الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الطبنفسى الإيقاعيوى التطورى (171) الفصام: مغارة الضياع ووعود الإبداع الفصام: الباب المقفول الذى وراءه “كل شىء” (1)

الطبنفسى الإيقاعيوى التطورى (171) الفصام: مغارة الضياع ووعود الإبداع الفصام: الباب المقفول الذى وراءه “كل شىء” (1)

نشرة “الإنسان والتطور”

نشرة الأحد: 12-3-2017

السنة العاشرة

العدد: 3480   

 الطبنفسى الإيقاعيوى التطورى (171)

الفصام: مغارة الضياع ووعود الإبداع

الفصام: الباب المقفول الذى وراءه “كل شىء” (1)

فكرة هذا العنوان هى مستلهمة من يوجين بلويلر وهو أول من أطلق اسم الفصام (سنة 1912) على ما كان يسمى قبله  – حسب كريبلين – “العته المبكر”، كان بلويلر يصف الفصامى وغموضه وكلامه شبه الفلسفى على  أنه “باب مغلق ليس وراءه شىء”، وقد كان يعنى أن غموضه الظاهرى الذى يبدو كأنه يتفلسف بعمق حتى يطلق عليه ما يسمى أفكار “شبه فلسفية”Pseudophilosophical thoughts   هو غموض سلبى زائف، لأنك إذا ما غصت فيه فلن تجد إلا هُلامية التفكير وتشتته، وهو ما وصفه بلويلر “باللاشىء”.

 العنوان هنا يكاد يشير إلى عكس ذلك، وهو أن هذا الباب المقفول لو أحسنا التعامل معه، وعرفنا كيف نفك شفرته: فإننا سوف نعرف من خلال ذلك “كل شىء” وهذا هو ما ذكرته تقريبا فى نشرة 12-11-2016.

“…. إن فهمنا للفصام، وإدراكنا لطبيعته وأبعاده وحركيته ومداه، سواء  ظللنا نسميه الفصام أو فضلنا أن نسميه الجنون، هى بداية لفهمنا للإنسان وللحياة، وعلى من يكسب الشجاعة أن يضيف: وللموت ولما بعده“.

هذه النقلة شديدة الأهمية لأنها تعنى أن علينا أن نغوص فى غائية الفصام وفى معنى أعراضه وأن نتعلم لغته الخاصة، لا أن نفرض عليه أحكامنا وأوصافنا ومفاهيمنا بلغتنا المنظومية التى غالبا هو قد هرب من خوائها بالنسبة لك على الأقل.

هذا لا يعنى إطلاقا أننى أدافع عن اختيارات الفصامى أو حلوله المرضية الفاشلة، وإنما أنا أدعو إلى احترام بداية حركيته وفهمها بقدر كافٍ يساعد أن نغير مسارها حتى لا يدفع ثمنها تدهورا أكثر فأكثر، وعلينا ألا نساهم فى الاسراع بهذا التدهور: إما بأن نفرض عليه لغة لـَفـِظـَها بمرضه، وإما باختزاله إلى خلل كيميائى بحت تحت لافته تشخيصية خانقة.

 كل ما أريد التذكير به هو:

إن الفصام فى نهاية النهاية هو المرض الأجدر تمثيلا لما يسمى “الجنون”، وإن حركية  الجنون عموما هى  مشروع  حفزٍ دائم ألا نُجَنْ، الإقرار بذلك يفتح لنا آفاقا رحبة نحو التعرف أعمق وأصدق على الفطرة البشرية، كما إن هذا التعرف هو من الزم ما يلزم الإنسان فى رحلته كوحدة مؤقتة فى هذا الكون المترامى طولا وعرضا إلى آفاق واعدة، أن هذا التعرف – بالنسبة لى على الأقل – حالا، مع التخوف من سوء التأويل هو أقرب ما يكون إلى ما هو “إقرأ”.

إن هذا الأمر من ربنا “إقْرَأْ ” هو هدية ورحمة، بقدر ما هو طريق معرفة وحمل مسئولية وأمانة ما نقرأ، وأننا إذا وجدنا سبيلا لنحسن “قراءة” ما أمرنا أن نقرأه كما خلقنا، سوف نتعرف، خصوصا أثناء النقلة بين الصحة والمرض ذهابا وإيابا: على ما خلقنا به وما خلقنا لأجله بطريقة أفضل، ويمكن أن يسمح هذا بوضع كل معلوماتنا الفرعية السليمة من كل حدب وصوب، وبكل لغة فى موضعها الصحيح لصالح المريض وصالحنا:…إليه!

 ثم إن من يسلِّم من النفسيين  بحركية وأصل وجوهر الفصام وكيف أنه مرض  الأمراض وأنه كارثة التسليم للتفسخ والعدم، وفى نفس الوقت هو أصل دفع الإبداع ، وحفـْزُ حركية الطبيعة البشرية النابضة، سوف يجد طريقا أكثر موضوعية للقيام بواجبه ومساعدة مرضاه بما ينبغى، كما ينبغي. كما أنه سوف يجد طريقه الشخصى أكثر إضاءه وإن كان أصعب، لكنه أشرف وأطيب.

 تنبيه:12-3-2017

إننى كلما قدمت لكلامى عن الفصام بمثل هذا الفهم الذى يحمل جرعة من الاحترام ودعوة للدفاع، غلب الظن على المتلقى أننى أنتمى إلى المدرسة المناهضة للطب النفسى  antipsychiatry، وهى مدرسة ظهرتْ فى أوائل الخمسينات واستشررتْ حتى منتصف السبعينات أو بعدها، وكانت تمثل ثورة جامحة لها علاقة بالمآسى التى عانتها أوربا والعالم من الحرب العالمية الثانية، وقد كتبتُ عن هذه المدرسة، واحترمت أسباب وظروف ظهورها واستمرارها بعض الوقت، إلا أننى حذرت منها تحذيرا صريحا لا شبهة فيه،  ففضلا عن انفصالها تماما عن الممارسة المسئولة، وفضلا عن شجبها لمعظم أو كل أنواع العلاجات الضرورية والمنقذة للمرضى النفسيين كافة، فإنها تمادت فى اتجاه تجريدى أحيانا، تنظيرى كثيرا، واستـُدْرِجَت إلى توجُّه سياسى غالبا،  فابتعدت عن حقيقة مأساة المرض، ومسئولية التطبيب، والمشى على الصراط للخروج بالمريض إلى الفاعلية والتكيف، وليس إلى مثالية  زائفة، أو ثورة مجهضة.

إن احترام الفصامى ومحاولة فهم غاية ما تقوله أعراضه سواء من منطلق تطورى أو من منطلق ثورى احتجاجى (فاشل) لا يعنى اطلاقا التصفيق لهزيمته أو الدفاع عن تماديه فى سلبياته، وإنما هو دعوة للحاق به فى مراحله التى تسمح بتحويل المسار لتحقيق ما أراد إن استطعنا أن نكتشف فيه إرهاصات ثورة أو مشروع إبداع ولكن بأساليب صحيحة وإبداع متميز ما أمكن ذلك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *