‏، ‏وحافظه‏، ‏ومسوقه‏، ‏ومستهلكه‏.‏

ويقع‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المنطقة‏ ‏كثير‏ ‏من‏ ‏التفسيرات‏ ‏المتعسفة‏ ‏للدين‏ ‏بالعلم‏ ‏وللعلم‏ ‏بالدين‏، ‏كما‏ ‏تقع‏ ‏مسئولية‏ ‏الإعلام‏ ‏العلمى ‏فى ‏هذه‏ ‏المنطقة‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏غيرها‏، ‏وعلى ‏مسئول‏ ‏الإعلام‏ ‏العلمى – ‏لكى ‏تتوفر‏ ‏له‏ ‏هذه‏ ‏الشروط‏ – ‏ألا‏ ‏يكتفى ‏بأن‏ ‏يكون‏ ‏حامل‏ ‏علم‏ ‏أو‏ ‏ناقل‏ ‏علم‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏ارتباطه‏ ‏بفعل‏ ‏العلم‏، ‏وغايته‏، ‏سوف‏ ‏يسمح‏ ‏له‏ ‏بممارسة‏ ‏مسئوليته‏ ‏الإعلامية‏ ‏بطريقة‏ ‏أنفع‏ ‏وأبقى ‏لا‏ ‏محالة‏.‏

تعقيبات‏ ‏وتوصيات

الأرجح‏ ‏أننا‏ ‏خرجنا‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏المقدمة‏ ‏ونحن‏ ‏أكثر‏ ‏بلبلة‏ ‏حول‏ ‏كلمة‏ ‏ومفهوم‏ ‏العلم‏، ‏مع‏ ‏أن‏ ‏المقصود‏ ‏والمفروض‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏نكون‏ ‏أكثر‏ ‏استنارة‏ ‏ووضوحا‏، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فإننى ‏أؤكد‏ ‏على ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏التقسيمات‏ ‏والتحديدات‏ ‏ورسم‏ ‏العلاقات‏ ‏حول‏ ‏كل‏ ‏استعمالات‏ ‏كلمة‏ “علم” ‏هى ‏ألزم‏ ‏ما‏ ‏تكون‏ ‏لتوسيع‏ ‏المفهوم‏ ‏من‏ ‏ناحية‏، ‏ولتحديد‏ ‏استخداماته‏ ‏التفصيلية‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخري‏. ‏ولتخفيف‏ ‏جرعة‏ ‏هذا‏ ‏التشتت‏، ‏سوف‏ ‏أحاول‏ ‏أن‏ ‏أختم‏ ‏هذه‏ ‏المقدمة‏ ‏ببعض‏ ‏التعقيبات‏ (‏أو‏ ‏التوصيات‏ ‏العامة‏) ‏على ‏الوجه‏ ‏التالى :‏

‏1- ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يمتد‏ ‏تعريف‏ ‏العلم‏ ‏إلى ‏أوسع‏ ‏مداه‏: ‏ليشمل‏ ‏كل‏ ‏أنواع‏ ‏المعرفة‏ ‏المنتظمة‏ ‏المتحركة‏ ‏القابلة‏ ‏للمراجعة‏ ‏والتكذيب‏ ‏والامتداد‏ ‏والتفريغ‏ ‏وتخليق‏ ‏الفروض‏.‏

‏2- ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يقتصر‏ ‏تعريف‏ ‏العلم‏ ‏على ‏الإرتباط‏ ‏بمنهج‏ ‏بذاته‏، ‏وإنما‏ ‏يعرف‏ ‏العلم‏ ‏بإلتزامه‏ ‏بمنهج‏ ‏محكم‏ ‏من‏ ‏مناهج‏ ‏كثيرة‏ ‏منضبطة‏، ‏تؤدى ‏أى ‏منها‏ ‏إلى ‏إضاءة‏ ‏جانب‏ ‏من‏ ‏جوانب‏ ‏الحقيقة‏ ‏بقدر‏ ‏يسمح‏ ‏بالتطبيق‏ ‏للإختبار‏، ‏والتحقق‏ ‏فالتعديل‏، ‏وهكذا‏.‏

‏3- ‏ينبغى ‏التأكيد‏ ‏على ‏أن‏ ‏العلم‏ ‏هو‏ ‏دائما‏ ‏مفتوح‏ ‏النهاية‏، ‏فهو‏ ‏منظومة‏ ‏ناقصة‏ ‏بالضرورة‏.‏

‏4- ‏ينبغى ‏ألا‏ ‏تعالى ‏فى ‏تصور‏ ‏إمكانية‏ ‏فصل‏ ‏موقف‏ “العلم” ‏عن‏ ‏موقف‏ “العالم” ‏وبالتالى ‏عن‏ ‏موقف‏ ‏ناقل‏ ‏العلم‏، ‏وحافظه‏ ‏ومسوقه‏.‏

‏5- ‏يكاد‏ ‏يفقد‏ ‏العلم‏ ‏مصداقيته‏ (‏وخاصة‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏الثقافة‏ ‏العلمية‏)، ‏إذا‏ ‏استعمل‏ ‏فى ‏غير‏ ‏غرضه‏: ‏تسهيل‏ ‏الحياة‏ ‏وإثرائها‏ ‏وتعميق‏ ‏الوعى ‏وإتساعه‏.‏

‏6- ‏ينبغى ‏ألا‏ ‏ينفصل‏ ‏العلم‏ ‏عن‏ ‏الأخلاق‏، ‏بالمعنى ‏الموضوعى ‏للأخلاق‏، ‏ذلك‏ ‏المعنى ‏المرتبط‏ ‏ارتباطا‏ ‏وثيقا‏ ‏بشخصية‏ ‏وموقف‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏ينتمى ‏إلى ‏كلمة‏ ‏علم‏ : ‏منتجا‏ ‏أو‏ ‏حاملا‏ ‏أو‏ ‏مسوقا‏ .. ‏الخ‏.‏

‏7- ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يشمل‏ ‏تعريف‏ ‏العلم‏ ‏وسيلة‏ ‏نقله‏ ‏وطبيعة‏ ‏نقله‏ ‏وتسويقه‏ ‏واختبار‏ ‏ناتج‏ ‏تسويقه‏ ‏لصالح‏ ‏البشر‏.‏

وهذا‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏أدوار‏ ‏المؤسسات‏ ‏التعليمية‏ ‏والإعلامية‏ ‏خاصة‏.‏

‏8- ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يترك‏ ‏العلم‏ ‏مساحة‏ ‏بجواره‏، ‏لإسهامات‏ ‏المسارات‏ ‏الأخرى ‏الموازية‏[3]لإثراء‏ ‏المعرفة‏ ‏وتشكيل‏ ‏الوعى‏.

[1]- من مواقف النفرى:

(أ) إذا عرفت معرفة المعارب جعلت العلم دابة من دوابك.

(أنظر كيف حدد العلم كوسيلة بين وسائل أخرى إلى معرفة أمثل، ربما تكون هى عمق الثقافة فى لغتنا المعاصرة)

(ب) من اغترف العلم من جريان العلم لا من عين العلم نقلته ألسنة العلوم وميلته تراجم العبارات، فلم يظهر بعلم مستقر، ومن لم يظفر بعلم مستقر لم يظفر بحكم.

(لاحظ: أن الاستقرار غير السكون والثبات)

[2]-  قارن تعبير النفرى “عين العلم” بتعبير العامة فى مصر “عين العقل” للتأكيد على صواب الحكم ودقة الرؤية والاتزان – وهذا قد يشير إلى ما ألمحت إليه من علاقة لغة الصوفية بلغة العامة.

[3]- تعبير التوازى بين مسارات سبل المعرفة هو تعبير مناسب “فى حدود”، ذلك أن التوازى  يعنى عدم الالتقاء مهما امتدت الخطوط، وهذا صحيح طالما احتفظ كل خط بلونه وبلغته الخاصة، وهذا ضرورى، إلا أن التوازى لا يعنى عدم الالتقاء نهائيا فالالتقاء يتم حتماً عند المصب (عند المتدينين: وجه الله والحقيقة، وعند غيرهم استمرار المسيرة لصالح التطور) كذلك يتم الالتقاء بالاشتراك فى الوظيفة: فالأعمدة المتوازية ترفع بناء شامخاً معا بما يتم وضعه فوقها، وتظل متوازية متكاتفة ليس باقتراب بعضها من بعض. وإنما بدخولها فى سياق كيان البناء الكلى.

‏اللغة‏ ‏العربية‏ ‏

وتشكيل‏ ‏الوعى ‏القومى ‏

مقدمة‏: ‏موقع‏ ‏صاحب‏ ‏الرؤية

‏1- “‏آن‏ ‏وقت‏ ‏الفزع”‏

حين‏ ‏قرأت‏ ‏هذه‏ ‏العبارة‏ ‏فى ‏كتاب‏ ‏الدكتور‏ ‏نبيل‏ ‏على “‏العرب‏ ‏وعصر‏ ‏المعلومات”، ‏لم‏ ‏أكد‏ ‏أفزع‏ ‏حتى ‏غضبت‏ ‏مرتين‏، ‏مرة‏ ‏لأننى ‏استجبت‏ ‏له‏ ‏ففزعت‏، ‏ومرة‏ ‏لأن‏ ‏ما‏ ‏ورد‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الصدد‏ ‏أدعى ‏للغضب‏ ‏منه‏ ‏للفزع‏، ‏صحيح‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏ذكره‏ ‏المؤلف‏ ‏من‏ ‏أسباب‏ ‏الفزع‏ ‏هى ‏أسباب‏ ‏مشروعة‏ ‏وملاحقة‏، ‏لكن‏ ‏الغضب‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏من‏ ‏يدرك‏ ‏حقيقة‏ ‏ما‏ ‏يجرى: ‏حيث‏ ‏ألعاب‏ ‏السلطة‏ ‏الآن‏ ‏أخفى ‏وأخطر‏، ‏الاحتلال‏ ‏يمتد‏ ‏إلى ‏وعى ‏الناس‏ ‏الأضعف‏، ‏والأكثر‏ ‏كسلا‏، ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏عزف‏ ‏السادة‏ ‏عن‏ ‏احتلال‏ ‏الأرض‏، ‏ثم‏ ‏عن‏ ‏احتكار‏ ‏سوق‏ ‏الحاجات‏، ‏واتجهوا‏ ‏إلى ‏العقول‏ ‏والوعى ‏مباشرة‏. ‏فالغضب‏ ‏أكثر‏ ‏إلحاحا‏ ‏ونحن‏ ‏نستمع‏ ‏إلى ‏حديث‏ ‏عن‏ ‘‏فائض‏ ‏القيمة” ‏المعلوماتية‏، ‏وعن‏ ‏ربحية‏ ‏الثورة‏ ‏التكنولوجية‏، ‏وعن‏ ‏مخزون‏ ‏المعلومات‏ ‏واحتكارها‏، ‏الفزع‏ ‏تلوح‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏فجواته‏ ‏سراديب‏ ‏الهرب‏، ‏وحين‏ ‏فوجئت‏ ‏أنه‏ ‏حتى ‏هذه‏ ‏السراديب‏ ‏مغلقة‏، ‏لم‏ ‏يتبق‏ ‏لى ‏إلا‏ ‏الغضب‏، ‏وهذا‏ ‏الغضب‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏شجعنى ‏أن‏ ‏آخذ‏ ‏بهذه‏ ‏المخاطرة‏ ‏بالإسهام‏ ‏فى ‏الحديث‏ ‏بين‏ ‏هؤلاء‏ ‏الثقات‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏ممارسة‏ ‏شخص‏ ‏عابر‏ ‏من “‏أصحاب‏ ‏المصلحة” ‏وليس‏ ‏من‏ ‏أهل‏ ‏الاختصاص‏.‏

وإسهامى ‏فى ‏المشاركة‏ ‏من‏ ‏موقع‏ ‏مواطن‏ ‏عادى ‏هو‏ ‏إسهام‏ ‏من‏ ‏يستشعر‏ ‏الخطر‏ ‏المباشر‏ ‏على ‏وجوده‏ ‏وهو‏ ‏يتابع‏ ‏ما‏ ‏يجرى ‏على ‏الساحة‏ ‏العالمية‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏المعرفة‏ ‏وكيفية‏ ‏تأثيرها‏ ‏فى ‏تشكيل‏ ‏وإعادة‏ ‏تشكيل‏ ‏الحياة‏ ‏المعاصرة‏، ‏وسواء‏ ‏وجدت‏ ‏نفسى ‏فى ‏موقف‏ ‏الفرجة‏ ‏عجزا‏، ‏أو‏ ‏اجتهدت‏ ‏مشاركا‏ ‏فتبينت‏ ‏فارق‏ ‏السرعة‏ ‏واتساع‏ ‏الهوة‏، ‏فالغضب‏ ‏أقرب‏ ‏على ‏كل‏ ‏حال‏، ‏غضب‏ ‏مشوب‏ ‏بحسرة‏ ‏مؤلمة‏ ‏ومرة‏.‏

وهذه‏ ‏المداخلة‏ ‏هى ‏نتيجة‏ ‏لما‏ ‏أتاحته‏ ‏لى ‏مهنتى ‏فى ‏الممارسة‏ ‏العملية‏ ‏حيث‏ ‏أواجه‏ ‏يوميا‏ ‏إنذارات‏ ‏مبكرة‏، ‏وإن‏ ‏كانت‏ ‏بشكل‏ ‏فردى ‏متقطع‏، ‏إنذارات‏ ‏تعلن‏ ‏أنه‏ ‏ما‏ ‏لم‏ ‏نبادر‏ ‏باليقظة‏ ‏فالفعل‏، ‏فهذه‏ ‏الصور‏ ‏الفردية‏ ‏التى ‏تواجهنى ‏فى ‏شكل‏ ‏معاناة‏ ‏مرضاى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تصبح‏ ‏كارثة‏ ‏جماعية‏ ‏فى ‏وقت‏ ‏قريب‏.‏

إذن‏ ‏فمنطلقى ‏إلى ‏هذه‏ ‏المداخلة‏ ‏هو‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏ممارستى ‏الإكلينيكية‏ ‏على ‏أرضية‏ ‏بيولوجية‏ (‏بالمعنى ‏الأشمل‏ ‏لكلمة‏ ‏بيولوجى)، ‏وحين‏ ‏أتذكر‏ ‏كلمة‏ ‏تشومسكى ‏من‏ ‏أن‏ ‘‏مدخل” ‏الحل‏ ‏فى ‏مسألة‏ ‏اللغة‏ ‏هو‏ ‏البيولوجى “‏أشعر‏ ‏أن‏ ‏لإسهامى ‏المتواضع‏ ‏هذا‏ ‏مكانه‏ ‏المناسب‏.‏

فالمفروض‏ ‏أننى ‏أنتمى ‏إلى ‏تخصص‏ ‏بيولوجى ‏أساسا‏، ‏وأنى ‏أمارس‏ ‏واقعا‏ ‏إكلينيكيا‏ ‏يسمح‏ ‏لى ‏بما‏ ‏يسمى ‏أخيرا‏ “‏ألعاب‏ ‏اللغة”، ‏مع‏ ‏متحاورين‏ ‏يتكلمون‏ ‏لغات‏ ‏خاصة‏، ‏بل‏ ‏يتناثرون‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏هو‏ “‏ضد‏ ‏اللغة”، ‏فأتعرف‏ ‏على ‏اللغة‏ ‏من‏ ‏ضدها‏ (‏وبضدها‏ ‏تتميز‏ ‏الأشياء‏).‏

ثم‏ ‏نأتى ‏إلى ‘‏الوعي” (وهو‏ ‏الشق‏ ‏الثانى ‏من‏ ‏العنوان‏) ‏فلا‏ ‏يحتاج‏ ‏الأمر‏ ‏إلى ‏تفسير‏ ‏خاص‏ ‏يبرر‏ ‏مشاركتى ‏من‏ ‏موقعى ‏هذا‏، ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏الوعى ‏هو‏ ‏تشكيل‏ ‏بيولوجى، ‏وجودى، ‏كلى ‏بالضرورة‏.‏

‏2- ‏المفاهيم‏ ‏البدئية‏:‏

من‏ ‏الأفضل‏ ‏أن‏ ‏أحدد‏ ‏نفسى ‏بألفاظ‏ ‏العنوان‏، ‏فأبدأ‏ ‏بتحديد‏ ‏ما‏ ‏تعنيه‏ ‏المفاهيم‏ ‏التى ‏حملتها‏ ‏ألفاظه‏ ‏المحدودة‏، ‏ورغم‏ ‏أن‏ ‏غيرى ‏من‏ ‏أهل‏ ‏الاختصاص‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏وأنهم‏ ‏أقدر‏ ‏على ‏أن‏ ‏يقوموا‏ ‏بهذه‏ ‏المهمة‏ (‏مهمة‏ ‏التعريف‏) ‏إلا‏ ‏أننى ‏أشعر‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الاستطراد‏ ‏سوف‏ ‏يجنبنى ‏كثيرا‏ ‏من‏ ‏الشبهات‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏تلقى ‏المتلقى ‏معنى ‏هذه‏ ‏الألفاظ‏ ‏كما‏ ‏اعتاد‏ ‏أن‏ ‏يفعل‏. ‏

وبداية‏ ‏سوف‏ ‏أتناول‏ ‏مفهوم‏ ‏كل‏ ‏من‏ “اللغة” ‏و”‏الوعى” ‏مرجئا‏ ‏الحديث‏ ‏عن‏ “‏العربية” ‏والقومى” ‏إلى ‏فقرة‏ ‏لاحقة‏.‏

‏2 – 1- ‏اللغة‏ – ‏الوعى: ‏تعرف‏ ‏لا‏ ‏تعريف

أما‏ ‏اللغة‏ ‏فهناك‏ ‏من‏ ‏الملامح‏ ‏والتحديدات‏ ‏ما‏ ‏كاد‏ ‏أن‏ ‏يصبح‏ ‏من‏ ‏البديهيات‏ ‏مما‏ ‏لا‏ ‏أرى ‏مبررا‏ ‏للخوض‏ ‏فيه‏ ‏مثل‏ ‏أن‏ ‏اللغة‏ ‏غير‏ ‏الكلام‏، ‏ومثل‏ ‏أن‏ ‏اللغة‏ ‏لغات‏ ‏كثيرة‏، ‏لها‏ ‏ألسنة‏ ‏كثيرة‏، ‏ومثل‏ ‏أن‏ ‏اللغة‏ ‏أصل‏ ‏لعلوم‏ ‏عديدة‏، ‏وليست‏ ‏أداة‏ ‏لغيرها‏ ‏من‏ ‏العلوم‏، ‏وهكذا‏، ‏لكننى ‏أشعر‏ ‏أنه‏ ‏من‏ ‏المفيد‏ ‏التأكيد‏ ‏على ‏أهم‏ ‏مناطق‏ ‏النفى ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏أستطرد‏ ‏إلى ‏تقرير‏ ‏ما‏ ‏ينبغى ‏إثباته‏:‏

فاللغة‏ ‏ليست‏ ‏إضافة‏ ‏لاحقة‏ ‏لظاهر‏ ‏الوجود‏ ‏الفردى ‏أوالجماعي

وهى ‏ليست‏ ‏أداة‏ ‏للاستعمال‏ ‏الظاهرى

وهى ‏ليست‏ ‏كيانا‏ ‏مستقلا‏ ‏عن‏ ‏الوعى، ‏ولا‏ ‏عن‏ ‏الوجود‏ ‏ولا‏ ‏عن‏ ‏المخ

وهى ‏ليست‏ ‏الكلام‏ ‏طبعا

فاللغة “‏لم‏ ‏تعد‏ ‏تمريرا‏ ‏جيد‏ ‏التقنين‏ ‏وخاليا‏ ‏من‏ ‏التشويش‏ ‏لنقل‏ ‏العلامات‏ ‏من‏ ‏يد‏ ‏ليد”‏

إذن‏ ‏ماذا‏ ‏هى ‏اللغة‏ ‏التى ‏سوف‏ ‏أتحدث‏ ‏عنها‏ ‏؟

‏(1) ‏هى:‏ذلك‏ ‏الكيان‏ ‏البيولوجى ‏الراسخ‏/‏المرن‏/ ‏المفتوح‏ ‏فى ‏آن‏، ‏القادر‏ ‏على ‏تفعيل‏ ‏المعرفة‏ ‏فى ‏الوعي‏.‏

‏(2) ‏هى: ‏الوجود‏ ‏البشرى ‏نفسه‏ ‏فى ‏أرقى ‏مراتب‏ ‏تعقده‏ ‏وفاعليته.

‏(3) ‏هى: ‏التركيب‏ ‏الغائر‏ ‏لمصدر‏ ‏السلوك‏ ‏المحدد‏ ‏للشكل‏ ‏الظاهر.

‏(4) ‏هى ‏الوعى ‏الدائم‏ ‏التشكل‏ ‏والتشكيل‏ ‏بما‏ ‏يسمح‏ ‏باحتواء‏ ‏المعنى – ‏إذ‏ ‏يكونه‏- ‏وإطلاقه‏ ‏بما‏ ‏تيسر‏ ‏وتناسب‏ ‏من‏ ‏أدوات.

‏(5) ‏هى ‏إبداع‏ ‏الذات‏ ‏المتجدد‏ ‏إذ‏ ‏يصاغ‏ ‏فى ‏وجود‏ ‏قابل‏ ‏للتواصل‏. ‏

‏(6) ‏هى: ‏تجلى ‏المعنى ‏فى ‏تركيب‏ ‏قادر‏ ‏على ‏التماسك‏ ‏فى ‏وحدات‏ ‏متصاعدة.

‏(7) ‏هى: ‏حركية‏ ‏المخ‏ ‏البشرى ‏فى ‏كليته‏ ‏البالغة‏ ‏التنظيم‏، ‏البالغة‏ ‏المطاوعة‏ ‏فى ‏آن.‏ ‏

‏(9) ‏هى: ‘‏علاقة‏ ‏نزاعية‏ ‏بين‏ ‏متحايلين‏ (‏ممارسة‏ ‏الحيل‏ ‏للتغلب‏ ‏على ‏خصم‏ ‏تواصلى)’‏.

‏(10) ‏هى: ‘‏تبادل‏ ‏غير‏ ‏مستقر‏ ‏لمن‏ ‏يمسهم‏ ‏الأمر‏ ‏الذين‏ ‏بوصفهم‏ ‏مشاركين‏ ‏فى ‏خطاب‏ ‏علمى ‏يختبرون‏ ‏مزاعم‏ ‏صلاحية‏ ‏معاييرهم”‏.

‏(11) ‏هى: ‏مشروع‏ ‏متجدد‏ ‏وليست‏ ‏خطابا‏ ‏محددا.

‏* * *‏

ولا‏ ‏بد‏ ‏من‏ ‏إيضاح‏ ‏أن‏ ‏أيا‏ ‏مما‏ ‏سبق‏ ‏ليس‏ ‏تعريفا‏ ‏جامعا‏ ‏مانعا‏، ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏تعرف‏ ‏على ‏ماهية‏ ‏اللغة‏ ‏أساسا‏، ‏وهو‏ ‏لازم‏ ‏لتوضيح‏ ‏هذه‏ ‏الخصائص‏ ‏الجذرية‏ ‏لحركية‏ ‏اللغة‏ ‏اللازمة‏ ‏لفهم‏ ‏الجزء‏ ‏الثانى ‏من‏ ‏العنوان‏ ‏وهو‏ ‘‏تشكيل‏ ‏الوعي” ‏

‏2-2‏- فإذا‏ ‏انتقلنا‏ ‏إلى ‏محاولة‏ ‏التعرف‏ ‏على ‏مفهوم‏ ‘‏الوعى” ‏باعتباره‏ ‏الشق‏ ‏الثانى ‏فى ‏العنوان‏ ‏فسوف‏ ‏نفاجأ‏ ‏أنه‏ ‏أحوج‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ – ‏أيضا‏ – ‏إلى ‏نفى ‏ما‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏لإثبات‏ ‏بعض‏ ‏معالمه‏ ‏على ‏نفس‏ ‏النهج‏، ‏ونبدأ‏ ‏بالتذكرة‏ ‏كيف‏ ‏توارت‏ ‏حقيقة‏ ‏الوعى ‏عن‏ ‏الدارسين‏ ‏والكافة‏ “إما‏ ‏بالإنكار‏ ‏أو‏ ‏بالإهمال‏ ‏أو‏ ‏بالنفي‏- ‏كما‏ ‏يقول‏ ‏الطبيب‏ ‏النفسى ‏الفرنسى ‏هنرى ‏إى‏- ‏فالبعض‏ ‏أنكرالوعى ‏تماما‏ ‏كمادة‏ ‏للدراسة‏ ‏والتقييم‏ ‏مثل‏ ‏السلوكيين‏، ‏والبعض‏ ‏نفخ‏ ‏فيه‏ ‏حتى ‏أصبح‏ ‏هو‏ ‏كل‏ ‏شئ، ‏فلم‏ ‏يعد‏ ‏شيئا‏، ‏والبعض‏ ‏نزع‏ ‏منه‏ ‏التحديد‏ ‏الذاتى ‏حين‏ ‏جعله‏ ‏شبكة‏ ‏معقدة‏ ‏من‏ ‏التركيبات‏ ‏البينشخصية‏، ‏والبعض‏ ‏جعل‏ ‏الوعى -‏اختزالا‏- ‏مرادفا‏ ‏للصحو‏ ‏مرة‏ (‏ضد‏ ‏النوم‏) ‏ومرادفا‏ ‏للشعور‏ ‏مرة‏ ‏أخرى ( ‏ضد‏ ‏اللاشعور‏)‏

إن‏ ‏حاجتنا‏ ‏شديدة‏ ‏لمواجهة‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏لنتعرف‏ ‏على ‏الوعى ‏كما‏ ‏ينبغى، ‏ذلك‏ ‏الكيان‏ ‏البيولوجى ‏الذى ‏يتشكل‏ ‏بـ‏ ‏ومع‏ ‏اللغة

ولكن‏ ‏بداية‏، ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏نقر‏ ‏أن‏ ‏الوعى ‏لازم‏ ‏كأرضية‏ ‏أساسية‏ ‏لكل‏ ‏نشاط‏ ‏عقلى ‏آخر‏، ‏وذلك‏ ‏باعتباره‏ ‘‏الوساد‏ ‏الذى ‏تتم‏ ‏فيه‏ ‏العمليات‏ ‏العقلية‏ ‏الأكثر‏ ‏تحديدا‏، ‏والتى ‏تمثل‏ ‏الشكل‏ ‏بالنسبة‏ ‏لهذه‏ ‏الأرضية‏ ‏الأشمل”، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الفهم‏ ‏للوعى ‏غير‏ ‏كاف‏ ‏لأن‏ ‏الوعى ‏ليس‏ ‏أرضية‏ ‏منفصلة‏ ‏عن‏ ‏الشكل‏ ‏أو‏ ‏متبادلة‏ ‏معه‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏حاضر‏ ‏فى ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏العمليات‏ ‏حضورا‏ ‏شاملا‏ ‏ومحددا‏ ‏فى ‏آن‏، ‏فالوعى : ‏هو‏ ‏العملية‏ ‏الحيوية‏ ‏التى ‏يتم‏ ‏من‏ ‏خلالها‏ ‏تشكيل‏ ‏منظومة‏ ‏عقلية‏ ‏فى ‏تركيبها‏ ‏الكلى ‏فى ‏لحظة‏ ‏ما‏، ‏فإذا‏ ‏استمر‏ ‏هذا‏ ‏التشكيل‏ ‏لفترة‏ ‏من‏ ‏الزمن‏ ‏أصبح‏ ‏يمثل‏ ‏مستوى ‏منظوميا‏ ‏كليا‏ ‏خاصا‏ ‏يمكن‏ ‏استحضاره‏ ‏وتنشيطه‏ ‏وإعادة‏ ‏تشكيله‏ ‏ككل‏، (‏حسب‏ ‏التناسب‏ ‏مع‏ ‏الموقف‏، ‏والمطلق‏، ‏والمثير‏، ‏والمصاحب‏..‏إلخ‏، ‏مما‏ ‏يسمى ‏أحيانا‏ ‘‏حالات‏ ‏الذات” Ego States ‏أو‏ ‏منظومات‏ ‏من‏ ‏مستويات‏ ‏المخ‏ ‏أو‏0 ‏غير‏ ‏ذلك‏).‏

2- 3- ‏المنهج‏ ‏والثقافة

إذن‏، ‏فاللغة‏ ‏عملية‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏هى ‏منظومة‏ ‏وتشكيل‏ ‏متجدد

والوعى ‏عملية‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏هو‏ ‏وساد‏ ‏ومنظومة‏ ‏ومستوى: ‏يقول‏ ‏هنرى ‏إى ‘…‏أن‏ ‏تكون‏ ‏واعيا‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏تعيش‏ ‏تفرد‏ ‏خبرتك‏ ‏حالة‏ ‏كونها‏ ‏تتحول‏ ‏إلى ‏حضورها‏ ‏المعرفى ‏الشامل”‏

والعلاقة‏ ‏بين‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏الوعى ‏واللغة‏ ‏هى ‏علاقة‏ ‏وثيقة‏ ‏حتى ‏لتوحى ‏بالتماثل‏، ‏وبالرغم‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏فهما‏ ‏ليسا‏ ‏واحدا‏، ‏فرغم‏ ‏اتفاقهما‏ ‏فى ‏أن‏ ‏كلا‏ ‏منهما‏(‏ا‏) ‏عملية،(‏ب‏) ‏تخليق‏ ‏وتشكيل‏ (‏جـ‏) ‏منظومة‏(‏ء‏) ‏ملتحمة‏ ‏بما‏ ‏تحتويه‏، ‏فإن‏ ‏ثمة‏ ‏فروقا‏ ‏ضرورية‏ ‏لابد‏ ‏من‏ ‏التنبيه‏ ‏عليها‏ ‏مثل‏:‏

‏ ‏إن‏ ‏اللغة‏ ‏توليد‏ ‏ذو‏ ‏وحدات‏ ‏أوفر‏ ‏كثرة‏ ‏وأنشط‏ ‏تشكيلا‏ ‏وأحضر‏ ‏إبداعا‏ ‏وأقدر‏ ‏حوارا‏ ‏

فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏الوعى ‏هو‏ ‏أكثر‏ ‏منظومية‏، ‏وأعمق‏ ‏رسوخا‏، ‏وأطول‏ ‏زمنا‏، ‏وأجهز‏ ‏تنسيقا

فاللغة‏ ‏هى ‏وحدة‏ ‏الوعى ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏هى ‏تشكيلاته‏ ‏المتداخلة‏ ‏القادرة‏ ‏على ‏الإفصاح‏ ‏المعرفى ‏دون‏ ‏إلزام‏ ‏بافصاح‏ ‏محدد

والوعى ‏هو‏ ‏كلية‏ ‏اللغة‏ ‏حالة‏ ‏كونها‏ ‏منظومة‏ ‏مستقرة‏ ‏نسبيا‏. ‏

ومن‏ ‏هنا‏ ‏فإن‏ ‏تشكيل‏ ‏الوعى ‏يعتمد‏ ‏بالضرورة‏ ‏على ‏ما‏ ‏تتصف‏ ‏به‏ ‏اللغة‏ ‏من‏ ‏قوة‏ ‏وضعف‏، ‏وإحكام‏ ‏وترهل‏، ‏وإبداع‏ ‏وتناثر

وقبل‏ ‏أن‏ ‏نختتم‏ ‏هذا‏ ‏التقديم‏ ‏المبدئى، ‏لا‏ ‏بد‏ ‏من‏ ‏توضيح‏ ‏أن‏ ‏اللغة‏ ‏ليست‏ ‏كيانا‏ ‏داخليا‏ ‏منفصلا‏ ‏كما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏قد‏ ‏أثاره‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏التجذير‏ ‏لماهيتها‏، ‏كذلك‏ ‏الوعى‏. ‏

فعمليات‏ ‏اللغة‏ ‏وتشكيلات‏ ‏الوعى ‏كلها‏ ‏مرتبطة‏ ‏بما‏ ‏تتغذى ‏به‏ ‏من‏ ‏معلومات‏، ‏وما‏ ‏تمارسانه‏ ‏من‏ ‏إبداع‏ ‏تواصلى ‏وحوار‏ ‏نزاعى‏.‏

وأجده‏ ‏مناسب‏ ‏أن‏ ‏أوضح‏ ‏بشكل‏ ‏ما‏ ‏علاقة‏ ‏اللغة‏ ‏والوعى ‏بكل‏ ‏من‏ ‏المنهج‏ ‏العلمى ‏والثقافة‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏الثقافة‏ ‏العلمية‏. ‏فمن‏ ‏ناحية‏ ‏فإن‏ ‏اللغة‏ ‏وعلومها‏ ‏تقود‏ ‏وتثرى ‏المنهج‏ ‏العلمى ‏عامة‏ (‏فهى ‏لا‏ ‏تتبعه‏، ‏كما‏ ‏أنها‏ ‏ليست‏ ‏مجرد‏ ‏أداة‏ ‏له‏)، ‏ومن‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى ‏فإن‏ ‏الحكاية‏ (‏المعرفةالحكائية‏) ‏قد‏ ‏بدأ‏ ‏الانتباه‏ ‏المنهجى ‏يعيد‏ ‏إليها‏ ‏موقعها‏ ‏المناسب‏ ‏فى ‏المنهج‏ ‏العلمى، ‏حتى ‏راحت‏ ‏تنافس‏ (‏أو‏ ‏تتفوق‏ ‏على) ‏المنهج‏ ‏القياسى، ‏رغم‏ ‏أنهما‏ ‏يكمل‏ ‏أحدهما‏ ‏الآخر‏، ‏المعرفة‏ ‏الحكائية‏ ‏عادت‏ ‏تؤكد‏ ‏أنها‏ ‏لغة‏ ‏لها‏ ‏مشروعيتها‏ ‏ومصداقيتها‏ ‏الخاصة‏، ‏ويمكن‏ ‏الرجوع‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏إلى ‏فرانسوا‏ ‏ليوتار‏ ‏فى ‘‏ما‏ ‏بعد‏ ‏الحداثة”.‏

أما‏ ‏علاقة‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏اللغة‏ ‏والوعى ‏بما‏ ‏هو‏ ‏ثقافة‏، ‏فهذا‏ ‏أمر‏ ‏لا‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏تبيان‏، ‏ونكتفى ‏بالتذكرة‏ ‏بأن‏ ‏الثقافة‏ ‏هى ‏الوعى ‏العام‏ ‏وقد‏ ‏تشكل‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏إبداعات‏ ‏كل‏ ‏اللغات‏ ‏المتاحة‏ ‏بمنظوماتها‏ ‏الغائرة‏، ‏ثم‏ ‏الظاهرة‏، ‏فى ‏تشكيلاتها‏ ‏المتنوعة‏. ‏والمثقف‏: ‏هو‏ ‏ذلك‏ ‏الشخص‏ ‏الذى ‏صار‏ ‏وعيه‏ ‏الخاص‏ ‏فى ‏متناول‏ ‏إدراكه‏ ‏حالة‏ ‏كونه‏ ‏ملتحما‏ ‏مع‏، ‏ومتداخلا‏ ‏فى: ‏الوعى ‏العام‏، ‏ومن‏ ‏هذا‏ ‏المنطلق‏ ‏يصبح‏ ‏كلا‏ ‏من‏ ‏اللغة‏ ‏والمنهج‏ ‏والوعى ‏العام‏ ‏فالخاص‏ ‏هى ‏محركات‏ ‏الثقافة‏، ‏بل‏ ‏هى ‏هى .‏

‏3- ‏ضد‏ ‏اللغة

تعرفت‏ ‏على ‏جوهر‏ ‏اللغة‏ ‏من‏ ‏معايشة‏ ‏ضدها‏ ‏لا‏ ‏من‏ ‏البحث‏ ‏فيها‏ ‏ابتداء‏، ‏أو‏ ‏القراءة‏، ‏عنها‏ ‏دراسة‏، ‏وذلك‏ ‏من‏ ‏منطلق‏ ‏معايشتى ‏للفصام‏ ‏وحوارى ‏مع‏ ‏الفصاميين‏، ‏وإليكم‏ ‏بعض‏ ‏ذلك‏ :‏

إن‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏الفصام‏، (‏وهو‏ ‏إسم‏ ‏شائع‏ ‏ومخيف‏ ‏فى ‏آن‏)، ‏هو‏ ‏مفتاح‏ ‏هذه‏ ‏المسألة‏، ‏واسم‏ ‘‏الفصام” ‏يستعمله‏ ‏حتى ‏الثقات‏ ‏منا‏ ‏فى ‏غير‏ ‏موضعه‏، ‏ويفهمه‏ ‏الأغلب‏ ‏بغير‏ ‏ما‏ ‏يعنى، ‏فكثير‏ ‏من‏ ‏غير‏ ‏المختصين‏، ‏بل‏ ‏ومن‏ ‏المختصين‏، ‏يستعملون‏ ‏لفظ‏ ‏الفصام‏ ‏فيما‏ ‏يفيد‏ ‏ازدواج‏ ‏الشخصية‏ ‏أو‏ ‏ازدواج‏ ‏السلوك‏، ‏أو‏ ‏تناقض‏ ‏التصرفات‏، ‏وكل‏ ‏هذا‏ ‏سطحى ‏وخاطئ‏. ‏فازدواج‏ ‏الشخصية‏ ‏هو‏ ‏انشقاق‏ ‏عابر‏ ‏عادة‏، ‏وكل‏ ‏شخصية‏ ‏من‏ ‏الشخصيات‏ ‏المزدوجة‏ (‏أوالمتعددة‏) ‏لها‏ ‏حضورها‏، ‏ولغتها‏ ‏ومنظوماتها‏ ‏المتسقة‏ ‏مع‏ ‏بعضها‏ ‏البعض‏ ‏فى ‏ذاتها‏ ‏رغم‏ ‏اختلافها‏ ‏عن‏ ‏كليات‏ ‏الشخصية‏ (‏الشخصيات‏) ‏الأخرى، ‏وهكذا‏.‏

أما‏ ‏الفصام‏ ‏فهو‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏عملية‏ ‏أخطر‏: ‏من‏ ‏التناثر‏ ‏كيفما‏ ‏اتفق‏، ‏وأبلغ‏ ‏وصف‏ ‏له‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏جاء‏ ‏فى ‏شطر‏ ‏بيت‏ ‏شعر‏ ‏عربى ‘ ..‏ذو‏ ‏لب‏ ‏نثر” (‏هذريان‏ ‏هذر‏ ‏هذاءة‏ ‏موشك‏ ‏السقطة‏ ‏ذو‏ ‏لب‏ ‏نثر‏) ‏وهذا‏ ‏اللب‏ ‏النثر‏ ‏هو‏ ‏باختصار‏ ‏شديد‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يفهم‏ ‏باعتباره‏ ‘‏ضد‏ ‏اللغة” ( ‏أو‏ ‏عكس‏ ‏اللغة‏anti-language (‏

والذى ‏يحدث‏ ‏فى ‏الفصام‏ ‏هو‏ ‏الافتقار‏ ‏إلى ‏كل‏ ‏من‏: ‏المعنى، ‏فالغاية‏، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏الوحدة‏ ‏القادرة‏ ‏على ‏التشكل‏ ‏الضام‏ ‏فى ‏الأحوال‏ ‏العادية‏ ‏إنما‏ ‏تفعل‏ ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏التمحور‏ ‏حول‏ ‏فكرة‏ ‏مركزية‏ ‏هى ‏هى ‏الفكرة‏ ‏الغائية‏ ‏وهى ‏التى ‏يفتقدها‏ ‏الفصامى ‏على ‏المستوى ‏المتاح‏ ‏للفحص‏ ‏على ‏الأقل‏. ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏يظهر‏ ‏التناثر‏.‏

وفى ‏المقابل‏ ‏فإن‏ ‏العملية‏ ‏العلاجية‏ ‏الحقيقية‏ ‏إنما‏ ‏تهدف‏ ‏إلى ‏إعادة‏ ‏تكوين‏ ‏الفصامى (‏لغة‏/ ‏وجودا‏/ ‏وحدة‏) ‏وذلك‏ ‏بتجميع‏ ‏تناثره‏ ‏فى ‏وحدات‏ ‏صغيرة‏ ‏ثم‏ ‏أكبر‏ ‏فأكبر‏ ‏حتى ‏يعود‏ ‏الشتات‏ ‏المتناثر‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يطلق‏ ‏عليه‏ ‏الفصام‏. ‏فالعملية‏ ‏الفصامية‏ ‏هى ‏أقرب‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏وصفه‏ ‏جيبسون‏ ‏فى ‏مقدمته‏ ‏لكتاب‏ ‏ليوتار‏ ‘‏ما‏ ‏بعد‏ ‏الحداثة”..‏تحلل‏ ‏الذات‏ ‏إلى ‏حشد‏ ‏من‏ ‏الشبكات‏ ‏والعلاقات‏ ‏المتناقضة‏ ‏والرسائل‏ ‏المتداخلة‏..’‏

فإذا‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏الحال‏ ‏فى ‏الفصام‏، ‏الذى ‏نبهنى – ‏على ‏مستوى ‏الفرد‏- ‏لما‏ ‏هو‏ ‘‏ضد‏ ‏اللغة”، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏لما‏ ‏هو‏ ‏اللغة‏، ‏فهل‏ ‏ينطبق‏ ‏الحال‏ ‏على ‏المجتمع‏ ‏الأوسع‏ ‏خللا‏ ‏فعلاجا‏؟

قبل‏ ‏أن‏ ‏نجيب‏ ‏على ‏هذا‏ ‏السؤال‏ ‏دعونا‏ ‏ننتقل‏ ‏خطوة‏ ‏إلى ‏وظيفة‏ ‏التوصيل‏ ‏والتواصل‏ ‏فى ‏علاقته‏ ‏باللغة‏، ‏ودور‏ ‏الكلام‏ ‏وما‏ ‏يقوم‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏تغذية‏ ‏مرتجعة‏ (‏مما‏ ‏ينطبق‏ ‏أيضا‏ ‏على ‏مكافـئات‏ ‏الكلام‏ ‏من‏ ‏إشارات‏).‏

‏4 ‏الكلام‏ ‏واللغة‏ ‏والشعر‏ ‏

الكلام‏ ‏وهو‏ ‏يؤدى ‏بعض‏ ‏وظائفه‏ ‏للتواصل‏ ‏والاقتصاد‏، ‏يعود‏ ‏فيؤثر‏ ‏ارتجاعا‏ ‏على ‏الكيان‏ ‏اللغوى ‏ذاته‏، ‏أى ‏على ‏تنظيم‏ ‏وجودنا‏ ‏وفاعليته‏، ‏لذلك‏: ‏فإن‏ ‏ما‏ ‏يصيب‏ ‏الكلام‏ ‏من‏ ‏وهن‏ ‏أو‏ ‏تشويش‏، ‏يفقده‏ ‏قدرته‏ ‏على ‏الإثارة‏ ‏والحفز‏، ‏أو‏ ‏يطمس‏ ‏دلالته‏ ‏ويجهض‏ ‏إيحاءاته‏، ‏فيرتد‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏مؤثرا‏ ‏على ‏وجودنا‏/‏لغتنا‏، ‏بما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يهز‏ ‏معالم‏ ‏كياننا‏ ‏الحيوى ‏الأساسى ‏نفسه‏ (‏هذا‏ ‏الجزء‏، ‏وما‏ ‏بعده‏ ‏سبق‏ ‏تفصيلة‏ ‏فى ‏آخر‏ ‏بعنوان‏ ‏جدلية‏ ‏الجنون‏ ‏والإبداع‏).‏

لكن‏ ‏الظاهرة‏ ‏الوجودية‏ ‏التى ‏قد‏ ‏تصاغ‏ ‏فى ‘‏كلمات” ‏هى ‏ظاهرة‏ ‏أسبق‏ ‏وأشمل‏ ‏من‏ ‏التركيب‏ ‏اللفظى ‏الذى ‏يحاول‏ ‏احتواءها‏، ‏ناهيك‏ ‏عن‏ ‏اللفظ‏ ‏الذى ‏يحاول‏ ‏إعلانها‏، ‏يترتب‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏يجد‏ ‏الإنسان‏ ‏نفسه‏ ‏فى ‏مأزق‏ ‏حرج‏ ‏إذ‏ ‏يحاول‏ ‏عبور‏ ‏الهوة‏ ‏بين‏ ‏الظاهرة‏ ‏القبلية‏ ‏المتحررة‏ ‏نسبيا‏ ‏من‏ ‏التشكيل‏ ‏اللغوى، ‏وبين‏ ‏احتوائها‏ ‏فيما‏ ‏يمكن‏ ‏التعبير‏ ‏عنه‏ ‏بالتنظيم‏ ‏الإشارى ‏الدال‏ ‏عليها‏، ‏وأرجح‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏المأزق‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏وصل‏ ‏إلى ‏بعض‏ ‏وعى ‏صاحبه‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، ‏هو‏ ‏من‏ ‏أدق‏ ‏الخبرات‏ ‏البشرية‏، ‏وأى ‏استسهال‏ ‏فى ‏محاولة‏ ‏عبوره‏، ‏بالقفز‏ ‏فوقه‏ ‏تجاهلا‏، ‏أو‏ ‏بطمس‏ ‏الوعى ‏دفاعا‏، ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يترتب‏ ‏عنه‏ ‏إجهاض‏ ‏للمعرفة‏ ‏الأدق‏، ‏ونكوص‏ ‏إلى ‏اختزال‏ ‏خطر‏. ‏وقد‏ ‏رجحت‏ ‏أن‏ ‏بعض‏ ‏محاولات‏ ‏تحديد‏ ‏مصطلحات‏ ‏علمية‏، ‏أو‏ ‏تحديث‏ ‏المعاجم‏ ‏بصورة‏ ‏عصرية‏ ‏متخصصة‏، ‏إنما‏ ‏يقع‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المحظور‏.‏

وأحسب‏ ‏أنه‏ ‏بالنسبة‏ ‏للكائن‏ ‏البشرى، ‏فإنه‏ ‏يصعب‏ – ‏بما‏ ‏هو‏ ‏بشر‏ – ‏أن‏ ‏نفترض‏ ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏مرحلة‏ ‏معرفية‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تعتبر‏ ‏أنها‏ ‏مرحلة‏ ‘‏ما‏ ‏قبل‏ ‏اللغة”، ‏ذلك‏ ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏توجد‏ ‏مرحلة‏ “ما‏ ‏قبل‏ ‏الكلام” ‏أو‏ ‏مرحلة‏ ‏ما‏ ‏قبل‏ ‏اللغة‏ ‏القائمة‏ ‏الآن‏، ‏لكن‏ ‏يبدو‏ ‏أنه‏ ‏يستحيل‏ ‏أن‏ ‏توجد‏ ‏ظاهرة‏ ‏بشرية‏ ‏أصلا‏ ‏ليست‏ ‏ملتحمة‏ ‏التحاما‏ ‏كافيا‏ ‏بلغتها‏، ‏بمعنى ‏تركيبها‏ ‏الحيوى ‏الغائر‏.‏

‏ ‏لكن‏ ‏نمو‏ ‏اللغة‏ ‏يبدأ‏ ‏بحفز‏ ‏غامض‏ ‏لكنه‏ ‏متوجه‏، ‏وطبيعة‏ ‏هذه‏ ‏الخبرات‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏تحول‏ ‏دون‏ ‏إمكانية‏ ‏تناولها‏ ‏بالأدوات‏ ‏التعبيرية‏ ‏العادية‏، ‏ناهيك‏ ‏عن‏ ‏الدراسة‏ ‏المنهجية‏ ‏ثم‏ ‏الخضوع‏ ‏للوصف‏ ‏الكلامى، ‏والتاريخ‏ ‏الطويل‏ (‏المجهول‏ ‏غالبا‏) ‏للمعرفة‏ ‏الباطنية‏ (‏أو‏ ‏الجوانية‏)، ‏وللتواصل‏ ‏غير‏ ‏اللفظى ‏إنما‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏حقيقة‏ ‏جانب‏ ‏من‏ ‏جوانب‏ ‏وجودنا‏ ‏البشرى ‏لابد‏ ‏من‏ ‏استنتاجه‏ ‏وتصوره‏ ‏واحترامه‏ ‏رغم‏ ‏العجز‏ ‏عن‏ ‏الإحاطة‏ ‏به‏، ‏وهذه‏ ‏البداية‏ ‏تعلن‏ ‏أن‏ ‏الظاهرة‏ ‏الوجودية‏ ‏اللغوية‏ ‏هى ‏الأصل‏، ‏ظهرت‏ ‏أم‏ ‏لم‏ ‏تظهر‏ ‏فى ‏متناول‏ ‏السلوك‏. ‏

وهذه‏ ‏المرحلة‏ ‏مواكبة‏ ‏تماما‏ ‏حتى ‏لتكاد‏ ‏تتطابق‏ ‏مع‏ ‏بدايات‏ ‏تكوين‏ ‏الوعى ‏الذاتى (‏فالعام‏) ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏السلوك‏ ‏الكلامي‏.‏

هذا‏، ‏والجدل‏ ‏الحركى ‏الولافى ‏بين‏ ‏الظاهرة‏ ‏الوجودية‏ ‏الأعمق‏، ‏إذ‏ ‏تتفجر‏ ‏فى ‏علاقات‏ ‏وتركيبات‏ ‏جديدة‏، ‏وبين‏ ‏التشكيل‏ ‏اللغوى ‏السابق‏ ‏لها‏ ‏مباشرة‏، ‏والعاجز‏ ‏عن‏ ‏استيعابها‏ ‏تماما‏، ‏هو‏ ‏أصل‏ ‏تطور‏ ‏اللغة‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏إبداعها‏ ‏المتجدد‏، ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏فى ‏أرقى ‏صوره‏ ‏الجمالية‏ ‘‏الشعر”، ‏الذى ‏ينشأ‏ ‏حين‏ ‏ترفض‏ ‏الظاهرة‏ ‏أن‏ ‏تظل‏ ‏كامنة‏ ‏فى ‏ما‏ ‏ليس‏ ‏لفظا‏ ‏متاحا‏ ‏للتواصل‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏حين‏ ‏ترفض‏ ‏أن‏ ‏تحشر‏ ‏نفسها‏ ‏فى ‏تركيب‏ ‏لغوى ‏جاهز‏ (‏سابق‏ ‏الإعداد‏) ‏فالشعر‏ ‏هو‏ ‏عملية‏ ‏إعادة‏ ‏تخليق‏ ‏الكيان‏ ‏اللغوى ‏فى ‏محاولة‏ ‏الوصول‏ ‏إلى ‏أقرب‏ ‏ما‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏الخبرة‏ ‏الوجودية‏ ‏المنبثقة‏، ‏ومع‏ ‏النجاح‏ ‏النسبى ‏لهذه‏ ‏العملية‏، ‏تزداد‏ ‏اللغة‏ ‏ثراء‏، ‏أى ‏ينمو‏ ‏الكيان‏ ‏البشرى ‏إذ‏ ‏يتحدد‏ ‏نوعيا‏، ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏يعنيه‏ ‏بعض‏ ‏النقاد‏ ‏والشعراء‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏القصيدة‏ ‏تخلق‏ ‏الشاعر‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏الذى ‏تتخلق‏ ‏فيه‏ ‏إذ‏ ‏يخلقها‏، ‏وهذه‏ ‏العملية‏ ‏بالذات‏ ‏هى ‏الإشارة‏ ‏الأساسية‏ ‏لعلاقة‏ ‏إبداع‏ ‏اللغة‏ ‏بتشكيل‏ ‏الوعى / ‏الذات‏. ‏

‏5 ‏القيود‏ ‏والجمود‏ : ‏فى ‏اللغة‏ ‏والوعى

‏ ‏وتعمل‏ ‏المعاجم‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏فى ‏تثبيت‏ ‏كيان‏ ‏محدد‏ ‏لحصيلة‏ ‏لغوية‏ ‏فى ‏مرحلة‏ ‏تاريخية‏ ‏بذاتها‏، ‏فتنقذ‏ ‏اللغة‏ ‏مؤقتا‏ ‏من‏ ‏الإفراط‏ ‏فى ‏الفضفضة‏ ‏والرخاوة‏، ‏لكنها‏ ‏فى ‏الوقت‏ ‏نفسه‏ ‏قد‏ ‏تصبح‏ ‏قيدا‏ ‏على ‏حركية‏ ‏اللغة‏ ‏تفرض‏ ‏عليها‏ ‏الوصاية‏ ‏وتقزم‏ ‏الشعر‏. ‏ونفس‏ ‏الأمر‏ – ‏وأكثر‏ – ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏ينطبق‏ ‏على ‏المصطلح‏ ‏العلمى، ‏وعلى ‏بعض‏ ‏المنهج‏ ‏العلمى، ‏وكلاهما‏ ‏يتراوح‏ ‏بين‏ ‏الوصاية‏ ‏الجاثمة‏، ‏والحركية‏ ‏الممكنه‏، ‏والانسلاخ‏ ‏الواعد‏ .. ‏وهكذا‏ ‏

وكل‏ ‏ما‏ ‏قيل‏ ‏عن‏ ‏اللغة‏ ‏إنما‏ ‏ينعكس‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏ ‏على ‏تشكيلات‏ ‏الوعى، ‏باعتبار‏ ‏أن‏ ‏الوعى ‏هو‏ ‏لغة‏ ‏راسخة‏ ‘ ‏ممتدة”، ‏فهى ‏راسخة‏ ‏بمعنى ‏أن‏ ‏تشكيلها‏ ‏قد‏ ‏أخذ‏ ‏شكلا‏ ‏له‏ ‏قوامه‏ ‏الخاص‏، ‏يحضر‏ ‏معا‏، ‏ويتوارى ‏معا‏، ‏ويتبادل‏ ‏مع‏ ‏غيره‏ ‏من‏ ‏مستويات‏ ‏الوعى، ‏وهى ‘ ‏ممتدة” ‏بمعنى ‏أن‏ ‏الوعى ‏يحتل‏ ‏مكانا‏ ‏زمنيا‏ ‏يؤكد‏ ‏رسوخه‏ ‏وعموميته‏ ‏وتفرده‏ ‏النوعى ‏فى ‏آن

خلاصة‏ ‏القول‏ ‏أن‏ ‏تشكيل‏ ‏الوعى ‏السليم‏ ‏هو‏ ‏نتاج‏ ‏حضور‏ ‏العملية‏ ‏اللغوية‏ ‏فى ‏صورة‏ ‏لها‏ ‏من‏ ‏الكفاءة‏ ‏ما‏ ‏يسمح‏ ‏بذلك‏.‏

‏6 – ‏تحلل‏ ‏الوعى ‏القومى، ‏وضرورة‏ ‏اللغة‏ ‏العربية

فإذا‏ ‏تحدثنا‏ ‏عن‏ ‏الوعى ‏القومى، ‏فإننا‏ ‏نقترب‏ ‏من‏ ‏محتوى ‏الوعى ‏وليس‏ ‏فقط‏ ‏من‏ ‏تشكيله‏ ‏وطبيعته‏، (‏وإن‏ ‏كانا‏ ‏لا‏ ‏ينفصلان‏ ‏مثل‏ ‏استحالة‏ ‏فصل‏ ‏الشكل‏ ‏عن‏ ‏المضمون‏) ‏

وبداية‏ ‏نقول‏ :‏

“‏إن‏ ‏ما‏ ‏لحق‏ ‏اللغة‏ ‏العربية‏ ‏بسبب‏ ‏ما‏ ‏آل‏ ‏حالنا‏ ‏إليه‏: ‏من‏ ‏تحلل‏ ‏وتدهور‏ ‏وتناثر‏ ‏وفقد‏ ‏الغائية‏ ‏وعجز‏ ‏القدرة‏ ‏الضامة‏ ‏المضفرة‏ (‏ناهيك‏ ‏عن‏ ‏ضعف‏ ‏توظيف‏ ‏ناتجها‏ ‏فى ‏التواصل‏ ‏وغيره‏) ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏النتاج‏ ‏الطبيعى ‏لـ”‏تخثر‏ ‏الوعى” ‏القومى ( ‏والوعى ‏الوطنى‏- ‏من‏ ‏قبل‏ ‏ومن‏ ‏بعد‏) ‏كما‏ ‏أن‏ ‏تدهور‏ ‏اللغة‏ (‏اللغات‏) ‏قد‏ ‏عاد‏ ‏بدوره‏ ‏على ‏الوعى ‏القومى ‏بمزيد‏ ‏من‏ ‏التدهور‏، ‏فنشأت‏ ‏حلقة‏ ‏مفرغة‏ ‏دوامة‏.‏

وفيما‏ ‏يلى ‏بعض‏ ‏الإشارات‏ ‏لما‏ ‏حدث‏ – ‏ويحدث‏- ‏فى ‏حياتنا‏، ‏فأثر‏ ‏على ‏تركيبنا‏ ‏اللغوى ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏على ‏وعينا‏ ‏القومى:‏

‏1- ‏يتزايد‏ ‏افتقارنا‏ ‏إلى ‏الحرية‏ ‏حتى ‏أصبحت‏ ‏مشكلة‏ ‏ذاتية‏ ‏داخلية‏ ‏امتدادا‏ ‏لقهر‏ ‏السلطة‏ (‏السلطة‏ ‏السياسية‏ ‏والاقتصادية‏ ‏والدينية‏ ‏والتعليمية‏ ‏والإعلامية‏ ‏والبحثعلمية‏، ‏أى ‏السلطة‏ ‏المؤسساتية‏ ‏عامة‏). ‏

وإزاء‏ ‏ذلك‏ ‏يتم‏ ‏قهر‏ ‏الداخل‏ ‏بـ‏ ‘ ‏تجميد‏ ‏اللغة‏ ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏تصلب‏ ‏الوعي” ‏كنوع‏ ‏من‏ ‏الدفاع‏ ‏ضد‏ ‏المخاطرة‏ ‏بممارسة‏ ‏الحرية‏ ‏فى ‏ظروف‏ ‏غير‏ ‏ملائمة‏ ‏للبقاء‏ ‏أصلا‏، ‏ناهيك‏ ‏عن‏ ‏الحركة‏ ‏والإبداع.

‏2- ‏يتزايد‏ ‏تأكل‏ ‏الأبجدية‏ ‏العامة‏ ‏القادرة‏ ‏على ‏التوصيل‏ ‏والتواصل‏ ‏من‏ ‏ناحية‏، ‏وعلى ‏تشكيل‏ ‏وحدات‏ ‏اللغة‏ ‏والوعى ‏بما‏ ‏يحقق‏ ‏الهوية‏ ‏ويسمح‏ ‏بتجديد‏ ‏الذات‏ ‏بالفعل‏ ‏الإبداعى ‏خاصة.

‏3- ‏نفتقر‏ ‏إلى ‏الفكرة‏ ‏المحورية‏ ‏القادرة‏ ‏على ‏الضم‏ ‏والتكامل‏، (‏مع‏ ‏الاحتفاظ‏ ‏بالاختلافات‏ ‏الضرورية‏ ‏فى ‏الموقع‏ ‏والطبيعة‏ ‏الخاصة‏)، ‏فليس‏ ‏ثمة‏ ‏مشروع‏ ‏قومى، ‏أو‏ ‏توجه‏ ‏تعلميى ‏عام‏، ‏أو‏ ‏خطاب‏ ‏سياسى ‏محاور‏، ‏ولا‏ ‏عدو‏ ‏مشترك‏ ‏ننضم‏ ‏فى ‏مواجهته‏ ‏لمواجهته‏، ‏حتى ‏الخطر‏ ‏اليومى ‏يتم‏ ‏تمييعه‏ ‏وتأجيله‏ ‏بالوعود‏ ‏والتلويح‏ ‏والمسكنات‏ (‏مثل‏ ‏سوء‏ ‏استعمال‏ ‏العقاقير‏ ‏المهدئة‏ ‏فى ‏حالات‏ ‏المرض‏ ‏الفردى)‏

والتناثر‏ ‏الصريح‏ (‏المرض‏ ‏الفصامى) ‏هو‏ ‏دفاع‏ ‏أيضا‏ ‏ضد‏ ‏التناثر‏ ‏المائع‏ ‏والخفى (‏الحل‏ ‏الفصامى).‏

‏4- ‏يزداد‏ ‏الاتجاه‏ ‏إلى ‘ ‏الخوف‏ ‏من‏ ‏التحديد” ‏الذى ‏يسير‏ ‏جنبا‏ ‏إلى ‏جنب‏ ‏مع‏ ‏اهتزاز‏ ‏قيمتى ‏الإتقان‏ ‏والوضوح‏، ‏مما‏ ‏يترتب‏ ‏عليه‏ ‏نوع‏ ‏من‏ ‏الهلامية‏ ‏والتقريب‏ ‏والذبذبة‏، ‏فتهتز‏ ‏القواعد‏ ‏اللازمة‏ ‏لتشكيل‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏اللغة‏ ‏والوعى (‏أو‏ ‏لا‏ ‏تظهر‏ ‏أصلا‏). ‏

‏5- ‏يتعملق‏ ‏اليقين‏ ‏الزائف‏ ‏على ‏الجانبين‏، ‏فمن‏ ‏ناحية‏ ‏نجد‏ ‏المؤسسة‏ ‏البحث‏ ‏علمية‏ ‏قد‏ ‏توقفت‏ ‏عن‏ ‏تطوير‏ ‏المنهج‏، ‏وأصبحت‏ ‏الممارسة‏ ‏بمثابة‏ ‏طقوس‏ ‏وكهنوت‏ ‏بدلا‏ ‏من‏ ‏البحث‏ ‏عن‏ ‏المعرفة‏، ‏كما‏ ‏أصبح‏ ‏هم‏ ‏المؤسسة‏ ‏الدينية‏ ‏هو‏ ‏التأكيد‏ ‏على ‏التفسيرات‏ ‏السابقة‏ ‏التجهيز‏، ‏مع‏ ‏إقحامها‏ ‏لتصبح‏ ‏وصية‏ ‏على ‏الفعل‏ ‏اليومى ( ‏الوعى ‏اليومى ).‏

‏6- ‏تحمل‏ ‏قنوات‏ ‏الخطاب‏ (‏لا‏ ‏الحوار‏) ‏المختلفة‏ ‏رسائل‏ ‏مزدوجة‏ (‏أو‏ ‏متعددة‏) ‏الوثاق‏، ‏فالحديث‏ ‏اللفظى ‏عن‏ ‏الديمقراطية‏ ‏مثلا‏ ‏يصلنا‏ ‏جنبا‏ ‏إلى ‏جنب‏ ‏مع‏ ‏الحديث‏ ‏الفعلى ‏الذى ‏يتم‏ ‏من‏ ‏خلاله‏ ‏ممارسة‏ ‏القهر‏ ‏اليومى ‏بكل‏ ‏أنواعه.

‏7- ‏نتعرض‏ ‏مؤخرا‏ ‏لكم‏ ‏هائل‏ ‏من‏ ‏المعلومات‏ ‏المتاحة‏ ‏نتيجة‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‘‏شفافية‏ ‏المعلومات”، ‏وبدل‏ ‏أن‏ ‏تزداد‏ ‏فرص‏ ‏الاختيار‏ ‏يبدو‏ ‏أننا‏ ( ‏من‏ ‏واقع‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏سبق‏) ‏أصبحنا‏ ‏نمارس‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يسمى ‏القهر‏ ‏الاختيارى، ‏أو‏ ‏حرية‏ ‏اختيار‏ ‏السيد‏، ‏الذى ‏نتبعه‏ ‏بدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏نختار‏ ‏بين‏ ‏الحرية‏ ‏والعبودية‏ ‏أصلا

ففى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏فى ‏الدول‏ ‏المتقدمة‏ ‏قد‏ ‏صنع‏ ‏له‏ ‏صنما‏ ‏إلها‏ ‏جديدا‏ ‏من‏ ‏التكنولوجيا‏ ‏الحديثة‏ ‏مع‏ ‏احتفاظه‏ ‏بحق‏ ‏ممارسة‏ ‏حريته‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏تغيير‏ ‏هذه‏ ‏الأصنام‏ ‏وتطويرها‏ ‏وتطويعها‏ ‏بشكل‏ ‏يكاد‏ ‏يكون‏ ‏مستمرا‏، ‏نجد‏ ‏أن‏ ‏إنسان‏ ‏الدول‏ ‏المتخلفة‏ ‏يستورد‏ ‏أصنامه‏ ‏وصانعيها‏: ‏آلهة‏ ‏سابقة‏ ‏التجهيز‏ ‏والبرمجة‏، ‏بلا‏ ‏مفتاح‏ ‏شفرة‏ ‏أو‏ ‏كلمة‏ ‏سر‏ ‏لفتحها‏ ‏أصلا‏.‏

‏7 – ‏أمراض‏ ‏اللغة‏ ‏وأمراض‏ ‏الوعى: ‏

‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نوجز‏ ‏ما‏ ‏تصورته‏، ‏أو‏ ‏عانيته‏، ‏مما‏ ‏أصاب‏ ‏ويصيب‏ ‏اللغة‏ ‏فيما‏ ‏أسميته‏ ‘‏أمراض‏ ‏اللغة” ‏فيما‏ ‏يلى:‏

‏1- ‏جمود‏ ‏اللغة‏: ‏حيث‏ ‏تصبح‏ ‏قوالب‏ ‏للملء‏ ‏بالكلام‏، ‏وليست‏ ‏تخليقا‏ ‏مرنا‏ ‏متجددا.

‏2- ‏ترهل‏ ‏اللغة‏: ‏حيث‏ ‏تصبح‏ ‏متضخمة‏ ‏ورخوة‏ ‏فى ‏آن‏، ‏فلا‏ ‏تعود‏ ‏قادرة‏ ‏على ‏التشكيل‏ ‏والتشكل.

‏3- ‏تذبذب‏ ‏اللغة‏: ‏حيث‏ ‏تتراقص‏ ‏قبل‏ ‏وصول‏ ‏الغاية‏، ‏فتفقد‏ ‏توجهها‏ ‏الغائى ‏رغم‏ ‏سلامة‏ ‏البدايات.

‏4- ‏غموض‏ ‏اللغة‏: ‏وهذا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يتم‏ ‏بنقص‏ ‏التحديد‏، ‏أو‏ ‏بفرط‏ ‏التداخل‏ ‏أو‏ ‏بكليهما.

‏5- ‏تصادم‏ ‏اللغات‏: ‏حيث‏ ‏تعوق‏ ‏قناة‏ ‏لغوية‏ ‏بذاتها‏، ‏مسار‏ ‏وحركية‏ ‏وتشكيل‏ ‏قناة‏ ‏أخرى ‏نشطة‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ (‏مثال‏ ‏القناة‏ ‏اللفظية‏، ‏مع‏ ‏قناة‏ ‏التعبير‏ ‏الحركى ‏مع‏ ‏قناة‏ ‏التواصل‏ ‏غير‏ ‏اللفظى ‏وغير‏ ‏الحركى)‏.

‏6- ‏تناقض‏ ‏اللغة‏: ‏حيث‏ ‏تحمل‏ ‏رسائل‏ ‏مضادة‏ ‏مثلما‏ ‏ذكرنا‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بالعلاقة‏ ‏المزدوجة‏ ‏الوثاق‏، ‏ومثلما‏ ‏يعرف‏ ‏فى ‏العصاب‏ ‏التجريبى Experimental neurosis‏.

‏7- ‏إجهاض‏ ‏اللغة‏: ‏حيث‏ ‏تحسن‏ ‏البدايات‏ ‏لكن‏ ‏مع‏ ‏إفتقار‏ ‏اللغة‏ ‏إلى ‏حركيتها‏ ‏الغائية‏، ‏تفقد‏ ‏استمراريتها‏ ‏حتى ‏الهدف‏.‏

‏8- ‏تناثر‏ ‏اللغة‏: ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏أشرنا‏ ‏إليه‏ ‏فى ‏البداية‏ ‏عندما‏ ‏ذكرنا‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‘‏ضد‏ ‏اللغة” (‏الفصام‏)‏

هذا‏، ‏و‏ ‏يترتب‏ ‏على ‏أمراض‏ ‏اللغة‏ ‏هذه‏ ‏أن‏ ‏يتشكل‏ ‏الوعى ‏بصورة‏ ‏عاجزة‏ ‏ومعوقة‏ ‏أيضا‏ ‏ومن‏ ‏ذلك‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏تسميته‏ ‘‏أمراض‏ ‏الوعى”:‏

‏1- ‏الهلامية‏: ‏وأعنى ‏بها‏ ‏وعيا‏ ‏رجراجا‏، ‏خافتا‏ ‏غامضا‏، ‏يتعامل‏ ‏مع‏ ‏اللغة‏ ‏وإشاراتها‏ ‏بقوانين‏ ‏مهزوزة‏، ‏ومتغيرة‏ ‏بلا‏ ‏قاعدة.

‏2- ‏التداخلية‏: ‏وأعنى ‏بها‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يقابل‏ ‏فقد‏ ‏حدود‏ ‏الذات‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏الإرادة‏ ‏وكذلك‏ ‏يقابل‏ ‏فرط‏ ‏التداخل‏ ‏والتضمين‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏الفكر‏، ‏أى ‏أن‏ ‏مستويات‏ ‏الوعى ‏التى ‏من‏ ‏المفروض‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏متميزة‏ ‏ومحددة‏ ‏تصبح‏ ‏مختلطة‏ ‏لدرجة‏ ‏تقابل‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏التلوث‏، ‏أى ‏اختلاط‏ ‏مادة‏ ‏وتركيب‏ ‏مستوى ‏معين‏ ‏من‏ ‏الوعى، ‏بمادة‏ ‏وتركيب‏ ‏مستوى ‏آخر‏ ‏بغير‏ ‏توليف‏ ‏أو‏ ‏تكامل‏ ‏أو‏ ‏فكرة‏ ‏محورية‏ ‏ضامة‏ ‏لهما‏ ‏معا‏.‏

‏3- ‏الانغلاق‏ ( ‏الدائرية‏ ‏المغلقة‏): ‏وهو‏ ‏انغلاق‏ ‏دائرة‏ ‏الوعى ‏بحيث‏ ‏إن‏ ‏المعلومات‏ ‏التى ‏تصل‏ ‏إليه‏، ‏واللغات‏ ‏التى ‏تحاول‏ ‏أن‏ ‏تحاوره‏، ‏تدور‏ ‏حوله‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏أنها‏ ‏تعيد‏ ‏تشكيله.

‏4- ‏التسوياتية‏ ‏الصفرية‏: ‏وأعنى ‏بها‏ ‏أن‏ ‏الوعى ‏يتشكل‏ ‏بما‏ ‏يحافظ‏ ‏على ‏ثباته‏، ‏فحركته‏ ‏توحى ‏بالنشاط‏، ‏لكنه‏ ‏نشاط‏ ‏زائف‏ ‏محكوم‏ ‏عليه‏ ‏بأن‏ ‏يظل‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏كما‏ ‏هو‏ ‏بما‏ ‏هو‏، ‏لأن‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يضاف‏ ‏إليه‏، ‏ليعيد‏ ‏صياغته‏، ‏يعامـل‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏المعلومات‏ ‏الحاضرة‏ ‏القادرة‏ ‏على ‏تمييع‏ ‏الموقف‏ ‏حتى ‏تسكينه‏.‏

فإذا‏ ‏كانت‏ ‏أمراض‏ ‏اللغة‏ ‏وأمراض‏ ‏الوعى ‏بهذه‏ ‏الوفرة‏، ‏ثم‏ ‏نكتشف‏ ‏أنها‏ ‏متواترة‏ ‏فى ‏مجتمعنا‏ ‏حتى ‏لتكاد‏ ‏تأخذ‏ ‏شكلا‏ ‏وبائيا‏، ‏فإن‏ ‏الثورة‏ ‏الجديدة‏ ‏فى ‏عالم‏ ‏التوصيل‏ ‏والمواصلات‏ ‏لا‏ ‏تقدم‏ ‏علاجا‏ ‏لهذه‏ ‏المسائل‏ ‏بل‏ ‏إنها‏ ‏تزيد‏ ‏الأمر‏ ‏صعوبة‏ ‏وتعقيدا‏، ‏ذلك‏ ‏أننا‏ ‏كجهاز‏ ‏استقبال‏ ‏للمعلومات‏ ‏الجديدة‏ ‏التى ‏تفيض‏ ‏علينا‏ ‏الآن‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏مصدر‏، ‏ونحن‏ ‏نعانى – ‏هكذا‏ – ‏من‏ ‏أمراض‏ ‏اللغة‏، ‏وأمراض‏ ‏الوعى ‏السالفة‏ ‏الذكر‏، ‏نعجز‏ ‏أكثر‏ ‏فأكثر‏ ‏عن‏ ‏التعامل‏ ‏مع‏ ‏زيادة‏ ‏كفاءة‏ ‏التكنولوجيا‏ ‏الجديدة‏ ‏وأيضا‏ ‏مع‏ ‏زيادة‏ ‏الفرص‏ ‏المتاحة‏ ‏لنا‏ ‏من‏ ‏وفرة‏ ‏المعلومات‏، ‏أى ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التقدم‏ ‏المعاصر‏ ‏الذى ‏كان‏ ‏المفروض‏ ‏أن‏ ‏يزيد‏ ‏فى ‏مساحة‏ ‏وتنوع‏ ‏التشكيل‏، ‏يصبح‏ ‏سببا‏ ‏فى ‏العجز‏ ‏عن‏ ‏التعامل‏ ‏فى ‏المتاح‏ ‏إذ‏ ‏نتعرض‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏يشبه‏ ‏الحشر‏ ‏المشل‏ ‏وبالتالى ‏العجز‏ ‏عن‏ ‏الانتقاء‏ ‏الغائى ‏للإبداع‏ ‏المتكامل‏، ‏فيصبح‏ ‏الانتقاء‏ ‏عشوائيا‏، ‏وبدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏نبحر‏ ‏فى ‏محيط‏ ‏المعلومات‏ ‏مثلما‏ ‏يفعل‏ ‏الربان‏ ‏الماهر‏ ‏الذى ‏تدرب‏ ‏على ‏قيادة‏ ‏سفينة‏ ‏المعلومات‏، ‏نغرق‏ ‏نحن‏ ‏تحت‏ ‏أمواجها‏.‏

‏8- ‏علاج‏ ‏اللغة‏ (‏والعلاج‏ ‏باللغة‏)‏

وبمواجهة‏ ‏هذه‏ ‏التحديات‏، ‏لو‏ ‏صحت‏ ‏الفروض‏، ‏نجد‏ ‏أنفسنا‏ ‏فى ‏موقف‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏الانتباه‏ ‏فالفزع‏ ‏فالغضب‏ ‏فالفعل‏، ‏وأستأذن‏ ‏فى ‏استعارة‏ ‏كلمة‏ ‏علاج‏ ‏لأصف‏ ‏بها‏ ‏الفعل‏ ‏الممكن‏، ‏مادمت‏ ‏قد‏ ‏استعملت‏ ‏كلمة‏ ‏مرض‏ ‏لأصف‏ ‏الكارثة‏. ‏فهو‏ ‏علاج‏ ‏اللغة‏، ‏أوالعلاج‏ ‏بإعادة‏ ‏إحياء‏ ‏اللغة‏ ( ‏بالمعنى ‏الأشمل‏)‏

ولكى ‏يتم‏ ‏ذلك‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏من‏ ‏تخطيط‏ ‏ودراسة‏ ‏جدوى ‏واقتصاد‏ ‏وتعليم‏ ‏صحيح‏، ‏وسياسة‏ ‏رشيده‏ ‏وحرية‏ ‏حقيقية‏ ‏الخ‏ … ‏

ويمكن‏ ‏تصور‏ ‏أن‏ ‏ذلك‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يتم‏ ‏على ‏الوجه‏ ‏التالى:‏

‏1 – ‏على ‏سبيل‏ ‏الاقتصاد‏ ‏ومن‏ ‏قبيل‏ ‏دراسة‏ ‏الجدوى، ‏فإن‏ ‏أى ‏بداية‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏لغتنا‏ ‏العربية‏ ‏هى ‏إهدار‏ ‏لمخزون‏ ‏هائل‏ ‏من‏ ‏الخبرات‏ ‏والمعلومات‏ ‏والوعى ‏والتاريخ‏، ‏ذلك‏ ‏أننا‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏تركيبنا‏ ‏الجينى ‏نحمل‏ ‏هذه‏ ‏اللغة‏ ‏داخل‏ ‏خلايانا‏ ‏فيما‏ ‏يسمى ‏المورثات‏، ‏صحيح‏ ‏أننا‏ ‏لا‏ ‏نحمل‏ ‏مفرداتها‏ ‏وإنما‏ ‏نحمل‏ ‏الاستعداد‏ (‏أوالعتاد‏ ‏بلغة‏ ‏الكمبيوتر‏) ‏دون‏ ‏البرنامج‏ ‏التفصيلى ‏والمفردات‏ (‏وإن‏ ‏كنت‏ ‏أحتاج‏ ‏إلى ‏من‏ ‏يصححنى ‏فى ‏هذا‏)، ‏لكننى ‏أتصور‏ (‏والمرجع‏ ‏لعلماء‏ ‏المعلوماتية‏) ‏أنه‏ ‏من‏ ‏باب‏ ‏الاقتصاد‏ ‏والتأصيل‏ ‏معا‏ ‏فإن‏ ‏الأقدر‏ ‏على ‏الإبداع‏، ‏والأكثر‏ ‏اقتصادا‏، ‏هو‏ ‏أن‏ ‏نبدأ‏ ‏بهذا‏ ‏المخزون‏ ‏الجينى ‏للعتاد‏ ‏اللغوى ‏بالعربية‏، ‏وحتى ‏لو‏ ‏تعارض‏ ‏هذا‏ ‏الفرض‏ ‏مع‏ ‏المعطيات‏ ‏الأحدث‏ ‏لكل‏ ‏من‏ ‏علم‏ ‏الجينات‏ ‏وعلوم‏ ‏الكمبيوتر‏، ‏فإن‏ ‏ممارستى ‏الخاصة‏ ‏مع‏ ‏مرضاى ‏تجعلنى ‏أتمسك‏ ‏بفرض‏ ‏يقول‏ : ‏إن‏ ‏الاستعداد‏ ‏اللغوى ‏ليس‏ ‏غفلا‏ ‏من‏ ‏اللغة‏ ‏الخاصة‏ ‏للأجيال‏ ‏السابقة‏، ‏وسوف‏ ‏يحتاج‏ ‏الأمر‏ ‏إلى ‏الانتظار‏ ‏وإلى ‏الأدوات‏ ‏المناسبة‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏ننكر‏ ‏أو‏ ‏نرفض‏ ‏هذا‏ ‏الفرض‏ ‏الهام‏ ‏كمنطلق‏ ‏للرؤية‏ ‏التى ‏أطرحها‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الورقة‏.‏

‏2-‏البداية‏ – ‏إذن‏ – ‏هى ‏من‏ ‘‏بسط” ‘‏وإطلاق” ‏اللغة‏ ‏الكامنة‏ ‏فى ‏الجينات‏ ‏وليست‏ ‏بالبدء‏ ‏فى ‏تعلم‏ ‏لغة‏ ‏جديدة‏ (‏على ‏صفحة‏ ‏بيضاء‏)، ‏وذلك‏ ‏على ‏اعتبار‏ ‏أنها‏ ‏منطبعة‏ ‏أصلا‏ (‏تاريخا‏) ‏من‏ ‏خلال‏ ‏التعلم‏ ‏البصمى، ‏فبسطها‏ (‏الآن‏) ‏أقرب‏ ‏إلى ‏المرونة‏ ‏فالإبداع‏، ‏وبهذا‏ ‏ننطلق‏ ‏من‏ ‏الجاهز‏ ‏الذى ‏أعدته‏ ‏الأجيال‏ ‏السابقة‏، ‏فتكون‏ ‏البداية‏ ‏الصحيحة‏ ‏هى ‏لغتنا‏ ‏الأم‏ (‏وليست‏ ‏لغة‏ ‏الأم‏) ‏وهى ‏اللغة‏ ‏العربية‏، ‏بلهجاتها‏ ‏الواحدية‏ (‏الفصحى) ‏وبلهجاتها‏ ‏الطارئة‏ ‏عليها‏ ‏أيضا‏: (‏اللغات‏ ‏الوطنية‏ ‏كلغات‏ ‏تفريعية‏ ‏وموازية‏ ‏فى ‏آن‏). ‏

‏3- ‏ثم‏ ‏يأتى ‏تقعيد‏ ‏قواعد‏ ‏التواصل‏ ‏والتعبير‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏تحرير‏ ‏الخطاب‏ ‏والحوار‏، ‏على ‏كافة‏ ‏المستويات‏، ‏وهذا‏ ‏من‏ ‏ألزم‏ ‏المبادئ‏ ‏التى ‏تسمح‏ ‏باستعادة‏ ‏اللغة‏ ‏لرصانتها‏، ‏باعتبارها‏ ‏الوحدة‏ ‏الأساسية‏ ‏للإبداع.

‏4- ‏ثم‏ ‏يلزم‏ ‏الاهتمام‏ ‏بمشروعية‏ ‏ومصداقية‏ ‏الخطاب‏ ‏وخاصة‏ ‏فى ‏مجالات‏ ‏التعليم‏ ‏والإعلام‏ ‏والنشر‏، ‏مع‏ ‏تجنب‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏من‏ ‏الانحرافات‏ ‏السابق‏ ‏الإشارة‏ ‏إليها‏ ‏فى ‏مجالات‏ ‏أمراض‏ ‏اللغة‏ ‏والوعى، ‏وذلك‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏خطة‏ ‏قومية‏ ‏تتنباها‏ ‏الدولة‏ ‏أساسا‏، (‏مما‏ ‏قد‏ ‏يتطلب‏ ‏تغيير‏ ‏تشريعات‏ ‏بذاتها‏ ‏تغييرا‏ ‏جذريا‏).‏

‏5- ‏وتمشيا‏ ‏مع‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏نتحرك‏ ‏لاستلهام‏ ‏كل‏ ‏مصادر‏ ‏المعرفة‏ ‏للانعتاق‏ ‏من‏ ‏احتكار‏ ‏منهج‏ ‏بحث‏ ‏بذاته‏، ‏بالسماح‏ ‏بتعدد‏ ‏المناهج‏ ‏وخاصة‏ ‏المناهج‏ ‏المرتبطة‏ ‏بالخطاب‏ ‏المباشر‏، ‏مثل‏ ‏إرساء‏ ‏مشروعية‏ ‏المعرفة‏ ‏الحكائية‏ ‏كمصدر‏ ‏أساسى ‏من‏ ‏مصادر‏ ‏المعرفة.

‏9- ‏عن‏ ‏اللغة‏ ‏العربية‏ ‏والقومية‏ ‏العربية

وكل‏ ‏هذا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يعتبر‏ ‏عموميات‏ ‏تصلح‏ ‏لكل‏ ‏ما‏ ‏يصلح‏ ‏به‏ ‏الناس‏ ‏ولغاتهم‏ ‏فى ‏أى ‏مكان‏ ‏وزمان‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏المداخلة‏ ‏خصت‏ ‏بالذكر‏ ‘ ‏اللغة‏ ‏العربية”، ‏وكذلك‏ ‘‏الوعى ‏القومى ‘‏؟

9-1- بداية‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏من‏ ‏التفرقة‏ ‏بين‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏القومية‏ ‏العربية‏ ‏لأسباب‏ ‏سياسية‏ ‏أو‏ ‏عنصرية‏ (‏أو‏ ‏عنترية‏) ‏وبين‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏القومية‏ ‏العربية‏ ‏التى ‏يربطها‏ ‏عاملان‏ ‏موضوعيان‏ ‏لا‏ ‏مفر‏ ‏من‏ ‏وضعهما‏ ‏أساسا‏ ‏لأى ‏فهم‏ ‏أو‏ ‏تحرك‏، ‏وهما‏ ‏العامل‏ ‏الاقتصادى (‏تبادل‏ ‏المصالح‏) ‏واللغة‏ ‏العربية‏، ‏والحديث‏ ‏هنا‏ ‏يتركز‏ ‏على ‏العامل‏ ‏الثاني‏,‏

وإذا‏ ‏كنا‏ ‏قد‏ ‏تنازلنا‏، ‏أو‏ ‏تنوزلنا‏ ‏عن‏ ‏فاعلية‏ ‏كل‏ ‏مقومات‏ ‏القومية‏ ‏العربية‏ ‏من‏ ‏جغرافيا‏ ‏وسياسة‏ ‏وتاريخ‏ ‏وحتى ‏اقتصاد‏، ‏فإن‏ ‏اللغة‏ ‏العربية‏ ‏مازالت‏ – ‏حتى ‏لو‏ ‏لم‏ ‏نرض‏ ‏أو‏ ‏نقصد‏ – ‏هى ‏لغتنا‏. ‏ومازلنا‏ ‏عاجزين‏، ‏رغم‏ ‏الكسل‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏وجهد‏ ‏التلوث‏ ‏والتلويث‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى، ‏أن‏ ‏نتنازل‏ ‏عنها‏.‏

ولابد‏ ‏من‏ ‏ملاحظة‏ ‏بادئة‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الصدد‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏وهى ‏أننا‏ ‏نعيش‏ ‏هذه‏ ‏الأيام‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏التناقض‏ ‏الحاد‏ ‏بين‏ ‏ظاهرتين‏: ‏الأولى ‏هى ‏ما‏ ‏يبدو‏ ‏من‏ ‏اتجاه‏ ‏توحيد‏ ‏العالم‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏شفافية‏ ‏المعلومات‏، ‏واختفاء‏ ‏الاستقطاب‏ ‏السياسى، ‏وإلى ‏درجة‏ ‏أقل‏ ‏اندماج‏ ‏النظم‏ ‏الاقتصادية‏، ‏والثانية‏ ‏هى ‏إحياء‏ ‏القوميات‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مكان‏.‏

وهذا‏ ‏تناقض‏ ‏جيد‏ ‏يتحدى، ‏ويمكن‏ ‏أن‏ ‏ننتفع‏ ‏منه‏ ‏إذا‏ ‏دققنا‏ ‏النظر‏، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏المسألة‏ ‏قد‏ ‏تثبت‏ ‏أنها‏ ‏ليست‏ ‏تناقضا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هى ‏اختلاف‏ ‏للتكامل‏، ‏فطيب‏ ‏أن‏ ‏تختفى ‘‏الحقيقة‏ ‏الواحدة”، ‏وأن‏ ‏يفتح‏ ‏الباب‏ ‘‏للحق‏ ‏المتعدد” ‏القادر‏ ‏على ‏التفاهم‏ ‏والتكامل‏ ‏مع‏ ‏بعضه‏ ‏البعض‏. ‏

ويمكن‏ ‏صياغة‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ (‏ولوبلغة‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏بعد‏ ‏الحداثة‏ ) ‏باعتباره‏ ‘‏تنشيط‏ ‏الاختلافات‏ ‏للالتقاء‏ ‏المبدع‏ ‏فى ‏مواقع‏ ‏التقاطعات”، ‏وهذا‏ ‏التنشيط‏ ‏الذى ‏تقوم‏ ‏به‏ ‏كل‏ ‏لغة‏/‏وجود‏/‏قومية‏ ‏فى ‏موقعها‏ ‏يقوم‏ ‏بعملين‏ ‏فى ‏آن‏ : ‏فهو‏ ‏إذ‏ ‏يؤكد‏ ‏الهوية‏ (‏بتعميق‏ ‏التفرد‏ ‏الذاتى) ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏هو‏ ‏يحدد‏ ‏التوجه‏ ‏الضام‏ (‏باستعماله‏ ‏لغات‏ ‏العصر‏ ‏الضامة‏: ‏المعلوماتية‏، ‏والتكونولوجيا‏ ‏ومناهج‏ ‏المعرفة‏ ..‏إلخ‏).‏

هذا‏ ‏عن‏ ‘ ‏لماذا‏ ‏القومية” ( ‏الوعى ‏القومى)‏

9 – 2 – فماذا‏ ‏عن‏ : ‘‏لماذا‏ ‏العربية” ‏؟

ولتوضيح‏ ‏هذا‏ ‏الأمر‏ ‏نبدأ‏ ‏بسؤال‏ ‏أسبق‏ ‏يقول‏: ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏الوجود‏ ‏لغة‏، ‏واللغة‏ ‏إبداعا‏، ‏ولا‏ ‏هوية‏ ‏ولا‏ ‏بقاء‏ ‏بغير‏ ‏ذلك‏، ‏فأى ‏لسان‏ ‏أقرب‏ ‏وأصلح‏ ‏لنا‏ ‏حتى ‏يمكن‏ ‏استثمار‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏لغة‏ ‏لازمة‏، ‏وإبداع‏ ‏ممكن‏ ‏؟

الاختيارات‏ ‏أمامنا‏ ‏ثلاثة‏ ‏لا‏ ‏أكثر‏ ‏

إما‏ ‏اللغة‏ ‏العربية‏ ( ‏الفصحى = ‏تحت‏ ‏التحديث‏ ‏حتما‏)‏

وإما‏ ‏اللغات‏ (‏اللهجات‏) ‏العامية

وإما‏ ‏لغة‏ ‏أجنبية‏ (‏يستحسن‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏لغة‏ ‏بلد‏ ‏سابق‏ ‏متقدم‏)‏؟

أما‏ ‏اللغة‏ (‏اللغات‏) ‏العامية‏ ‏فهى ‏لغة‏ ‏لا‏ ‏شك‏ ‏فى ‏ذلك‏، ‏وهى ‏لغة‏ ‏قادرة‏ ‏ومبدعة‏، ‏وفاعلة‏ ‏ولا‏ ‏يوجد‏ ‏ماينقص‏ ‏من‏ ‏أحقيتها‏ ‏فى ‏ذلك‏، ‏لهذا‏ ‏لا‏ ‏ينبغى ‏إغفالها‏ ‏أو‏ ‏تهميشها‏، ‏و‏ ‏إلا‏ ‏كنا‏ ‏نفتعل‏ ‏مسيرة‏ ‏ضد‏ ‏طبيعة‏ ‏التطور‏، ‏وضد‏ ‏حركية‏ ‏اللغة‏، ‏وضد‏ ‏فرص‏ ‏الإبداع‏، ‏كما‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‘‏المعرفة‏ ‏الحكائية” ‏إنما‏ ‏يستلهم‏ ‏كثيرا‏ ‏من‏ ‏مصادره‏ ‏من‏ ‏لغة‏ ‏الناس‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏الآنية‏، ‏أو‏ ‏فيما‏ ‏يترتب‏ ‏عليه‏ ‏من‏ ‏تراكم‏ ‏عبر‏ ‏التاريخ‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏أمثال‏ ‏أو‏ ‏عادات‏، ‏سواء‏ ‏ظهر‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏الفعل‏ ‏اليومى، ‏أو‏ ‏فى ‏الإبداع‏ ‏المعرفى ‏أو‏ ‏غيره‏، ‏كل‏ ‏ما‏ ‏فى ‏الأمر‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏اللغات‏ (‏اللهجات‏) ‏العامية‏ ‏لا‏ ‏ينبغى، ‏ولا‏ ‏تقدر‏، ‏أن‏ ‏تحل‏ ‏محل‏ ‏العربية‏ ‏الفصحى، ‏وإنما‏ ‏هى ‏تستطيع‏ ‏وينبغى ‏أن‏ ‏تجاورها‏ ‏وتتحاور‏ ‏معها‏ ‏وتثريها‏ ‏وتكملها‏.‏

فالمحظور‏ ‏هنا‏ ‏لا‏ ‏يأتى ‏من‏ ‏الاهتمام‏ ‏باللغة‏ ‏العامية‏ ‏كلغة‏، ‏وإنما‏ ‏يأتى ‏من‏ ‏احتمال‏ ‏الإحلال‏ ‏العشوائى ‏غير‏ ‏الملتزم‏ ‏الذى ‏يترتب‏ ‏عليه‏ ‏اختفاء‏ ‏لغة‏ ‏عامة‏ ‏رصينة‏ ‏تم‏ ‏تقعيدها‏ ‏وحافظت‏ ‏على ‏هويتها‏ ‏عبر‏ ‏مئات‏ ‏السنين‏ ‏فى ‏الخارج‏ ‏وفى ‏خلايانا‏، ‏لتحل‏ ‏محله‏ ‏لغات‏ ‏جديدة‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏تقعيد‏ ‏وتنمية‏ ‏وتنقية‏ ‏ومشروعية‏ ‏تكفل‏ ‏لها‏ ‏البقاء‏ ‏ناهيك‏ ‏عن‏ ‏التنافس‏ ‏والصراع‏ ‏مع‏ ‏لغات‏ ‏أوضح‏ ‏وأحكم‏، ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏الخطى ‏السريعة‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏المعلوماتية‏ ‏والتكنولوجيا‏ ‏لا‏ ‏تتناسب‏ ‏مع‏ ‏هذا‏ ‏التشرذم‏ ‏الممكن‏ ‏لو‏ ‏أننا‏ ‏اكتفينا‏ ‏باللغات‏ ‏العامية‏ ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏العربية‏، ‏ونحن‏ ‏لم‏ ‏نكد‏ ‏نصدق‏ ‏أن‏ ‏منا‏ ‏نفر‏/ ‏جاد‏ ‏متقشف‏ ‏مثابر‏ ‏يهتم‏ ‏بإكساب‏ ‏اللغة‏ ‏العربية‏ ‏المواصفات‏ ‏اللازمة‏ ‏لتواكب‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏غمر‏ ‏ويغمر‏ ‏كلا‏ ‏من‏ ‏الحياة‏ ‏والمعرفة‏ ‏كالفيضان‏ ‏المتلاحق‏ ‏من‏ ‏تحديث‏ ‏وبرمجة‏ ‏وتخزين‏ ‏إلخ‏. ‏

إن‏ ‏ما‏ ‏ينبغى ‏علينا‏ ‏أن‏ ‏نبذل‏ ‏فيه‏ ‏قصارى ‏الجهد‏ ‏هو‏ ‏العمل‏ ‏على ‏تحديث‏ ‏الجاهز‏ ‏والممكن‏ ‏والعام‏، ‏لعلنا‏ ‏نلحق‏ ‏بالركب‏، ‏بدلا‏ ‏من‏ ‏الجدل‏ ‏حول‏ ‏تجهيز‏ ‏الفروع‏ ‏الوليدة‏ (‏اللهجات‏ ‏العامية‏ ‏التى ‏قد‏ ‏نجد‏ ‏مبررا‏ ‏مستقبليا‏ ‏لتجهيزها‏ ‏بما‏ ‏يناسب‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏)‏.

أما‏ ‏إحلال‏ ‏اللغة‏ ‏الأجنبية‏ (‏ولنفترض‏ ‏أنها‏ ‏الإنجليزية‏، ‏لادعاء‏ ‏عالميتها‏، ‏وعلميتها‏، ‏ولظروفنا‏ ‏التاريخية‏ ‏الحديثة‏) ‏كبديل‏ ‏للعربية‏، ‏فهذا‏ ‏هو‏ ‏الخطر‏ ‏الأكبر‏، ‏والأسباب‏ ‏كثيرة‏، ‏وسبق‏ ‏أن‏ ‏عددتها‏ ‏فى ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏موقع‏، ‏وخاصة‏ ‏فى ‏سياق‏ ‏الجدل‏ ‏المخجل‏ ‏الدائر‏ ‏حول‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏تعريب‏ ‏الطب‏، ‏وأيضا‏ ‏فى ‏سياق‏ ‏فكرة‏ ‏التحذير‏ ‏من‏ ‏التعرف‏ ‏على ‏مشاعرنا‏ (‏فى ‏مجال‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏و‏ ‏الطب‏ ‏النفسى) ‏انطلاقا‏ ‏من‏ ‏ألفاظ‏ ‏مترجمة‏ ‏وليس‏ ‏من‏ ‏تجارب‏ ‏معاشة‏,‏

وفى ‏هذين‏ ‏المجالين‏، ‏كنت‏ ‏قد‏ ‏طرحت‏ ‏أسئلة‏ ‏أراها‏ ‏تناسب‏ ‏المقام‏ ‏الحالى، ‏وأرى ‏من‏ ‏المفيد‏ ‏أن‏ ‏أعدد‏ ‏أغلبها‏ ‏الآن‏، ‏دون‏ ‏التزام‏ ‏بإجابة‏ ‏عليها‏:‏

‏1- ‏هل‏ ‏هناك‏ ‏فروق‏ ‏جوهرية‏ (‏ثقافية‏ ‏وحضارية‏) ‏بين‏ ‏من‏ ‏يتكلمون‏ ‏الإنجليزية‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏ (‏كممثل‏ ‏للسان‏ ‏الأعجمى ‏الأنجلوسكسونى) ‏وبيننا‏ ‏نحن‏ ‏الذين‏ ‏نتكلم‏ ‏اللغة‏ ‏العربية؟

‏2- ‏هل‏ ‏هذه‏ ‏الفروق‏ -‏إن‏ ‏وجدت‏- ‏هى ‏فروق‏ ‏لسان‏ ‏أم‏ ‏أنها‏ ‏فروق‏ ‏لغة‏ ‏وتاريخ‏، ‏ودين‏ (‏وموقف‏ ‏إيمانى) ‏وأهداف‏ ‏وأعراف‏ ‏مغايرة؟

‏3- ‏هل‏ ‏المسألة‏ ‏هى ‏مسألة‏ ‏تعصب‏ ‏قومى ‏لإحياء‏ ‏تاريخ‏ ‏مجد‏ ‏قديم‏، ‏أم‏ ‏أنها‏ ‏مسألة‏ ‏إتاحة‏ ‏فرصة‏ ‏لحوار‏ ‏حضارات‏ ‏وإسهام‏ ‏بشرى ‏متضفر؟

‏4-‏ماذا‏ ‏عن‏ ‏ضرورة‏ ‏التواصل‏ ‏بين‏ ‏العلماء‏ ‏بلسان‏ ‏واحد؟

‏5- ‏ماذا‏ ‏عن‏ ‏المستقبليات‏ ‏وأين‏ ‏تقع‏ ‏اللغة‏ ‏العربية‏ ‏من‏ ‏منظور‏ ‏علوم‏ ‏المستقبل؟

‏6- ‏ماذا‏ ‏عن‏ ‏العلاقة‏ ‏بالدين‏ (‏الإيمان‏) ‏عامة‏ ‏والإسلام‏ ‏خاصة؟

‏7- ‏هل‏ ‏للعربية‏ ‏سمات‏ ‏خاصة‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تضيف‏ ‏إلى ‏العلوم‏ ‏الإنسانية‏ ‏خاصة؟

‏8- ‏هل‏ ‏يتغير‏ ‏المنهج‏ ‏العلمى ‏بتغير‏ ‏اللغة‏ ‏أم‏ ‏أن‏ ‏المسألة‏ ‏هى ‏مجرد‏ ‏تغيير‏ ‏ألفاظ؟

‏9- ‏هل‏ ‏يستعيد‏ ‏العقل‏ ‏العربى ‏استقلاله‏ ‏وحريته‏ ‏إذا‏ ‏درس‏ ‏وتكلم‏ ‏وبحث‏ ‏بالعربية؟‏ ‏أم‏ ‏أنه‏ ‏سينعزل‏ ‏ويتمادى ‏فى ‏غرور‏ ‏مضل‏ ‏؟

‏10- ‏و‏ ‏هل‏ ‏يستعيد‏ ‏العقل‏ ‏العربى ‏لغته‏ ‏بثرائها‏ ‏وتاريخها‏ ‏وقدراتها‏ ‏الإبداعية‏ ‏إذا‏ ‏استعاد‏ ‏حرية‏ ‏تفكيره‏ ‏وحركية‏ ‏وجوده‏ ‏وحقيقة‏ ‏استقلاله؟

وأكتفى ‏بهذا‏ ‏القدر‏ ‏لأقفز‏ ‏إلى ‏محاولة‏ ‏إجابة‏ ‏جزئية‏، ‏تحمل‏ ‏فى ‏طياتها‏ ‏بعض‏ ‏الفروض‏ ‏الممكنة‏ :‏

9 – 3 – ‏المسألة‏ ‏هى ‏أن‏ ‏اللغة‏ ‏العربية‏ ‏تعلن‏ ‏عن‏، ‏وتمثل‏، ‏حضارة‏ ‏راسخة‏، ‏سجلت‏ ‏بلسان‏ ‏عربى، ‏وظلت‏ ‏نفس‏ ‏اللغة‏ ‏قائمة‏ ‏كما‏ ‏هى، ‏بأقل‏ ‏قدر‏ ‏من‏ ‏التشويه‏، ‏حتى ‏لتعتبر‏ ‏من‏ ‏أرسخ‏ ‏لغات‏ ‏العالم‏ ‏الحالية‏، ‏يرجع‏ ‏الفضل‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏أساسا‏ ‏إلى ‏حفظها‏ ‏بالقرآن‏ ‏الكريم‏ ‏وعلومه‏، ‏فهى ‏تاريخ‏ ‏بشرى ‏قائم‏ ‏بيننا‏/‏فينا‏، ‏ثم‏ ‏إنها‏ ‏التاريخ‏ ‏المخزون‏ ‏فى ‏الحاضر‏ ‏القائم‏، ‏ونحن‏ ‏نطرحه‏ ‏خلفنا‏ ‏إما‏ ‏بإهمال‏ ‏وكسل‏ ‏عدميين‏، ‏أو‏ ‏بسعى ‏حثيث‏ ‏إذ‏ ‏نتشوه‏ ‏بلغات‏ ‏غريبة‏ ‏نشأت‏ ‏فى ‏ظروف‏ ‏حضارية‏ ‏مشكوك‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏أوجه‏ ‏عطائها.‏ ‏

9 – 4 – ثم‏ ‏ننتقل‏ ‏إلى ‏النظر‏ ‏فى ‏أصل‏ ‏التفرقة‏ ‏والتمييز‏، ‏وهل‏ ‏هناك‏ ‏فروق‏ ‏جوهرية‏ (‏ثقافية‏ ‏وحضارية‏) ‏بين‏ ‏من‏ ‏يتكلمون‏ ‏الإنجليزية‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏ (‏كممثل‏ ‏للسان‏ ‏الأعجمى ‏الأنجلوسكسونى) ‏وبيننا‏ ‏نحن‏ ‏الذين‏ ‏نتكلم‏ ‏اللغة‏ ‏العربية؟

والإجابة‏ ‏الراجحة‏ ‏عندى ‏هى “نعم”، ‏إنه‏ ‏توجد‏ ‏فروق‏ ‏عملية‏ ‏قائمة‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏نوعية‏ ‏الحياة‏ ‏اليومية‏ ‏والعلاقات‏ ‏والتوجه‏ ‏والاقتصاد‏ ‏والالتزام‏ ‏بالقوانين‏، ‏والعقد‏ ‏الاجتماعى، ‏والعرف‏، ‏وشكل‏ ‏التدين‏ ‏وغير‏ ‏ذلك‏ ‏مما‏ ‏لا‏ ‏مجال‏ ‏لتفصيله‏ ‏هنا‏.‏

ولا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏أعترف‏ ‏أننى ‏استلهمت‏ ‏تحديد‏ ‏بعض‏ ‏معالم‏ ‏هذه‏ ‏الفروق‏ ‏كفروض‏ ‏من‏ ‏واقعين‏: ‏لغتى ‏العربية‏، ‏وإيمانى ‏الخاص‏، ‏وهى ‏ليست‏ ‏فروقا‏ ‏يقينية‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هى ‏فروض‏ ‏محتملة‏.‏

‏ ‏ا‏- ‏فنحن‏ ‏أكثر‏ ‏اتصالا‏ ‏بالطبيعة‏ ‏وحوارا‏ ‏معها‏ ‏وفرصتنا‏ ‏أكبر‏ ‏للتناغم‏ ‏بها‏ (‏أو‏ ‏المفروض‏ ‏أن‏ ‏نكون‏ ‏كذلك‏):‏

‏ (‏لاحظ‏ ‏التشكيل‏ ‏المرن‏ ‏للغتنا‏ ‏وثم‏ ‏تحديد‏ ‏العبادات‏ ‏بمواقيت‏ ‏تؤكد‏ ‏على ‏حركة‏ ‏الطبيعة‏ ‏المباشرة‏ ‏من‏ ‏حولنا‏، ‏وضرورة‏ ‏اتصالنا‏ ‏المنتظم‏ ‏بها‏، ‏ربما‏ ‏للحفاظ‏ ‏على ‏طزاجة‏ ‏وحيوية‏ ‏الفطرة‏)‏

ب‏ – ‏نحن‏ ‏أكثر‏ ‏امتدادا‏ ‏فى ‏الزمن‏ (‏أو‏ ‏المفروض‏ ‏أن‏ ‏نكون‏ ‏كذلك‏) .‏

‏(‏لاحظ‏ ‏غلبة‏ ‏الجمل‏ ‏الفعلية‏ ‏والمعنى ‏الإيجابى ‏للإيمان‏ ‏بالغيب‏ : ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏فسرته‏ ‏باعتباره‏ ‏التأكيد‏ ‏على ‏الحفاظ‏ ‏على ‏فرص‏ ‏تفجيرالإبداع‏ ‏مما‏ ‘‏ليس‏ ‏كذلك”، ‏ونفيت‏ ‏بذلك‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏الايمان‏ ‏بالغيب‏ ‏كما‏ ‏ساء‏ ‏فهمه‏ ‏ليس‏ ‏إلا‏ ‏تسليما‏ ‏للخرافة‏).‏

جـ‏ – ‏و‏ ‏نحن‏ ‏أكثرتحديدا‏ ‏للكيان‏ ‏الفردى ‏المتميز‏:‏

‏ (‏لاحظ‏ ‏الضمائر‏ ‏المميزة‏ ‏لتنوع‏ ‏الخطاب‏ ‏حسب‏ ‏نوع‏ ‏المخاطب‏: ‏أنت‏، ‏أنت‏، ‏أنتما‏، ‏أنتم‏، ‏أنتن‏ .‏

د‏ – ‏وفعل‏ ‏الكينونة‏ ‏حاضر‏ ‏ومتأصل‏ ‏فى ‏الكلمات‏ ‏فى ‏لغتنا‏ ‏بشكل‏ ‏أوضح‏ ‏وأكثر‏ ‏استقرارا‏ ‏من‏ ‏لغاتهم‏ ‏الواصفة‏ ‏للكينونة‏.‏

‏- ‏لاحظ‏ ‏تنازل‏ ‏العربية‏ ‏عن‏ ‏استعمال‏ ‏فعل‏ ‘‏يكون” ‏لإظهار‏ ‏الكينونة‏، ‏فالكينونة‏ ‏مستقرة‏ ‏فى ‏الكلمات‏ ‏بما‏ ‏لا‏ ‏يحتاج‏ ‏للتشديد‏ ‏عليها‏ ‏باستعمال‏ ‏فعل‏ ‏خاص‏ ‏لها‏، ‏فلا‏ ‏نقول‏ ‘‏محمد‏ ‏يكون‏ ‏فى ‏المنزل” (Moh. is at home) ‏ولكن‏ ‏فقط‏ ‘‏محمد‏ ‏فى ‏المنزل‏.’ ‏وهكذا‏([1][1])

‏- ‏ولاحظ‏ ‏كذلك‏ ‏كيف‏ ‏يتم‏ ‏الاشتقاق‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏الوزانات‏ ‏فى ‏العربية‏، ‏بينما‏ ‏يتم‏ ‏عندهم‏ ‏بالسوابق‏ ‏واللواحق‏، ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏يجعل‏ ‏هيئة‏ ‏الكلمة‏ ‏حاملة‏ ‏لنمط‏ ‏فعلها‏ ‏ودلالتها‏ ‏فى ‏تركيبها‏ ‏ذاته‏، ‏وينفى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏التعديل‏ ‏الاشتقاقى ‏على ‏الجذر‏ ‏مجرد‏ ‏إضافة‏ ‏تلحق‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏الخارج‏.‏

هـ‏- ‏ثم‏ ‏ننظر‏ ‏فى ‏مسألة‏ ‏عراقة‏ ‏اللغة‏ ‏العربية‏ ‏وهل‏ ‏هذا‏ ‏الزعم‏ ‏فى ‏ذاته‏ ‏يكفى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏مدعاة‏ ‏للتمسك‏ ‏بها‏، ‏وبالتالى ‏لترديد‏ ‏حكاية‏ ‏أصالتها‏، ‏والنهضة‏ ‏انطلاقا‏ ‏منها؟‏… ‏إلخ‏ ‏أم‏ ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏بعدا‏ ‏آخر؟‏ ‏بعدا‏ ‏يتعلق‏ ‏بالمستقبل‏ ‏وليس‏ ‏بالماضى ‏بشكل‏ ‏أكثر‏ ‏تحديدا؟

كلنا‏ ‏يعرف‏، ‏وبعضنا‏ ‏يتابع‏، ‏ما‏ ‏يثار‏ ‏حول‏ ‏المستقبل‏، ‏مما‏ ‏يندرج‏ ‏مباشرة‏ ‏تحت‏ ‏عنوان” ‏علم‏ ‏المستقبل” ‏أو‏ ‘‏المستقبليات”، ‏وهذا‏ ‏أمر‏ ‏لا‏ ‏يختص‏ ‏به‏ ‏وطن‏ ‏دون‏ ‏آخر‏، ‏ولا‏ ‏ينطق‏ ‏به‏ ‏لسان‏ ‏منفرد‏ ‏سواء‏ ‏كان‏ ‏متقدما‏ ‏أو‏ ‏متخلفا‏، ‏فالمستقبل‏ ‏هو‏ ‏المستقبل‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مكان‏، ‏وهو‏ ‏يعنى ‏كل‏ ‏إنسان‏ ‏من‏ ‏أى ‏لون‏ ‏وجنس‏، ‏كما‏ ‏ينطق‏ ‏بكل‏ ‏لغات‏ ‏هذه‏ ‏الأرض‏، ‏ويتأكد‏ ‏ذلك‏ ‏بشكل‏ ‏خاص‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏تهديد‏ ‏بالانقراض‏ (‏من‏ ‏خلال‏ ‏تلوث‏ ‏البيئة‏ ‏أو‏ ‏غباء‏ ‏القادة‏ ‏والعلماء‏) ‏

فأين‏ ‏تقع‏ ‏مسألة‏ ‏اللغة‏ ‏العربية‏ ‏من‏ ‏المستقبل؟‏ ‏وهل‏ ‏هى ‏لغة‏ ‏متاحف‏ ‏وعبادة‏ ‏وشعر‏ ‏قديم؟‏ ‏أم‏ ‏أنها‏ ‏معمار‏ ‏حى ‏مرن‏ ‏متجدد‏ ‏قابل‏ ‏للإبداع‏ ‏بالإضافة‏ ‏والحذف‏ ‏وإعادة‏ ‏التشكيل؟

إن‏ ‏أغلب‏ ‏المدافعين‏ ‏عن‏ ‏اللغة‏ ‏العربية‏، ‏مثلهم‏ ‏مثل‏ ‏الفخورين‏ ‏بالحضارة‏ ‏العربية‏، ‏يبدون‏ ‏لى ‏وكأنهم‏ ‏أمناء‏ ‏متحف‏، ‏أو‏ ‏شعراء‏ ‏يقفون‏ ‏على ‏الأطلال‏، ‏فإذا‏ ‏صح‏ ‏أن‏ ‏الأمر‏ ‏كذلك‏، ‏وأن‏ ‏الدعوة‏ ‏إلى ‏التعريب‏ ‏أوالعودة‏ ‏إلى ‏العربية‏ ‏ليست‏ ‏إلا‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏مثل‏ ‏ذلك‏، ‏فالأولى ‏بنا‏ ‏أن‏ ‏نتمسك‏ ‏باللغات‏ ‏المستوردة‏ ‏القادرة‏ ‏على ‏صياغة‏ ‏الحياة‏ ‏الآن‏ ‏فغدا‏ .‏

أما‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏الوعى ‏بمسئولية‏ ‏الوجود‏ ‏هوالذى ‏يدفعنا‏ ‏إلى ‏تغيير‏ ‏التعبير‏ ‏من‏ ‘ ‏العودة‏ ‏إلى ‏العربية” ‏إلى ‘‏الانطلاق‏ ‏من‏ ‏العربية‏ ‏وبها‏..’ ‏فهنا‏ ‏تستحق‏ ‏المسألة‏ ‏أن‏ ‏نجتهد‏ ‏فيها‏ ‏ونبذل‏ ‏فى ‏سبيلها‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏تستأهله‏.‏

ولأضرب‏ ‏مثلا‏ ‏محدودا‏ ‏متعلقا‏ ‏بذلك‏:‏

لقد‏ ‏وجدت‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏معايشتى ‏لتخصصى ‏ولغتى ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏مظاهر‏ ‘ ‏تحضر” ‏فى ‏الممارسة‏ ‏الإكلينيكية‏ ‏بما‏ ‏هى، ‏بنية‏ ‏مكثفة‏ ‏فى ‏سياق‏ ‏وعى ‏خاص‏، ‏وأن‏ ‏هذه‏ ‏البنية‏/ ‏الوعى ‏إنما‏ ‏تحضر‏ ‏بلغتها‏ ‏طبعا‏، ‏ليس‏ ‏فقط‏ ‏بمعنى ‏حكى ‏الأعراض‏، ‏وإنما‏ ‏بمعنى ‏الحضور‏ ‏الفعلى ‏لصورة‏ ‏المرض‏ ‏الكلية‏ ‏بما‏ ‏يسمح‏ ‏به‏ ‏تركيب‏ ‏اللغة‏، ‏ثم‏ ‏نسارع‏ ‏نحن‏ -‏الأطباء‏- ‏بترجمة‏ ‏هذه‏ ‏الحالة‏ ‏من‏ ‏لغتها‏ ‏الفجة‏ ‏إلى ‏أقرب‏ ‏تعبير‏ ‏علمى ‏يستعمل‏ ‏فى ‏وصفها‏ ‏وتشخيصها‏، ‏فأجد‏ ‏أننا‏ ‏نقترب‏ ‏من‏ ‏التعرف‏ ‏على ‏الظاهرة‏ ‏المعنية‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏صغناها‏ ‏بما‏ ‏هو‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏اللغة‏ ‏التى ‏حضرت‏ ‏فى ‏الوعى ‏الخاص‏ ‏بها‏ ‏وخاصة‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏تعلق‏ ‏الأمر‏ ‏بالوجدان‏، ‏أما‏ ‏إذا‏ ‏سارعنا‏ ‏بترجمتها‏ ‏إلى ‏غير‏ ‏لغتها‏ ‏فإن‏ ‏ذلك‏ ‏يفصلنا‏ ‏عن‏ ‏الظاهرة‏ ‏وعن‏ ‏السياق‏ ‏وعن‏ ‏الوعى ‏الخاص‏ ‏الحاضر‏ ‏إكلينيكيا‏.‏

وما‏ ‏يعنينى ‏من‏ ‏دلالة‏ ‏عرض‏ ‏هذه‏ ‏الملاحظة‏ ‏هو‏ ‏توضيح‏ ‏أننا‏ ‏فى ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الحالات‏ ‏قد‏ ‏نرضي‏-‏مضطرين‏- ‏أن‏ ‏نترجم‏ ‏الخبرة‏ ‏المعطاة‏ -‏وخاصة‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏لغة‏ ‏المريض‏ ‏العقلى – ‏إلى ‏ألفاظ‏ ‏نألفها‏ ‏نحن‏، ‏لا‏ ‏تخص‏ ‏المريض‏ ‏فى ‏كثير‏ ‏أو‏ ‏قليل‏، ‏ولا‏ ‏يفكر‏ ‏أغلبنا‏ ‏فى ‏أنه‏ ‏يختزل‏ ‏وجوده‏ .‏ووجود‏ ‏المريض‏ ‏واحتمال‏ ‏حوارهما‏ ‏إلى ‏لفظ‏ ‏مألوف‏ ‏لم‏ ‏يقصده‏ ‏المريض‏ ‏فى ‏الأغلب‏، ‏هذا‏ ‏إذا‏ ‏كنا‏ ‏نترجم‏ ‏خبرة‏ ‏المريض‏ ‏إلى ‏لفظ‏ ‏من‏ ‏لغته‏، ‏لغتنا‏ (‏العربية‏)، ‏فما‏ ‏بالك‏ ‏لو‏ ‏كانت‏ ‏الترجمة‏ ‏إلى ‏لغة‏ ‏أخري؟‏ ‏وما‏ ‏بالك‏ ‏لو‏ ‏كانت‏ ‏عقولنا‏ ‏نحن‏ ‏قد‏ ‏تبرمجت‏ ‏لرؤية‏ ‏هذا‏ ‏المريض‏ ‏بلغة‏ ‏أخري؟‏ ‏وما‏ ‏بالك‏ ‏لو‏ ‏كانت‏ ‏أسماء‏ ‏الأعراض‏ (‏المختزلة‏) ‏هى ‏أساسا‏ ‏من‏ ‏أبجدية‏ ‏لغة‏ ‏أخرى ‏؟

إن‏ ‏هذا‏ ‏المثال‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏نموذج‏ ‏خاص‏ ‏فى ‏موقف‏ ‏خاص‏، ‏لكن‏ ‏النموذج‏ ‏يمكن‏ ‏تعميمه‏ ‏بشكل‏ ‏آخر‏ ‏فى ‏موقف‏ ‏آخر‏ :‏خذ‏ ‏أطفالنا‏ ‏فى ‏المدارس‏ ‏الأجنبية‏ ‏مثلا‏، ‏خذ‏ ‏ما‏ ‏يدرسون‏ ‏ثم‏ ‏ما‏ ‏يصلهم‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏المتاح‏ ‏فى ‏وسائل‏ ‏الإعلام‏ ‏تجدهم‏ ‏يبرمجون‏ ‏بأبجدية‏ ‏بعيدة‏ ‏عن‏ ‏خبراتهم‏ ‏الذاتية‏، ‏فيضطرون‏ ‏أن‏ ‏يتشكلوا‏ ‏تبعا‏ ‏لها‏، ‏وليس‏ ‏تبعا‏ ‏لما‏ ‏يعيشونه‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏تركيبهم‏ ‏اللغوى ‏المتجذر‏، ‏فيترتب‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏نوع‏ ‏مقابل‏ ‏من‏ ‏الاختزال‏ ‏والتشويه‏ ‏إذ‏ ‏يتشكل‏ ‏الوعى ‏مائعا‏ ‏مهتزا‏، ‏ومغتربا‏ ‏عن‏ ‏أصله‏ ‏بما‏ ‏لا‏ ‏يسمح‏ ‏بإضافة‏ ‏أو‏ ‏إبداع‏. ‏

9-5- ‏ثم‏ ‏ننظرالآن‏ ‏فى ‏أمر‏ ‏آخر‏ ‏ردا‏ ‏على ‏تساؤل‏ ‏يقول‏: ‏ماذا‏ ‏عن‏ ‏ارتباط‏ ‏اللغة‏ ‏العربية‏ ‏بالإسلام‏ ‏خاصة‏ ‏؟‏ (‏وبالأديان‏ ‏الشرقأوسطية‏ ‏الحالية‏ : ‏عامة‏)‏

لا‏ ‏شك‏ ‏أن‏ ‏فضل‏ ‏الإسلام‏ ( ‏القرآن‏ ‏خاصة‏، ‏وتسجيله‏ ‏مبكرا‏) ‏فى ‏الحفاظ‏ ‏على ‏أصالة‏ ‏وألفاظ‏ ‏ونبض‏ ‏اللغة‏ ‏العربية‏ ‏ليس‏ ‏كمثله‏ ‏فضل‏، ‏وهذا‏ ‏يجعلنا‏ ‏ننظر‏ ‏مليا‏ ‏فى ‏الفرق‏ ‏الجوهرى ‏الذى ‏يفرضه‏ ‏موقف‏ ‏التدين‏ ‏العربى (‏الإسلامى ‏أساسا‏، ‏وغيره‏ ‏كذلك‏) ‏بالمقارنة‏ ‏بالموقف‏ ‏الشمالى ‏الغربى ‏المرتبط‏ ‏بالعصر‏ ‏الصناعى ‏من‏ ‏جهة‏، ‏وتأليه‏ ‏الإنسان‏ (‏الفرد‏) ‏من‏ ‏جهة‏ ‏أخرى، ‏ونوع‏ ‏التنمية‏ ‏الكمية‏ ‏الإستهلاكية‏ ‏المغتربة‏ ‏من‏ ‏جهة‏ ‏ثالثة‏، ‏واستنزاف‏ ‏الطبيعة‏ ‏من‏ ‏جهة‏ ‏رابعة‏: ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏قد‏ ‏صاغ‏ ‏الفكر‏ ‏الأوربى ‏فى ‏القرنين‏ ‏الأخيرين‏، ‏وقد‏ ‏تدخلت‏ ‏هذه‏ ‏الصيغة‏ ‏فى ‏تركيبهم‏ ‏اللغوى ‏حتى ‏أصبحت‏ ‏جزءا‏ ‏لا‏ ‏يتجزأمن‏ ‏مناهج‏ ‏تفكيرهم‏ ‏وبحثهم‏ ‏واستنتاجاتهم‏ ‏وتنميتهم‏ ‏وتخطيطهم‏.‏

لكننا‏ ‏نحن‏ ‏بإسلامنا‏ (‏بالمعنى ‏الأشمل‏ ‏الذى ‏يحتوى ‏إخواننا‏ ‏من‏ ‏أديان‏ ‏أخرى) ‏نختلف‏,(‏سلبا‏ ‏وايجابا‏) ‏أو‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نختلف‏، ‏ولعل‏ ‏اللغة‏ ‏العربية‏ ‏بثباتها‏ ‏وتحملها‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏القرون‏ ‏هى ‏التى ‏حافظت‏ ‏على ‏علاقتنا‏ ‏بالطبيعة‏، ‏ولعها‏ ‏توحى ‏لنا‏ ‏مؤخرا‏ -‏إذ‏ ‏نحاول‏ ‏الإفاقة‏- ‏أن‏ ‏للحياة‏ ‏هدفا‏ ‏آخر‏، ‏وأن‏ ‏الإنسان‏ ‏ليس‏ ‏إلها‏، ‏وأن‏ ‏المنهج‏ ‏القائم‏ ‏الغالب‏ ‏عندهم‏ ‏والمحتكر‏ ‏لما‏ ‏يسمى ‏علما‏، ‏لا‏ ‏يفى ‏بسبر‏ ‏غور‏ ‏الحقيقة‏، ‏كل‏ ‏الحقيقة‏ ‏أو‏ ‏أغلبها‏، ‏وأن‏ ‏لنا‏ ‏علاقة‏ ‏متصلة‏ ‏بالطبيعة‏ ‏غير‏ ‏الاقتحام‏ ‏والسيطرة‏ ‏والاستنزاف‏.‏

هذا‏ ‏عن‏ ‏الناحية‏ ‏الإيجابية‏، ‏أما‏ ‏عن‏ ‏الناحية‏ ‏السلبية‏، ‏فسوف‏ ‏أبين‏ ‏منها‏ ‏جانبين‏ ‏كأمثلة‏ ‏دالة‏ : ‏المثال‏ ‏الأول‏ : ‏هو‏ ‏احتكار‏ ‏تفسير‏ ‏النص‏ ‏القرآنى ‏لمن‏ ‏حذق‏ ‏اللغة‏ ‏العربية‏، ‏وهذا‏ ‏طيب‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏المبدأ‏ ‏لكن‏ ‏شروط‏ ‏الحذق‏ ‏الشائعة‏ ‏هى ‏أن‏ ‏يتجمد‏ ‏المفسر‏ ‏عند‏ ‏مرحلة‏ ‏ساكنة‏ ‏من‏ ‏مراحل‏ ‏تطور‏ ‏اللغة‏، ‏بأن‏ ‏يتحرك‏ ‏داخل‏ ‏المعاجم‏ ‏تحديدا‏، ‏ووراء‏ ‏أسوار‏ ‏القواعد‏ ‏الثابتة‏ ‏تماما‏، ‏سواء‏ ‏كانت‏ ‏هذه‏ ‏القواعد‏ ‏هى ‏القواعد‏ ‏الجامدة‏ ‏للغة‏ ‏الساكنة‏، ‏أو‏ ‏القواعد‏ ‏التى ‏وصفها‏ ‏مفسرون‏ ‏ماتوا‏، ‏فقررنا‏ ‏موت‏ ‏اللغة‏ ‏معهم‏، ‏والأصل‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏حذق‏ ‏اللغة‏ ‏هو‏ ‏حذق‏ ‏إبداع‏ ‏وتطوير‏ ‏وليس‏ ‏حفظ‏ ‏تجميد‏ ‏وتحجيم‏، ‏فيصبح‏ ‏النص‏ ‏مثيرا‏ ‏لحركية‏ ‏هذه‏ ‏اللغة‏ / ‏الوعى / ‏الآنى ‏لنستلهمه‏ ‏مع‏ ‏كل‏ ‏احترامنا‏ ‏لكل‏ ‏القواعد‏ ‏الشكلية‏ ‏والهيكلية‏ ‏والتركيبية‏ ‏والتاريخية‏. ‏والمثال‏ ‏الثانى : ‏يقع‏ ‏فى ‏أقصى ‏الناحية‏ ‏الأخرى، ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏يطلق‏ ‏عليه‏ ‏إسم‏ ‘‏التفسير‏ ‏العلمى ‏للنص‏ ‏الديني” ‏فهذه‏ ‏البدعة‏ ‏ترتكز‏ ‏على ‏ظاهر‏ ‏اللغة‏ ‏العربية‏ ‏التى ‏نزل‏ ‏بها‏ ‏النص‏ ‏لتقدم‏ ‏تفسيرات‏ ‏جامدة‏ ‏لظاهر‏ ‏جزئيات‏ ‏معطيات‏ ‏العلم‏.‏

ففى ‏الوقت‏ ‏الذى ‏يتمطى ‏مارد‏ ‏المعرفة‏ ‏ليمزق‏ ‏القيود‏ ‏المختبئة‏ ‏تحت‏ ‏أدعاء‏ ‏أنها‏ ‏علمية‏ (‏بالمفهوم‏ ‏التقليدى ‏للعلم‏) ‏يتمطى ‏وهو‏ ‏يستشرف‏ ‏انفتاحا‏ ‏للتعرف‏ ‏على ‏السبل‏ ‏المشتركة‏ ‏إلى: ‏الله‏/‏المعرفة‏/‏القدرة‏/‏الإبداع‏، ‏نتقزم‏ ‏نحن‏ ‏العرب‏ ‏المسلمون‏ ‏خلف‏ ‏قضبان‏ ‏سجن‏ ‏لغة‏ ‏جامدة‏ ‏ومنهج‏ ‏علمى ‏قاصر‏ ‏فنشوه‏ ‏الجميع‏ : ‏الماضى ‏والحاضر‏ ‏والمستقبل‏، ‏العلم‏ ‏والدين‏ ‏والإيمان‏.‏

وكأن‏ ‏هذه‏ ‏المحاولة‏ ‏ليست‏ ‏إلا‏ ‏عملية‏ ‏ترجمة‏ ‏قبيحة‏ ‏من‏ ‏لغة‏ ‏الإسلام‏ (‏بالعربية‏ ‏المغلقة‏ ‏لا‏ ‏العربية‏ ‏المرنة‏ ‏المبدعة‏) ‏إلى ‏لغة‏ ‏علم‏ ‏جزئى ‏قديم‏، ‏فالعملية‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏هى ‏اختزال‏ ‏حركية‏ ‏الإسلام‏ ‏الملهــم‏ ‏وحبسه‏ ‏فى ‏سجن‏ ‏لغة‏ ‏جامدة‏ ‏وعلم‏ ‏محدود‏.‏

‏ ‏وهكذا‏ ‏يتم‏ ‏اختزال‏ ‏معطيات‏ ‏الدين‏ ‏واللغة‏ ‏جميعا‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏شاع‏ ‏أنه‏ ‏العلم‏، ‏ونحن‏ ‏بذلك‏ ‏لا‏ ‏نختزل‏ ‏العلم‏ ‏فحسب‏ ‏ولا‏ ‏نمتهن‏ ‏الدين‏ ‏فحسب‏، ‏بل‏ ‏إننا‏ ‏نعبث‏ ‏فى ‏تكوين‏ ‏وعى ‏هذه‏ ‏الأمة‏ ‏جميعا‏ ‏حين‏ ‏نختزل‏ ‏عطاء‏ ‏اللغة‏ ‏العربية‏، ‏واللغة‏ ‏الدينية‏، ‏إلى ‏قدرتها‏ ‏على ‏إصدار‏ ‏لفظ‏ ‏يفيد‏ ‏معنى ‏علميا‏ ‏صدر‏ ‏بمنهج‏ ‏محدود‏ ‏آخر‏ ‏من‏ ‏وعى ‏غريب‏ ‏آخر‏ ‏فى ‏سياق‏ ‏آخر‏، ‏وزمن‏ ‏آخر‏.‏

وتصحيح‏ ‏هذا‏ ‏الوضع‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏ديننا‏ (‏وهو‏ ‏لغة‏ ‏فى ‏ذاته‏) – ‏مثله‏ ‏مثل‏ ‏لغتنا‏ ‏العربية‏ – ‏مصدر‏ ‏إلهام‏ ‏معرفى ‏لتجديد‏ ‏الوعى ‏وتنشيط‏ ‏الإبداع‏، ‏وليس‏ ‏مجرد‏ ‏تابع‏ ‏قادر‏ ‏على ‏إصدار‏ ‏نفس‏ ‏الأصوات‏ ‏الأجنبية‏ ‏العلمية‏ ‏وغير‏ ‏العلمية‏ ‏الحاوية‏ ‏لنفس‏ ‏المعانى ‏القاصرة‏: ‏يصدرها‏ (‏أو‏ ‏يعيد‏ ‏إصدارها‏) ‏بلسان‏ ‏عربى ‏أو‏ ‏نص‏ ‏تفسير‏ ‏متعسف‏ ‏لنص‏ ‏ديني‏.‏

‏ ‏إن‏ ‏لغتنا‏ ‏العربية‏ ‏لم‏ ‏تقفل‏ ‏باب‏ ‏التجديد‏ ‏والخلق‏ ‏وولادة‏ ‏ألفاظ‏ ‏جديدة‏، ‏لكن‏ ‏هذه‏ ‏المحاولة‏ ‏التى ‏تعتمد‏ ‏على ‏تفسيرات‏ ‏قديمة‏ ‏بمضامين‏ ‏للألفاظ‏ ‏أقدم‏ ‏لا‏ ‏تفعل‏ ‏إلا‏ ‏أنها‏ ‏تساهم‏ ‏فى ‏تجميد‏ ‏اللغة‏ ‏والفكر‏ ‏لتصبح‏ ‏لغتنا‏ ‏لغة‏ ‏ميتة‏ ‏عاجزة‏ ‏عن‏ ‏استيعاب‏ ‏حركية‏ ‏الوعى ‏الإنسانى ‏الخلاق‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏الفضل‏ ‏كل‏ ‏الفضل‏ ‏للغة‏ ‏ما‏ ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏إلا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏قدرتها‏ ‏على ‏استيعاب‏ ‏الخبرات‏ ‏الإنسانية‏ ‏المتجددة‏ ‏بتراكيب‏ ‏جديدة‏ ‏فى ‏سياقات‏ ‏جديدة‏، ‏بل‏ ‏بألفاظ‏ ‏جديدة‏، ‏أو‏ ‏بألفاظ‏ ‏قديمة‏ ‏قادرة‏ ‏على ‏احتواء‏ ‏مضامين‏ ‏جديدة‏، ‏وهذا‏ ‏وحده‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يعطى ‏أى ‏لغة‏ ‏حقها‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏فضلا‏ ‏عن‏ ‏أنها‏ ‏بدورها‏ ‏تعطى ‏الحياة‏ ‏قدرتها‏ ‏على ‏التحديد‏ ‏والتسجيل‏ ‏والتواصل‏.‏

‏ ‏وفى ‏هذا‏، ‏ومن‏ ‏أجله‏، ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تحول‏ ‏المعاجم‏ ‏والتفسيرات‏ ‏الثابتة‏ ‏والقديمة‏ ‏وكذلك‏ ‏التفسيرات‏ ‏السطحية‏ ‏الحديثة‏ ‏دون‏ ‏اقتحام‏ ‏الأصل‏ ‏وتجديده‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏حركة‏ ‏المعرفة‏ ‏وتخليق‏ ‏الوعى ‏دائما‏ ‏أبدا‏.‏

‏10- ‏عن‏ ‏المنهج

إن‏ ‏الانطلاق‏ ‏من‏ ‏لغتنا‏ ‏العربية‏، ‏تركيبا‏ ‏له‏ ‏بنيته‏ ‏الخاصة‏، ‏وليس‏ ‏ترجمة‏ ‏عاجزة‏ ‏عن‏ ‏الحركة‏ ‏المستقلة‏، ‏لهو‏ ‏من‏ ‏العوامل‏ ‏الأساسية‏ ‏التى ‏قد‏ ‏تتيح‏ ‏لنا‏ ‏الفرصة‏ ‏لاختبار‏ ‏منهج‏ ‏آخر‏ ‏أكثر‏ ‏قدرة‏ ‏على ‏سبر‏ ‏غور‏ ‏الحقيقة‏ ‏والإلمام‏ ‏بأبعاد‏ ‏المعرفة‏، ‏ومن‏ ‏ذلك‏ ‏هذا‏ ‏الحضور‏ ‏المكثف‏ ‏للوعى ‏الأشمل‏ ‏فى ‏وعينا‏ ‏الفردى ‏ثم‏ ‏الجماعى، (‏مثلا‏ : ‏حضور‏ ‏الحق‏ ‏تعالى ‏فى ‏الوعى ‏الكيانى ‏للفرد‏ ‏بما‏ ‏يوجه‏ ‏أهدافه‏ ‏ويثرى ‏معارفه‏) ‏وليس‏ ‏هنا‏ ‏مجال‏ ‏لتفصيل‏ ‏أكثر‏، ‏وإنما‏ ‏أكتفى ‏بمجرد‏ ‏الإشارة‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏أشرت‏ ‏إليه‏ ‏من‏ ‏تراجع‏ ‏المنهج‏ ‏التجريبى ‏الكمى ‏المعتمد‏ ‏على ‏الرصد‏ ‏السلوكى ‏عن‏ ‏احتكار‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏موضوعية‏ ‏المعرفة‏، ‏الأمر‏ ‏الذى ‏يتواكب‏ ‏مع‏ ‏ظهور‏ ‏مناهج‏ ‏وطرق‏ ‏قادرة‏ ‏وشاملة‏ ‏تفكير‏ ‏تصبغ‏ ‏الطبيعة‏ ‏الحديثة‏ ‏والرياضة‏ ‏الحديثة‏ ‏مثلا‏، ‏وهو‏ ‏تضع‏ ‏فكر‏ ‏أرسطو‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏إبن‏ ‏رشد‏ ‏فى ‏موضعه‏ ‏المتواضع‏، ‏فيتفتح‏ ‏الأفق‏ ‏إلى ‏مناهج‏ ‏ومناطق‏ ‏أكثرقدرة‏ ‏وكلية‏ ‏وإحاطة‏ ‏وتداخلا‏، ‏وكلها‏ ‏مناهج‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏بنية‏ ‏اللغة‏ ‏العربية‏ ‏القادرة‏، ‏منها‏ ‏إلى ‏التنظيم‏ ‏الخطى ‏المنفصل‏ ‏بعضه‏ ‏عن‏ ‏بعض‏ ‏فى ‏لغات‏ ‏أخرى ‏مسطحة‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏.‏

وبديهى ‏أنه‏ ‏على ‏أن‏ ‏أنبه‏ -‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏أنا‏ ‏منتبه‏ ‏وأكثر‏- ‏إلى ‏أن‏ ‏المسألة‏ ‏ليست‏ ‏مسألة‏ ‏تمسك‏ ‏برطانة‏ ‏محلية‏ ‏نعود‏ ‏إليها‏ ‏أو‏ ‏حتى ‏ننطلق‏ ‏منها‏ ‏لينصلح‏ ‏الحال‏، ‏فنبدع‏ ‏الجديد‏، ‏ونصوغ‏ ‏المنهج‏ ‏البديل‏، ‏ونسترجع‏ ‏استقلال‏ ‏فكرنا‏، ‏ونغير‏ ‏أهدافنا‏، ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏يستحيل‏ ‏أن‏ ‏يتم‏ ‏لمجرد‏ ‏أننا‏ ‏نتكلم‏ ‏العربية‏، ‏أو‏ ‏أننا‏ ‏نتعلم‏ ‏ونبحث‏ ‏باللغة‏ ‏الأم‏، ‏إن‏ ‏العكس‏ ‏تماما‏ ‏هو‏ ‏المطلوب‏ ‏وهو‏ ‏ممكن‏، ‏بمعنى ‏أننا‏ ‏لو‏ ‏تبينا‏ ‏أننا‏ ‏نتميز‏ ‏عن‏ ‏غيرنا‏، ‏ليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏تفوقا‏، ‏فقط‏: ‏مجرد‏ ‏تميز‏، ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏يسمح‏ ‏لنا‏ ‏بالحركة‏ ‏فى ‏مساحة‏ ‏أخرى، ‏من‏ ‏منطلق‏ ‏آخر‏، ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏يتيحان‏ ‏لنا‏ ‏فرصة‏ ‏اقتحام‏ ‏مجاهل‏ ‏المعرفة‏ ‏بشكل‏ ‏آخر‏ ‏فى ‏مسار‏ ‏آخر‏، ‏وأن‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏يعنى ‏أن‏ ‏لنا‏ ‏توجها‏ ‏آخر‏، ‏لو‏ ‏حدث‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏فإنه‏ ‏يؤكد‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يتم‏ ‏إلا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏بنيتنا‏ ‏العربية‏ ‏الغائرة‏، ‏التى ‏بعض‏ ‏صورها‏: ‏النطق‏ ‏والبحث‏ ‏والحوار‏ ‏بهذا‏ ‏اللسان‏ ‏العربي‏.‏

فالعقل‏ ‏العربى ‏لا‏ ‏يستعيد‏ ‏استقلاله‏ ‏وحريته‏ ‏باستعادة‏ ‏النطق‏ ‏بلسانه‏، ‏وإنما‏ ‏تتاح‏ ‏له‏ ‏الفرصة‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏استعمال‏ ‏لغته‏ -‏تركيبا‏ ‏غائرا‏- ‏بما‏ ‏يتيح‏ ‏تجديدها‏، ‏ثم‏ ‏هو‏ ‏يستعيد‏ ‏أو‏ ‏لا‏ ‏يستعيد‏ -‏بحسب‏ ‏مسئوليته‏ ‏وإسهامه‏- ‏دوره‏، ‏فريادته‏ ‏على ‏طريق‏ ‏المعرفة‏ / ‏الحضارة‏ ‏فإذا‏ ‏فعل‏ ‏عادت‏ ‏لغته‏ ‏إلى ‏الحياة‏ ‏ثم‏ ‏تطورت‏ ‏بدورها‏، ‏فأعطت‏ ‏وتحاورت‏، ‏وإذا‏ ‏لم‏ ‏يفعل‏ ‏فهو‏ ‏الخاسر‏ ‏نفسه‏ ‏ولغته‏ ‏وعطاء‏ ‏غيره‏ ‏فى ‏آن‏ ‏ولايبقى ‏له‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏يتبع‏ ‏ويطيع‏ (‏ويسمع‏ ‏الكلام‏) ‏لو‏ ‏استطاع‏ ‏أن‏ ‏يفعل‏!!‏

‏11- ‏تطور‏ ‏اللغة‏ ‏وتخليق‏ ‏الوعى ‏

من‏ ‏هذا‏ ‏المنطلق‏، ‏وبعد‏ ‏هذه‏ ‏المقدمة‏، ‏نستطيع‏ ‏أن‏ ‏نتصور‏ ‏التحدى ‏الملقى ‏علينا‏ ‏فى ‏مسألة‏ ‏تطور‏ ‏اللغة‏ ‏وبالتالى ‏تشكيل‏ ‏الوعى، ‏فاختراق‏ ‏وصاية‏ ‏اللغة‏ ‏ورسوخها‏ ‏حتم‏ ‏تفرضه‏ ‏ضرورة‏ ‏التطور‏ ‏وحركية‏ ‏الإبداع‏، ‏لكن‏ ‏هذا‏ ‏الاختراق‏ -‏مثل‏ ‏كل‏ ‏اختراق‏- ‏محفوف‏ ‏حتما‏ ‏بتهديد‏ ‏التناثر‏ (‏الجنون‏) ; ‏فثمة‏ ‏جدل‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يفرض‏ ‏نفسه‏ ‏حلا‏ ‏للمواجهة‏ ‏بين‏ ‏الظاهرة‏ ‏الوجودية‏ ‏الأعمق‏ ‏إذ‏ ‏تتفجر‏ ‏فى ‏علاقات‏ ‏وتركيبات‏ ‏جديدة‏ ‏قديمة‏ ‏متجددة‏، ‏وبين‏ ‏التركيب‏ ‏اللغوى ‏السابق‏ ‏لها‏ ‏مباشرة‏، ‏والعاجز‏ ‏عن‏ ‏استيعابها‏ ‏استيعابا‏ ‏تاما‏.‏

ولا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يتم‏ ‏ذلك‏ ‏على ‏المستوى ‏القومى ‏إلا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏لغتنا‏ ‏الخاصة‏ ‏وعلينا‏ ‏أن‏ ‏نهييء‏ ‏مساحة‏ ‏الحركة‏، ‏وندفع‏ ‏التنشيط‏، ‏ونحرص‏ ‏على ‏مرونة‏ ‏التلقى ‏لحركية‏ ‏تطور‏ ‏اللغة‏; ‏ذلك‏ ‏لأن‏ ‏اختراق‏ ‏الثبات‏ (‏اللغوى) ‏بهدف‏ ‏خلخلة‏ ‏تزييف‏ ‏الوعى ‏الساكن‏. ‏يشمل‏ ‏حتما‏ ‏مغامرة‏ ‏الجنون‏ ‏إذ‏ ‏يهدد‏ ‏بتفكك‏ ‏الكيان‏ ‏اللغوى ‏وغلبة‏ ‏الرطانة‏ ‏بلا‏ ‏تكامل‏ ‏لاحق‏ (‏وهذا‏ ‏هو‏ ‏الجنون‏) ‏لكن‏ ‏المرونة‏ (‏الحرية‏) ‏والمساحة‏ ‏والتقعيد‏ ‏والثراء‏ ‏فى ‏آن‏ ‏هى ‏القادرة‏ ‏على ‏إنجاح‏ ‏الجدلية‏ ‏العملية‏ ‏العميقة‏ ‏بما‏ ‏تحققه‏ ‏من‏ ‏إثراء‏ ‏للغة‏ ‏وللكيان‏ ‏البشرى ‏بما‏ ‏هو‏ ‏فعل‏ ‏الإبداع‏ ‏الفائق‏ ‏فى ‏صورة‏ ‏الشعر‏ (‏بالمعنى ‏الأوسع‏) ‏وحين‏ ‏تتأصل‏ ‏اللغة‏ ‏لتجدد‏ ‏وتتجدد‏، ‏يصبح‏ ‏الوعى ‏قادرا‏ ‏على ‏النمو‏ ‏وإعادة‏ ‏التشكيل‏ ‏مرة‏ ‏أخرى .‏

‏‏الخلاصة‏:‏

وأستطيع‏ ‏الآن‏ ‏أن‏ ‏أخلص‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الأفكار‏ ‏المتنقلة‏ ‏فى ‏الفقرات‏ ‏السابقة‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏يلى :‏

‏1 – ‏إن‏ ‏اللغة‏ ‏والوعى ‏هما‏ ‏وجهان‏ ‏للحضور‏ ‏البشرى ‏فى ‏عملية‏ ‏الخلق‏ ‏وإعادة‏ ‏الخلق‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏جدلية‏ ‏الواقع‏ ‏الحى ‏مع‏ ‏التشكيل‏ ‏اللغوى ‏المتجدد‏.‏

‏2 – ‏إن‏ ‏لسان‏ ‏كل‏ ‏أمة‏ ‏هو‏ ‏تاريخها‏ ‏الحيوى ‏المتراكم‏ ‏فى ‏عمق‏ ‏وجودها‏ ‏الآنى، ‏ولغتها‏ ‏بالتالى ‏هى ‏منطلق‏ ‏معارفها‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏ظاهرة‏ ‏بشرية‏ ‘‏معرفية‏/‏وجدانية”.‏

‏3 – ‏إن‏ ‏اللغة‏ ‏الأصل‏ ( ‏اللغة‏ ‏العربية‏ ‏هنا‏) ‏فى ‏حركيتها‏ ‏الموحية‏، ‏لا‏ ‏تميز‏ ‏لساننا‏ ‏فحسب‏ ‏بل‏ ‏تسهم‏ ‏بفاعلية‏ ‏أولية‏ ‏فى ‏تحديد‏ ‏طريقة‏ ‏تواجدنا‏ ‏فى ‏الحياة‏، ‏وطريقة‏ ‏منهجنا‏ ‏للمعرفة‏، ‏وطريقة‏ ‏تشكيلنا‏ ‏للوعي.

‏4 – ‏إن‏ ‏اللغة‏ ‏الأصل‏ ‏هى ‏المسئولة‏، ‏من‏ ‏واقع‏ ‏صحتها‏ ‏وحركيتها‏، ‏عن‏ ‏الإسهام‏ ‏الحقيقى ‏فى ‏إبداع‏ ‏متميز‏ ‏لأى ‏مجموعة‏ ‏من‏ ‏البشر.

‏5 – ‏إن‏ ‏اللغة‏ ‏العربية‏، ‏بإيحاءاتها‏ ‏المنهجية‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تحتل‏ ‏مركزها‏ ‏المحورى ‏فى ‏أى ‏محاولة‏ ‏للتعرف‏ ‏على ‏حركية‏ ‏نمونا‏ ‏وإمكانية‏ ‏بعثنا‏، ‏وبالتالى ‏تصبح‏ ‏البدايات‏ ‏منها‏ (‏لا‏ ‏مجرد‏ ‏الترجمة‏ ‏إليها‏) ‏هى ‏أكبر‏ ‏إلزام‏ ‏مفروض‏ ‏على ‏ضمائرنا‏ ‏ومحرك‏ ‏لفعل‏ ‏معرفتنا‏ ‏وعلينا‏ ‏أن‏ ‏نتوقع‏ ‏إذا‏ ‏أحسنا‏ ‏استلهامها‏ ‏أن‏ ‏تقف‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏اللغات‏ ‏الأخرى – ‏والمناهج‏ ‏الأخرى، ‏فى ‏حوار‏ ‏حضارى ‏يعود‏ ‏على ‏الجميع‏ ‏بالتكامل‏ ‏المحتمل‏ ‏بل‏ ‏الحتمى‏.‏

هذا‏،‏

وإلا‏ ……‏

العالـم‏ ‏بين‏ ‏استحالة‏ ‏الإلحاد

وسجن‏ ‏التدين‏ ‏السطحى

ماذا‏ ‏يفعل‏ ‏العالِم، فى ‏مجتمعنا، إذ‏ ‏يفشل‏ ‏أن‏ ‏يلحد‏ ‏حين‏ ‏يرى ‏استحالة‏ ‏الإلحاد‏ -‏بيولوجيا‏- ‏مع‏ ‏استمرار‏ ‏الحياة؟‏ ‏هذا‏ ‏متى ‏ما‏ ‏وعى ‏بصدق‏ ‏علمه‏ ‏وأمانة‏ ‏موضوعيته‏: ‏ماهية‏ ‏الايمان‏ ‏كتناسق‏ ‏حتمى ‏بين‏ ‏الكون‏ ‏الأوسط‏ (‏الإنسان‏) ‏والكون‏ ‏الأعظم‏ ‏على ‏طريق‏ ‏التكامل‏ ‏واستمرار‏ ‏التطور؟

وماذا‏ ‏يفعل‏ ‏نفس‏ ‏العالم‏ ‏اذا‏ ‏عجز‏ ‏أن‏ ‏يؤمن‏-‏بلغتهم‏ ‏الخاصة‏ ‏المغلقة‏ ‏التى ‏يحتكرون‏ ‏بها‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏دين‏ – ‏خوفا‏ ‏من‏ ‏الإرهاب‏ ‏الفكرى ‏وإلزامه‏ ‏بحتمية‏ ‏التسليم‏ ‏لتفاصيل‏ ‏التفاصيل‏ ‏لمسلمات‏ ‏احتكروا‏ ‏تفسيرها، وحجروا‏ ‏على ‏عقله‏ ‏أن‏ ‏يقترب‏ ‏منها‏ ‏إلا‏ ‏بمنطقهم‏ ‏وحروفهم‏؟

إن‏ ‏أمانة‏ ‏العالم‏ ‏مع‏ ‏نفسه، إذ‏ ‏يحسن‏ ‏استعمال‏ ‏عقله‏ ‏المكرم، ويجرؤ‏ ‏على ‏تصديق‏ ‏حدسه‏ ‏الأعمق‏ ‏تـعجزه‏ ‏عن‏ ‏الكفر‏.‏

‏ ‏كما‏ ‏أن‏ ‏احترام‏ ‏العالم‏ ‏لعقله‏ ‏وخوفه‏ ‏من‏ ‏الحظر‏ ‏الفكرى ‏والقهر‏ ‏القوالبى .. ‏تعجزه‏ ‏عن‏ ‏إعلان‏ ‏ايمانه‏ ‏الحقيقى ‏الأصيل‏ ‏فى ‏سعيه‏ ‏الى ‏موالفة‏ ‏صحية‏ ‏أعلى.‏

وهى ‏قضية‏ ‏قديمة‏ ‏جديدة، ولكن‏ ‏الحاجة‏ ‏إلى ‏ضرورة‏ ‏حلها‏ ‏أصبحت‏ ‏ملحة‏ ‏لا‏ ‏تحتمل‏ ‏أى ‏ابطاء، وقد‏ ‏تحددت‏ ‏معالمها‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏مجتهد‏ ‏أمين‏ ‏مع‏ ‏نفسه‏.‏

هذا‏ ‏ولم‏ ‏يعد‏ ‏خافيا‏ ‏أن‏ ‏الحضارة‏ ‏الغربية‏ ‏تتعاطى ‏دفعات‏ ‏مركزة‏ ‏من‏ ‏أمصال‏ ‏تكنولوجية‏ ‏تحاول‏ ‏أن‏ ‏تستعيد‏ ‏بها‏ ‏شبابها، وليس‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏الأذهان‏ ‏ما‏ ‏لجأت‏ ‏اليه‏ ‏الاسعافات‏ ‏العصرية‏ ‏لأزمة‏ ‏اغتراب‏ ‏الانسان‏ ‏الغربى ‏إلى ‏استعمال‏ ‏وسائل‏ ‏تكنولوجية، وأبحاث‏ ‏فسيولوجية‏ ‏للدعاية‏ ‏لأديان‏ ‏جديدة‏ ‏تناسب‏ ‏منطق‏ ‏العصر‏.(‏مثلا‏: ‏التأمل‏ ‏التجاوزى‏transcendental meditation (‏ (المهاريشى) ‏بمركزيه‏ ‏فى ‏سويسرا‏ ‏والولايات‏ ‏المتحدة‏ ‏الأمريكية‏)‏.

ولم‏ ‏يعد‏ ‏خافيا‏ ‏أن‏ ‏الفكر‏ ‏المادى ‏يتسع‏ ‏فى ‏تحايل‏ ‏إذ‏ ‏يحاول‏ ‏أن‏ ‏يحتوى ‏الدين‏ .. ‏وحتى ‏الخرافة‏. ‏وهكذا‏ ‏يأتى ‏التأكيد‏ ‏على ‏ضرورة‏ ‏الدين‏ ‏ولكنه‏ ‏تأكيد‏ ‏يأتى ‏من‏ ‏غير‏ ‏أهله، وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏تنتفض‏ ‏الأمة‏ ‏العربية‏ ‏والإسلامية‏ ‏انتفاضات‏ ‏هنا‏ ‏وهناك، وهذه‏ ‏الانتفاضات‏ ‏على ‏قلتها‏- ‏توحى ‏أنها‏ ‏تكاد‏ ‏تدرك‏ ‏هذه‏ ‏الحقائق‏ ‏فتتأهب‏ ‏للقيام‏ ‏بدورها‏, ‏ولكنها‏ ‏انتقاضات‏ ‏متفرقة‏ ‏فردية‏ ‏لا‏ ‏تتجمع‏ ‏فى ‏نبضة‏ ‏دافعة‏ ‏إذ‏ ‏لا‏ ‏يبدو‏ ‏بعد‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏أننا‏ ‏نتجه‏ ‏إلى ‏الاتجاه‏ ‏الصحيح، أو‏ ‏أننا‏ ‏نتكلم‏ ‏بلغة‏ ‏العصر، أو‏ ‏أننا‏ ‏نبحث‏ ‏عن‏ ‏المنهج‏ ‏المناسب‏.‏

ويستطيع‏ ‏الفاحص‏ ‏الأمين‏ ‏أن‏ ‏ينتبه‏ ‏إلى ‏توجه‏ ‏مسار‏ ‏فكر‏ ‏العلماء‏ ‏والمتعالمين‏ ‏منهم‏: ‏إذ‏ ‏يلاحظ‏ ‏استقطاب‏ ‏العقل‏ ‏العربى ‏والإسلامى ‏بين‏ ‏غلاة‏ ‏المتعبدين‏ ‏فى ‏محاريب‏ ‏أصنام‏ ‏العلم‏ ‏كوسيلة‏ ‏هروبية‏ ‏من‏ ‏قهر‏ ‏وصاية‏ ‏التفسيرات‏ ‏الدينية‏ ‏الجامدة، وبين‏ ‏غلاة‏ ‏الشطح‏ ‏الإنكارى ‏تحت‏ ‏زعم‏ ‏حرية‏ ‏غير‏ ‏محدودة‏ ‏تغذيها‏ ‏عادة‏ ‏أيديولوجيات‏ ‏ترفيهية‏ ‏أو‏ ‏عدمية، أما‏ ‏الفئة‏ ‏الثالثة‏ ‏فهى ‏التى ‏انتهجت‏ ‏التلفيق‏ ‏بين‏ ‏العلم‏ ‏والدين‏ ‏وبالعكس.

وهكذا‏ ‏أصبحنا‏ ‏فى ‏موقف‏ ‏منشق‏ ‏يحد‏ ‏من‏ ‏فرصتنا‏ ‏فى ‏اقتحام‏ ‏مغامر‏ ‏إلى ‏الطريق‏ ‏الى ‏الحقيقة‏. ‏

ولأضرب‏ ‏لذلك‏ ‏مثلا‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏علمى ‏المتواضع‏ : ‏علم‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏وما‏ ‏يرتبط‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏علم‏ ‏النفس‏. ‏

فالمشتغل‏ ‏بهذا‏ ‏العلم‏ , ‏دراسة‏ ‏وممارسة، إذ‏ ‏يتعرض‏ ‘‏لماهية‏ ‏الانسان‏’ ‏كحقيقة‏ ‏بيولوجية‏ ‏تتوازن‏ ‏فى ‏الصحة‏ ‏والسلامة، وتتنافر‏ ‏فى ‏المرض‏ ‏والتناثر، لا‏ ‏يستطيع‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏أمينا‏ ‏مع‏ ‏عقله‏ ‏ورؤيته‏ ‏أن‏ ‏يفصل‏ ‏هذه‏ ‏الحركة‏ ‘‏التوازنية‏/‏التنافرية‏’ ‏عن‏ ‏مسار‏ ‏الإنسان‏ ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏أصله‏ ‏ومصيره، كفره‏ ‏وإيمانه‏ – ‏ويزداد‏ ‏هذا‏ ‏الحتم‏ ‏ونحن‏ ‏على ‏أبواب‏ ‏القرن‏ ‏الواحد‏ ‏والعشرين‏ ‏حيث‏ ‏أعلن‏ ‏فشل‏ ‏مدارس‏ ‏تفسيرات‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى، ليس‏ ‏فقط‏ ‏بسبب‏ ‏لغتها‏ ‏الجنسية‏ ‏الرمزية‏ ‏ولكن‏ ‏بسبب‏ ‏نظرتها‏ ‏الحتمية‏ ‏السببية‏ ‏القاصرة‏.‏

وحين‏ ‏يدرك‏ ‏الطبيب‏ ‏النفسى ‏المعاصر‏ ‏خيبة‏ ‏هذا‏ ‏الحل‏’‏التحليل‏ ‏النفسي‏’ ‏يجد‏ ‏نفسه‏ ‏مضطرا‏ ‏إلى ‏الإرتماء‏ ‏فى ‏أحضان‏ ‏الحلول‏ ‏الكيميائية‏ ‏الميكانيكية، هربا‏ ‏من‏ ‏التهويمات‏ ‏الجنسية‏ ‏والتبريرات‏ ‏التثبيتية‏,‏لكنه‏ ‏يكتشف‏ ‏بعد‏ ‏فترة‏ ‏أن‏ ‏عقله‏ ‏قد‏ ‏سجن‏ ‏من‏ ‏جديد‏ ‏فى ‏الخلية‏ ‏العصبية‏ ‏ومشتبكاتها‏ ‏التوصيلية‏.‏

وتظهر‏ ‏فى ‏الغرب‏ ‏الحركة‏ ‏المضادة‏ ‏للطب‏ ‏النفسى، وهى ‏حركة، رغم‏ ‏وجاهة‏ ‏منطقها‏ ‏فى ‏إعلان‏ ‏الفشل، الا‏ ‏أنها‏ ‏حركة‏ ‏عدمية‏ ‏يتناقص‏ ‏موقفها‏ ‏العدمى ‏فى ‏الغرب‏ ‏مع‏ ‏تزايد‏ ‏فشل‏ ‏البدائل‏ ‏التى ‏تطرحها‏.‏

وقد‏ ‏بدت‏ ‏هذه‏ ‏الحركة‏ ‏العدمية‏ ‏تبريرا‏ ‏للهرب‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏سجن‏ ‏رموز‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏وأيضا‏ ‏من‏ ‏قهر‏ ‏الكيمياء‏ ‏وجمود‏ ‏أتباعها‏ .‏

‏ ‏أما‏ ‏عندنا، ونحن‏ ‏لم‏ ‏نبلغ‏ ‏بعد‏ ‏ترف‏ ‏العدم، فقد‏ ‏كان‏ ‏البديل‏ ‏أن‏ ‏ظهرت‏ ‏دعوات‏ ‏تحاول‏ ‏أن‏ ‏ترجع‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ – ‏والطب‏ ‏النفسى ‏بالمرة‏ – ‏إلى ‏تفسيرات‏ ‏تسكينية‏ ‏مستعملة‏ ‏ألفاظا‏ ‏دينية‏ ‏راح‏ ‏يروج‏ ‏لها‏ ‏بعض‏ ‏رجال‏ ‏الدين‏ ‏أو‏ ‏من‏ ‏يروق‏ ‏له‏ ‏إستعمال‏ – ‏أو‏ ‏الإنتماء‏ ‏إلى – ‏الدين‏. ‏

وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏تظهر‏ ‏فى ‏الغرب‏ ‏مدارس‏ ‏بأكملها‏ ‏تحاول‏ ‏تبنى ‏المفاهيم‏ ‏الإيمانية‏ ‏كمدخل‏ ‏يحول‏ ‏دون‏ ‏هذا‏ ‏الهرب‏ ‏الجماعى ‏فى ‏كل‏ ‏اتجاه، وذلك‏ ‏مثل‏ ‏مدرسة‏ ‏البعشخصية‏ (‏أو‏ ‏عبر‏ ‏الشخصية‏) ‏فى ‏علم‏ ‏النفس‏ Transpersonal Psychology ‏ وهى ‏مدرسة‏ ‏تؤكد‏ ‏أن‏ ‏الذات‏ ‏الفردية‏ ‏هى ‏مرحلة‏ ‏محدودة‏ ‏بين‏ ‏الـــ‏ ‘‏لاذات‏’, ‏وبين‏ ‏التآلف‏ ‏الأكمل‏ ‏مع‏ ‏سائر‏ ‏البشر‏ ‏والأكوان‏,‏أى ‏الذات‏ ‏المتكاملة‏, ‏ويسمى ‏هذا‏ ‏الفكر‏ ‏الحركة‏ ‏الرابعة‏ ‏فى ‏علم‏ ‏النفس‏ (‏باعتبار‏ ‏أن‏ ‏الحركة‏ ‏الثالثة‏ ‏هى ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏الإنسانى، والحركة‏ ‏الثانية‏ ‏هى ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏السلوكى ‏والحركة‏ ‏الأولى ‏هى ‏التحليل‏ ‏النفسى) ‏وهذه‏ ‏الحركة‏ ‏الرابعة‏ ‏تعلن‏ ‏بشكل‏ ‏لا‏ ‏مراء‏ ‏فيه‏ ‏ضرورة‏ ‏الوعى ‏الإيمانى ‏وحتم‏ ‏الامتداد‏ ‏لإنسان‏ ‏العصر، اذا‏ ‏كان‏ ‏له‏ ‏أن‏ ‏يتوازن‏ ‏ويستمر‏ ‏مكرما‏ ‏إذ‏ ‏يصعد‏ ‏لولب‏ ‏التطور‏ ‏الأرقى.‏

وحين‏ ‏يفرح‏ ‏علماء‏ ‏العالم‏ ‏المؤمنون‏ ‏بهذا‏ ‏العلم‏ ‏الأعمق‏ ‏المتصل‏ ‏مباشرة‏ ‏بجوهر‏ ‏الإيمان‏ ‏وينطلقون‏ ‏يبدعون‏ ‏وينظرون‏ ‏ويضيفون‏ ‏ما‏ ‏يحقق‏ ‏التوازى ‏ويرسى ‏دعائم‏ ‏الإيمان‏ ‏نـصاب‏ ‏نحن‏ ‏العلماء‏ ‏والأطباء‏ ‏الممارسون‏ (‏المسلمون‏ ‏خاصة‏) ‏بالبكم، إذ‏ ‏لا‏ ‏نستطيع‏ ‏أن‏ ‏ندلى ‏بدلونا‏ ‏لأن‏ ‏الأوصياء‏ ‏على ‏التفسير‏ ‏الدينى ‏يترصدون‏ ‏لنا‏ ‏بالحكم‏ ‏والتصنيف، فنضطر‏ ‏الى ‏أن‏ ‏نطفئ‏ ‏رؤيتنا‏ ‏ورؤانا، ويذهب‏ ‏بعضنا‏ ‏يحدث‏ ‏نفسه‏ (‏مثل‏ ‏مرضاه‏)، ‏أو‏ ‏أنه‏ ‏يرضى ‏باللغة‏ ‏العلمية‏ ‏القاصرة‏ ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏اللغة‏ ‏الإيمانية‏ ‏الأشمل، لكنه‏ ‏يكاد‏ ‏يخون‏ ‏ضميره‏ ‏لو‏ ‏لم‏ ‏يعلن، ولو‏ ‏لنفسه‏ ‏حقيقة‏ ‏رؤيته‏ ‏الإيمانية‏ ‏بغض‏ ‏النظر‏ ‏عن‏ ‏هؤلاء‏ ‏أو‏ ‏أولئك‏.‏

ويشتد‏ ‏المأزق‏ ‏بمثل‏ ‏هذا‏ ‏العالم‏ ‏أو‏ ‏الطبيب‏ ‏إذ‏ ‏يجد‏ ‏نفسه‏ ‏مقهورا‏ ‏من‏ ‏كهنة‏ ‏العلم‏ ‏إذ‏ ‏يصرون‏ ‏على ‏الاقتصار‏ ‏على ‏التجريب‏ ‏كوسيلة‏ ‏أولى ‏وكثيرا‏ ‏ما‏ ‏تكون‏ ‏أخيرة، لقبول‏ ‏أى ‏مقولة‏ ‏علمية، وهو‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏مقهور‏ ‏من‏ ‏الأوصياء‏ ‏على ‏الدين‏ ‏لأنهم‏ ‏يصرون‏ ‏على ‏استعمال‏ ‏تفاصيل‏ ‏لغتهم‏ ‏الخاصة، وإلا‏ ‏فالتكفير‏ ‏والنبذ‏ ‏جاهزان‏ ‏بلا‏ ‏رحمة‏.‏

ويشتد‏ ‏المأزق‏ ‏أكثر‏ ‏وأكثر‏ ‏حين‏ ‏تصبح‏ ‏هذه‏ ‏الممارسة‏ ‏حول‏ ‏ماهية‏ ‏الإنسان‏ ‏ومساره‏ ‏ومصيره‏ ‏ممارسة‏ ‏يومية‏ ‏بطبيعة‏ ‏مهنة‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏كما‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تكون، أى ‏دون‏ ‏اختزال‏ (‏بالكيمياء‏) ‏ولا‏ ‏اغتراب‏ (‏بالتحليل‏ ‏النفسى), ‏ذلك‏ ‏لأن‏ ‏هذا‏ ‏الطبيب‏ ‏يجد‏ ‏نفسه‏ ‏فى ‏رحاب‏ ‏الإيمان‏ ‏مباشرة، حيث‏ ‏الإيمان‏ ‏هو‏ ‏تناسق‏ ‏الوجود، والصحة‏ ‏النفسية‏ ‏كذلك، لكن‏ ‏الطبيب‏ ‏النفسى (‏المسلم‏) ‏المؤمن‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الممارسة، لا‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يعلن‏ ‏إيمانه‏ ‏هذا‏ ‏وخاصة‏ ‏إذا‏ ‏رفض‏ ‏اللجوء‏ ‏إلى ‏التفسيرات‏ ‏المسطحة‏ ‏التى ‏تختزل‏ ‏الدين‏ ‏إلى ‏جزئيات‏ ‏العلم‏ ‏وتثبت‏ ‏جزئيات‏ ‏بالعلم‏ ‏بتفسيرات‏ ‏دينية‏ ‏متعسفة، وهو‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏التفسير‏ ‏العلمى ‏للقرآن، ولا‏ ‏قوة‏ ‏إلا‏ ‏بالله‏. ‏

ولتوضيح‏ ‏الموقف‏ ‏يمكن‏ ‏تلخيص‏ ‏المطروح‏ ‏على ‏وعى ‏العالم‏ – ‏والناس‏ – ‏فى ‏الأطر‏ ‏الأربعة‏ ‏التالية‏:‏

‏(1) ‏قشور‏ ‏العلم‏,‏

‏(2) ‏وألفاظ‏ ‏الدين.

‏(3) ‏وموضوعية‏ ‏الحقيقة.

‏(4) ‏وجوهر‏ ‏السعى ‏الإيمانى ‏إلى ‏التكامل‏ .‏

ومن‏ ‏خلال‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الأطر‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نعدد‏ ‏محاولات‏ ‏التباديل‏ ‏والتوافيق‏ ‏فى ‏تناولها‏ ‏معا، أو‏ ‏مفصلة‏ ‏كما‏ ‏يلى:‏

أولا‏: ‏المحاولات‏ ‏التى ‏اكتفت‏ ‏بتفسير‏ ‏البعدين‏ ‏السطحيين‏ ‏الأولين‏ : ‘‏قشور‏ ‏العلم‏ ‏و‏ ‘‏ألفاظ‏ ‏الدين‏’ ‏بعضهما‏ ‏ببعض‏ ‏تعسفا‏ ‏وتلفيقا، وكان‏ ‏من‏ ‏نتيجتها‏ ‏أن‏ ‘‏تسطح‏ ‏العلم‏’ ‏و‏’‏اختزال‏ ‏الدين‏’, ‏فضاعت‏ ‏المعرفة‏.‏

ثانيا‏: ‏ثم‏ ‏جاءت‏ ‏المحاولات‏ ‏التى ‏اكتفت‏ ‏بتفسيرات‏ ‏سابقة‏ ‏جامدة‏ ‏لألفاظ‏ ‏الدين‏ ‏جمدت‏ ‏المعرفه‏ ‏على ‏الجانبين‏.‏

ثالثا‏: ‏المحاولات‏ ‏التى ‏حاولت‏ ‏السعى ‏إلى ‏ربط‏ ‏المعرفة‏ ‘‏موضوعية‏ ‏الحقيقة‏’ ‏و‏ ‘‏السعى ‏الإيمانى ‏للتكامل‏’ ‏بعضهما‏ ‏ببعض‏ ‏فقد‏ ‏اتهمت‏ ‏بالتفلسف‏ ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏بالزندقة، فراحت‏ ‏تمارس‏ ‏هذا‏ ‏الربط‏ ‏بشكل‏ ‏شخصى ‏سرى، حتى ‏ضاعت‏ ‏روعة‏ ‏المحاولة‏ ‏فى ‏عزلة‏ ‏صاحبها‏ ‏إذ‏ ‏ضـمـرت‏ ‏بعدم‏ ‏العلانية‏ ‏وعدم‏ ‏الإستعمال‏ ‏معا‏.‏

لكن‏ ‏تظل‏ ‏الممارسة‏ ‏تلح‏ ‏على ‏الممارس‏ ‏الجاد‏ ‏ليرى ‏النفس‏ ‏الإنسانية‏ ‏فى ‏تناسقها‏ ‏وهى ‏فى ‏قمة‏ ‏التكامل‏ ‏الممتد‏ ‏إلى ‏إيمان‏ ‏بيولوجى ‏عميق، ويرى ‏المرض‏ ‏النفسى ‏كالجسم‏ ‏الغريب‏ ‏أو‏ ‏النغمة‏ ‏النشاز‏ ‏يعلن‏ ‏إنذارات‏ ‏التدهور، ويرى ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏بوصفها‏ ‏حلاوة‏ ‏الايمان‏ ‏الموضوعى ‏الساعى ‏إلى ‏الحقيقة‏ ‏ووجه‏ ‏الله‏ (‏الأقرب‏ ‏من‏ ‏حبل‏ ‏الوريد‏) ‏لكن‏ ‏هذا‏ ‏الممارس‏ ‏المؤمن‏ ‏ممنوع‏ ‏أن‏ ‏يعلن‏ ‏رؤيته‏ ‏هذه‏ ‏إلا‏ ‏بألفاظهم‏ ‏وهو‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏لا‏ ‏يقبل‏ ‏أن‏ ‏يختزل‏ ‏أو‏ ‏يكذب، فيكتم‏ ‏الخبرة‏ ‏التى ‏يمارسها‏ ‏مع‏ ‏مرضاه‏ ‏ونفسه‏ ‏خوفا‏ ‏من‏ ‏رجال‏ ‏الطائفتين‏ ‏معا‏ (‏الأوصياء‏ ‏على ‏الدين‏ ‏وكهنة‏ ‏العلم‏).‏

فالموقف‏ ‏الأن‏ – ‏فى ‏هذا‏ ‏المثال‏ – ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏الشجاعة، إذ‏ ‏على ‏من‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يخرج‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏المأزق‏ ‏أن‏ ‏يواصل‏ ‏سعيه‏ ‏إلى ‏الحقيقة‏ ‏بكل‏ ‏ما‏ ‏أوتى ‏من‏ ‏وسائل‏ ‏علمية‏ ‏وأمانة‏ ‏ذاتية‏ ‏ورؤية‏ ‏إيمانية‏ ‏موضوعية، لا‏ ‏تثنيه‏ ‏عنها‏ ‏وصاية‏ ‏دينية‏ ‏سطحية‏ ‏مهما‏ ‏بدت‏ ‏ساحقة‏ ‏أو‏ ‏مفزعة، ولا‏ ‏تحول‏ ‏دونه‏ ‏معرفة‏ ‏جزئية‏ ‏شبه‏ ‏علمية‏ ‏مهما‏ ‏بدت‏ ‏لامعة‏ ‏ومريحة‏,‏

‏ ‏ولكن‏ ‏كيف‏ ‏السبيل‏ ‏إلى ‏ذلك؟‏ ‏أو‏ ‏إلى ‏بعض‏ ‏ذلك‏ ‏؟؟

دعونا‏ ‏نعلن‏ ‏بعض‏ ‏أبعاد‏ ‏المأزق‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏أسئلة‏ ‏تضيف‏ ‏إلى ‏مسئوليتنا‏ ‏ولا‏ ‏تخفف‏ ‏عنا، ولكنها‏ ‏تؤكد‏ ‏احترامنا‏ ‏لعقولنا‏ ‏وديننا‏ ‏معا‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏ظلت‏ ‏بلا‏ ‏إجابة‏:‏

‏1 – ‏إلى ‏أى ‏مدى ‏يستطيع‏ ‏العالم‏ ‏المؤمن‏ – ‏فى ‏مجتمعنا‏ – ‏أن‏ ‏يطلق‏ ‏لفكرة‏ ‏العنان، وأن‏ ‏يعطى ‏لحدسة‏ ‏الأمان، وأن‏ ‏يثق‏ ‏فى ‏يقين‏ ‏موضوعيته‏ ‏النابعة‏ ‏من‏ ‏معاناة‏ ‏الباحث‏ ‏عن‏ ‏الحقيقة، لا‏ ‏ترده‏ ‏عن‏ ‏ترده‏ ‏عنها‏ ‏مقولة‏ ‏مسبقة‏ ‏ولا‏ ‏معرفة‏ ‏جزئية؟

‏2 – ‏هل‏ ‏من‏ ‏سبيل‏ ‏إلى ‏تحديد‏ ‏ماهية‏ ‏الإنسان‏ ‏دون‏ ‏وصاية‏ ‏إرهابية‏ ‏فكرية‏ ‏سواء‏ ‏كانت‏ ‏مادية‏ ‏متشنجة، أو‏ ‏تفسيرية‏ ‏دينية‏ ‏محدودة‏ ‏بعدد‏ ‏الحروف‏ ‏وشكل‏ ‏الألفاظ؟؟

‏3 – ‏هل‏ ‏من‏ ‏سبيل‏ ‏إلى ‏قياس‏ ‏حيوية‏ ‏الإنسان‏ ‏النابضة‏ ‏على ‏مسيرة‏ ‏تكامله، كدليل‏ ‏صحيح‏ ‏على ‏سلامة‏ ‏الطريق، دون‏ ‏انصياع‏ ‏لتسليم‏ ‏سلبي‏, ‏يؤجل‏ ‏القضية، أو‏ ‏إلى ‏انخداع‏ ‏شبه‏ ‏علمى ‏يسطحها؟

‏4 – ‏هل‏ ‏من‏ ‏سبيل‏ ‏إلى ‏الاستفادة‏ ‏من‏ (‏تنمية‏ ‏وممارسة‏) ‏بعض‏ ‏الحقائق‏ ‏الجوهرية‏ ‏فى ‏ديننا‏ ‏الفطرى – ‏مثل‏ ‏التوحيد‏ ‏والمباشرة‏ – ‏دون‏ ‏الإصرار‏ ‏على ‏الاغتراب‏ ‏فى ‏ألفاظ‏ ‏مثلجة، أو‏ ‏الخضوع‏ ‏إلى ‏وصاية‏ ‏جاهزة‏ ‏وإلى ‏الوساطة‏ ‏كسبيل‏ ‏أوحد‏ ‏للحصول‏ ‏على ‏بطاقة‏ ‏التدين‏.‏؟؟

‏5 – ‏هل‏ ‏من‏ ‏وسيلة‏ ‏يطمئن‏ ‏بها‏ ‏العالم‏ ‏المؤمن‏ ‏أن‏ ‏حسابه‏ ‏الأول‏ ‏والأخير‏ ‏هو‏ ‏مدى ‏احترامه‏ ‏لكلمته‏ ‏ومعناها‏ ‏ومسئوليتها، ومدى ‏اطمئنانه‏ ‏لمعلومته‏ ‏ومراجعتها‏ ‏والتأكد‏ ‏منها، ومدى ‏احترامه‏ ‏لعقله‏ ‏وموضوعيته‏ ‏فى ‏تواضع‏ ‏العاجز‏ ‏المجتهد، وأخيرا‏ ‏مدى ‏احترامه‏ ‏لألمه‏ ‏فى ‏سعيه‏ ‏إلى ‏الحقيقة‏ ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏الحقيقة‏ ‏الكونية‏ ‏دون‏ ‏استسهال؟؟

‏6 – ‏هل‏ ‏من‏ ‏أمان‏ ‏يؤمن‏ ‏العالم‏ ‏المؤمن‏ ‏إلى ‏استبعاد‏ ‏تكفيره‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏اختلف‏ ‏مع‏ ‏أوصياء‏ ‏الدين‏ ‏أمانة‏ ‏مع‏ ‏فكره، ويؤمـنه‏ ‏على ‏استبعاد‏ ‏نبذه‏ ‏من‏ ‏مجتمع‏ ‏العلم‏ ‏اذا‏ ‏ما‏ ‏اختلف‏ ‏مع‏ ‏كهنة‏ ‏العلم‏ ‏احتراما‏ ‏لعقله، وتكريما‏ ‏لوجدانه‏ ‏وحدسه؟؟؟

ويمكن‏ ‏أن‏ ‏تستمر‏ ‏هذه‏ ‏الأسئلة‏ ‏بلاتوقف، لتتركنا‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏أمام‏ ‏أزمة‏ ‏بالغة‏ ‏التعقيد‏ ‏تقول‏:‏

إن‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الصرخات‏ ‏والاستغاثات‏ ‏ما‏ ‏لم‏ ‏تجد‏ ‏أذنا‏ ‏صاغية‏ ‏عند‏ ‘‏من‏ ‏يهمه‏ ‏أمر‏ ‏هذه‏ ‏الأمة‏’, ‏ومالم‏ ‏تجد‏ ‏قلبا‏ ‏شجاعا، وعقلا‏ ‏كريما‏ ‏يفتح‏ ‏أبواب‏ ‏كرامة‏ ‏عقل‏ ‏الإنسان‏ ‏على ‏مصراعيها، فالأولى ‏بنا‏ ‏أن‏ ‏نكف‏ ‏عن‏ ‏إطلاقها، وأن‏ ‏نرضى ‏بالانشقاق‏ ‏الممزق‏ ‏لطبيعتنا‏ ‏البشرية، ونعودنعترف‏ ‏بحتمية‏ ‏التدهور‏ ‏الذى ‏صرنا‏ ‏إليه‏ ‏والذى ‏يقول‏: ‏إن‏ ‏ما‏ ‏للعلم‏ ‏هو‏ ‏للوصاه‏ ‏عليه، وما‏ ‏للدين‏ ‏هو‏ ‏للمفسرين‏ ‏له، مع‏ ‏أن‏ ‏العلم‏ ‏والدين‏ ‏والحياة‏ ‏والموت‏ ‏كلها‏ ‏لله‏ ‏والحقيقة‏,‏

وهذا‏ ‏الموقف‏ ‏القاهر‏ ‏من‏ ‏الجانبين‏ ‏يحرمنا‏ ‏من‏ ‏حق‏ ‏الريادة‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المنطقة‏: ‏السعى ‏إلى ‏الحق‏ ‏تبارك‏ ‏وتعالى، بل‏ ‏يحرمنا‏ ‏من‏ ‏المشاركة‏ ‏فى ‏المحاولات‏ ‏الجادة‏ ‏التى ‏تلوح‏ ‏للسابقين‏ ‏المراجعين‏ ‏يلوح‏ ‏وهم‏ ‏يعيشون‏ ‏الخبرة، ويعيدون‏ ‏النظر، ويجددون‏ ‏اللغة، ونحن، رغم‏ ‏أننا‏ ‏أهل‏ ‏لكل‏ ‏هذا، لا‏ ‏نملك‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏ننتظر‏ ‏الحل‏ ‏يأتينا‏ ‏من‏ ‏أرض‏ ‏غير‏ ‏أرضنا، من‏ ‏أمة‏ ‏ترطن‏ ‏بلغة‏ ‏غير‏ ‏لغتنا، وتؤمن‏ ‏بدين‏ ‏أبعد‏ ‏عن‏ ‏الفطرة‏ ‏من‏ ‏ديننا‏. ‏

فإذا‏ ‏ما‏ ‏استوردنا‏ ‏الحل‏ ‏السعيد‏ ‏بعد‏ ‏عام‏ ‏أو‏ ‏مائة‏ ‏عام‏ … ‏عضضنا‏ ‏على ‏عقولنا‏ ‏من‏ ‏غيظ‏ ‏التبعية، وتمنينا‏ ‏لو‏ ‏أن‏ ‏لنا‏ ‏كرة‏ ‏لنقول‏ ‏لهم‏ ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏الحل‏ ‏السعيد‏ ‏كان‏ ‏عندنا‏ ‏وزيادة، ولكننا‏ ‏لم‏ ‏نكن‏ ‏شجعانا‏ ‏حينذاك‏ ‏لنعلنه‏ ‏ونرعاه‏ ‏ونحافظ‏ ‏عليه، أو‏ ‏لم‏ ‏نكن‏ ‏أحرارا‏ ‏لنقوله، وها‏ ‏نحن‏ – ‏مرة‏ ‏أخرى ‏وليست‏ ‏أخيرة‏ – ‏التابعون‏ ‏المنبهرون‏.‏

من يرضى بهذا؟ من يرضيه هذا؟

الإيمان‏ .. ‏و‏ ‏منهج‏ ‏المعرفة‏ ‏الكلية‏ ‏المباشرة

‏ ‏مدخل‏:‏

أصبح‏ ‏الخلط‏ ‏بين‏ ‏الأمور‏ ‏واختزالها‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏سبق‏ ‏الفراغ‏ ‏منه‏ ‏أسهل‏ ‏الطرق‏ ‏للامتناع‏ ‏عن‏ ‏الإسهام‏ ‏فى ‏تجديد‏ ‏الحياة‏.‏

‏ ‏وإذا‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏يــعزى ‏فى ‏الحياة‏ ‏العامة‏ ‏والحياة‏ ‏الاقتصادية‏ ‏والحياة‏ ‏السياسية‏ ‏إلى ‏ألاعيب‏ ‏السلطة‏ ‏ومجموعات‏ ‏الضغط‏ ‏فكيف‏ ‏يكون‏ ‏الأمر‏ ‏هو‏ ‏هو‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏يدعى ‏أصحابه‏ ‏أنهم‏ ‏أكثر‏ ‏موضوعية‏ ‏وأقدر‏ ‏إبداعا‏، ‏أعنى ‏مجال‏ ‏البحث‏ ‏العلمى ‏والمعرفة‏ ‏؟‏ ‏

والجواب‏ ‏يحتاج‏ ‏أن‏ ‏أوضح‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المدخل‏، ‏قبل‏ ‏تناول‏ ‏متن‏ ‏الموضوع‏ ‏ماهية‏ ‏المخاوف‏ ‏التى ‏دعتنى ‏لهذا‏ ‏التقديم‏، ‏وكذلك‏ ‏أرضية‏ ‏هذه‏ ‏الفروض‏، ‏ومبرراتها‏.‏

مخاوف‏:‏

‏ ‏ترددت‏ ‏كثيرا‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏أستقر‏ ‏على ‏عنوان‏ ‏هذه‏ ‏المداخلة‏ ‏حيث‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏فى ‏البداية‏ ‏يحمل‏ ‏صفة‏ ‘‏منظور‏ ‏إسلامى‏’، ‏إلا‏ ‏أننى ‏خشيت‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏مما‏ ‏يلى:‏

‏ 1- ‏أن‏ ‏يـختزل‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏يسمى ‏بالطب‏ ‏النفسى ‏الإسلامى ‏كما‏ ‏شاع‏ ‏مؤخرا

‏2- ‏أن‏ ‏يشوه‏ ‏فى ‏اتجاه‏ ‏الدعاية‏ ‏السطحية‏ ‏للدين‏ (‏الإسلامى‏) ‏تحت‏ ‏دعوى ‏مقاومة‏ ‏الغرب‏، ‏الأمر‏ ‏الذى ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏يظهر‏ ‏فى ‏أغلب‏ ‏الأحوال‏ ‏إلا‏ ‏كأطروحة‏ ‏سلبية‏ ‏تبرر‏ ‏البدائية‏ ‏والنكوص‏ .‏

‏3- ‏أن‏ ‏يقاس‏ ‏بمقاييس‏ ‏تقليدية‏: ‏إما‏ ‏بالرجوع‏ ‏إلى ‏نص‏ ‏جامد‏، ‏أو‏ ‏بالاحتجاج‏ ‏بمنهج‏ ‏علمى ‏مغلق‏.‏

‏4- ‏أن‏ ‏يقرأه‏ ‏غير‏ ‏أهله‏ ‏بلغة‏ ‏غير‏ ‏لغته‏.‏

‏5- ‏أن‏ ‏يطبق‏ ‏ما‏ ‏جاء‏ ‏به‏ ‏لغير‏ ‏ما‏ ‏ينفع‏ ‏له‏,‏

لكل‏ ‏ذلك‏ ‏قدرت‏ ‏أنه‏ ‏إبراء‏ ‏لذمتى ‏على ‏أن‏ ‏أبدأ‏ ‏بنفى ‏أمور‏ ‏لم‏ ‏أقصد‏ ‏إليها‏ ‏أصلا‏ ‏كما‏ ‏يلى‏، ‏فالرأى ‏الذى ‏أقدمه‏ ‏ينفى ‏كلا‏ ‏مما‏ ‏يلي‏: ‏مما‏ ‏يدرج‏ ‏تحت‏ ‏ما‏ ‏يقال‏ ‏له‏ ‘‏ليس‏ ‏كذلك‏’، ‏فهذا‏ ‏المقال‏:‏

‏1 – ‏ليس‏ ‏خاصا‏ ‏بـ‏ (‏أو‏ ‏مغلقا‏ ‏على‏) ‏دين‏ ‏الإسلام‏ ‏الحنيف‏ .‏

‏2-‏ليس‏ ‏خاصا‏ ‏بتفسير‏ ‏سابق‏ (‏ثابت‏) ‏لدين‏ ‏الإسلام‏ ‏الحنيف‏.‏

‏3- ‏ليس‏ ‏خاصا‏ ‏بالأطباء‏ ‏النفسيين‏ ‏من‏ ‏المسلمين.

‏4- ‏ليس‏ ‏خاصا‏ ‏بالتطبيق‏ ‏العملى ‏السطحى ‏واستعمال‏ ‏الدين‏ ‏للشفاء.

‏5-‏لا‏ ‏يتطرق‏ ‏أصلا‏ ‏لمسائل‏ ‏خارج‏ ‏نطاق‏ ‏ما‏ ‏وضع‏ ‏له‏ ‏هذا‏ ‏الفرض‏ (‏فهو‏ ‏لا‏ ‏يتطرق‏ ‏مثلا‏ ‏إلى ‏مسائل‏ ‏الحلال‏ ‏والحرام‏، ‏والجنة‏ ‏والنار‏..)‏.

ثم‏ ‏أنتقل‏ ‏أكثر‏ ‏وضوحا‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏هو‏ ‏كذلك‏:‏

‏1 – ‏هو‏ ‏مدخل‏ ‏إلى ‏المعرفة

‏2 – ‏وهو‏ ‏رأى ‏فى ‏المنهج

فإذا‏ ‏كان‏ ‏الأمر‏ ‏كذلك‏، ‏فلماذا‏ ‏قفز‏ ‏إلى ‏ذهنى – ‏أصلا‏- ‏العنوان‏ ‏الأول‏ ‏يصف‏ ‏هذا‏ ‏المدخل‏ ‏أنه‏ ‏من‏: ‏منظور‏ ‏إسلامى؟‏ ‏

لقد‏ ‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏أحل‏ ‏محلها‏: ‏منظور‏ ‏إيمانى ‏أو‏ ‏منظور‏ ‏تطورى ‏كونى ‏أو‏ ‏منظور‏ ‏شرقى ‏أخناتونى، ‏لكننى ‏وجدتنى ‏أخون‏ ‏أمانتى‏، ‏فهذا‏ ‏المنطلق‏ ‏فى ‏الفهم‏ ‏والإبداع‏ ‏هو‏ ‏نابع‏ ‏من‏ ‏لغتى ‏العربية‏ ‏دون‏ ‏سواها‏، ‏ومن‏ ‏دينى‏: ‏الإسلام‏ ‏دون‏ ‏سواه‏,.‏

وأحسب‏ ‏أنه‏ ‏من‏ ‏أبسط‏ ‏درجات‏ ‏العرفان‏ ‏والأمانة‏ ‏أن‏ ‏أنسب‏ ‏الأمور‏ ‏إلى ‏أصولها‏.‏

مخاطر‏:‏

ورغم‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏فما‏ ‏زلت‏ ‏أستشعر‏ ‏المخاطر‏ ‏من‏ ‏مصدرين‏ ‏أساسيين‏:‏

‏1-‏المصدر‏ ‏الأول‏ ‏يأتى ‏من‏ ‏الزملاء‏ ‏الأطباء‏ ‏النفسيين‏ ‏الذين‏ ‏اعتادوا‏ ‏أن‏ ‏يفكروا‏ ‏بلغة‏ ‏أخرى‏، ‏وأن‏ ‏يمارسوا‏ ‏بلغة‏ ‏أخرى‏، ‏وأن‏ ‏يحلموا‏ ‏بوعى ‏آخر‏.‏

‏2- ‏المصدر‏ ‏الثانى ‏يأتى ‏من‏ ‏المسلمين‏ ‏التقليديين‏ ‏الذين‏ ‏يتصورون‏ ‏أن‏ ‏تفسير‏ ‏ديننا‏ ‏هو‏ ‏حكر‏ ‏عليهم‏، ‏فهم‏ ‏إما‏ ‏أن‏ ‏يجتزئوا‏ ‏ما‏ ‏أقدمه‏ ‏ثم‏ ‏يروجوا‏ ‏به‏ ‏لأفكارا‏ ‏سطحية‏ ‏لم‏ ‏تخطر‏ ‏على ‏بالى‏، ‏تحت‏ ‏عناوين‏ ‏مثل‏: ‏التفسير‏ ‏العلمى ‏للإسلام‏ ‏أو‏ ‏للقرآن‏، ‏وإما‏ ‏أنهم‏ ‏سوف‏ ‏يرفضون‏ ‏ماذهبت‏ ‏إليه‏ ‏باعتبارى ‏غير‏ ‏مختص‏ ‏ولا‏ ‏يحق‏ ‏لى ‏أن‏ ‏أفهم‏ ‏دينى ‏كما‏ ‏ألقاه‏ ‏ربى ‏فى ‏وعيى ‏الذى ‏سوف‏ ‏يحاسبنى ‏به‏ ‏وسوف‏ ‏يحاسبنى ‏عليه‏، ‏فإذا‏ ‏قبلوا‏ ‏أن‏ ‏يعتبروا‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الرؤية‏ ‏التى ‏أعلن‏ ‏أنها‏ ‏من‏ ‏فضل‏ ‏إسلامى ‏على ‏عقلي‏، ‏إذا‏ ‏قبلوا‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏كذلك‏، ‏فلتكن‏، ‏ولهم‏ ‏الشكر‏ ‏ولوحدتى ‏الكسر‏، ‏وإذا‏ ‏لم‏ ‏يعجبهم‏ ‏ما‏ ‏جئت‏ ‏به‏ ‏ورأوه‏ ‏تزيدا‏، ‏أو‏ ‏فهما‏ ‏خاصا‏ ‏فما‏ ‏عليهم‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏يرفعوا‏ ‏كلمة‏ ‏الإسلام‏، ‏فتصبح‏ ‘‏من‏ ‏منظور‏ ‏مفكر‏ ‏مصرى ‏عربى‏: ‏حالة‏ ‏كونه‏ ‏مسلما’. ‏

تعدد‏ ‏وسائل‏ ‏المعرفة‏:‏

من‏ ‏البديهيات‏ ‏التى ‏نحب‏ ‏أن‏ ‏ننساها‏ – ‏لست‏ ‏أدرى ‏لماذا‏- ‏بديهية‏ ‏أن‏ ‏العلم‏ ‏ليس‏ ‏مرادفا‏ ‏للمعرفة‏، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏أفضل‏ ‏الوسائل‏ ‏للوصول‏ ‏إليها‏.‏

كما‏ ‏أن‏ ‏الفن‏ ‏ليس‏ ‏نشاطا‏ ‏تفريغيا‏ ‏أو‏ ‏جماليا‏ ‏مكملا‏ ‏وإنما‏ ‏هو‏ – ‏فى ‏صورته‏ ‏الحقيقية‏ – ‏وسيلة‏ ‏أيضا‏ ‏للمعرفة‏ .‏

‏ ‏وأيضا‏ ‏فإن‏ ‏الدين‏ ‏ليس‏ ‏فحسب‏ ‏طقوسا‏ ‏تؤدى ‏أومعتقدا‏ ‏دفاعيا‏ ‏مشتركا‏، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏بالضرورة‏ ‏وسيلة‏ ‏إنسانية‏ ‏للمعرفة‏.‏

و‏ ‏الوسائل‏ ‏التى ‏أقدمها‏ ‏هنا‏ ‏هى ‏على ‏سبيل‏ ‏المثال‏ ‏لا‏ ‏الحصر‏، ‏لأن‏ ‏ثمة‏ ‏سبل‏ ‏ومجالات‏ ‏أخرى ‏للمعرفة‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏تأخذ‏ ‏مكانها‏ ‏المناسب‏، ‏فمثلا‏: ‏أين‏ ‏تقع‏ ‏الأحلام‏ (‏كوسيلة‏ ‏للمعرفة‏) ‏؟‏، ‏وأين‏ ‏يقع‏ ‏النشاط‏ ‏الحركى ‏الجسدى ‏؟‏ ‏هل‏ ‏الجسد‏ ‏مجرد‏ ‏حامل‏ ‏للرأس‏ ‏الذى ‏هو‏ ‏بدوره‏ ‏حاو‏ ‏للمخ‏ ‏أداة‏ ‏المعرفة‏ ‏الأولي؟‏ ‏أم‏ ‏أن‏ ‏كلا‏ ‏من‏ ‏الأحلام‏ ‏والنشاط‏ ‏الجسدى ‏وغيرهما‏ ‏هما‏ ‏أدوات‏ ‏تلقائية‏ ‏وجيدة‏ ‏للمعرفة؟‏([1][1]) ‏

فهذا‏ ‏المدخل‏ – ‏إذن‏- ‏ينفى ‏بشكل‏ ‏مباشر‏ ‏ذلك‏ ‏الزعم‏ ‏القائل‏ ‏بالتفسير‏ ‏العلمى ‏للدين‏، ‏وهو‏ ‏زعم‏ ‏كما‏ ‏ألمحت‏ ‏شاع‏ ‏مؤخرا‏ ‏وكأنه‏ ‏دليل‏ ‏جديد‏ ‏معاصر‏ ‏لإثبات‏ ‏أن‏ ‏الدين‏ ‏منظومة‏ ‏محترمة‏ ‏تستأهل‏ ‏الإعتقاد‏ ‏فيها‏ ‏لأن‏ ‏العلم‏ ‏يثبتها‏ !!! ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏فإنه‏ ‏يستأهل‏ ‏أن‏ ‏نظل‏ ‏نعتنقه‏، ‏لدرجة‏ ‏أننى ‏فى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الأحيان‏ ‏لا‏ ‏أقرأ‏ ‏هذا‏ ‏المصطلح‏ ‏على ‏أنه‏ ‘‏التفسير‏ ‏العلمى ‏للدين‏’ ‏بل‏ ‏على ‏أنه‏ ‘‏التبرير‏ ‏العلمى ‏للدين‏’، ‏وأحيانا‏ ‏ما‏ ‏أتصور‏ ‏أن‏ ‏العلم‏ -‏بذلك‏- ‏يرد‏ ‏دينا‏ ‏للعلم‏، ‏أو‏ ‏يرد‏ ‏صفعة‏ ‏له‏، ‏ففى ‏عصور‏ ‏الظلام‏، ‏فى ‏القرون‏ ‏الوسطى ‏فى ‏أوربا‏ ‏مثلا‏- ‏كان‏ ‏على ‏العلم‏ ‏أن‏ ‏يبحث‏ ‏عن‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يسمى ‏التبرير‏ ‏الدينى ‏للعلم‏ ‏كجواز‏ ‏مرور‏ ‏حتى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يعـلـن‏ ‏العلم‏ ‏أو‏ ‏يتقبل‏ ‏أو‏ ‏يتداول‏، ‏وها‏ ‏هو‏ ‏العلم‏ ‏بدوره‏ ‏يدعى ‏أنه‏ ‏يرد‏ ‏الجميل‏ ‏بأسطح‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏من‏ ‏الطبطبة‏ ‏على ‏المقولات‏ ‏الدينية‏ ‏وكأنه‏ ‏يقول‏ ‏للدين‏ ‘‏برافو‏’ ‏أنا‏ ‏وجدتك‏ ‏صحيحا‏ (!!!!) ‏فهو‏ ‏بذلك‏، ‏ورغم‏ ‏حسن‏ ‏النية‏، ‏يختزل‏ ‏الدين‏ ‏ويحرمه‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏سبيلا‏ ‏معرفيا‏ ‏فى ‏ذاته‏ ‏لا‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏اعتراف‏ ‏من‏ ‏خارجه‏.‏

تضفر‏ ‏وسائل‏ ‏المعرفة‏:‏

وأحب‏ ‏أن‏ ‏أنتقل‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏إلى ‏علاقة‏ ‏هذه‏ ‏الطرق‏ ‏الثلاث‏ ‏الرئيسية‏ ‏ببعضها‏ ‏البعض‏ ‏كوسائل‏ ‏متضفرة‏ ‏تختلف‏ ‏فى ‏طبيعتها‏ ‏ومناهجها‏ ‏وأدواتها‏، ‏لكنها‏ ‏تتفق‏ ‏فى ‏غاياتها‏ ‏وتوجهها‏، ‏وقد‏ ‏قدرت‏ ‏فى ‏البداية‏ ‏أن‏ ‏العلم‏ ‏والفن‏ ‏والدين‏ ‏هى ‏طرق‏ ‏متوازية‏ ‏للوصول‏ ‏إلى ‏الحقيقة‏، ‏لكننى ‏رجعت‏ ‏فتحفظت‏ ‏تجاه‏ ‏ذلك‏ ‏خشية‏ ‏أن‏ ‏يفهم‏ -‏ضمنا‏- ‏أن‏ ‏التوازى ‏يتضمن‏ ‏ببساطة‏ ‏عدم‏ ‏التقاء‏ ‏المتوازيين‏. ‏ثم‏ ‏خطر‏ ‏ببالى ‏تعبير‏ ‏التكامل‏ ‏بين‏ ‏هذه‏ ‏الوسائل‏ (‏العلم‏ ‏والدين‏ ‏والفن‏) ‏إلا‏ ‏أننى ‏أيضا‏ ‏شعرت‏ ‏بأن‏ ‏لفظ‏ ‏التكامل‏ ‏قد‏ ‏سبق‏ ‏سوء‏ ‏استعماله‏ ‏لدرجة‏ ‏بهتت‏ ‏معها‏ ‏قوته‏، ‏فرضيت‏ ‏مؤقتا‏ ‏بلفظ‏ ‏التضفــر‏ ‏على ‏أن‏ ‏يشمل‏ ‏ذلك‏ ‏كلا‏ ‏من‏: ‏التفاعل‏ ‏الجدلى‏، ‏والتعدد‏ ‏الكشفى‏، ‏والتضام‏ ‏الغائى ‏فى ‏آن‏ ‏واحد‏.‏

أما‏ ‏التفاعل‏ ‏الجدلى ‏فهو‏ ‏النابع‏ ‏من‏ ‏العلاقة‏ ‏الحركية‏ ‏الحيوية‏ ‏الخاصة‏ ‏بين‏ ‏المتناقضين‏، ‏والتى ‏هى ‏قانون‏ ‏الحياة‏ ‏الرائع‏ ‏والذى ‏ما‏ ‏زال‏ ‏الفضل‏ ‏فى ‏الكشف‏ ‏عنه‏ ‏يرجع‏ ‏لهيجل‏ ‏حقيقة‏ ‏وفعلا‏، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏لا‏ ‏يقتصر‏ ‏عليه‏ ‏بداهة‏.‏

وأما‏ ‏التعدد‏ ‏الكشفى‏، ‏فهو‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏المعرفة‏ ‏تعنى ‏بالضروة‏ ‏تعميق‏ ‏الوعى (‏وليس‏ ‏مجرد‏ ‏زيادة‏ ‏المعلومات‏) ‏بما‏ ‏يترتب‏ ‏عليه‏ ‏من‏ ‏توسيع‏ ‏مساحة‏ ‏الرؤية‏ ‏أى ‏الكشف‏ ‏عنه‏ ‏باللغة‏ ‏الدينية‏.‏

‏ ‏أما‏ ‏التضام‏ ‏الغائى ‏فهو‏ ‏يضيف‏ ‏تفسيرا‏ ‏لكلمة‏ ‏التضفر‏ ‏التى ‏اخترتها‏ ‏مؤقتا‏ ‏كما‏ ‏أنه‏ ‏يؤكد‏ ‏على ‏مفهوم‏ ‏الفكرة‏ ‏المركزية‏ ‏أو‏ ‏الغائية‏ (‏الذى ‏هو‏ ‏مفهوم‏ ‏تركيبى ‏بالضرورة‏) ‏بحيث‏ ‏لا‏ ‏يكفى ‏أن‏ ‏تتفاعل‏ ‏وسائل‏ ‏المعرفة‏ ‏المشار‏ ‏إليها‏ ‏بقوانين‏ ‏الجدل‏ ‏مثلا‏، ‏كما‏ ‏لا‏ ‏يكفى ‏أن‏ ‏تساهم‏ ‏كل‏ ‏وسيلة‏ ‏من‏ ‏ناحيتها‏ ‏بكشف‏ ‏الجانب‏ ‏الذى ‏هو‏ ‏فى ‏مجالها‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الوسائل‏ ‏تصب‏ – ‏غائيا‏- ‏فى ‏توجه‏ ‏مشترك‏ ‏يحدد‏ ‏اتجاه‏ ‏السهم‏ ‏رغم‏ ‏اختلاف‏ ‏الطرق‏ ‏والوسائل‏.‏

معايشة‏ ‏الجنون‏: ‏شحذ‏ ‏للوعى‏:‏

ثم‏ ‏نأتى ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏إلى ‏أهم‏ ‏مصادر‏ ‏هذا‏ ‏الفرض‏ ‏الذى ‏أقدمه‏ ‏هنا‏، ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏أسميته‏: ‏معايشة‏ ‏الجنون‏، ‏فأين‏ ‏نضعها‏ ‏بين‏ ‏هذه‏ ‏الوسائل‏ ‏المعرفية‏ ‏المختلفة؟

وهنا‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏أعترف‏ ‏بفضل‏ ‏ممارسة‏ ‏هذا‏ ‏الفرع‏ ‏من‏ ‏الطب‏ ‏على ‏تعميق‏ ‏ديني‏، ‏وتوسيع‏ ‏معارفى ‏فى ‏آن‏، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏ممارستى ‏للطب‏ ‏النفسى ‏بوجه‏ ‏خاص‏، ‏هو‏ ‏ما‏ ‏أعاد‏ ‏غمرى ‏ببديهيات‏ ‏ليست‏ ‏سوى ‏الحقائق‏ ‏المطلقة‏ ‏التى ‏أخفاها‏ ‏التنويم‏ ‏اليومى ‏والعادية‏ ‏اللاهية‏ ‏المتراكمة‏، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏الطب‏ ‏الذى ‏أمارسه‏ ‏ليس‏ ‏علما‏ ‏خالصا‏، ‏لكنه‏ ‏يستعمل‏ ‏العلم‏، ‏وهو‏ ‏ليس‏ ‏فنا‏ ‏تماما‏ ‏مع‏ ‏أنه‏ -‏فى ‏أصوله‏ ‏على ‏الأقل‏ – ‏هو‏ ‏فن‏ ‏اللأم‏، ‏ثم‏ ‏إنه‏ ‏كشف‏ ‏متبادل‏ ‏من‏ ‏المريض‏ ‏والطبيب‏ ‏لعمق‏ ‏علاقة‏ ‏الإنسان‏ ‏بالكون‏ ‏و‏ ‏المابعد‏ ‏بما‏ ‏يـحضر‏ ‏معه‏ ‏البعد‏ ‏الدينى ‏فى ‏بؤرة‏ ‏الممارسة‏.‏

لكن‏ ‏هذا‏ ‏الطب‏ ‏نفسه‏ ‏قد‏ ‏اختـزل‏ ‏مؤخرا‏ ‏إلى ‏معطيات‏ ‏جزئية‏، ‏وممارسات‏ ‏قمعية‏ ‏كيميائية‏، ‏يهون‏ ‏بجوارها‏ ‏أى ‏قمع‏ ‏آخر‏ ‏عبر‏ ‏تاريخ‏ ‏البشرية‏ ‏فى ‏الطب‏ ‏النفسى ‏والحياة‏ ‏العامة‏ ‏على ‏حد‏ ‏سواء.

وممارسة‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏فى ‏مجتمع‏ ‏فقير‏ ‏غير‏ ‏نام‏ – ‏مثل‏ ‏مجتمعنا‏- ‏يتيح‏ ‏الفرصة‏ ‏المعرفية‏ ‏الحقيقية‏ ‏لإعادة‏ ‏النظر‏ ‏فيما‏ ‏لحق‏ ‏بهذا‏ ‏الفرع‏ ‏مما‏ ‏أدى ‏إلى ‏اختزال‏ ‏الإنسان‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏تسمح‏ ‏به‏ ‏وسيلة‏ ‏واحدة‏ ‏قاصرة‏ ‏للمعرفة‏، ‏وهى ‏العلم‏ ‏التجريبى ‏المحدود‏.‏

منطلقات‏:‏

ولا‏ ‏بد‏ ‏أيضا‏ ‏أن‏ ‏أعرض‏ ‏ابتداء‏ ‏المنطلقات‏ ‏التى ‏جعلت‏ ‏هذه‏ ‏الرؤية‏ ‏ضرورية‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏من‏ ‏تطور‏ ‏العالم‏، ‏وتطور‏ ‏المعرفة‏، ‏وتطور‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏معا‏.‏

وابتداء‏ ‏أقول‏ ‏إن‏ ‏المتغيرات‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏مرتبطة‏ ‏بالمرحلة‏ ‏التاريخية‏ ‏بقدر‏ ‏ارتباطها‏ ‏بالظروف‏ ‏السياسية‏ ‏والاجتماعية‏ ‏فى ‏العالم‏ ‏بأسره‏، ‏وفى ‏كل‏ ‏قطر‏ ‏على ‏حدة‏.‏

كما‏ ‏أن‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏بمفهومه‏ ‏الحقيقى ‏مرتبط‏ ‏أشد‏ ‏الارتباط‏ ‏باللغة‏ ‏كتركيب‏، ‏وبالدين‏ ‏كمحور‏ ‏وجودي‏.‏

وقد‏ ‏طرأ‏ ‏على ‏منطقتنا‏ ‏وعلى ‏العالم‏ ‏فى ‏العام‏ ‏الأخير‏ ‏حدثان‏ ‏هامان‏:‏

أما‏ ‏الحدث‏ ‏الأول‏: ‏فهو‏ ‏كارثة‏ ‏الخليج‏، ‏وهى ‏الكارثة‏ ‏التى ‏لها‏ ‏فضل‏ ‏التعرية‏، ‏لا‏ ‏أكثر‏، ‏فهى ‏لم‏ ‏تضف‏ ‏شيئا‏ ‏إلى ‏واقعنا‏، ‏ولا‏ ‏حتى ‏انتقصت‏ ‏منه‏ ‏شيئا‏، ‏لكنها‏ ‏قالت‏ ‏لنا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الدمار‏ ‏والخراب‏ ‏والذل‏ ‏والغرور‏ ‏والاعتمادية‏ ‏والـ‏ (CNN) ‏قالت‏ ‏لنا‏: ‘‏من‏ ‏نحن‏’: ‏الآن‏ ‏وكيف‏ (‏نحن‏: ‏على ‏الجانبين‏): ‏الغازى ‏والهارب‏!!!.‏

أما‏ ‏الحدث‏ ‏الثانى ‏فهو‏: ‏انهيار‏ ‏الاتحاد‏ ‏السوفيتى ‏وأوربا‏ ‏الشرقية‏، ‏وهو‏ ‏الذى ‏قال‏ ‏لنا‏ ‘‏من‏ ‏هم‏’ (‏على ‏الجانبين‏ ‏أيضا‏): ‏الأحمر‏ ‏والأبيض‏.‏

وقد‏ ‏حدث‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏فوق‏ ‏أرضية‏ ‏الصراع‏ ‏الوهمى ‏المسمى ‏الصراع‏ ‏العربى ‏الإسرائيلى ‏إخفاء‏ ‏لاسمه‏ ‏الحقيقى ‏الذى ‏سيرد‏ ‏ذكره‏ ‏بعد

كما‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏قد‏ ‏أسرعا‏ ‏بإعلان‏ (‏وليس‏ ‏بإنشاء‏) ‏ما‏ ‏يسمى ‏بالنظام‏ ‏العالمى ‏الجديد

المواجهة‏:‏

ثم‏ ‏إننا‏ (‏نحن‏) ‏نواجه‏ ‏الآن‏ ‏الولايات‏ ‏المتحدة‏ ‏الأمريكية‏ ‏بلا‏ ‏منافس‏، ‏أقول‏ ‏نحن‏، ‏ولا‏ ‏أقول‏ ‏العالم‏، ‏فالقضية‏ ‏قضيتنا‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏شاركنا‏ ‏فيها‏ ‏الغير‏، ‏وإذا‏ ‏كنا‏ ‏أضعف‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏نواجهها‏ ‏بالسلاح‏ ‏والاحتكار‏ ‏والدعاية‏ ‏والإنتاج‏ ‏فى ‏المرحلة‏ ‏الحالية‏، ‏فإن‏ ‏ذلك‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏أننا‏ ‏ليس‏ ‏عندنا‏ ‏ما‏ ‏نقوله‏ ‏فى ‏الفكر‏ ‏والوعى ‏قولا‏ ‏متفردا‏ ‏ينبع‏ ‏من‏ ‏تاريخنا‏ ‏وحاضرنا‏ ‏ومسئوليتنا‏ ‏مهما‏ ‏بدا‏ ‏أننا‏ ‏تابعون‏ ‏فى ‏مجالات‏ ‏أخري‏.‏

ذلك‏ ‏أنه‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏أمريكا‏ ‏قد‏ ‏أثبتت‏ ‏أنها‏ ‏أقوى ‏سلاحا‏ ‏وأمتن‏ ‏اقتصادا‏ ‏وأظهر‏ ‏حرية‏ ‏وأخبث‏ ‏مخابرات‏ ‏وأعلى ‏صوتا‏ ‏وأروج‏ ‏دعاية‏ ‏وأذكى ‏نصبا‏، ‏فإن‏ ‏ذلك‏ ‏لا‏ ‏يعنى – ‏تلقائيا‏- ‏أنها‏ ‏الأقرب‏ ‏إلى ‏الحق‏ ‏أو‏ ‏الحقيقة‏، ‏أى ‏أنها‏ ‏ليست‏ ‏بالضرورة‏ (‏إذن‏) ‏هى ‏التى ‏تعرف‏ ‏قوانين‏ ‏التطور‏ ‏وحفزها‏، ‏ولا‏ ‏هى ‏الأدرى ‏بطرق‏ ‏المعرفة‏، ‏ولا‏ ‏الأحذق‏ ‏فى ‏مناهج‏ ‏البحث‏، ‏ولا‏ ‏الأنجح‏ ‏فى ‏طرق‏ ‏العلاج‏ ‏ولا‏ ‏الأعظم‏ ‏بمقاييس‏ ‏الحضارة‏، ‏ولا‏ ‏الأصدق‏ ‏بمقاييس‏ ‏التدين‏ ‏والأخلاق؟

فهل‏ ‏عندنا‏ -‏حقيقة‏ ‏وفعلا‏- ‏قول‏ ‏آخر‏ ‏نابع‏ ‏من‏ ‏وعى ‏آخر؟‏ ‏يفسر‏ ‏ظاهرة‏ ‏تسمى ‏ولو‏ ‏تجاوزا‏: ‏المد‏ ‏الإسلامى ‏فى ‏السياسة‏ ‏والتدين‏ ‏السلوكى؟

من‏ ‏البديهى ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏استمرار‏ ‏للحياة‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏جدلية‏ ‏خلاقة‏، ‏وبمجرد‏ ‏أن‏ ‏كشفت‏ ‏حرب‏ ‏الخليج‏ ‏بدائية‏ ‏غالبية‏ ‏العرب‏ ‏المعاصرين‏ (‏كمثال‏ ‏لزيف‏ ‏قوة‏ ‏الثروة‏ ‏غير‏ ‏الموجهة‏) ‏وبمجرد‏ ‏أن‏ ‏أعلن‏ ‏انهيار‏ ‏السوفييت‏ ‏ومن‏ ‏إليهم‏ ‏فشل‏ ‏الاشتراكية‏ (‏كمثال‏ ‏للمثالية‏ ‏المتجاوزة‏ ‏للمرحلة‏ ‏الراهنة‏) ‏تحرك‏ ‏نداء‏ ‏ملح‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏ناحية‏ ‏يستلزم‏ ‏ظهور‏ ‏مشاريع‏ ‏بديلة‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏السياسة‏ ‏والاقتصاد‏ ‏أساسا‏، ‏وإلى ‏درجة‏ ‏أقل‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏الفكر‏ ‏والفن‏. ‏والمتتبع‏ ‏للحوار‏ ‏الأعمق‏ ‏بين‏ ‏أمريكا‏ ‏وأوربا‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏يلاحظ‏ ‏المشروع‏ ‏الأوربى ‏فى ‏السياسة‏ ‏المستقلة‏، ‏والمتتبع‏ ‏للحوار‏ ‏الأعمق‏ ‏بين‏ ‏أمريكا‏ ‏وجنوب‏ ‏شرق‏ ‏آسيا‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏يرى ‏المنافسة‏ ‏المتنامية‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏الاقتصاد‏ ‏والمال‏.‏

لكن‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏ليسا‏ ‏هما‏ ‏نهاية‏ ‏المطاف‏، ‏فالسياسة‏ ‏ليست‏ ‏هى ‏قضية‏ ‏الوجود‏ ‏وإنما‏ ‏هى ‏بعض‏ ‏وسائله‏.‏

والمال‏ ‏بما‏ ‏يحقق‏ ‏من‏ ‏رفاهية‏ ‏يستحيل‏ ‏أن‏ ‏يقوم‏ ‏إلا‏ ‏بالمساعدة‏ ‏فى ‏إتمام‏ ‏وإتقان‏ ‏وحسن‏ ‏توزيع‏ ‏البنية‏ ‏الأساسية‏ ‏لا‏ ‏أكثر‏ ‏ولا‏ ‏أقل‏.‏

ثم‏ ‏تأتى ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏تحديات‏ ‏الوعى ‏بالوجود‏، ‏والعلاقة‏ ‏بالكون‏، ‏وتطور‏ ‏الإنسان‏، ‏أقول‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏باعتبار‏ ‏أنها‏ ‏البنية‏ ‏الفوقية‏، ‏لكنها‏ ‏مغروسة‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏ومنذ‏ ‏البداية‏، ‏فى ‏كل‏ ‏لبنة‏ ‏من‏ ‏لبنات‏ ‏البنية‏ ‏الأساسية‏، ‏وبتوضيح‏ ‏لا‏ ‏لزوم‏ ‏له‏ ‏إلا‏ ‏التذكرة‏ ‏بالبديهيات‏ ‏أقول‏: ‏إن‏ ‏قضايا‏ ‏الفكر‏ ‏والوجود‏ ‏ليست‏ ‏بديلة‏ ‏عن‏ ‏قضايا‏ ‏الإنتاج‏ ‏والسياسة‏ ‏ولا‏ ‏هى ‏لاحقة‏ ‏لها‏، ‏وإنما‏ ‏هى ‏عمق‏ ‏حركيتها‏ ‏ومصب‏ ‏نشاطها‏.‏

فأى ‏إسلام‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏فكرا‏ ‏بديلا؟

لقد‏ ‏بدا‏ ‏لى، ‏وربما‏ ‏لهم‏، ‏فى ‏ظاهر‏ ‏الأمر‏ ‏أن‏ ‏ظهور‏ ‏الحركات‏ ‏الإسلامية‏ ‏السياسية‏، ‏والتعصبية‏، ‏والأصولية‏ ‏كان‏ ‏أحد‏ ‏مظاهر‏ ‏رفض‏ ‏السيطرة‏ ‏المستوردة‏ ‏والاستكبار‏ ‏والاستعلاء‏ ‏والاحتكار‏ ‏المعلن‏ ‏أو‏ ‏المستتر‏ ‏من‏ ‏جانب‏ ‏النظام‏ ‏العالمى ‏الجديد‏.‏

فهل‏ ‏هذا‏ ‏صحيح‏ ‏؟

وإذا‏ ‏صح‏، ‏فهل‏ ‏هو‏ ‏المطلوب‏ ‏والمنتظر‏ ‏من‏ ‏فكر‏ ‏له‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏التاريخ‏، ‏وكل‏ ‏هذا‏ ‏الاختلاف‏ ‏النوعي؟

وهل‏ ‏الفكر‏ ‏الإسلامى – ‏كبديل‏- ‏هو‏ ‏الجانب‏ ‏الحضارى ‏والكيانى ‏المــواكــب‏ ‏لهذه‏ ‏التحركات‏ (‏ولا‏ ‏أقول‏ ‏الحركات‏) ‏الإسلامية‏ ‏فى ‏مجالات‏ ‏السياسة‏ ‏و‏ ‏سلوك‏ ‏التدين؟

وهل‏ ‏الفكر‏ ‏التدينى ‏الغربى (‏المسيحية‏ ‏الكنائسية‏ ‏الغربية‏) ‏يواكب‏ ‏أو‏ ‏يقابل‏ ‏ما‏ ‏يمثله‏ ‏الفكر‏ ‏الإسلامى ‏البديل؟

وهل‏ ‏إعادة‏ ‏الحياة‏ ‏للكنيسة‏ ‏الروسية‏ -‏مثلا‏- ‏هو‏ ‏أحد‏ ‏الأدلة‏ ‏على ‏أن‏ ‏الدين‏ ‏يقع‏ ‏مع‏ ‏جانب‏ ‏الفكر‏ (‏أو‏ ‏النظام‏) ‏العالمى ‏الجديد؟

وإذا‏ ‏كانت‏ ‏بعض‏ ‏الدروس‏ ‏المستفادة‏ ‏من‏ ‏انهيار‏ ‏الاتحاد‏ ‏السوفييتى ‏والشرق‏ ‏هى ‏إعلان‏ ‏الحاجة‏ ‏إلى ‏الدين‏ ‏وفشل‏ ‏الإلحاد‏، ‏ألا‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ – ‏أيضا‏- ‏لعبة‏ ‏تعمل‏ ‏لصالح‏ ‏أحادية‏ ‏قيادة‏ ‏العالم‏ ‏الجديد؟

‏ ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏النظام‏ ‏العالمى ‏الجديد‏ ‏يبدو‏ ‏كأنه‏ ‏نظام‏ ‏متدين‏، ‏أو‏ ‏هو‏ ‏يزعم‏ ‏ذلك‏، ‏وخطب‏ ‏السيد‏ ‏بوش‏، ‏وأسماء‏ ‏الأحزاب‏ ‏المسيحية‏ ‏فى ‏ألمانيا‏، ‏ونشاط‏ ‏الكنيسة‏ ‏البولندية‏، ‏وتباريك‏ ‏البابا‏، ‏كل‏ ‏يؤكد‏ ‏الزعم‏ ‏بأن‏ ‏النظام‏ ‏العالمى ‏الجديد‏ ‏بأنه‏ ‏نظام‏ ‏متدين‏، ‏وبالتالى ‏فهو‏ ‏يبدو‏ ‏وكأنه‏ ‏قد‏ ‏جمع‏ ‏فأوعى (‏أو‏ ‏كما‏ ‏يقولون‏ ‏بالعامية‏: ‏ضرب‏ ‏وغطى ‏وخد‏ ‏خانة‏) ‏وعلى ‏الباقين‏ ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏المتدينين‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏دين‏ ‏أن‏ ‏يتبعوا‏ .‏

وقد‏ ‏شعرت‏ ‏أننى ‏من‏ ‏موقعى ‏باعتبارى ‏ولدت‏ ‏مسلما‏ ‏ثم‏ ‏جددت‏ ‏إسلامى ‏من‏ ‏مواجهتى ‏اليومية‏ ‏مع‏ ‏بشر‏ ‏تناثروا‏ ‏وتجمعوا‏ ‏وتناثروا‏ ‏وتضفروا‏ ‏وانطلقوا‏، ‏من‏ ‏واقعى ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏وأنا‏ ‏أعايش‏ ‏الحقيقة‏ ‏العارية‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏مهنتي‏، ‏أن‏ ‏أعلن‏ ‏ما‏ ‏وصلنى ‏ببساطة‏، ‏وهو‏ ‏أننى ‏أشك‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏النظام‏، ‏وأخاف‏ ‏منه‏، ‏وأرفض‏ ‏الاستسلام‏ ‏له‏، ‏وأننى ‏أرى ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏منطلق‏ ‏خصوصية‏ ‏فهمى ‏لدينى ‏الإسلام‏، ‏جنبا‏ ‏إلى ‏جنب‏ ‏مع‏ ‏ما‏ ‏وصلنى ‏من‏ ‏واقع‏ ‏معايشة‏ ‏الجنون‏.‏

وليس‏ ‏معنى ‏الجزء‏ ‏الأخير‏ ‏من‏ ‏الفقرة‏ ‏السابقة‏ ‏أننى ‏أحاول‏ ‏أن‏ ‏أعطى ‏أية‏ ‏أهمية‏ ‏خاصة‏ ‏لما‏ ‏هو‏ ‏طب‏ ‏نفسى ‏فى ‏غير‏ ‏مجال‏ ‏الممارسة‏ ‏المهنية‏، ‏فأنا‏ ‏ضد‏ ‏وجود‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يسمى ‏الطب‏ ‏النفسى ‏السياسي‏، ‏أو‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏الإسلامى ‏أو‏ ‏ما‏ ‏شابه‏، ‏كما‏ ‏أننى ‏أيضا‏ ‏لست‏ ‏من‏ ‏أصحاب‏ ‏الرأى ‏القائل‏ ‏أن‏ ‏المرض‏ ‏النفسى ‏هو‏ ‏مجرد‏ ‏ضعف‏ ‏اعتقاد‏ ‏فى ‏الدين‏ ‏وبالتالى ‏فإن‏ ‏التدين‏ ‏بالمعنى ‏السائد‏ ‏هو‏ ‏علاج‏ ‏كل‏ ‏الأمراض‏، ‏فلا‏ ‏يخفى ‏أن‏ ‏نسبة‏ ‏المرض‏ ‏النفسي‏، ‏والجنون‏ ‏خاصة‏، ‏هى ‏هى ‏نفسها‏ ‏فى ‏كل‏ ‏بيئة‏ ‏وبين‏ ‏أهل‏ ‏كل‏ ‏دين‏، ‏ومعتقد‏.‏

وبذلك‏ ‏فإن‏ ‏ما‏ ‏أقدمه‏ ‏هنا‏ ‏هو‏ ‏شيء‏ ‏آخر‏ ‏غير‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏السياسي‏، ‏وغير‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏الدينى، ‏إنه‏ ‏مدخل‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏لغتى ‏وإسلامي‏، ‏حالة‏ ‏كونى ‏فى ‏طريقة‏ ‏تفكيرى ‏وممارستى ‏مهنتى ‏متأثر‏ ‏بهما‏ ‏فى ‏عمق‏ ‏أعماق‏ ‏ذاتي‏.‏

مبررات‏ ‏هذه‏ ‏الرؤية‏:‏

إذن‏، ‏فالمبررات‏ ‏لهذه‏ ‏الرؤية‏ / ‏الفرض‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏توجز‏ ‏فيما‏ ‏يلي‏:‏

‏1- ‏إن‏ ‏الإيمان‏ ‏فى ‏حضوره‏ ‏الإسلامى ‏الذى ‏أنتمى ‏إليه‏ -‏كنموذج‏ ‏حياة‏- ‏له‏ ‏خصوصياته‏ ‏التى ‏تصبغ‏ ‏كل‏ ‏نشاط‏ ‏حياتى ‏ومعرفتى ‏صبغة‏ ‏مختلفة‏ ‏عن‏ ‏ما‏ ‏يعرضه‏ ‏علينا‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏بالنظام‏ ‏العالمى ‏الجديد‏.‏

‏2-‏إن‏ ‏مسايرة‏ ‏الحركات‏ ‏الإسلامية‏ ‏التى ‏تسود‏ ‏العالم‏ ‏الإسلامى ‏فى ‏شكل‏ ‏الإسلام‏ ‏السياسي‏، ‏وتسود‏ ‏بعض‏ ‏أفراد‏ ‏العالم‏ ‏الغربى ‏فى ‏شكل‏ ‏التحول‏ ‏إلى ‏الإسلام‏ ‏فرادى ‏تجعلنا‏ ‏ننتبه‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏وراء‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏أمل‏ ‏لم‏ ‏يتحدد‏; ‏فى ‘‏شيء‏ ‏آخر‏’ ‏وهذا‏ ‏الشيء‏ ‏يسمى ‏مرة‏ ‘‏حلا‏’ (‏الاسلام‏ ‏هو‏ ‏الحل‏)، ‏ومرة‏ ‏يسمى ‘‏الأصولية‏’، ‏وأحيانا‏ ‏يسمى ‘‏البديل‏’ ‏إلى ‏آخر‏ ‏ذلك‏ ‏الذى ‏لم‏ ‏يحدد‏ ‏معالم‏ ‏هذا‏ ‏الأمل‏ ‏البديل‏ ‏المحتمل‏، ‏فلنبحث‏ ‏عن‏ ‏الجانب‏ ‏المعرفى ‏فى ‏الحكاية‏، ‏لأننى ‏أرجح‏ ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏منهج‏ ‏آخر‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يغرى ‏بالأمل‏ ‏والنظر‏، ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏المنهج‏ ‏غامض‏ ‏وكامن‏، ‏مع‏ ‏أننى ‏لمحت‏ ‏معالمه‏، ‏دون‏ ‏الدخول‏ ‏فى ‏تفاصيل‏، ‏فى ‏إسلام‏ ‏جارودى ‏الذى ‏كاد‏ ‏يتراجع‏ ‏عنه‏ ‏حين‏ ‏فرضوا‏ ‏عليه‏ ‏إسلامنا‏ ‏الذى ‏اكتشف‏ ‏جارودى ‏مؤخرا‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏إلا‏ ‏لافتة‏ ‏أخرى ‏على ‏نفس‏ ‏نظامهم‏ ‏الحضارى ‏مع‏ ‏تغيير‏ ‏اللافتة‏ ‏إلى ‘‏الإسلام‏’، ‏لكنه‏ ‏هو‏ ‏هو‏ ‏الموقف‏ ‏الإستهلاكى ‏الكمى ‏الرفاهياتي‏.‏

‏3- ‏إن‏ ‏الحركة‏ ‏المسماة‏ ‏بالطب‏ ‏النفسى ‏الإسلامى – ‏كمثال‏- ‏إنما‏ ‏تركز‏ ‏على ‏جانبين‏ ‏ليسا‏ ‏هما‏ ‏الإسلام‏ ‏بالمعنى ‏المعرفى، ‏وهما‏ ‏الطمأنينة‏ ‏الساكنة‏، ‏والتسليم‏ ‏التجارى‏، ‏وهذا‏ ‏وذاك‏ ‏هما‏ ‏أقرب‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏إلى ‏رفاهية‏ ‏الغرب‏، ‏ثم‏ ‏إلى ‏فكرة‏ ‏الفكر‏ ‏الاستثمارى ‏الكمي‏، ‏وبالتالـى ‏لم‏ ‏يصلنى ‏منها‏ ‏إلا‏ ‏أنها‏ ‏وجه‏ ‏آخر‏ ‏لنفس‏ ‏النظام‏ ‏المادى ‏القائم‏.‏

‏4- ‏إن‏ ‏علاقة‏ ‏الدين‏ (‏والإيمان‏) ‏بممارسة‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏وثيقة‏، ‏من‏ ‏خلال‏ ‏معايشة‏ ‏الجنون‏، ‏فإذا‏ ‏كان‏ ‏الإلحاد‏ ‏نشاز‏ ‏لحن‏ ‏الوجود‏ ‏الكوني‏، ‏فالجنون‏ ‏نشاز‏ ‏لحن‏ ‏الوجود‏ ‏البشرى ‏الفردى‏، ‏والنشاز‏ ‏يذكرنا‏ ‏باللحن‏ ‏الأصلي‏، ‏فهو‏ ‏يدفعنا‏ ‏ضمنا‏ ‏نحو تنقية‏ ‏اللحن‏ ‏من‏ ‏شوائبه‏.‏

معنى ‏الإيمان‏ ‏فى ‏حضوره‏ ‏الإسلامى ‏

‏1-‏الإسلام‏ ‏ليس‏ ‏تعصبا‏ ‏أصلا‏، ‏بل‏ ‏إنه‏ ‏يمثل‏ ‏جـماعا‏ ‏ختاميا‏ ‏لوحى ‏متكرر‏ ‏يمثل‏ ‏خلاصة‏ ‏مسيرة‏ ‏الإنسان‏ ‏فى ‏علاقته‏ ‏بالكون‏ ‏إذ‏ ‏يتلقى ‏الوحى ‏تلو‏ ‏الوحى ‏من‏ ‏الحق‏ ‏تعالى‏، ‏وبالتالى ‏فلنا‏ ‏أن‏ ‏نأمل‏ ‏أن‏ ‏يحتوى ‏على ‏ما‏ ‏سبقه‏ ‏بقدر‏ ‏يجعله‏ ‏ولافا‏ ‏لمفهوم‏ ‏الإيمان‏ ‏عبر‏ ‏التاريخ‏ ‏المعروف‏ ‏للإنسان‏.‏

‏2- ‏كما‏ ‏أن‏ ‏الإسلام‏ ‏ليس‏ ‏معتقدا‏ ‏مطمئنا‏ ‏بمعنى ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏وصفة‏ ‏مسكنة‏ ‏فحسب‏، ‏والإقتصار‏ ‏على ‏ترادف‏ ‏الإسلام‏ ‏مع‏ ‘‏النفس‏ ‏المطمئنة‏’ ‏هو‏ ‏أمر‏ ‏يقلل‏ ‏من‏ ‏الالتفات‏ ‏إلى ‏دور‏ ‏الإسلام‏ ‏فى ‏حركيته‏ ‏وقدراته‏ ‏التطورية‏ ‏التصعيدية‏، ‏إذ‏ ‏يخفت‏ ‏من‏ ‏بهر‏ ‏مفهوم‏ ‏الكدح‏ ‏المستمر‏، ‏وتحمل‏ ‏القول‏ ‏الثقيل‏ (‏أمانة‏ ‏الوعى‏)، ‏وحتمية‏ ‏الجهاد‏ ‏المستمر‏، ‏و‏ ‏الإبداع‏ ‏المتجدد‏.‏

‏3- ‏وليس‏ ‏الإسلام‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يدعو‏ ‏إليه‏ ‏الأصوليون‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏السياسة‏ ‏أساسا‏، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يهاجمه‏ ‏العلمانيون‏ ‏فى ‏محاولة‏ ‏جعل‏ ‏الدين‏ ‏نشاطا‏ ‏سريا‏ ‏فرديا‏ ‏خاصا‏ ‏بعض‏ ‏الوقت‏، ‏وبالتالى ‏فالدعاوى ‏المكررة‏ ‏على ‏الجانبين‏ ‏مثل‏ ‘‏أن‏ ‏الدين‏ ‏لله‏ ‏والوطن‏ ‏للجميع‏’، ‏أو‏ ‘‏أن‏ ‏ما‏ ‏لقيصر‏ ‏لقيصر‏ ‏ومالله‏ ‏لله‏’، ‏أو‏ ‘‏أن‏ ‏الإسلام‏ ‏دين‏ ‏ودولة‏’ ‏أو‏ ‏أن‏ ‘‏الاسلام‏ ‏هو‏ ‏الحل‏’، ‏هى ‏كلها‏ ‏دعاوى ‏استقطابية‏ ‏شائعة‏ ‏قد‏ ‏تنتمى ‏إلى ‏أديان‏ ‏أخرى‏، ‏أو‏ ‏إلى ‏نظم‏ ‏سياسية‏ ‏قهرية‏ ‏أخرى‏. ‏

ثم‏ ‏إنى ‏أقرأ‏ ‏من‏ ‏لا‏ ‏يحكم‏ ‏بما‏ ‏أنزل‏ ‏الله‏ ‏باعتبار‏ ‏أن‏ ‏الله‏ ‏قد‏ ‏أنزل‏ ‏كل‏ ‏شئ ‏بلا‏ ‏استثناء‏ ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏قوانين‏ ‏الطبيعة‏ ‏وقوانين‏ ‏فلسفة‏ ‏الجمال‏، ‏والحكم‏ ‏بها‏ ‏هو‏ ‏تنقيتة‏ ‏هذه‏ ‏القوانين‏ ‏وموضعتها‏ ‏وتنشيط‏ ‏فاعليتها‏، ‏وهذا‏ ‏الموقف‏ ‏يستتبعه‏ ‏فهم‏ ‏للإنسان‏ ‏وطريقة‏ ‏للمعرفة‏ ‏ومنهج‏ ‏للبحث‏ ‏قبل‏ ‏وبعد‏ ‏أى ‏قانون‏ ‏سياسى ‏أو‏ ‏قهر‏ ‏سلطوي‏.‏

‏ ‏فالإسلام‏ ‏الذى ‏غمر‏ ‏وعيى -‏رغم‏ ‏أننى ‏لست‏ ‏صاحب‏ ‏الفضل‏ ‏الأول‏ ‏فى ‏اختياره‏- ‏لايمكن‏ ‏أن‏ ‏يقتصر‏ ‏على ‏كونه‏ ‏معتقدا‏ ‏فكريا‏ ‏أساسا‏ ‏أو‏ ‏تماما‏، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏نشاط‏ ‏نصف‏ ‏الوقت‏ (‏أيام‏ ‏الأحد‏ ‏أو‏ ‏الجمع‏ )، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏علاقة‏ ‏خاصة‏ ‏سريه‏ ‏بين‏ ‏الإنسان‏ ‏وربه‏، ‏ولاهو‏ ‏إضافة‏ ‏أخلاقية‏ ‏مناسبة‏ ‏لتحسين‏ ‏المعاملات‏، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏تسكين‏ ‏وتأجيل‏، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏ملاحقة‏ ‏ملحة‏ ‏من‏ ‏الوعود‏ ‏والوعيد‏، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏طمأنه‏ ‏تسكينية‏ ‏ذاهلة‏.‏

وإنما‏ ‏هو‏ ‏أساسا‏ – ‏دون‏ ‏التعرض‏ ‏لغير‏ ‏ذلك‏ ‏مما‏ ‏لا‏ ‏أنفى ‏أهميته‏- ‏هو‏:‏

‏1- ‏موقف‏ ‏شامل‏ ‏متكامل‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏

‏2- ‏وهو‏ ‏طريق‏ (‏منهج‏) ‏للمعرفة

‏3- ‏وهو‏ ‏وعى ‏كيانى ‏بالذات‏ ‏والوجود

‏4- ‏وهو‏ ‏امتداد‏ ‏تكاملى ‏فى ‏الـــ‏ ‘‏ما‏ ‏بعد‏’‏

وكل‏ ‏ذلك‏ ‏إنما‏ ‏يتم‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏التوحيد‏ ‏كفكرة‏ ‏مركزية‏، ‏كما‏ ‏يتحقق‏ ‏ويتدعم‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏السلوك‏ ‏والعبادات‏، ‏ليصب‏ ‏فى ‏تعميق‏ ‏الوعي‏، ‏وتوسيع‏ ‏دوائر‏ ‏المعرفة‏.‏

‏ ‏وأنا‏ ‏عند‏ ‏الرأى ‏القائل‏ ‏إن‏ ‏الآية‏ ‏الكريمة‏ ‘ ‏إن‏ ‏الدين‏ ‏عند‏ ‏الله‏ ‏الإسلام‏ ‘ ‏قد‏ ‏تشير‏ ‏إلى ‏إحتمال‏ ‏إسلامية‏ ‏حتى ‏من‏ ‏لم‏ ‏يعتنق‏ ‏بعد‏ ‏الدين‏ ‏الإسلامى ‏بالطريق‏ ‏المعلن‏ ‏المعروف‏.‏

ثم‏ ‏إن‏ ‏من‏ ‏ينتمى ‏إلى ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏الحياتى ‏الأساسي‏، ‏سوف‏ ‏يجد‏ ‏نفسه‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏دين‏ ‏يتصف‏ ‏بالمباشرة‏، ‏وعدم‏ ‏الوصاية‏، ‏وتنمية‏ ‏العلاقة‏ ‏بالطبيعة‏، ‏وبساطة‏ ‏العبادات‏، ‏ورفض‏ ‏الكهنوت‏، ‏والنهى ‏عن‏ ‏الانسحاب‏ ‏من‏ ‏الواقع‏ ‏والناس‏، ‏فالله‏ ‏سبحانه‏ ‏وتعالى‏، ‏الذى ‏نسعى ‏إليه‏ ‏دائما‏ ‏أبدا‏، ‏هو‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مكان‏، ‏وأولى ‏هذه‏ ‏الأماكن‏ ‏هى ‏بين‏ ‏الناس‏ ‏وفى ‏الناس‏ ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏من‏ ‏يبدأ‏ ‏بالاعتقاد‏ ‏بالفكرة‏ ‏المركزية‏: ‏التوحيد‏ ‏ثم‏ ‏يمارس‏ ‏العبادات‏ ‏بتلقائية‏ ‏وانتظام‏ ‏وإبداع‏، ‏ويحسن‏ ‏المعاملات‏ ‏بكلية‏ ‏هادفة‏، ‏ويوجه‏ ‏طاقته‏ ‏خالصة‏ ‏لوجه‏ ‏الحق‏، ‏فهو‏ ‏واصل‏ ‏إلى ‏اكتساب‏ ‏أدوات‏ ‏المعرفة‏ ‏الإيمانية‏ ‏إذ‏ ‏يتعمق‏ ‏وعيه‏ ‏وتزداد‏ ‏موضوعيته‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏، ‏وحتى ‏يصبح‏ ‏هو‏ ‏فى ‏ذاتة‏ ‏آلة‏ ‏حسن‏ ‏صقلها‏ ‏وشحذها‏ ‏لسبر‏ ‏غور‏ ‏الحقيقة‏.‏

ولكن‏ ‏ما‏ ‏هى ‏الأساليب‏ ‏العملية‏ ‏التى ‏تجعل‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الإسلام‏ ‏وسيلة‏ ‏معرفية؟

‏ ‏وأين‏ ‏موقع‏ ‏هذا‏ ‏الزعم‏ ‏بين‏ ‏الوسائل‏ ‏المعرفية‏ ‏العصرية؟‏ ‏سواء‏ ‏فى ‏ما‏ ‏يتعلق‏ ‏بفلسفة‏ ‏العلم‏، ‏أو‏ ‏ما‏ ‏يتعلق‏ ‏بالمناهج؟

وهل‏ ‏ثمة‏ ‏أدوات‏ ‏تستعمل‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏فروع‏ ‏البحث‏ ‏العلمى ‏والمعرفى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تميز‏ ‏هذا‏ ‏السبيل‏ ‏المعرفى ‏من‏ ‏غيره؟

والرد‏ ‏على ‏بعض‏ ‏ذلك‏ ‏له‏ ‏حديث‏ ‏آخر‏.

المعرفة‏ … ‏والجسد

‏[‏اختزال‏ ‏فطرة‏ ‏الناس‏ (‏والوجود‏)‏ إلى ‏عقل‏ ‏بلا‏ ‏جسد‏] ‏

ثمة‏ ‏حوار‏ ‏مفقود‏ ‏بين‏ ‏المثقفين‏ (‏أو‏ ‏التنويريين‏) ‏وبين‏ ‏الإسلاميين‏ (‏أو‏ ‏السلفيين‏)[1]

وهذا‏ ‏الحوار‏ ‏المفقود‏ ‏ليس‏ ‏مفقودا‏ ‏تماما‏ ‏على ‏كل‏ ‏حال‏، ‏وخاصة‏ ‏على ‏المستوى ‏الظاهر‏، ‏فثمة‏ ‏ملامح‏ ‏واعدة‏ ‏تظهر‏ ‏بين‏ ‏الحين‏ ‏والحين‏ ‏عند‏ ‏هؤلاء‏ ‏العلماء‏ ‏والمفكرين‏ ‏الذين‏ ‏يحاولون‏ ‏تجاوز‏ ‏المنهج‏ ‏شبه‏ ‏العلمي‏: ‏المعقلن‏ ‏الكمى ‏المغترب‏. ‏وإذا‏ ‏كان‏ ‏لنا‏ ‏أن‏ ‏ننمى ‏هذه‏ ‏البدايات‏ ‏الإيجابية‏ ‏فلا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏نبدأ‏ ‏بتنقية‏ ‏لغة‏ ‏الحوار‏ ‏المحتمل‏، ‏رغم‏ ‏قلة‏ ‏المؤمنين‏ ‏المجتهدين‏ ‏المبدعين‏.‏

وأول‏ ‏ما‏ ‏يجدر‏ ‏العودة‏ ‏إليه‏ ‏أو‏ ‏النظر‏ ‏فيه‏ ‏هو‏ ‏منهج‏ ‏أدوات‏ ‏التفكير‏ ‏والنظر‏، ‏عند‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏هؤلاء‏ ‏وأولئك‏، ‏فهل‏ ‏يا‏ ‏ترى ‏تختلف‏، ‏وهل‏ ‏توجد‏ ‏منطقة‏ ‏غفل‏، ‏أو‏ ‏أداة‏ ‏منسية‏ ‏أو‏ ‏مهجورة‏ ‏عند‏ ‏هؤلاء‏ ‏أو‏ ‏أولئك‏ ‏أو‏ ‏عندهما‏ ‏معا؟‏

فى ‏محاولتى ‏للإجابة‏ ‏وجدت‏ ‏وجه‏ ‏الشبه‏ ‏عند‏ ‏الغالبية‏ ‏أكبر‏ ‏من‏ ‏وجه‏ ‏الأختلاف‏ ‏فكلاهما‏ ‏أعطى ‏الفكر‏ ‏أولوية‏ ‏مطلقة‏، ‏وكلاهما‏ ‏أهمل‏ ‏أدوات‏ ‏التفكير‏ ‏الأخرى ‏إهمالا‏ ‏بالغا‏، ‏خذ‏ ‏مسألة‏ ‏موقع‏ ‏الجسد‏ ‏عند‏ ‏الفريقين‏، ‏الجسد‏ ‏كوسط‏ ‏لاستيعاب‏ ‏المعرفة‏، ‏والجسد‏ ‏كوسيلة‏ ‏للكشف‏، ‏وغير‏ ‏ذلك‏، ‏وهذا‏ ‏المقال‏ ‏يتناول‏ ‏القضية‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏المدخل‏:‏

‏ ‏دعونا‏ ‏نتساءل‏ ‏عن‏ ‏موقع‏ ‘‏الجسد‏’ ‏فى ‏لغة‏ ‏الحوار‏ ‏الجارى ‏أوالمأمول‏، ‏الجسد‏ ‏كأصل‏ ‏فى ‏الوجود‏، ‏ثم‏ ‏كوسيلة‏ ‏تواصلية‏، ‏ثم‏ ‏كوسيلة‏ ‏معرفية‏، ‏ثم‏ ‏كمدخل‏ ‏لتغيير‏ ‏التركيب‏ ‏ونقل‏ ‏العادات‏ ‏بالوراثة‏، ‏وأنا‏ ‏أعترف‏ ‏باحتمال‏ ‏وقع‏ ‏المفاجأة‏ ‏عند‏ ‏الجميع‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏غيب‏ ‏الجسد‏ ‏واستبعد‏ ‏عند‏ ‏أغلب‏ ‏الناس‏، ‏وليس‏ ‏فقط‏ ‏عند‏ ‏هذين‏ ‏الفريقين‏، ‏بل‏ ‏إنه‏ ‏يخيل‏ ‏إلى ‏أحياناأن‏ ‏حضور‏ ‏الجسد‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏المعرفة‏ ‏أصبح‏ ‏من‏ ‏المحظورات‏ ‏عند‏ ‏الجميع‏.‏

وفى ‏محاولة‏ ‘‏لإحياء‏ ‏الجسد‏’ ‏فى ‏موقعه‏ ‏المحورى، ‏والبحث‏ ‏عن‏ ‏دوره‏ ‏التكاملى ‏من‏ ‏مدخل‏ ‏تعميق‏ ‏وتنقية‏ ‏فهم‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏فطرة‏ ‏كما‏ ‏أكد‏ ‏عليها‏ ‏الإسلام‏ ‏خاصة‏، ‏سوف‏ ‏أبدأ‏ ‏من‏ ‏موقعى ‏كمسلم‏ ‏يستلهم‏ ‏محاولة‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏ما‏ ‏يميزنى (‏ربما‏ ‏يميزنا‏) ‏من‏ ‏هذا‏ ‏المنطلق‏.‏

والاتفاق‏ ‏على ‏معان‏ ‏مشتركة‏ ‏لأبجدية‏ ‏الحوار‏ ‏هو‏ ‏ضرورة‏ ‏مبدئية‏ ‏ولكن‏ ‏دعونا‏ ‏نفصل‏ ‏قليلا‏ ‏ما‏ ‏جاء‏ ‏فى ‏المقدمة‏ ‏مما‏ ‏يجرى ‏حاليا‏ ‏بين‏ ‏الجانبين‏:‏

فالمتتبع‏ ‏لهذا‏ ‏السيل‏ ‏من‏ ‏القذائف‏ ‏الموجهة‏ ‏بين‏ ‏الفريقين‏، ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏دقق‏ ‏النظر‏، ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏يتساءل‏ ‏عن‏ ‏حقيقة‏ ‏هوية‏ ‏كل‏ ‏فريق‏، ‏وما‏ ‏هو‏ ‏الاختلاف‏ ‏الجوهرى ‏بينهما‏ ‏إن‏ ‏وجد؟

ولنبدأ‏ ‏بمراجعة‏ ‏هذه‏ ‏التسميات‏ ‏الجديدة‏ ‏القديمة‏:’‏التنويريون‏ = ‏المثقفون‏’ !!! ‏ثم‏ ‘‏الإسلاميون‏= ‏المتدينون‏’‏

ولفظ‏ ‏المثقف‏، ‏المشتق‏ ‏من‏ ‏لفط‏ ‏الثقافة‏ ‏البالغ‏ ‏الغموض‏ ‏عند‏ ‏أهل‏ ‏العربية‏، ‏هو‏ ‏من‏ ‏أكثر‏ ‏الألفاظ‏ ‏هلهلة‏ ‏وميوعة‏، ‏ذلك‏ ‏أنه‏ ‏يطلق‏ ‏أحيانا‏ ‏على ‏المتعلم‏، ‏وأحيانا‏ ‏أخرى ‏على ‏القارئ‏ ‏المتعدد‏ ‏الاهتمامات‏ (‏إلى ‏درجة‏ ‏الموسوعية‏ ‏زمان‏)، ‏وأحيانا‏ ‏على ‏المفكر‏ ‏المتحذلق‏ ‏بمنطق‏ ‏عقلانى ‏رشيق‏، ‏وهو‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏أيـا‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏أصلا‏، ‏ولا‏ ‏بد‏ ‏من‏ ‏إعادة‏ ‏تعريفه‏- ‏مكررا‏- ‏فأقول‏: ‏

إن‏ ‏المثقف‏ ‏هو‏ ‏الشخص‏ ‏الذى ‏يستوعب‏ ‏الوعى ‏العام‏ ‏لناسه‏ ‏ومحيطه‏ ‏فى ‏فترة‏ ‏زمنية‏ ‏بذاتها‏، ‏يستوعبه‏ ‏معايشة‏ ‏ومشاركة‏ ‏وفعلا‏ ‏ولا‏ ‏يكتفى ‏بوصفه‏ ‏ألفاظا‏ ‏أونشره‏ ‏كلاما‏ ‏وكتبا‏. ‏وللأسف‏ ‏فإن‏ ‏الترجمة‏ ‏تساهم‏ ‏فى ‏مزيد‏ ‏من‏ ‏الخلط‏، ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏الغالبية‏ ‏تترجم‏ ‏كلمة‏ intellectual ‏بالإنجليزية‏ ‏إلى ‏مثقف‏، ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الكلمة‏ ‏الإنجليزية‏ ‏إنما‏ ‏تعنى ‏الشخص‏ ‏المعقلن‏ (‏والمعـقـلـن‏ ‏معا‏)، ‏أو‏ ‏بتعبير‏ ‏أقل‏ ‏شيوعا‏: ‏هو‏ ‏الشخص‏ ‏الذهنى، ‏ومثل‏ ‏هذا‏ ‏الشخص‏ ‏ليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏مثقفا‏ ‏بالتعريف‏ ‏السابق‏، ‏بل‏ ‏إنه‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏عكس‏ ‏ذلك‏ ‏تماما‏: ‏أى ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ -‏لأنه‏ ‏ذهني‏- ‏منفصل‏ ‏عن‏ ‏الوعى ‏العام‏، ‏بل‏ ‏عن‏ ‏وعيه‏ ‏الكلى ‏شخصيا‏، ‏لحساب‏ ‏تدريب‏ ‏عضلة‏ ‏ذهنه‏ ‏تدريبا‏ ‏يجعلها‏ (‏عضلة‏ ‏ذهنه‏) ‏هى ‏الأول‏ ‏والآخر‏ ‏على ‏حساب‏ ‏الجسد‏ ‏والوجدان‏ ‏والوعى ‏والكلى ‏والإرادة‏ ‏الحرة‏ ‏المجتمعة‏، ‏وقد‏ ‏اقترن‏ ‏هذا‏ ‏الفهم‏ ‏الضيق‏ ‏للتفكير‏ ‏والعقل‏ ‏بتعريفات‏ ‏مختزلة‏ ‏لكل‏ ‏من‏ ‏المنهج‏ ‏العلمى ‏والعلم‏ ‏أصلا‏، ‏حين‏ ‏صار‏ ‏الشائع‏ – ‏بين‏ ‏العلماء‏ ‏من‏ ‏هذاالنوع‏- ‏أن‏ ‏العلم‏ ‏هو‏ ‏هذا‏ ‏الأمر‏ ‏الذى ‏يمارسه‏ ‏أكثر‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الشخص‏ ‏الذهنى ‏بمنطقه‏ ‏الظاهر‏: ‏المثبــت‏ ‏والقابل‏ ‏للإثبات‏ ‏بالإعادة‏ ‏والمقارنة‏ ‏على ‏نمط‏ ‏المنطق‏ ‏الخطى ‏الحسى (‏أو‏ ‏الأرسطى) ‏

وللأسف‏ ‏فإن‏ ‏بعض‏ ‏من‏ ‏يسمون‏ ‏أنفسهم‏ ‏التنويريين‏ ‏ويسميهم‏ ‏خصومهم‏ ‏العلمانيين‏ ‏هم‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏الذهنى ,‏شبه‏ ‏العلمى، ‏وهم‏ ‏ليسوا‏ ‏مثقفين‏ (‏بمعنى ‏احتواء‏ ‏الوعى ‏العام‏ ‏لناسهم‏ ‏فى ‏زمنهم‏) ‏ولا‏ ‏هم‏ ‏علماء‏ ‏بالمعنى ‏الغائى ‏الإنسانى ‏للعلم‏.‏

وعلى ‏الجانب‏ ‏الآخر‏ ‏نجد‏ ‏أن‏ ‏من‏ ‏يسمون‏ ‏أنفسهم‏ ‏ونسميهم‏ ‏الإسلاميين‏ ‏يقعون‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏النفق‏ ‏العقلى ‏المحدود‏، ‏يحدث‏ ‏ذلك‏ ‏بحسن‏ ‏نية‏ ‏أو‏ ‏قصور‏ ‏وعى ‏أو‏ ‏ضعف‏ ‏إيمان‏، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏أغلبهم‏ ‏قد‏ ‏انتهى (‏أو‏ ‏هو‏ ‏ابتدأ‏) ‏بالاعتقاد‏ ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏الإيمان‏، ‏والاعتقاد‏ ‏الذى ‏يمارسونه‏ ‏ويفخرون‏ ‏به‏ ‏إنما‏ ‏يتم‏ ‏بأن‏ ‏تنجح‏ ‏عضلة‏ ‏العقل‏ ‏فى ‏رفع‏ ‏أثقال‏ ‏الألفاظ‏ ‏بمعانيها‏ ‏المغلقة‏ ‏فى ‏شكلها‏ ‏الشائع‏، ‏ومثل‏ ‏هذا‏ ‏الاعتقاد‏ ‏يعطى ‏المعتقد‏ (‏المتدين‏) ‏ميزانا‏ ‏مغلقا‏ ‏يزن‏ ‏به‏ ‏نفسه‏ ‏ويحدد‏ ‏موقعه‏، ‏وبالتالى ‏يحدد‏ ‏به‏ ‏مواقع‏ ‏سائر‏ ‏البشر‏، ‏وهكذا‏ ‏ينتهى ‏إلى ‏موقف‏ ‏الحكم‏ ‏الفوقى ‏والوصاية‏ ‏على ‏عباد‏ ‏الله‏، ‏والاستيلاء‏ ‏غصبا‏ ‏على ‏مفاتيح‏ ‏جنان‏ ‏الله‏ ‏ورحمته‏، ‏معا‏، ‏فهو‏ ‏يعين‏ ‏نفسه‏، ‏هو‏ ‏ومن‏ ‏يماثله‏، ‏مسئولا‏ ‏عن‏ ‏إعلاء‏ ‏كلمة‏ ‏الله‏ ‏وترسيخ‏ ‏الإيمان‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏فريقين‏ ‏بالذات‏ ‏هما‏ ‏العلمانيون‏ ‏ورجال‏ ‏الحكم‏ ‏فى ‏كل‏ ‏بقاع‏ ‏الأرض‏.‏

‏ ‏وهكذا‏ ‏ينفصل‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏المتدين‏ ‏عن‏ ‏الوعى ‏العام‏، ‏وعن‏ ‏وعيه‏ ‏الكلى ‏شخصيا‏، ‏وهو‏ ‏بذلك‏ ‏يسجن‏ ‏عقله‏ (‏ووجوده‏) ‏فى ‏ألفاظ‏ ‏تجمدت‏ ‏نتيجة‏ ‏لتشنج‏ ‏عضلة‏ ‏عقله‏ .‏

إذن‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏الفرق‏ ‏الحقيقى ‏بين‏ ‏الذهنى ‏من‏ ‏الفريق‏ ‏الأول‏ ‏والذهنى ‏من‏ ‏الفريق‏ ‏الثانى ‏؟

أضع‏ ‏فرضا‏ ‏هنا‏ ‏يقول‏: ‏إن‏ ‏الأرجح‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يوجد‏ ‏فرق‏ ‏جوهرى، ‏ولتنظر‏ ‏معي‏:‏

إن‏ ‏الفريق‏ ‏الأول‏ (‏المثقف‏-‏التنويرى‏- ‏العلمانى‏([2]) ..‏إلخ‏) ‏انفصل‏ ‏عن‏ ‏الوعى ‏الكلى ‏وعن‏ ‏وعيه‏ ‏الخاص‏ ‏مجتمعا‏، ‏إذ‏ ‏نمت‏ ‏عضلة‏ ‏عقله‏ ‏لحساب‏ ‏معلومات‏ ‏جافة‏، ‏وفى ‏حدود‏ ‏ظاهر‏ ‏وعيه

والفريق‏ ‏الثانى ‏راح‏ ‏يستعمل‏ ‏أبجدية‏ ‏فقهية‏ ‏لفظية‏ ‏جامدة‏ ‏و‏ ‏ثابتة‏، ‏اتخذها‏ ‏أداة‏ ‏لتقوية‏ ‏عضلة‏ ‏عقله‏ ‏حتى ‏يتفوق‏ ‏فى ‏رفع‏ ‏أثقال‏ ‏الوصاية‏ ‏والحكم‏ ‏الفوقى ‏بقشرة‏ ‏وعيه‏ ‏ليس‏ ‏إلا‏.‏

فأين‏ ‏الخلاف‏ ‏إذن‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏التشابه‏ ‏بهذا‏ ‏الحضور؟

إن‏ ‏الخلاف‏ ‏بين‏ ‏الفريقين‏ ‏ليس‏ ‏فى ‏نوعية‏ ‏الوجود‏ ‏الإنسانى ‏ولا‏ ‏فى ‏طبيعة‏ ‏الانتماء‏ ‏للحياة‏، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏فى ‏فرص‏ ‏إطلاق‏ ‏قدرات‏ ‏الإبداع‏ ‏المحدودة‏ ‏والمختنقة‏ ‏عندهما‏ ‏معا‏، ‏كما‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏فى ‏تحريك‏ ‏مسار‏ ‏التطور‏ ‏أو‏ ‏فتح‏ ‏باب‏ ‏الاجتهاد‏، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏الأول‏ ‏سرعان‏ ‏ما‏ ‏يجد‏ ‏نفسه‏ ‏حبيس‏ ‏إحدى ‏المنظومات‏ ‏الأيديولوجية‏ ‏المحكمة‏ (‏وأشهرها‏ ‘‏أيديولوجية‏’ ‏ما‏ ‏يسمى ‏العلم‏)، ‏والثانى ‏أيضا‏ ‏يجد‏ ‏نفسه‏ ‏داخل‏ ‏نصوص‏ ‏تفسرها‏ ‏نصوص‏ ‏من‏ ‏داخل‏ ‏النصوص‏ ‏دون‏ ‏حركية‏ ‏الزمن‏ ‏ولا‏ ‏مواكبة‏ ‏الوعى، ‏ويترتب‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏السجن‏ ‏الفوقى ‏ذى ‏القضبان‏ ‏المسحورة‏ ‏أن‏ ‏كليهما‏ ‏يضطر‏ ‏أن‏ ‏يحكم‏ ‏على ‏من‏ ‏يخالف‏ ‏منهجه‏ ‏بالنفى ‏والشجب‏:‏الذهني‏:‏

الإسلامى ‏يقول‏ ‏عن‏ ‏خصمه‏: ‏علمانى = ‏مرتد‏، ‏

والذهنى ‏التنويرى ‏يقول‏ ‏عن‏ ‏خصمه‏ ‘‏لا‏ ‏علمى = ‏جاهل

ومع‏ ‏تشابه‏ ‏الموقف‏ ‏الأساسى ‏للإثنين‏، ‏وهو‏ ‏أنه‏ ‏موقف‏ ‏ذهنى ‏اختزالى ‏على ‏حساب‏ ‏كلية‏ ‏الوجود‏ ‏وشمول‏ ‏الوعى، ‏نكتشف‏ ‏أنهما‏ ‏يسيران‏ ‏فى ‏اتجاهين‏ ‏متضادين‏، ‏لكننا‏ ‏نكتشف‏ ‏بعد‏ ‏قليل‏ ‏أنهما‏ ‏بالرغم‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏يصلان‏ ‏إلى ‏نفس‏ ‏الغاية‏، ‏وهى ‏الاكتفاء‏ ‏بقشرة‏ ‏الوعى ‏دون‏ ‏سائر‏ ‏الوجود‏ ‏

واحد‏ ‏تحت‏ ‏لا‏ ‏فتة‏ ‏التمسك‏ ‏بمنهج‏ (‏علمى) ‏بذاته

والآخر‏ ‏تحت‏ ‏لافتة‏ ‏التمسك‏ ‏بتفسير‏ (‏لفظى) ‏بذاته‏.‏

واحد‏ ‏يرفع‏ ‏راية‏ ‏يسميها‏ ‏العلم‏ (‏دون‏ ‏الوعى ‏الكلى ‏والمعرفة‏ ‏الشاملة‏) ‏

والآخر‏ ‏يرفع‏ ‏راية‏ ‏ألفاظ‏ ‏الدين‏ (‏دون‏ ‏إيمان‏ ‏حقيقى ‏أو‏ ‏إطلاق‏ ‏الفطرة‏ ‏وتجديد‏ ‏الإلهام‏)‏

واحد‏ ‏يكتفى ‏بعضلة‏ ‏عقله‏ ‏وقد‏ ‏دربها‏ ‏بأبجدية‏ ‏الميكنة‏ ‏والتقنية‏ ‏والاستهلاك‏ ‏والرفاهية‏ ‏وديكورات‏ ‏الحياة‏ ‏الذهنية‏ ‏والنفسية‏ (‏دون‏ ‏الجسدية‏) ‏وهو‏ ‏يكتفى ‏بذلك‏ ‏عن‏ ‏بقية‏ ‏وجوده‏، ‏وبالذات‏ ‏عن‏ ‏جسده‏ ‏وشامل‏ ‏وعيه‏ ‏وفطرته

والآخر‏ ‏يكتفى ‏بعضلة‏ ‏عقله‏ ‏وقد‏ ‏دربها‏ ‏بأبجدية‏ ‏التفسير‏ ‏والتحديد‏ ‏والتقييد‏ ‏والمنع‏ ‏والقمع‏ ‏والحكم‏ ‏الفوقى، ‏دربها‏ (‏عضلة‏ ‏عقله‏) ‏حتى ‏ألغى ‏بها‏- ‏أيضا‏- ‏سائر‏ ‏وجوده‏ (‏بما‏ ‏يشمل‏ ‏جسده‏ ‏وشامل‏ ‏وعيه‏ ‏وفطرته‏) ‏

فإذا‏ ‏كان‏ ‏الفريق‏ ‏الأول‏ (‏القابع‏ ‏فى ‏صومعة‏ ‏العلم‏) ‏معذور‏ ‏بعض‏ ‏الشيء‏ ‏لما‏ ‏يذكره‏ ‏من‏ ‏انحرافات‏ ‏ومضاعفات‏ ‏تاريخية‏ ‏حدثت‏ ‏نتيجة‏ ‏فتح‏ ‏الباب‏ ‏للحدس‏ ‏الفردى، ‏والشطح‏ ‏العشوائى، ‏والغموض‏ ‏الذهنى، ‏فإن‏ ‏الفريق‏ ‏الثانى (‏المختبئ‏ ‏فى ‏جب‏ ‏الدين‏) ‏معذور‏ ‏أيضا‏ ‏لأنه‏ ‏حين‏ ‏فتح‏ ‏باب‏ ‏الاجتهاد‏ ‏على ‏مصراعيه‏ ‏ظهرت‏ ‏الفرق‏ ‏وألغيت‏ ‏الفرائض‏ ‏واختلطت‏ ‏النصوص‏ ‏وسالت‏ ‏الدماء‏ ‏

ولكن‏ ‏هل‏ ‏معنى ‏عذرهما‏ ‏معا‏ ‏أن‏ ‏نفترض‏ ‏أنهما‏ ‏محقان‏ ‏فى ‏موقفهما‏، ‏وإذا‏ ‏كان‏ ‏الأمر‏ ‏كذلك‏ ‏فلماذا‏ ‏يحكم‏ ‏كل‏ ‏منهما‏ ‏على ‏الآخر‏ ‏بالنفى ‏والكفر‏، ‏ولماذا‏ ‏ينظر‏ ‏كل‏ ‏منهما‏ ‏للأخر‏ ‏من‏ ‏فوق‏ ‏ربوة‏ ‏جنته‏، ‏ولماذا‏ ‏لا‏ ‏يسمح‏ ‏لنفسه‏ ‏أن‏ ‏يشفق‏ ‏على ‏غريمه‏ ‏وهو‏ ‏يتلوى ‏فى ‏نار‏ ‏جهالته‏ ‏؟

وللعدل‏ ‏فإن‏ ‏بعض‏ ‏الفريق‏ ‏الأول‏ ‏يسمح‏ ‏بين‏ ‏الحين‏ ‏والحين‏ ‏باختراق‏ ‏المنهج

وللواقع‏ ‏أيضا‏ ‏فإن‏ ‏ندرة‏ ‏من‏ ‏الفريق‏ ‏الثانى ‏تتجاوز‏ ‏بين‏ ‏الحين‏ ‏والحين‏ – ‏فى ‏واقع‏ ‏الممارسة‏ – ‏عن‏ ‏قيود‏ ‏التفسير‏ ‏الجامد‏ ‏للنص‏.‏

فهل‏ ‏نكتفى ‏بسماح‏ ‏الأول‏ ‏يمنحه‏ ‏لنا‏ ‏بين‏ ‏الحين‏ ‏والحين‏.‏

وهل‏ ‏نرضى ‏بتغاضى ‏الثانى، ‏كل‏ ‏حين‏ ‏وحين‏ ‏أيضا‏.‏

لا‏ ‏هذا‏ ‏ولا‏ ‏ذاك‏ ‏يكفى ‏؟

فما‏ ‏هو‏ ‏الممكن‏ ‏إذن؟

أظن‏ ‏أن‏ ‏الوقت‏ ‏قد‏ ‏حان‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏أى ‏زمن‏ ‏مضى ‏أن‏ ‏ننظر‏ ‏فى ‏سائر‏ ‏وجودنا‏، ‏وأن‏ ‏نستعمل‏ ‏كلية‏ ‏فطرتنا‏ ‏ولا‏ ‏نفرح‏ -‏على ‏الجانبين‏- ‏بنمو‏ ‏عضلة‏ ‏العقل‏ ‏الظاهر‏ ‏على ‏حساب‏ ‏كلية‏ ‏الوجود‏ ‏وحقيقة‏ ‏الإيمان

نحن‏ ‏الآن‏ -‏على ‏مستوى ‏العالم‏ ‏أجمع‏- ‏نتحول‏، ‏وهذا‏ ‏التحول‏ ‏ليس‏ ‏اختيارا‏:‏الأدوات‏ ‏جاهزة‏، ‏واللغة‏ ‏متحفزة‏، ‏والمعلومات‏ ‏وافرة‏ ‏ومتدفقة‏، ‏رغم‏ ‏أن‏ ‏الإنسان‏ -‏خالقها‏ ‏جميعا‏- ‏مازال‏ ‏يتخبط‏ ‏فى ‏قيود‏ ‏بعيدة‏ ‏عن‏ ‏كل‏ ‏هذا‏.‏

ولكى ‏يواكب‏ ‏الإنسان‏ ‏هذا‏ ‏التحول‏ ‏ويتمثله‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏يدرك‏ ‏أن‏ ‏المنهج‏ ‏يتغير‏ (‏منهج‏ ‏العلم‏ ‏سعيا‏ ‏إلى ‏المعرفة‏ ‏الأعمق‏ ‏ومنهج‏ ‏التدين‏ ‏تعميقا‏ ‏للإيمان‏ ‏الأصدق‏)، ‏وأن‏ ‏القيم‏ ‏تتغير‏ ‏أيضا‏: ‏القيم‏ ‏المثالية‏ ‏والقيم‏ ‏الدينية‏ ‏والقيم‏ ‏التى ‏تسمى ‏الواقعية‏، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏الواقع‏ ‏أيضا‏ ‏وأساسا‏ ‏كيان‏ ‏يتغير‏ (‏لم‏ ‏يعد‏ ‏الواقع‏ ‏خارجنا‏ ‏كثيرا‏)، ‏والحياة‏ ‏تتحرك‏.‏

وإذا‏ ‏كان‏ ‏لنا‏ ‏أن‏ ‏نواكب‏ ‏المستقبل‏ ‏القادم‏ ‏فلا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نزعم‏ ‏أننا‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏نعرف‏ ‏إلى ‏أين‏، ‏قد‏ ‏نعرف‏ ‏آليات‏ ‏التغيير‏ (‏كيف‏ ‏نتغير‏) ‏أما‏ ‏إلى ‏أين‏: ‏فإن‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏علينا‏ -‏حالا‏- ‏أن‏ ‏نعرف‏ ‏أننا‏ ‏ذاهبون‏ ‏إلى ‏أحسن‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏منهجنا‏ ‏أحسن‏ (‏وليس‏ ‏بالضرورة‏:‏الأحسن‏)، ‏إلى ‏أحسن‏ ‏لا‏ ‏نعرفه‏ ‏بالضرورة‏، ‏فالقيم‏ ‏الجديدة‏ ‏والمناهج‏ ‏الجديدة‏ ‏لكى ‏تكون‏ ‏جديدة‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏مجهولة‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏تكون‏ ‏مقبولة‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏قابلة‏ ‏للاختبار‏ (‏بمنهج‏ ‏جديد‏ ‏عادة‏).‏

فما‏ ‏هى ‏آليات‏ ‏التغيير‏ ‏التى ‏تغيب‏ ‏عنا‏ ‏وتهددنا‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏، ‏وذلك‏ ‏رغم‏ ‏بعض‏ ‏اجتهادات‏ ‏التنويريين‏ ‏وسماحهم‏، ‏ورغم‏ ‏حسن‏ ‏نية‏ ‏وتدين‏ ‏المتدينين‏ ‏واحتمال‏ ‏رحمتهم‏ ‏؟

إن‏ ‏محاولة‏ ‏الإجابة‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏التساؤل‏ ‏هو‏ ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏دفعنى ‏إلى ‏تقديم‏ ‏هذ‏ ‏المنظور‏ ‏هكذا‏:‏

دعنا‏ ‏نتقدم‏ ‏خطوة‏ ‏أخرى ‏لعلنا‏ ‏نتعرف‏ ‏على ‏معنى ‏كلمة‏ ‏أخرى ‏اختـزلت‏ ‏وتشوهت‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏شاعت‏ ‏ولوحت‏، ‏وهى ‏كلمة‏ ‘‏الفطرة‏’، ‏فطرة‏ ‏الله‏ ‏التى ‏خلق‏ ‏الناس‏ ‏عليها‏، ‏من‏ ‏حيث‏ ‏هى ‏جسد‏ ‏و‏ ‏وعى ‏أساسا‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏عقلا‏ ‏و‏ ‏حسا‏ ‏كما‏ ‏أشعنا‏ ‏واختزلنا‏. ‏وكلمة‏ ‏الفطرة‏ ‏كثيرا‏ ‏ما‏ ‏تتردد‏ ‏إشارة‏ ‏إلى ‏مفهوم‏ ‏دينى ‏إسلامى ‏خاصة‏، ‏وكثيرا‏ ‏أيضا‏ ‏ما‏ ‏تختلط‏ ‏مرة‏ ‏مع‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏بدائية‏، ‏ومرة‏ ‏أخرى ‏مع‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏حدس‏ ‏عشوائي‏.‏

علينا‏ ‏أن‏ ‏نرجع‏ ‏إلى ‏بداية‏ ‏البداية‏ ‏منذ‏ ‏الولادة‏ ‏لنعلم‏ ‏أن‏ ‏الفطرة‏ ‏أساسا‏ ‏هى ‏جسد‏ ‏ولد‏ ‏من‏ ‏جسد

وقد‏ ‏أكد‏ ‏الدين‏ ‏الإسلامى ‏على ‏هذا‏ ‏البدء‏ ‏من‏ ‏جسدية‏ ‏الفطرة‏ ‏السليمة‏ ‏أساسا‏: (‏يولد‏ ‏الإنسان‏ ‏على ‏الفطرة‏، ‏وأهله‏ ‏يهودانه‏ ‏أو‏ ‏ينصرانه‏ ‏أو‏ ‏يمجسانه‏، ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏قد‏ ‏حدث‏ ‏بعد‏ ‏ما‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏إضافة‏ ‘ ‏أو‏ ‏يمسلمانه‏’)، ‏لكن‏ ‏الإسلام‏ ‏لم‏ ‏يكتف‏ ‏بهذه‏ ‏البداية‏، ‏وإنما‏ ‏راح‏ ‏فى ‏تعليماته‏ ‏الممارسة‏ ‏على ‏أرض‏ ‏الواقع‏ ‏يحيى ‏أولوية‏ ‏الجسد‏ ‏بشكل‏ ‏متميز‏، ‏فقد‏ ‏ربط‏ ‏الصلاة‏ ‏بحركات‏ ‏جسدية‏ ‏بذاتها‏ ‏دون‏ ‏الاكتفاء‏ ‏بدعوات‏ ‏لفظية‏ ‏وابتهالات‏ ‏كلامية‏ ‏قبل‏ ‏الأكل‏ ‏أو‏ ‏فى ‏المناسبات‏، ‏وقد‏ ‏ألزم‏ ‏أن‏ ‏تسبق‏ ‏هذه‏ ‏الحركات‏ ‏الجسدية‏ ‏فى ‏الصلاة‏ ‏طهور‏ ‏منظم‏: ‏حين‏ ‏فرض‏ ‏الوضوء‏ ‏فرضا‏ ‏مسبقا‏ ‏لصلاحية‏ ‏الصلاة‏، ‏وحين‏ ‏اشترط‏ ‏التيمم‏ ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏الوضوء‏ ‏إن‏ ‏تعذر‏ ‏وجود‏ ‏الماء‏ ‏نفى ‏أى ‏شبهة‏ ‏تسمح‏ ‏بتفسير‏ ‏الوضوء‏ ‏بالنظافة‏ ‏الظاهرية‏، ‏بل‏ ‏أكد‏ ‏المعنى ‏المباشر‏ ‏لحضور‏ -‏وتحضير‏- ‏الجسد‏ ‏لهذه‏ ‏العبادة‏ ‏المواكبة‏ ‏لحركة‏ ‏الأرض‏ (‏الشمس‏) ‏فى ‏إيقاع‏ ‏حيوى ‏منتظم‏، ‏إذن‏ ‏فالمسألة‏ ‏هنا‏ ‏ليست‏ ‏مسألة‏ ‏نظافة‏ ‏كما‏ ‏يتصور‏ ‏البعض‏، ‏وإلا‏ ‏فلماذا‏ ‏التيمم‏ ‏بالتراب‏ ‏الناعم‏ (‏الصعيد‏ ‏الطيب‏)‏؟‏ ‏المسألة‏ ‏دعوة‏ ‏للوعى ‏بالجسد‏ ‏من‏ ‏الأول‏ ‏للأخر

وقد‏ ‏تمادت‏ ‏تعليمات‏ ‏الإسلام‏ ‏فى ‏التأكيد‏- ‏غير‏ ‏المباشر‏ ‏طبعا‏-‏على ‏أهمية‏ ‏الوعى ‏بالجسد‏ ‏لعلنا‏ ‏نهتدى ‏من‏ ‏خلال‏ ‏ذلك‏ ‏لبعض‏ ‏معالم‏ ‏الفطرة‏، ‏فلا‏ ‏تكاد‏ ‏تخلو‏ ‏عبادة‏ ‏من‏ ‏العبادات‏ ‏من‏ ‏حركات‏ ‏جسدية‏ ‏بذاتها‏، ‏وقد‏ ‏نفى ‏الإسلام‏ ‏بذلك‏ ‏دونية‏ ‏الجسد‏ ‏نفيا‏ ‏قاطعا‏ ‏وحادا‏، ‏وفى ‏الحج‏ -‏مثال‏ ‏آخر‏ – ‏نرى ‏حركات‏ ‏الجسد‏ ‏وطقوس‏ ‏هذه‏ ‏العبادة‏ ‏وهى ‏تؤدى ‏بترتيب‏ ‏جسدى ‏ملتحم‏ ‏بالآخرين‏ ‏فى ‏وقت‏ ‏بذاته‏ ‏من‏ ‏العام‏، ‏تأكيدا‏ ‏لمعنى ‏الثقافة‏ ‏الحقيقية‏ ‏حين‏ ‏يصبح‏ ‏وعى ‏الفرد‏ ‏ووعى ‏الجماعة‏ ‏كتلة‏ ‏حيوية‏ ‏متراصة‏ ‏متحركة‏ ‏ذهابا‏ ‏وإيابا‏، ‏مشيا‏ ‏وهرولة‏، ‏قياما‏ ‏وقعودا‏، ‏طوافا‏ ‏وسعيا‏، ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏يؤدى ‏بأجساد‏ ‏البشر‏ ‏قبل‏ ‏عقولهم‏، ‏حتى ‏أنه‏ ‏ليكاد‏ ‏لا‏ ‏يوجد‏ ‏فى ‏الحج‏ -‏بوجه‏ ‏خاص‏- ‏دعوات‏ ‏مفروضة‏ ‏بذاتها‏، ‏أو‏ ‏نصوص‏ ‏محددة‏ ‏واجبة‏ ‏التكرار‏ ‏والإعادة‏، ‏فرادى ‏أو‏ ‏جماعات‏، ‏وكل‏ ‏من‏ ‏يمسك‏ ‏بكتيب‏ -‏فى ‏الحج‏ ‏ـ‏ ‏يتبعه‏ ‏عشرات‏ ‏أو‏ ‏مئات‏ ‏يرددون‏ ‏ما‏ ‏بهذا‏ ‏الكتيب‏ ‏من‏ ‏دعوات‏ ‏وإبتهالات‏: ‏هو‏ ‏يبتدع‏ ‏من‏ ‏نفسه‏ ‏وأكاد‏ ‏أقول‏ ‏إنه‏ ‏أحيانا‏ ‏ما‏ ‏يبتعد‏ ‏بذلك‏ ‏عن‏ ‏جسده‏ ‏أو‏ ‏وعيه‏.‏

وحتى ‏فى ‏الشهادة‏ (‏شهادة‏ ‏ألاإله‏ ‏إلا‏ ‏الله‏) ‏فإن‏ ‏استعمال‏ ‏لفظ‏ ‏الشهادة‏ ‏دون‏ ‏لفظ‏ ‏الاعتقاد‏ ‏أو‏ ‏العلم‏ ‏بـ‏: ‏هو‏ ‏استعمال‏ ‏له‏ ‏دلالة‏ ‏جسدية‏، ‏فالشهادة‏ ‏ترتبط‏ ‏بحضور‏ ‘‏الوعي‏’ ‏أساسا‏، ‏وليس‏ ‏مجرد‏ ‏معرفة‏ ‏أو‏ ‏إقرار‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏إله‏ ‏إلا‏ ‏الله‏، ‏

أما‏ ‏الزكاة‏ ‏فتدخل‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏بعد‏ ‏آخر‏، ‏ليس‏ ‏جسديا‏ ‏بالضرورة‏، ‏لكنه‏ ‏يستلزم‏ ‏حضور‏ ‘‏الآخر‏’ ‏فى ‏وعى ‏ومسئولية‏ ‏المزكى ‏بشكل‏ ‏ما‏ .‏

ويتجلى ‏دور‏ ‏الجسد‏ ‏فى ‏العلاقة‏ ‏بالآخر‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏طقوس‏ ‏أقل‏ ‏إلزاما‏، ‏لكنها‏ ‏شديدة‏ ‏الثراء‏ ‏فى ‏الدلالة‏ ‏على ‏المعنى ‏المراد‏ ‏تقديمه‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الرؤية‏ ‏التى ‏أقدمها‏، ‏فأشير‏ ‏إلى ‏موقع‏ ‏العلاقة‏ ‏الجنسية‏ ‏المشروعة‏ ‏فى ‏الإسلام‏، ‏فقد‏ ‏أعاد‏ ‏الإسلام‏ ‏إلى ‏الجسد‏ ‏شرف‏ ‏تواجده‏ ‏كأداة‏ ‏تواصلية‏ ‏فمعرفية‏ ‏بلا‏ ‏أدنى ‏دونية‏ ‏أو‏ ‏مجازية‏، ‏فالجنس‏ ‏المشروع‏ ‏فى ‏الإسلام‏ ‏هو‏ ‏عبادة‏ ‏حقيقية‏ ‏يتقرب‏ ‏بها‏ ‏الإنسان‏ ‏إلى ‏شريكه‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏الذى ‏يتقرب‏ ‏بها‏ ‏إلى ‏ربه‏، ‏فالمسلم‏ ‏يجدر‏ ‏به‏ ‏أن‏ ‏يتوضأ‏ ‏قبل‏ ‏الممارسة‏ ‏الجنسية‏ (‏ما‏ ‏أمكن‏ ‏ذلك‏)، ‏وهو‏ ‏يكبـر‏ ‏أحيانا‏ ‏وهو‏ ‏يصل‏ ‏إلى ‏قمتها‏ …‏إلخ‏، ‏فالعلاقة‏ ‏الجنسية‏ -‏إذن‏- ‏لم‏ ‏تعد‏ ‏فى ‏الإسلام‏ – ‏إجراء‏ ‏تناسليا‏ ‏لحفظ‏ ‏النوع‏ ‏أو‏ ‏لتفريغ‏ ‏الطاقة‏ ‏خشية‏ ‏الفتنة‏ ‏فحسب‏، ‏بل‏ ‏هى – ‏فى ‏صورتها‏ ‏الصحيحة‏- ‏إحياء‏ ‏لدور‏ ‏الجسد‏ ‏فى ‏التواصل‏ ‏الموضوعى ‏بين‏ ‏البشر‏ .‏

وهكذا‏ ‏يـرجع‏ ‏الإسلام‏ ‏إلى ‏الجسد‏ ‏موقعه‏ ‏الأساسى ‏فى ‏مركز‏ ‏الفطرة‏، ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏نفته‏ (‏نفت‏ ‏الجسد‏) ‏بعض‏ ‏التفسيرات‏ ‏فى ‏أديان‏ ‏أخرى ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏قضية‏ ‏المعرفة‏ ‏وكلية‏ ‏الإيمان‏.(‏مثل‏ ‏بعض‏ ‏التفسيرات‏ ‏الكاثولوكية‏ ‏مثلا‏)‏

بل‏ ‏إن‏ ‏فرويد‏ ‏المشهور‏ ‏عنه‏ ‏أنه‏ ‏أعاد‏ ‏للجنس‏ ‏دوره‏ ‏المحورى ‏فى ‏الوجود‏ ‏البشرى ‏لم‏ ‏يـعد‏ ‏للجنس‏ ‏احترامه‏، ‏وإنما‏ ‏أكد‏ ‏على ‏أهميته‏، ‏ثم‏ ‏جعل‏ ‏الحضارة‏ ‏تنشأ‏ ‏نتيجة‏ ‏للتسامى ‏عنه‏، ‏لا‏ ‏للسمو‏ ‏به‏، ‏وقد‏ ‏قيل‏ ‏عن‏ ‏نظرية‏ ‏فرويد‏ ‏هذه‏ ‏أنها‏ ‏نقلت‏ ‏الجنس‏ ‏من‏ ‏الجسد‏ ‏إلى ‏العقل ‏ ‘Sex in the mind‏

الجنس‏ ‏فى ‏الإسلام‏ ‏هو‏ ‏قمة‏ ‏الوعى ‏بالجسد‏ ‏وبالآخر‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏، ‏أو‏ ‏هو‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏كذلك‏، ‏سبيلا‏ ‏إلى ‏الوعى ‏بالخالق‏ ‏الأعظم‏، ‏وبالمعني‏.‏

إن‏ ‏المسلم‏ – ‏كل‏ ‏مسلم‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏دين‏- ‏يؤمن‏ ‏بالله‏ ‏بجسده‏ ‏منذ‏ ‏ولادته‏، ‏يفعل‏ ‏ذلك‏ ‏قبل‏ ‏ومع‏ ‏وبعد‏ ‏عقله

والمبدع‏ -‏كل‏ ‏مبدع‏ ‏حقيقى ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏أينشتين‏- ‏يفكر‏ ‏بجسده‏ ‏مع‏ ‏عقله‏، ‏وربما‏ ‏قبل‏ ‏عقله

ولعل‏ ‏أوضح‏ ‏ما‏ ‏وصل‏ ‏إليه‏ ‏الإبداع‏ ‏الفنى ‏الشائع‏ ‏احتراما‏ ‏لدور‏ ‏الجسد‏ ‏هو‏ ‏ذلك‏ ‏الدورالذى ‏يقوم‏ ‏به‏ ‏فن‏ ‏البانتوميم‏، ‏وأهم‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏لغة‏ ‏الرقص‏ ‏فى ‏أرقى ‏صورها‏ ‏التعبيرية‏ ‏

ولكى ‏أوضح‏ ‏هذا‏ ‏المدخل‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏هو‏ ‏جسد‏ ‏يتمحور‏ ‏حوله‏ ‏الوجود‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏أنفى ‏عدة‏ ‏نشاطات‏ ‏يقوم‏ ‏فيها‏ ‏الجسد‏ ‏بدور‏ ‏ظاهر‏، ‏ولكنه‏ ‏ليس‏ ‏الدور‏ ‏التكاملى ‏المعرفى ‏الذى ‏أعنيه‏ ‏هنا‏:‏

الأول‏: ‏الرقص‏ ‏المغترب‏ ‏عن‏ ‏كلية‏ ‏الوجود‏ ‏الذى ‏يستعمل‏ ‏الجسد‏ ‏منفصلا‏ ‏عن‏ ‏المعنى، ‏إذ‏ ‏هو‏ ‏نشاط‏ ‏ينفى ‏الجسد‏ ‏بدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يعيد‏ ‏له‏ ‏موقعه‏ ‏المحورى، ‏وذلك‏ ‏بتصديره‏ ‏منفردا‏، ‏مثلما‏ ‏تتصدر‏ ‏عضلة‏ ‏العقل‏ ‏منفردة‏ ‏كتابات‏ ‏المثقفين‏ (‏الذهنيين‏) ‏ومفسرى ‏النص‏ ‏الديني‏.‏

والثاني‏: ‏النشاط‏ ‏الرياضى ‏بشكله‏ ‏التنافسى ‏النرجسى ‏المعاصر‏، ‏فهذا‏ ‏نشاط‏ ‏فى ‏أغلبه‏ ‏ليس‏ ‏إحياء‏ ‏لدور‏ ‏الجسد‏، ‏كما‏ ‏أحاول‏ ‏تقديمه‏ ‏هنا‏، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏استبعادا‏ ‏واستعمالا‏ ‏للجسد‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏محدود‏ ‏وبشكل‏ ‏مغترب‏ ‏أيضا‏، ‏وهو‏ ‏نشاط‏ ‏قد‏ ‏يصل‏ ‏إلى ‏حد‏ ‏الجريمة‏ ‏الصريحة‏ (‏فى ‏رياضة‏ ‏الملاكمة‏ ‏والمصارعة‏ ‏الحرة‏ ‏مثلا‏) ‏أو‏ ‏إلى ‏حد‏ ‏النرجسية‏ ‏الشائهة‏ ‏مثل‏ ‏رياضة‏ ‏كمال‏ ‏الأجسام‏، ‏وحتى ‏تلك‏ ‏الصور‏ ‏الرقيقة‏ ‏الجميلة‏ ‏التى ‏تقدمها‏ ‏بعض‏ ‏الرياضيات‏ ‏الموهوبات‏ ‏فى ‏ألعاب‏ ‏القوى، ‏حتى ‏هذه‏ ‏الرياضة‏ ‏لا‏ ‏تـستعمل‏ ‏استعمالا‏ ‏كافيا‏ ‏للتأكيد‏ ‏على ‏البعد‏ ‏المعرفى ‏لما‏ ‏هو‏ ‏جسد‏، ‏أو‏ ‏البعد‏ ‏الإيمانى ‏لما‏ ‏هو‏ ‏توازن‏ ‏واتساق‏، ‏ففيها‏ ‏يحرص‏ ‏المدربون‏ ‏على ‏التنافس‏ ‏للفوز‏ ‏بجزء‏ ‏من‏ ‏جزء‏ ‏من‏ ‏الثانية‏. ‏ينبهر‏ ‏المشاهدون‏ ‏بالإعجاز‏ ‏البدنى ‏منفصلا‏ ‏عن‏ ‏سمفونية‏ ‏الإيمان‏ (‏الوجود‏ ‏الكلى).‏

والثالث‏: ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يحدث‏ ‏فى ‏العلاجات‏ ‏التى ‏تزعم‏ ‏التركيز‏ ‏على ‏الجسد‏ ‏مثل‏ ‏التنويم‏، ‏أو‏ ‏التدليك‏ ‏أوالعلاج‏ ‏بالرياضة‏ ‏المغتربة‏ … ‏إلخ‏، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الممارسات‏ ‏تبتعد‏ ‏عن‏ ‏الجسد‏ ‏المحورى ‏والمعرفى ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏تستعمل‏ ‏ظاهر‏ ‏الجسد‏ ‏أو‏ ‏ظاهر‏ ‏الوعى ‏منفصلا‏ ‏عن‏ ‏الوجود‏ ‏الكلى ‏المتكامل‏.‏

وبعد‏، ‏

فإذا‏ ‏كنا‏ ‏نتكلم‏ ‏عن‏ ‏إضافة‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نضيفها‏ ‏إلى ‏المسيرة‏ ‏البشرية‏ ‏استلهما‏ ‏من‏ ‏رؤية‏ ‏إسلامية‏، ‏فيجدر‏ ‏بنا‏ ‏أن‏ ‏نبدأ‏ ‏من‏ ‏أساسيات‏ ‏يحتاجها‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏مسلما‏ ‏وغير‏ ‏مسلم‏، ‏لا‏ ‏أن‏ ‏نستدرج‏ ‏إلى ‏نفس‏ ‏طريقة‏ ‏التفكير‏ ‏بعضلة‏ ‏العقل‏ ‏المنفصلة‏ ‏عن‏ ‏الجسد‏ ‏وعن‏ ‏الوعى ‏وعن‏ ‏الوجود‏ ‏الكلى، ‏وبالتالى ‏عن‏ ‏الله‏ ‏تبارك‏ ‏وتعالى (‏رغم‏ ‏استعمالنا‏ ‏لأسمائه‏ ‏سبحانه‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏أفرغناها‏ – ‏بمنهجهم‏- ‏من‏ ‏نبضها‏ ‏الساحر‏) ‏

إذا‏ ‏أردنا‏ ‏أن‏ ‏يحتل‏ ‏الجسد‏ ‏موقعه‏ ‏الذى ‏أراده‏ ‏له‏ ‏الإسلام‏ ‏فى ‏مركز‏ ‏الفطرة‏ ‏فلا‏ ‏بد‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏ندرك‏ ‏أن‏ ‏علينا‏ ‏أن‏ ‏ننشئ‏ ‏منهجا‏ ‏تربويا‏ ‏جديدا‏، ‏ننشئه‏ ‏إنشاء‏ ‏نستطيع‏ ‏من‏ ‏خلاله‏ ‏أن‏ ‏نرسى ‏للجسد‏ ‏دورا‏ ‏محوريا‏ ‏فى ‏التعبير‏ ‏والحوار‏ ‏والمعرفة‏ ‏والعلاقة‏ ‏بالآخر‏ ‏والتوجه‏ ‏إلى ‏الله‏، ‏وبهذا‏ ‏المنهج‏ ‏ومن‏ ‏خلاله‏ ‏يصبح‏ ‏الجسد‏ ‏حقلا‏ ‏معرفيا‏ ‏قادرا‏ ‏على ‏إحياء‏ ‏الفطرة‏ ‏والإضافة‏ ‏إلى ‏الوجود‏، ‏ناهيك‏ ‏عن‏ ‏دور‏ ‏الجسد‏ ‏فى ‏المشاركة‏ ‏الدورية‏ ‏الإيقاعية‏ ‏الحيوية‏ ‏فى ‏منظومة‏ ‏الحياة‏ ‏الكونية‏، ‏

وآمل‏ ‏أن‏ ‏نهتدى ‏كيف‏ ‏نجعل‏ ‏هذه‏ ‏الممارسة‏ ‏التربوية‏ ‏العملية‏ ‏قادرة‏ ‏على ‏أن‏ ‏تعبر‏ ‏الفجوة‏ ‏بين‏ ‏الروح‏ ‏فالجسد‏، ‏إذ‏ ‏تتجاوز‏ ‏هذه‏ ‏الثنائية‏ ‏الحادة‏، ‏بينهما‏.‏

والان‏، ‏جاء‏ ‏وقت‏ ‏تقديم‏ ‏أمثلة‏ ‏محددة‏ ‏فى ‏اتجاه‏ ‏ما‏ ‏أردت‏ ‏إيضاحه‏:‏

‏ ‏أعترف‏ ‏بداية‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يخفى ‏على ‏ما‏ ‏أنا‏ ‏بصدده‏ ‏وأنا‏ ‏أخاطب‏ ‏بلغة‏ ‏العقل‏ ‏التى ‏أحاول‏ ‏أن‏ ‏أحجمها‏ ‏فى ‏حجمها‏ ‏المحدود‏، ‏أخاطب‏ ‏بها‏ ‏عقولا‏ ‏تبرمجت‏ ‏على ‏ما‏ ‏هو‏ ‏ليس‏ ‏فطرة‏ ‏بحال‏، ‏لأحاول‏ ‏أن‏ ‏أصل‏ ‏إلى ‏لغة‏ ‏أخرى ‏بمنهج‏ ‏آخر‏، ‏نعم‏، ‏صعب‏ ‏أن‏ ‏أقدم‏ ‏هذا‏ ‏المفهوم‏ ‏لقارئ‏ ‏يعيش‏ ‏فى ‏مجتمع‏ ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏يستعمل‏ ‏جسده‏ ‏إلا‏ ‏للغذاء‏ ‏والإخراج‏ ‏والتناسل‏ ‏واللذة‏ ‏المغتربة‏، ‏وأحيانا‏ ‏للعرض‏ ‏والزينة‏ ‏وقتل‏ ‏الآخرين‏ ‏على ‏حلبات‏ ‏الملاكمة‏ ‏أو‏ ‏فى ‏حوار‏ ‏سياسى ‏بين‏ ‏مسدسات‏ ‏السلطة‏ ‏و‏ ‏عربات‏ ‏الإرهاب‏ ‏المفخخة‏,‏

ولكن‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏من‏ ‏محاولة‏ .‏

ولتكن‏ ‏البداية‏ ‏بعرض‏ ‏ثلاثة‏ ‏أمثلة‏ ‏تحدد‏ ‏موقع‏ ‏الجسد‏ ‏من‏ ‏المعرفة‏ ‏والمنظومات‏ ‏الفكرية‏ ‏وحركة‏ ‏النمو‏ ‏والتناغم‏ ‏الكلي‏: ‏

‏ ‏المثال‏ ‏الأول‏ ‏من‏ ‏الحصيلة‏ ‏العلمية‏ ‏المتاحة‏، ‏والثانى ‏من‏ ‏الممارسة‏ ‏العملية‏ ‏الجارية‏، ‏والثالث‏ ‏استلهما‏، ‏وليس‏ ‏تفسيرا‏، ‏من‏ ‏التراث‏ ‏الإسلامي

أولا‏: ‏من‏ ‏منظور‏ ‏علمى ‏

منذ‏ ‏لامارك‏ ‏والفكر‏ ‏التطورى ‏يتأرجح‏ ‏بين‏ ‏إقرار‏ ‏وراثة‏ ‏بعض‏ ‏العادات‏ ‏المكتسبة‏ ‏واستحالة‏ ‏ذلك‏ ‏إلا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏طفرات‏ ‏تكاد‏ ‏تكون‏ ‏عشوائية‏ ‏يحكم‏ ‏استمرارها‏ ‏قوانين‏ ‏لاحقة‏، ‏ودون‏ ‏الدخول‏ ‏فى ‏تفاصيل‏ ‏فقد‏ ‏ظلت‏ ‏المشكلة‏ ‏فى ‏تفسير‏ ‏كيف‏ ‏يمكن‏ ‏للعادات‏ ‏المكتسبة‏ ‏التى ‏قد‏ ‏تغير‏ ‏التركيب‏ ‏النيورونى ‏فى ‏الدماغ‏ (‏أساسا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏المطاوعة‏ ‏النيرونية‏ Neural Plasticity (‏التى ‏تعنى ‏إحداث‏ ‏تغير‏ ‏دائم‏ ‏فى ‏تركيب‏ ‏الخلايا‏ ‏العصبية‏ ‏الدماغية‏ ‏نتيجة‏ ‏لمؤثرات‏ ‏بيئية‏ (‏وظاهرة‏ ‏البصم‏ Imprinting (‏التى ‏تحدد‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏سلوك‏ ‏النوع‏ ‏يظهر‏ ‏دون‏ ‏تعلم‏، ‏مما‏ ‏يستتبع‏ ‏أنه‏ ‏انتقل‏ ‏بالوراثة‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏اكتسب‏ ‏للبقاء‏).. ‏كيف‏ ‏يمكن‏ ‏لهذا‏ ‏التغيير‏ ‏فى ‏خلايا‏ ‏المخ‏ ‏أن‏ ‏ينتقل‏ ‏إلى ‏الخلية‏ ‏التناسلية‏ ‏المسئولة‏ ‏عن‏ ‏الانتقال‏ ‏إلى ‏الأجيال‏ ‏السابقة‏ ‏؟

هنا‏ ‏لابد‏ ‏من‏ ‏الإعتراف‏ ‏بأن‏ ‏البرمجة‏ ‏التى ‏تمت‏ ‏بطبع‏ ‏السلوك‏ ‏بيولوجيا‏ ‏على ‏خلايا‏ ‏المخ‏ ‏أساسا‏: ‏هى ‏قادرة‏ ‏على ‏الانتقال‏ ‏من‏ ‏خلايا‏ ‏المخ‏ ‏إلى ‏الخلايا‏ ‏التناسلية‏، ‏أو‏ ‏هى ‏قد‏ ‏طبعت‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏على ‏سائر‏ ‏الخلايا‏، ‏إذ‏ ‏ما‏ ‏الذى ‏يمنع‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‘‏الطبع‏’ ‏قد‏ ‏تم‏ ‏فى ‏كل‏ ‏خلايا‏ ‏الجسد‏ ‏عامة؟‏ ‏بما‏ ‏فيها‏ ‏الخلايا‏ ‏التناسلية؟‏ ‏وعلى ‏ذلك‏ ‏يصبح‏ ‏الجسد‏ ‏البشرى ‏كله‏ ‏مخزنا‏ ‏للذاكرة‏ ‏الوراثية‏ ‏على ‏الأقل‏، ‏ولا‏ ‏يوجد‏ ‏ما‏ ‏يمنع‏ – ‏بالقياس‏ – ‏من‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏مخزنا‏ ‏للذاكرة‏ ‏السلوكية‏ ‏أوالمعرفية‏، ‏كما‏ ‏ثبت‏ ‏قبل‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏دودة‏ ‏البلانوريا‏ ‏التى ‏ينتقل‏ ‏التعلم‏ ‏الذى ‏تعلمته‏ ‏حلقات‏ ‏هذه‏ ‏الدودة‏ ‏من‏ ‏حلقة‏، ‏تعلمت‏ ‏ارتباطا‏ ‏شرطيا‏ ‏بذاته‏، ‏إلى ‏أخرى ‏لم‏ ‏تتعلم‏ ‏هذا‏ ‏الارتباط‏، ‏ينتقل‏ ‏سواء‏ ‏بالتغذية‏ (‏إذا‏ ‏أكلت‏ ‏دودة‏ ‏لم‏ ‏تتعلم‏ ‏حلقات‏ ‏دودة‏ ‏تعلمت‏ ‏هذا‏ ‏الارتباط‏ ‏الشرطى)، ‏أو‏ ‏بتقطيع‏ ‏الجسد‏، ‏وإذا‏ ‏انفصلت‏ ‏حلقة‏ ‏متعلمة‏ ‏عن‏ ‏حلقة‏ ‏لم‏ ‏تتعلم‏، ‏فإن‏ ‏الأخيرة‏ ‏تنمو‏ ‏دودة‏ ‏جديدة‏، ‏وتظهر‏ ‏أنها‏ ‏اكتسبت‏ ‏نفس‏ ‏الخبرة‏، ‏وهذه‏ ‏التجارب‏ ‏كلها‏ ‏كانت‏ ‏لإثبات‏ ‏أن‏ ‏الذاكرة‏ ‏تقع‏ ‏فى ‏ترتيب‏ ‏الحامض‏ ‏النووى ‏لخلايا‏ ‏الجسد‏ ‏عامة‏.‏

فالجسد‏ – ‏إذن‏- ‏هو‏ ‏تركيب‏ ‏يمثل‏ ‏ويتمثل‏ ‏المعنى ‏مثل‏ ‏الدماغ‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، ‏وبقدر‏ ‏ما‏ ‏يتغير‏ ‏الترتيب‏ ‏النووى ‏للجسد‏ ‏تأثرا‏ ‏بالتغير‏ ‏الذى ‏حدث‏ ‏فى ‏خلايا‏ ‏المخ‏، ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يتغير‏ ‏التركيب‏ ‏الخلوى ‏الدماغى ‏نتيجة‏ ‏لتغيرات‏ ‏جذرية‏ ‏دالة‏ ‏فى ‏خلايا‏ ‏الجسد‏، ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏لاحظناه‏ ‏فى ‏المثال‏ ‏العملى ‏التالي‏.‏

ثانيا‏: ‏من‏ ‏مدخل‏ ‏عملى ‏إكلينيكى ‏

عندنا‏ – ‏نحن‏ ‏الأطباء‏ ‏النفسيين‏- ‏مرض‏ ‏وأمراض‏ ‏يكون‏ ‏فيها‏ ‏الفكر‏ ‏متصلبا‏ ‏تصلبا‏ ‏يجمد‏ ‏معه‏ ‏الوجود‏ ‏كله‏ ‏وذلك‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏الضلال‏ ‏الثابت‏ ‏أو‏ ‏الوسواس‏ ‏القهرى، ‏وهذا‏ ‏بعض‏ ‏التصلب‏ ‏المرضي‏.‏

ولا‏ ‏يمكن‏ ‏تغيير‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏المنظومات‏ ‏الفكرية‏ ‏الثابتة‏ ‏عند‏ ‏المريض‏ ‏بالإقناع‏، ‏ولا‏ ‏بالمهدئات‏ ‏العظيمة‏ ‏التى ‏لا‏ ‏تفعل‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏تخفيها‏ ‏تحت‏ ‏قشرة‏ ‏من‏ ‏الهمود‏ ‏الساكن‏.‏

وفى ‏محاولة‏ ‏علاج‏ ‏تنشيطى ‏فى ‏مستشفى ‏للمجتمع‏ ‏العلاجى ‏لاحظنا‏ ‏أنه‏ ‏بتحريك‏ ‏الجسد‏ – ‏بالعدو‏، ‏والذكر‏ ‏الإيقاعى ‏أثناء‏ ‏العدو‏، ‏والهرولة‏، ‏والاقتحام‏ ‏الصدمى، ‏والعرق‏، ‏ورفض‏ ‏الرتابة‏، ‏والبلبططة‏ ‏فى ‏البحر‏ (‏وليس‏ ‏العوم‏ ‏التنافسى) – ‏لا‏ ‏حظنا‏ ‏أنه‏ ‏بتحريك‏ ‏الجسد‏ ‏بكل‏ ‏هذه‏ ‏الوسائل‏، ‏نستطيع‏ ‏أن‏ ‏نتعتع‏ ‏المنظومة‏ ‏الفكرية‏ ‏الضلالية‏، ‏فتكون‏ ‏أسهل‏ ‏فى ‏التناول‏ ‏والتمثل‏ ‏فى ‏كلية‏ ‏الوجود‏ ‏المتناغمة‏ ‏إذ‏ ‏تذوب‏ ‏فى ‏حركة‏ ‏بسط‏ ‏جديدة‏، ‏فرجحنا‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏فشلنا‏ ‏فيه‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الحوار‏ ‏الفكرى ‏قد‏ ‏نجحنا‏ ‏فيه‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏التحريك‏ ‏والقلقلة‏ ‏الجسدية‏، ‏

وثمة‏ ‏مدخل‏ ‏آخر‏ ‏إلى ‏تحريك‏ ‏وخلخلة‏ ‏الفكر‏ ‏المتجمد‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏تحريك‏ ‏الوعى ‏وذلك‏ ‏باستعمال‏ ‏علاج‏ ‏يسمى ‏علاج‏ ‏الحرمان‏ ‏من‏ ‏النوم‏، ‏حيث‏ ‏يعمل‏ ‏الحرمان‏ ‏من‏ ‏النوم‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏تعتعة‏ ‏نمطية‏ ‏الإيقاع‏ ‏الحيوى ‏المغلق‏ ‏الدوائر‏، ‏فإذا‏ ‏بالجسد‏ ‏يستجيب‏ ‏بدرجة‏ ‏كافية‏ ‏تسمح‏ ‏له‏ ‏باستعادة‏ ‏الإيقاع‏ ‏الحيوى ‏الليلنهارى circadian rhythm ‏ بحركيته‏ ‏المفتوحة‏، ‏ومن‏ ‏خلال‏ ‏هذه‏ ‏التعتعة‏ ‏الجسدية‏ ‏الدماغية‏ ‏معا‏، ‏تنفك‏ ‏المنظومة‏ ‏الفكرية‏ ‏الثابتة‏([3]).‏

وقد‏ ‏أتاحت‏ ‏لنا‏ ‏هذه‏ ‏التجربة‏ ‏العملية‏ ‏أن‏ ‏نشاهد‏ ‏الجسد‏ ‏وهو‏ ‏يشارك‏ ‏فى ‏احتواء‏ ‏تصلب‏ ‏الفكر‏، ‏ثم‏ ‏وهو‏ ‏يـقلـقـل‏ ‏فيتعتــع‏ ‏الفكر‏، ‏ثم‏ ‏وهو‏ ‏يعاد‏ ‏تنظيمه‏ ‏بطريقة‏ ‏أكثر‏ ‏مرونة‏ (‏أقل‏ ‏تصلبا‏) ‏فى ‏كل‏ ‏من‏ ‏الجسد‏ ‏وخلايا‏ ‏الدماغ‏ ‏على ‏حد‏ ‏سواء

ثالثا‏: ‏من‏ ‏قراءة‏ ‏فى ‏التراث‏ ‏الإسلامي

‏ ‏ملحوظة‏ ‏بادئة‏ ‏سوف‏ ‏أنتهى ‏بها للتأكيد‏: ‏

إن‏ ‏هذه‏ ‏القراءة‏ ‏ليست‏ ‏تفسيرا‏ ‏علميا‏ ‏لحديث‏ ‏شريف‏، ‏بل‏ ‏لعل‏ ‏العكس‏ ‏هو‏ ‏الصحيح‏، ‏فقد‏ ‏ظل‏ ‏هذا‏ ‏الحديث‏ ‏يحيط‏ ‏بى، ‏ويتردد‏ ‏فى ‏وعيى، ‏ويطل‏ ‏من‏ ‏عمق‏ ‏ذاكرتى ‏إلى ‏وعيى ‏العلمي‏: ‏حتى ‏هدانى ‏إلى ‏فهم‏ ‏أعمق‏ ‏لما‏ ‏هو‏ ‏ذاكرة‏، ‏وإلى ‏استحالة‏ ‏الإلحاد‏ ‏بيولوجيا‏ -‏أنظر‏ ‏بعد‏-، ‏فأنا‏ ‏ضد‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏التفسير‏ ‏العلمى ‏للدين‏ ‏أ‏ ‏و‏ ‏القرآن‏، ‏لاختلاف‏ ‏المنهج‏، ‏وسطحية‏ ‏التناول‏)‏

يقول‏ ‏رسول‏ ‏الله‏ ‏صلى ‏الله‏ ‏على ‏وسلم‏ ‏ما‏ ‏معناه‏: ‘‏صهيب‏ ‏مؤمن‏ ‏نسى، ‏إذا‏ ‏ذكر‏ ‏ذكـر‏، ‏خلط‏ ‏الإيمان‏ ‏بلحمه‏ ‏ودمه‏، ‏ليس‏ ‏للنار‏ ‏فيه‏ ‏نصيب‏’.‏

إذن‏ ‏فثمة‏ ‏فرض‏ ‏يفترض‏ ‏وجود‏ ‏ذاكرة‏ ‏تعلن‏ ‏سلامة‏ ‏هارمونية‏ ‏الخلية‏ ‏نفسها‏، ‏ولا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏للإيمان‏ ‏علاقة‏ ‏وثيقة‏ ‏بهذه‏ ‏الذاكرة‏، ‏فإذا‏ ‏علمنا‏ ‏أنه‏ ‏بغير‏ ‏هذا‏ ‏التنظيم‏ ‏الهارمونى ‏الحيوى ‏تموت‏ ‏الخلية‏، ‏لأنها‏ ‏لا‏ ‏تعود‏ ‏مؤمنة‏ ‏أى ‏متسقة‏ ‏مع‏ ‏النظام‏ ‏الفطرى ‏المتواصل‏ ‏مع‏ ‏النظام‏ ‏الكونى ‏لأمكن‏ ‏تصور‏ ‏أن‏ ‏استمرار‏ ‏حياة‏ ‏الخلية‏ ‏يشترط‏ ‏إيمانها‏، ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏دعانى ‏فى ‏فرض‏ ‏آخر‏ ‏أن‏ ‏أزعم‏ ‏أن‏ ‏الإلحاد‏ ‏ظاهرة‏ ‏مستحيلة‏ ‏بيولوجيا‏*، ‏وأن‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يملكه‏ ‏الإنسان‏ ‏لكى ‏يلحد‏ (‏أو‏ ‏لكى ‏يسمى ‏ملحدا‏) ‏هو‏ ‏أن‏ ‏يفصل‏ ‏عضلة‏ ‏عقله‏ ‏عن‏ ‏حيوية‏ ‏ذاكرته‏ ‏هذه‏ ‏المتواجدة‏ ‏فى ‏الخلية‏ (‏وبالذات‏ ‏فى ‏نظام‏ ‏جزئى ‏الـ‏: ‏د‏.‏ن‏.‏أ‏.DNA (، ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏المدعى ‏الإلحاد‏ ‏يروح‏ ‏يملأ‏ ‏وعاء‏ ‏عقله‏ ‏المنفصل‏ ‏عن‏ ‏إيمان‏ ‏خلاياه‏ ‏بمنظومة‏ ‏تجريدية‏ ‏مرموزة‏، ‏ليس‏ ‏لها‏ ‏علاقة‏ ‏بحيوية‏ ‏الجسد‏ ‏أو‏ ‏هارمونية‏ ‏الفطرة‏، ‏أما‏ ‏الخلية‏ ‏الحية‏ ‏فتظل‏ ‏حية‏ ‏مؤمنة‏، ‏أى ‏هارمونية‏ ‏متناغمة‏ ‏ممتدة‏ ‏فى ‏كليات‏ ‏أكبر‏ ‏فأكبر‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏الغطاء‏ ‏الذهنى ‏المعقلن‏ ‏الحاجز‏ ‏الفاصل‏ ‏بين‏ ‏الوعى ‏والإيمان‏.‏

‏ ‏وعلى ‏ذلك‏ ‏فإن‏ ‏الإيمان‏ ‏إنما‏ ‏يقاس‏ ‏بالمساحة‏ ‏الفاصلة‏ ‏بين‏ ‏هارمونية‏ ‏إيمان‏ ‏خلايا‏ ‏الإنسان‏ ‏الحية‏ ‏وبين‏ ‏وعيه‏ ‏الإرادى، ‏وكذا‏ ‏يقاس‏ ‏بمدى ‏سهولة‏ ‏التواصل‏ ‏بين‏ ‏هذين‏ ‏المستويين‏،، ‏وإذا‏ ‏كان‏ ‏الحديث‏ ‏المذكور‏ ‏يرينا‏ ‏كيف‏ ‏يختلط‏ ‏الإيمان‏ ‏باللحم‏ ‏والدم‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏تفرزه‏ ‏رموز‏ ‏الألفاظ‏ ‏وقواعد‏ ‏العقيدة‏، ‏وإذا‏ ‏كانت‏ ‏النار‏ ‏لا‏ ‏تقترب‏ ‏من‏ ‏الخلية‏ ‏المؤمنة‏، ‏حتى ‏لو‏ ‏انفصلت‏ ‏عن‏ ‏الذاكرة‏ ‏الظاهرة‏، ‏كما‏ ‏يشير‏ ‏الحديث‏ ‏الشريف‏، ‏فإن‏ ‏معنى ‏ذلك‏ ‏حتما‏ ‏أن‏ ‏المطلوب‏ ‏للحفاظ‏ ‏على ‏نقاء‏ ‏الفطرة‏ ‏أن‏ ‏نقرب‏ ‏المسافة‏ ‏بين‏ ‏الوجود‏ ‏الجسدى ‏والوعى ‏الإرادى ‏من‏ ‏جهة‏، ‏وأن‏ ‏نحافظ‏ ‏على ‏سهولة‏ ‏الانتقال‏ ‏بينهما‏ ‏فى ‏مرونة‏ ‏ويسر‏ (‏إذا‏ ‏ذكر‏ ‏ذكر‏) ‏من‏ ‏جهة‏ ‏أخرى، ‏

‏ ‏وبعديـن

لا‏ ‏يخفى ‏على ‏أحد‏ ‏أن‏ ‏المسألة‏ ‏برمتها‏ ‏ليست‏ ‏مسألة‏ ‏توصية‏ ‏علمية‏، ‏أو‏ ‏فرضية‏ ‏أكاديمية‏ ‏تتطلب‏ ‏التحقيق‏ ‏بمنهج‏ ‏لا‏ ‏يناسبها‏، ‏ولكنها‏ ‏دعوة‏ ‏إلى ‏انقلاب‏ ‏كامل‏ ‏فى ‏طريقة‏ ‏التربية‏، ‏وتوظيف‏ ‏العبادات‏، ‏وتغيير‏ ‏المنهج‏ ‏الفكرى ‏والعلمى .‏

فالمطلوب‏ ‏لتنقية‏ ‏الفطرة‏ (‏أى ‏تعميق‏ ‏الإيمان‏) ‏أن‏ ‏نحرص‏ ‏من‏ ‏البداية‏ ‏على ‏تنشئة‏ ‏الإنسان‏ ‏بأقل‏ ‏قدر‏ ‏من‏ ‏الاغتراب‏، ‏وأفسح‏ ‏مساحة‏ ‏للحركة‏، ‏وبأكثر‏ ‏النظم‏ ‏مرونة‏ ‏لتحريك‏ ‏وتدريب‏ ‏الإبداع‏ ‏بلا‏ ‏قيود‏ ‏من‏ ‏خارجه‏، ‏وهذا‏- ‏كمثال‏- ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يهتم‏ ‏به‏ ‏علماء‏ ‏التربية‏ ‏المسلمون‏ – ‏إبتداء‏ – ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏لهم‏ ‏أن‏ ‏يضيفوا‏ ‏شيئآ‏ ‏غير‏ ‏محاكاة‏ ‏من‏ ‏يعترضون‏ ‏عليهم‏، ‏وغير‏ ‏سجن‏ ‏عقولهم‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏منهجهم‏.‏

‏( ‏ملحوظة‏ ‏مكررة‏: ‏هذا‏ ‏ليس‏ ‏تفسيرا‏ ‏علميا‏ ‏لحديث‏ ‏رسول‏ ‏الله‏، ‏لكنه‏ ‏رؤية‏ ‏متواضعة‏ ‏استلهمتـها‏ ‏مباشرة‏ ‏من‏ ‏نص‏ ‏نابض‏)

 ‏خلاصة‏ ‏القول‏:‏

‏(1) ‏إن‏ ‏ثمة‏ ‏تشابها‏ ‏شديدا‏ ‏بين‏ ‏المعتقدين‏ ‏الدينيين‏ ‏وبين‏ ‏المنهجيين‏ المعقلنين.

‏(2) ‏إن‏ ‏كلا‏ ‏الفريقين‏ ‏قد‏ ‏أهمل‏ ‏كثيرا‏ ‏من‏ ‏الوسائل‏ ‏المعرفية‏ ‏الشاملة‏ ‏لحساب‏ ‏تقوية‏ ‏قشرة‏ (‏عضلة‏) ‏العقل‏ ‏المسجونة‏ ‏فى ‏المنهج‏ ‏الكمى ‏المغترب‏. ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏يعيق‏ ‏ويهدد‏ ‏تكامل‏ ‏الإنسان‏ ‏هذه‏ ‏الأيام‏ ‏خاصة‏ ‏

‏(3) ‏إنه‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏للإسلام‏ ‏أن‏ ‏يضيف‏ ‏فلا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏يضيف‏ ‏ما‏ ‏ينفع‏ ‏البشر‏ ‏جميعا‏ ‏بما‏ ‏ينقـى ‏الفطرة‏ ‏ويواكب‏ ‏العصر‏ ‏وليس‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏فرض‏ ‏تفسيرات‏ ‏مجمدة‏، ‏إنتهت‏ ‏مدة‏ ‏صلاحيتها‏، ‏إن‏ ‏المنهج‏ ‏الآخر‏ ‏والأشمل‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يعطى ‏المشروعية‏ ‏لأى ‏احتمال‏ ‏فى ‏إسهام‏ ‏معرفى ‏إيمانى ‏حقيقى ‏ينفع‏ ‏البشر‏ ‏جميعا‏.‏

‏(4) ‏إن‏ ‏إعادة‏ ‏توظيف‏ ‏الجسد‏ ‏كوسيلة‏ ‏معرفية‏ ‏بادئ‏ ‏ذى ‏بدء‏، ‏وكذلك‏ ‏إعادة‏ ‏النظر‏ ‏للوعى ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الجسد‏ ‏وليس‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏قشرة‏ ‏العقل‏ ‏سوف‏ ‏يدفعنا‏ ‏للبحث‏ ‏عن‏ ‏تربية‏ ‏أكثر‏ ‏توافقا‏ ‏مع‏ ‏الفطرة‏ ‏النقية‏، ‏كما‏ ‏قد‏ ‏يفتح‏ ‏لنا‏ ‏أفاقا‏ ‏فى ‏مناهج‏ ‏البحث‏ ‏و‏ ‏المعرفة‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏تصور‏ ‏حدودها‏ ‏حالا‏.‏

‏(5) ‏إن‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏أسميه‏ ‘ ‏إحياء‏ ‏الجسد‏’ ‏سوف‏ ‏يحرك‏ ‏مسيرة‏ ‏الإبداع‏ ‏فى ‏اتجاهات‏ ‏قادرة‏ ‏على ‏استيعاب‏ ‏أدوات‏ ‏المعرفة‏ ‏الجديدة‏ .‏

‏(6) ‏إن‏ ‏كل‏ ‏المعلومات‏ ‏الوافرة‏ ‏والمتزايدة‏ ‏والمرتبطة‏ ‏بما‏ ‏يسمى ‏الثورة‏ ‏المعلوماتية‏- ‏إذا‏ ‏لم‏ ‏تتمحور‏ ‏حول‏ ‏الوجود‏ ‏الكلى ‏الفطرى ‏للإنسان‏ ‏حيث‏ ‏يحتل‏ ‏الجسد‏ ‏مركزه‏- ‏سوف‏ ‏تصبح‏ ‏تهديدا‏ ‏للوجود‏ ‏البشرى ‏بالإنقراض‏، ‏وليست‏ ‏إضافة‏ ‏له‏ ‏للتقدم‏.

وبعد

فلا يخفى على أحد أن المسألة برمتها ليست مسألة توصية علمية، أو فرضية أكاديمية تتطلب التحقيق بمنهج لا يناسبها، ولكنها دعوة إلى انقلاب كامل فى طريقة التربية، وتوظيف العبادات، وتغيير المنهج الفكرى والعلمى.‏

[1]- أشرت سابقا إلى ضرورة التحلى بالحذر من الاستعمال الشائع والرائج لكلمة “المثقفين” أو “التنويريين” والبداية هنا تشير ابتداء إلى هذا الاستعمال الشائع وليس إلى المضمون التاريخى أو الإيجابى، ثم يتطور الأمر كما سترى.

[2]- أنا لا أتكلم عن كل أفراد الفريقين طبعا، ولكن فقط عن الوجه السلبى الذى أنبه إليه أغلب هؤلاء، وأولئك، وكنت أود أن أضيف كلمة شبه (أى شبه المثقف) وشبه (أى شبه المسلم) ولكننى عدلت.

[3]- يحتاج الأمر إلى إيضاح أكثر، لكن المساحة والغرض المحدود لا يسمحان، فنكتفى بإضافة تذكرة أن الوعى هو حالة بيولوجية معرفية معا، وهو إحاطة بالجسد والعقل فى احتواء واحد، وأن تجمد الفكر أو تجمد الجسد أو كليهما يقابلهما انغلاق دورات (لليلينهارية- النوم يقظية – الحلم نومية) إلخ وحين تصبح دورات معلقة أولها فى آخرها تماما تتجمد الحركة رغم ظاهر الدوران، فى حين أنه فى الحالات العادية (وأكثرها كثيراً فى الحالة المرنة والمبدعة) تقوم هذه الدورات الحيوية بدفع النمو والإبداع، والمراد هنا و التركيز على أن جمود الجسد يقابل جمود الفكر يقابل انغلاق دورات الوعى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *