كتاب: ورطة قلم

  • الأهداء والمقدمة
  • الجزء الأول: القصة النقد: قصة فى قطار
  • الجزء الثانى: المقال القصة:التقرير.. والتوقيع
  • ولو!!!!
  • الذراع والحزام
  • دبّرنى يا وزير!!!
  • عين وصابت
  • قاب قوسين أو أدنى
  • اللعبة والملعوب

ورطة قلم

د. يحيى الرخاوى

لماذا الأعمال المتكاملة؟

عجزتْ أداة واحدة أن تستوعب “القول الثقيل” الذى حمّلتنى إياه رؤيتى، من خلال الجدل الحى بين ذاتى ومرضاى ودنياىَ، فلجأتُ إلى كل ما أتيح لى من أنغام وأشكال، لكننى لم أكتب إلا مسودات، لذلك كنت أنوى أن يكون العنوان”الأعمال الناقصة” وخاصة أن ترجمة  Collected worksأوCollected papers هى “مجموعة أعمال” أو “مجموعة أوراق” فلان، وليس الأعمال الكاملة، الأمر الذى لا ينبغى أن يسمى كذلك أو ينشر بهذا الاسم، إلا بعد أن يكف صاحبها عن العطاء، أو عن الحياة.

ثم قبل ذلك وبعد ذلك: هل يكتمل شئ أبدا؟

وحين آن أوان الحسم، قررت أن تخرج كل المحاولات كما وصلتْ إليه، ولتكتمل بعدُ أو تتكامل مع غيرها. فكان هذا العنوان “الأعمال المتكاملة” أملا فى أن يكون جمّاع المحاولة هو “توجُّهٌ ضام، حولَ محورٍ ما”.

يحيى الرخاوى

مقدمة:

حين قررتُ الظهور بعد أن اقتربت الساعة، جمعت قصصى القصيرة التى نُشرت والتى لم تنشر، فوجدت بينها قصصا أشبه بالمقال. كما نظرت فى بعض مقالاتى فوجدتها مقالات أشبه بالصور القصصية. فجعلت منها الجزء الثانى وسمّيتها باسم آخر ما كتبت من هذا النوع من الكتابة “اللعبة والملعوب”،(مجلة سطور عدد 40 مارس 2000) وهى المحاولة التى جرّبت فيها التناوب بين غلبة النصفين الكرويين، حيث نشرت فى صورتها التقليدية بعنوان ” ماذا بعد أن لعبنا معا لعبة الألفية الأهرام فى: 18/1/ 2000 (التى أوردتها فى الهامش)، ثم جمعت إلى هذا الجزء ما شابهه مما سبق نشره.

أما الجزء الأول ففيه شهادة كاتب يمارس النقد أحيانا، قدّمها وهو يمر بتجربة كتابة قصّة طويلة، أو رواية قصيرة فى وقت محدد، كنوع من التجريب التأمّلى المتوازى مع فعل الإبداع

فلعل هذا العمل بجزئيه يمثل عرض جانب من ممارسة خاصة لفعل الإبداع أكثر من دلالة محتواه.

الجزء الأول

شهادةٌ فى قصة  ليست قصيرة!!

الورطة

قصة فى قطار”[1]

على المقهى الذى فى ميدان سيدى جابر، بعد شريط الترام وأنت ذاهب نحو المحطة توجد قهوة كبيرة ماسكة ناصيتين، جلس على الرصيف فى الظل ووجهته ناحية الترام، لا ناحية المحطة، مع أنه فى المرّة السابقة كان يجلس ووجهه للمحطة، وراح ينظر إلى ناحية القطار كل قليل، وكأنه سيراه وهو قادم فيجرى ليلحق به، بدا وكأنه لم يصله خبر أن الأمور تغيرت، وأن قطارات هذه الأيام لا تحتاج إلى الحدْس ومباريات الجرى، كلّه تمام بالدقيقة، شئ فرنساوى، وشئ توربينو، وشئ أسبانى، مصلحة السكك الحديد المتحدة، ثم إنه لمّا تجوّل المرة التى فاتت اكتشف منطقة لم يكن قد تجوّل فيها من قبل، توجد هذه المنطقة على الناصية المقابلة، الناحية الثانية من شريط الترام، مطعم صغير أمامه شوّاية الفراخ بروائحها التى هى، هذه أيامها بعد حكاية جنون البقر، ثم فرن جميل نظيف تتصاعد منه رائحة الطزاجة الدافئة. هو يحب الخبز هكذا دون غموس (الخبز الحاف)، فى جولة سريعة المرة السابقة، تعرف على المكان وكأنه مسافر إلى الخارج يكتشف حوارى بلد متوسط على الطريق ـ مثلا ـ من تركيا إلى اليونان، هذه المرّة لفّ نفس اللفّة وكأنه يتأكد أنه قد أصبح له حق مواطَــنة وطن جديد اسمه “سيدى جابر” لا يحتاج الأمر إلى دخوله أية إجراءات أو تأشيرات، شوارع ضيقة نسبيا، وعمارات متوسطة قديمة منتصبة فى ثقة وهى تتحاور فى همس، ومحلات بسيطة ونظيفة وصغيرة، وانحناءات غير متوقعة، ثم إنه عرف كيف يوحّد الاتجاه رغم الانحناءات التى تصل إلى الزاوية الحادّة، يسار فى يسار فى يسار تجد نفسك ثانية على شريط الترام أمام بورصة كذا (لم يعد يهتم بالأسماء بعد أن تكرر نسيانها) والبورصة ـ كما خيل إليه فى لغة الإسكندرانية ـ تعنى القهوة، ناس يجلسون مع بعضهم البعض، ناس بحق وحقيق، لا ينتظرون القطار، أى قطار، فقط يجلسون ويتصايحون ويلعبون ويتكلمون ويضحكون، والله زمان، هو ليس من رواد المقاهى أصلا، وقته لا يسمح، ومع ذلك، والله زمان، كله من هذه السيارات، وخاصّة هذه السيارة الأخيرة ذات المقعدين، فصلته عن الناس، كيف يمكن أن يتربى الأولاد بلا احتكاكات فى الأتوبيس، وبلا بحث عن الفكّة فى جيوبهم ثم حوار مع المحصّل يعنى (“الكمسارى”؟!) وكان قد تعمّد، بعد أن كبر الأولاد واستقلّوا، شراء هذه السيارة الشبابى لا ادعاءً للشباب وإنما تجنّباً أن يركّب أحداً معه، سواء من أولاده أو من المارة الذين يشيرون بأيديهم أحيانا فيخجل هو من المقاعد الخالية، ومع ذلك لا يقف لهم، وأيضا هو نجح أن يقاوم إلحاح أولاده وزوجته أن يوظف سائقاً خاصّا يليق بدخله ويوفر وقته. نقوده القادرة على تعيين سائق خاص كادت تحرمه حتى من الاختلاء بنفسه فى السيارة وهو يستمع إلى إذاعات لندن والإذاعات الأخرى التى تكرهها زوجتة، فهى تعتقد أنها إذاعات متخصصة فى نشرات الأخبار المليئة بالقتل والغم والحوادث، هذه السيارة، كل السيارات، أصبحت حاجزاً فوق الحواجز بينه وبين الناس، ومع ذلك فهو يحب هذه السيارة حبا جما رغم كل شئ، “اثنين صُحبة، ثلاثة زحمة”، قولٌ “خواجاتي” سخيف، أثناء جولته هذه المرّة وقف أمام الدكان الصغير على ناصية أحد الانحناءات الحادة، أمام الدكان ثلاجة بها “آيس كريم”، فتحها وتناول منها قمع البسكويت الذى يحبّه رغم قشرة الشيكولاته التى لا يحبها، دولسيكا بالبسكويت، هو لا يحب البوظة أم عصا، أصبح قمع الدولسيكا بجنيه، هذا هو الشئ الذى استطاع أن يتابع أسعاره فى السنوات الأخيرة، 35 قرشا، ثم 50 قرشا، ثم 65 قرشا، ثم هُبْ قفزة إلى الجنيه الصحيح، إنه لا يشترى ـ شخصياً ـ شيئاً بنفسه، وهو لا يحتاج إلى شئ، وبالتالى لا يعرف إلى أين وصلت الأسعار هذه الأيام، ثم إنه لمح كراريس على الرف الداخلى للمحل، هذه أيضا من الأشياء التى كان يشتريها من سنوات قبل حكاية الكومبيوتر،”أرخص كرّاسة لو سمحت”، متوسطة، ورق أى كلام لو سمحت، غلاف عادى لو سمحت، ما الحكاية؟. لو سمحت لو سمحت لو سمحت، المهم، اشترى الكراسة، لماذا اشترى الكراسة؟ هذا أمر فى علم الغيب حتى هذه اللحظة، اشتراها بجنيه أيضا؟ نفس ثمن الآيس كريم، ثم إنه فرح فرحاً مناسباً، بغير سبب ظاهر، الكراسة بجنيه و الـ”جيلاتي” بجنيه، مثل زمان، دومة بمليم، وعسلياية بمليم، وقرطاس لب بمليم، وتتبقى نكلة، والكراسة (زمان) 32 صفحة كنظام وزارة المعارف العمومية بنكلة، أو تعريفة حسب الورق، هو لا يحب تذكّر الماضى بحنين خاص، ولكنه لا يستطيع أن يحول دون الشعور بهذا الحنين الخاص رغم اختلاطه بمشاعر متداخلة من المذلة والضعف والحيرة والوحدة، نعم والوحدة، منذ هذه السن المبكرة، انقطعت علاقته بالتسوق تقريباً فيما عدا هذه الـ” دولسيكا ” وبعض الكشاكيل التى توقف عن شرائها بسبب صديقه الجديد،الحاسوب، ما أسخف الاسم، هو الكمبيوتر وخلاص، فحتى أسعار الكراريس والكشاكيل توقف عن تتبعها، وهو قد اكتفى بإعطاء زوجته مبالغ أكثر من المطلوب حتى يوفّر على نفسه الشكوى من الأسعار، ومع ذلك فهى لا تكف عن تذكرته، وهو يزوغ، وهى لا تكف،”فيم تـتكلم إذن إذا لم تتكلم فى الأسعار”، يا ستى خلّ الهم لأصحابه، نحن قادرون والحمد لله، فتنبرى زوجته تحاول أن تـُفَهمه أنها تتكلم من أجل المهمومين، هكذا مرة واحدة؟ طيب كيف؟”؛ إن كثرة الكلام عنهم تجعلنا ننساهم، أعنى قد تجعلنا ننساهم. نعم؟ نعم؟ خلاص، لا أقصد، بل تقصد. أستغفر الله العظيم، آخر كشكول اشتراه كان بعدّة جنيهات، أغلى من روايات نجيب محفوظ، كان كبيراً ومرسوماً عليه صورة ولد من الأولاد المغنيين أو الراقصين (لم يعد هناك فرق)، وحين طلب غلافا سادة لم يجد، فاكتفى بغلاف عليه ميكى ماوس، مع أنه يحب أكثر توم وجيرى، وزوجته تواصل الحديث عن الأسعار، وهو لا يستطيع أن يجد ردودا مناسبة كل مرة، وهذه المرّة الأخيرة اكتفى بأن يزوم وهو يهز رأسه، فتمادت ظانّة أنه فهم ويتابع، فيتمتم، فتتمادى، فيزوم مرة أخرى بطريقة أخرى، فتتمادى وهى تحدثه عن الناس المساكين جدا، وتبدى من أنواع الشفقة ما لا يجوز، وهى تؤكد أن الحديث عن الجوعى والمساكين هو مسئولية كل متحدث،وذلك حتى لا ننساهم، يا حرام. كذا؟. وهكذا تلقى عن كاهلك كل شئ بمجرد أن تحكيه، هذا رأيه. يا سبحان الله، نحن نخفّض الأسعار بالكلام، نبنى مساكن للشباب بالكلام، ونروى لهم الأفدنة الصحراوية التى ضحكنا عليهم بها فتاجروا فيها ما دامت بدون ماء، بالكلام، يبدو أن الكلام مهم جدا فعلاً !! ماشى، كلام الناس هو الرأى العام؟ الرأى ماذا ولا مؤاخذة؟. الرأى العام: يعنى الرأى العام، ماذا فى هذا؟. ألم نتفق على التوقف عن المعايرة، وفارس مالبورو ينظر إليه من الإعلان الكبير الموجود على حائط العمارة المقابلة، والله هذا الفارس أرحم من تلك الراقصة على غلاف الكشكول اياه، على الأقل هو فارس يذكرنا بشهامة موقف الفرسان الذين لا يطعنون فى الخلف، ثم إن هذا الفارس بالذات يوصيك بالنكهة، حلوة النكهة هذه، وهو لم يعد يدخّن من أصله، فلماذا اشترى الكراس؟ وما علاقة هذا بذاك؟. عجيبة. عموما هو طالع فى مقدَّر جديد، منذ قرر أن يستقل القطار ذهاباً وإياباً إلى الإسكندرية التى يحبها جداً، يحبّها أكثر مما يحبها إدوارد الخرّاط وطبعا أكثر من يوسف شاهين، من أين له أن يعرف؟. من فرط حبه لها، لا يوجد أكثر من هذا، فراح يستعيد أشياء صغيرة رائعة كان قد هجرها بسبب الثراء والعربات والجرى وراء الجرى، وراء الجرى، وراء الجرى، وراء… (كفي. الله!!)، لكن هذه الكراس التى اشتراها بغير قصد تحل فى وقت غير مناسب، وكأنها تريد أن تستفرد به بعيدا عن غريمها الكمبيوتر، ذلك الصديق الجديد العظيم القادر النذل، قال اسمه الحاسوب قال!! يستأهل هذا الاسم بدلا من الكمبيوتر ما دام هو بكل هذه النذالة، لكنه مع نذالته صديق، حين تصادق نذلا وأنت تعرف ذلك لا يحبطك تخلّيه أو تصدمك أنانيته، فتطول الصداقة، وقد حال هذا الكمبيوتر بينه وبين أصحابه القدامى مثل أقلام الحبر الجاف المتعددة الألوان الرفيعة السن جدا، وكافة أنواع الكراريس، ولكنّه ظل محتفظا بصداقة الأقلام الرصاص والأساتيك (جمع أستيكة لأنى لم أعرف جمع ممحاة، هل هو ممحايات أم مَمَاحٍ)، هذا الصديق النذل (الحاسوب) شفاهُ من عشق القلم والورق معاً، واختصت الأقلام الرصاص بشخبطة الكتب التى يقرؤها،الكمبيوتر صديقٌ حقيقى له حضور، يلقى عليه تحية الصباح، وأحيانا يضغط على زرّه وهو ذاهب إلى دورة المياه ليسمع زنّة الفتح الرقيقة، ثم يغلقه دون أن يعمل عليه بعد أن ينظر فى شاشته الفضية بحنان، ومع ذلك فهو صديق نذل أيضا، ولن أقول لكم لماذا! مقالبه يحتملها بكل صبر، مع أنها أحيانا تكون باردة وغادرة، يعاتبه، أو يعاقبه، أحيانا بأن يرفض أن يغطّيه بغطائه وهو خارج بعيدا عنه، كما أنه إذا غضب منه، أو عليه، لا يمسح عنه التراب ولا يربت عليه حين يبدأ العمل، نفس الشكوى كانت تشكو منها زوجته، فهو لم يملّس على شعرها إلا مرّات قليلة فى استجابة غير عفوية لمطلب غامض أشبه بالشروط السرية فى معاهدة استسلام، أشياء كثيرة صغيرة شديدة الأهمية فى الأنس والمداعبة، لم يتعلم منذ الصغر كيف يتقنها، مع أنه على يقين من أنها ضرورية، وأنها أهم من الأشياء الكبيرة التى لا يتقنها أيضا، يعتذر لابن حزم بكل خجل لعجزه عن الألفة والإيلاف، لماذا أسمى كتابه “طوق الحمامة؟. الرقة لا تباع ولا تشترى يا أخى، يشفق على زوجته بقسوة ويتساءل: لم قبـِلَـتْه ما دام هو هكذا؟ ظلمت نفسها هذه السيدة.

ـ تمسح يا بيه؟.

والله زمان.

زمان، كانت الكراريس وحدها هى التى “كنظام”، وهو لم يعرف أبدا ما هو نظام وزارة المعارف العمومية التى تحذو حذوها هذه الكراريس، وكان يتصوّر أنه إذا اشترى كراسة مكتوباً عليها “وزارة المعارف العمومية” من غير “كنظام”، فإنها فى الأغلب ستكون مغشوشة؛ فالأصل فى الكراريس أنها كنظام، أما تلك الكراريس بدون”كنظام” فلا أحد يعرفها، تأكد من ذلك وهو يقرأ مُثُل أفلاطون يبدو أنه كان عنده حق حين نبّه أنه حتى السرير ليس إلا “كنظام” السرير الذى هو “فوق”، فى عالم مُثُـل سيدنا أفلاطون بالصلاة على النبي، حلوة حكاية السرير هذه[2]،. كل شئ الآن أصبح “كنظام” وخصوصا الكمبيوتر ولكنهم قلبوا كلمة كنظام إلى “كومباتِيبُل”، السبق الذى حققته جمهورية مصر العربية هى أنها نجحت أن تعيش بدون نظام أصلا، وهذا شئ مصرى شديد الخصوصية، فكل شئ يسير بنجاح غامض الأسباب فى هذا البلد العجيب، لا أحد يجوع فعلاً، ولا أحد يثور، ولا أحد يتعلّم، ولا أحد يأخذها جدا، وكلّه ماشي؛ فالقطارات تأتى فى مواعيدها، والمجارى تجرى فى مجاريها، والجسور تمتد إلى غايتها فتزداد البلد ازدحاما من باب البركة، معجزة هذه والله العظيم، قوانين هذا الشعب لم تُكتشف بعد.

ـ شكراً يا ابنى شكراً، لا، شكراً.

قدّر أنه لو وافقه فإن القطار قد يفوته مع أنه مازالت أمامه عشرون دقيقة، والمسافة بين مقعده فى القهوة ـ كما قاسها المرة الماضية ـ وعتبة القطار هى دقيقتان وعشرون ثانية، ياسلام!. ما كل هذه الدقّة؟. ثم من أدراه؟ ـ ثارت هواجسه وهذا جزء من طبعه السرى ـ من أدراه أن هذا الفتى سيأخذ الحذاء وُيرجعه، تبقى فضيحة أن يذهب إلى القطار بالجورب. زمان (تاني؟!) كان ماسح الأحذية يمسح الحذاء وأنت لابسه، وهات يا كلام ودود من هنا وهناك، كان له دور مسامر لطيف، أخف دما من الحلاق، لماذا يتقن ماسح الأحذية الحديث ويتفننَّ فيه أكثر من أى حلاق؛ ربما لأنه يجلس مستريحا على الأرض وهو يحكى، رأيتَ كيف يؤثر وضع الجسد فى السلوك و التفكير، يا أخى، سبحان الله، الآن ماسح الأحذية يخلع عنك حذاءك، يضع تحت قدميك ورقة كارتون مليئة بالألوان المختلفة لكنّها جافّة لا تصبغ جوربك، اطمئن، ومن لم يعتد مثل هذا التخلى عن حذائه ولو بشروط معلنة مسبقا، لا يمكن أن يطمئن إن كان حذاؤه سيرجع له أم لا، طبعا هذا كلام فارغ، فلا بد أن صاحب القهوة والعمّال بها يعرفون هذا الفتى ماسح الأحذية، وإلا لما سمحوا له.

ـ لا يا ابنى، قلت شكرا، أكثر الله خيرك.

نظر إلى الكرّاس الجديد وهو قابع على المنضدة، لم يكن قد وضعه بعد فى الحقيبة الوحيدة الخفيفة التى يحملها، لماذا اشتراه؟ وماذا يمكن أن يفعل به؟ اشترى معه قلماً جافاً، رينولدز الفرنسى الصنع، حتى الأقلام نستوردها، راح الكراس يقول شيئا همسا، حنين قديم، أشبه بالعتاب، لا مشاكل (تعبير مستورد جديد لن أقوله لك بالإنجليزية)جلد الكراس خشن، وله رائحة مثل رائحة ورق اللحم، ترى هل مازالوا يبيعون اللحم فى ورق أثقل من وزن اللحم؟. جلدة الكراس عليها نقوش غامضة كان لونها ينوى أن يكون “بمبياً!” ثم عدَل، كان الغلاف زمان (كل حاجة زمان زمان؟. هذا الأسلوب هو من علامات الكهولة، وهو ليس كهلا بعد،والمصحف ليس كهلا)، ظهر الغلاف كان مدرسة نصائحية متحركة، دمّها خفيف، ولا أحد يطالبك بتنفيذها على أرض الواقع، قارَنَ ما كان يكتب على ظهر الكراس مثل: “اغسل يديك قبل الأكل وبعده” أو “لا تؤخر عمل اليوم إلى الغد”، بتلك الفتاوى التى يطلقها هذا الطبيب النفسى جدا فى التليفزيون إثر سؤال مشكل، تذكر وهو يبتسم كيف كان يقول لا فضّ فوه، دون أى تردد أو تفكير أصلا: إن الأبحاث الأحدث أثبتت أنه على “الأم أن تحب ابنها”، أما الأبحاث الأكثر حداثة فهى تؤكد أن “الطالب وهو يذاكر لابد أن يركز؛ لأن هذا من أهم الوظائف النفسية للعقل البشري”!!!، الله يخرب بيوتكم، لم يسارع إلى الاستجابة للنصيحة غير المكتوبة على ظهر هذا الكراس الحديث الذى لم يصادقه بعد، راح ينظر فى حقيبته فلمح ما كان مصدرا آخر للغيظ، ذلك أنه كان قد أخذ معه رواية جديدة اسمها عطلة رضوان، ومؤلفها اسمه عبده جبير، مؤلف يسمع عنه كل خير واجتهاد، وقد قرأ هو هذه الرواية بإصرار لا مثيل له،ثم قال لنفسه بالعافية، إنها رواية رائعة وتغيظ، أقولها بملء فمى حتى لا يزعل، ولكننى متأكد أن المؤلف حين يبلغه ذلك، إذا بلغه، سوف يتذكر كلمة تغيظ ولن يتذكر كلمة رائعة، كان ما يغيظه زمان أن يحل محل النصائح خفيفة الظل على ظهر بعض الكراسات جدول الضرب الصغير والكبير بأرقامهما المزدحمة وبينهما خط مائل لا يفض الاشتباك، أما جدول الضرب الصغير فنحن نحفظه عن ظهر قلب فما لزومه، أما جدول الضرب الكبير فهذا هو التحدّى الرائع الذى يغيظ غيظا أقل من غيظه من عطلة رضوان 21*21 =441، 21*31=651، لا لا لا، إلا هذا، وهم يعرفون تماما أن أحدا لن يتخطّى هذين الرقمين، فلماذا يشغلون نصف ظهر الكراس بهذه الأرقام مثل أرقام الميزانية فى مجلس الشعب، قال ماذا؟. زيادة الدخل القومى، والألعن أن الولايات المتحدة الأمريكية مدينة لا أدرى بكم تريليون دولار، يا صلاة النبى، مدينة لمن؟ لا تدري.كلام، رغم حبكته، يضحكون به على الناس ويغيظونهم فى نفس الوقت مثل عطلة رضوان، ومثل جدول الضرب الكبير ثم يكمّلون عليهم بقصيدة النثر، والذى يشتم إنما يشتم نفسه، هكذا كنا نوقف مباراة التراشق بالسباب أطفالا،” كل ما تقوله على الآن هو عليك يا سعيد يونس يا غراب الآن، هيه !! “، فيتوقف سعيد يونس غراب خوفا من التورط فى سب نفسه، المفروض أن الأدباء ناس طيبون، وعليهم أن يرحموا الناس من جدول الضرب الكبير، ومن ديون أمريكا ولا مؤاخذة، أما أن يأتوا بكل قسوة وإخلاص ليكملوا على ما تبقى لنا من منطق وأمل بقصيدة النثر هذه، فالله يسامحهم، أنا مازلت أرجح طيبتهم، لذلك فأنا واثق كل الثقة (أقول كل الثقة) من أنهم سوف يرحموننا فى يوم من الأيام، الله يخلّيهم، استعراض عضلات هو؟ تناصّ طبعا، هو يعلم مدى تواضع معلوماته وفقر أبجديته الخاصة بهذا التخصص، موقفه محدد ومتواضع من البداية، مثل موقفه قديما من جدول الضرب الكبير، كان منظر هذا الجدول قيمة، لكن هو ماله هو؟ للمليك اهتفوا، يا نسور الحمى، للمليك اهتفوا، دائماً دائماً، زه، فه، ته، يه، زفتى زفتى زفتى، لا لم تكن أياماً سعيدة كما تحاول أن تثبت لنا سامية الإتربى ويحيى تادرس، كانت أياما فقط، حكايات المقاهى هذه (فصّّحتها بالقصد)، ليست هى، رغم أنها مليئة بالحكايات التى هى، ملآنة آهات، ودموع وأنين، الله يرحمِك يا ست، يعنى، بلا زمان بلا كلام فارغ، من يـُرد أن يعيش يـَعش الآن، ومن لا يعجبه يذهب إلى زمان ويريحنا، حتى الآثار، سواء فى مصر أو أثناء الترحال، لا يحب أن يزورها، إنه لم يزر المتحف المصرى حتى الآن، أى والله العظيم، يخشى ألا يستطيع أن يتحمّل مسئولية تاريخه إذا رآه رأى العين، يخشى أن تقوم المومياء التى كانت أم نجيب محفوظ لا تكل من زيارتها وهى تصحبه معها طفلاً، يخشى إن زار هو هذه المومياء إذا زارها ووقف قبالتها أن تلتقط عدم احترامه لمن حنّطها، فتخرج له لسانها، أو قد يكتشف ـ ليس يدرى كيف ـ أن توت عنخ آمون كان شاذاً جنسياً، أو أن يرصّهُمْ له رمسيس الثانى أربعة أربعة، يعايره، وقد يحاكمه، مع أنه غير مسئول عن هزيمة 1967 إلا بقدر فرحته وهو فى سنة تانية جامعة بالحركة المباركة، لو كان يعرف أنهم سوف يجرسونا هكذا بعد 15 عاما لمنع نفسه من ذلك الفرح حتما، هل يستطيع الآن بعد كل هذا العمر، وما جرى، وما يجرى أن يتراجع عن فرحته تلك حتى يعفى نفسه من مسئولية الهزيمة، لا عامر ولا الغول، عبد الناصر المسئول، بيان 30 مارس، وحسنين هيكل فجأة يكف عن ذكر عبد الناصر ونشر صوره فى الأهرام استعدادا للقادم الجديد، خيبك الله يا زكريا يا بن محيى الدين،، لماذا لم تلقِ بيانك من فورك وتأمر بالقبض عليه لمحاكمته، وقد تثبـُت براءته، وقد تحدد مسئوليته بحجمها لا أكثر، وقد يكون فى ذلك بداية كلام آخر، وتاريخ آخر، كل شئ ينسى بعد حين. لا أبدا، كلام فارغ، مازال طعم مرارة الهزيمة، وقبضة القلب تعاوده بعد ثلاثين عاما بالتمام كلما ذكر صوت أحمد سعيد. ثم إنه يرفض نغمة “العديد” هذه بكل ما أوتى من عقل وحزم، ولكن بلا فائدة، مسئول غير مسئول هو ماله، ما جرى جرى يا أخى، المصيبة أن ما جرى يجرى، ما زال يجرى، لم يمح نصر 73 مرارة الهزيمة، مع أنه كان نصرا بجد، إلا قليلا، ملعون أبو الثغرة، فيها ماذا؟ العبرة بالخاتمة، وهى زين والحمد لله على الرغم من قول الحاقدين أنه باع النصر، قال يعنى هم الذين اشتروه !!! كيف اجتمع طعم النشوة المنعشة بالنصر مع طعم المرارة الخبيث دون أن يمحو الأول الآخر؟ هذا شئ، وهذا شئ،. الذاكرة المصرية لها قوانينها الخاصة مثل اقتصاد الشعب المصرى وتاريخه.

ـ قرِفة من فضلك، سكّر كثير لو سمحت.

هو يشرب القهوة سادة، مزاج، ليس بسبب مرض السكرى المصاب به كل أفراد عائلته، إلا هو، إيش عرّفه؟ لطعم البن مرارة جميلة فكيف يلغيها بمذاق السكر، ثم إنه يرفض أن يحلل، نعم: كل عائلته عندهم هذا المرض، لكنه لن يحلل، هو حر، الله !!. من عاش بالحكمة مات بالمرض، مثلٌ سخيف وكاذب، كثير من الأمثال تقوم بعمليات تبرير ألطف وأتفه من بيانات الحكومة كل عام، لقد توقف عن شرب القهوة مؤخراً بدون أى سبب، هكذا والسلام، مرّت عليه تجارب كثيرة من هذا النوع لم يجد لها تفسيراً، شئ يعمله لمدة سنوات طويلة، وفجأة ينظر إليه من بعيد، ويسأل نفسه، ماذا لو كففت عنه؟. ويكف، وهو الكـففان، المنضدة أمامه تغريه، والكراس تناديه فى همس به دلال كان قد نسيه حتى أنكره، والقلم جاهز. وهو لم يقرر أبدا أن يكف عن كتابة القصة، لكنه كفّ، كفّ دون قرار.

والله فكرة.

لماذا لا يكتب قصة قصيرة ممطوطة؟. يجرّب فيها نفسه، قصة ممطوطة بطول الطريق بالضبط؟ يعنى على شرط أن تنتهى قبل وصوله إلى القاهرة، هو لم يكتب إلا الرواية الوحيدة إياها، ثم راح يرسم قصصاً فى صفحة أو صفحتين هى أقرب إلى الصور الذاتية المحسومة (لا يعرف لماذا استعمل كلمة محسومة هنا بالذات، ثم إنه أبى أن يشطبها فى المراجعة كما تلاحظ). فليكتب هذه القصة الجديدة احتفاءً بالكراس الجديد، ونكاية بالصديق الحاسوب الطيب النذل القابع فى حجرته ينتظره فى لهفة، وابتسم وكأنه يبتسم لأحد، ثم اتسعت ابتسامته، هل هو أقل من هذا المسئول الكبير الذى ينشرون له هذه الأيام قصصا كتبها فى سن التاسعة عشرة (هو الذى يقول) فى صحيفة واسعة الانتشار لها طبعة دولية، لقد ظلّوا يلاحقونا بها أسابيع متتالية دون حياء. اتسعت ابتسامته رغم الملاحقة حتى كاد يضحك، نظر حوله خوفاً من أن يكون قد ضحك فعلاً بصوت عال، ولكن ما الذى أضحكه، أقول لكم:

فقد حاول أن يلخّص ثلاث قصص من قصص أوراق هذا المسئول الكبير، مع أنه لم يستطع أن يقرأ إلا قصّتين وربع قصّة بالعافية، ومع ذلك فقد صرّح مصدر مسئول (مصدر ثقافى إعلامى متحدث شبه رسمى مجهول الإسم) أن هذه الصحيفة الكبرى سوف تجمع هذه القصص فى كتاب يصدر قريباً، أى والله. وفيها ماذا؟ بطلوا حقد، سوف أوجز لكم ثلاث قصص ولتحكموا بأنفسكم.

أما القصة الأولى فهى أن “واحدا أحب واحدة، ثم تقدم لأهلها ليتزوجها، فلم يرضوا به، فزعل”.

انتهت القصة الأولي.

أما القصة الثانية فهى أن “الواحدة هذه المرّة هى التى أحبت الواحد، ولم تتزوجه أيضا فزعلت جداً جداً جداً”.

انتهت القصة الثانية.

وابتسم ابتسامة أخرى غير الابتسامة الأولى التى زرّ عليه فيها الضحك؛ ذلك أن الابتسامة الثانية كانت مثل ابتسامة النقاد الذين يريدون أن يجاملوا بعض الأصدقاء، ولا مانع، لأن المجاملة هذه من أساسيات التليين..، حسب كلام د. حسن وجيه[3]، من باب التليين الاجتماعي والنقد معا، ترجم ابتسامته النقديه الثانية إلى ما يلى:

إن القصة الأولى ليست تكراراً بحال (شفت بحال هذه؟) للقصة الثانية، صحيح أن تبادل الأدوار لم يفرق كثيراً حيث توحّدت النهاية (خل بالك أيضا من توحّدت)، ذلك لأن الواحدة التى أحبت الواحد فى القصة الثانية لم تتزوج هذا الواحد لأن أهله رفضوا (مقابل رفض أهل الواحدة التى فى القصة الأولى) ولا لأن أهلها هى هم الذين رفضوا، ولكنّها لم تتزوجه لأنه ببساطة ـ لم يتقدم لأهلها أصلا، ولم يكن من المعقول فى تلك الأيام (أيام أن كان المسئول الكبير عنده 91 سنة) أن تتقدم هى لخطبته، وهذا هو سبب عدم الزواج، ثم لاحظ ـ سيدى ـ أن الواحد فى القصة الأولى زعل فقط، أما فى القصة الثانية فالواحدة زعلت جداً جداً جدا (ثلاث مرّات لا مرتين ولا واحدة ولا بدون، مثل الـ”بدون” فى الكويت)[4]، وهذه إضافة نوعية؛ لأن المسألة ليست مسألة “كم” فقط، وإن كانت لفظ “جدًّا” تفيد الكم، ولكن المؤلف أراد أن يريك كيف ينقلب الكم كيفا دون تغيير فى البنية الأساسية (أى والله)، ثم إنه، من منطلق التعمق فى اللمحات الفنية غير المقصودة علنا، ترك لخيال القارئ الفرصة لاستنتاج كل ذلك،

يا نهاراً أسودَ من أوّله، لقد وعد بتلخيص (ونقد بالمرّة) ثلاث قصص، ولم يقدّم إلا قصتين، ماذا سيقول عليه القارئ، نَضِبَ معينه؟. أو رُفع قلمه، أو رُبِطَ والعياذ بالله مثلما يربط العريس فى ليلة الدخلة فى بلدنا. لا لا هذا لا يصح، خذ عندك: (تذكر أنه لم يقرأ إلا قصتين، “طيب شوف الثالثة”[5]، عظمة يا ست وردة الله).

تقول القصة الثالثة (فى الأغلب)، وضع يده على فمه يخفى ابتسامة ثالثة من النوع العادى وليست من نوع ابتسامات النقاد، ثم أردف: أما القصة الثالثة فتقول: إن واحدا لم يحب واحده.. وكان يتمنى أن يحبها، لكنّها تزوجت غيره، مع أنها أيضا لم تحبّه أصلاً (لم تحب الواحد وليس زوجها)، وخلاص.

وقبل أن ترتفع الضحكة وتبقى فضيحة، وماسح الأحذية لا ييأس من تكرار المحاولة، وربنا يستر، أحلّ ابتسامة الناقد محل ابتسامة الحاقد (هذه الكلمة ـ الحقد ـ وردت من قبيل الاحتياط، من يدرى ماذا يحمل اللاشعور من بلاوٍ، وخاصة أننا لم ندخل بعد فى منطقة تيار الوعى العميق الذى يمكن أن يكشف عن خفايا هذا الحقد وغيره من دناءات النفس البشرية، وربنا يستر على الوَلاَيا من تأويلات سيجموند فرويد البهلوانية التى كان يخفى بها جوعه الذى لا ينتهى للتقدير والحريم الأقرب[6]. نجح فعلا أن يُحل ابتسامة الناقد محل ابتسامة الحاقد، وهو لم يقل حلّت ابتسامة كذا محل كيت، فانتبِهْ، لأن “ثَمَّ” فرقاً بين أحلّ، وحلّتْ، ثم إنه راح ينقد وينقد:

إن هذه القصة (الثالثة) أكثر تعقيدا من سابقتيها، وهى أكبر من قدرات المسئول الكبير فى سن 91 سنة لأنها تثير فى المتلقى قدرا من الدهشة وإعمال (الهمزة تحت الألف) الفكر، وهذا مما لا يتناسب مع ما يتميز به قلم الكاتب الشاب الموهوب من بساطة ومباشرة، هذه القصة الثالثة لا بد أنها تنتمى إلى الموجة الجديدة التى أصبحت قديمة، والتى يسمّونها الحداثة، وهى ليست مجرد ماهو “قبل” ما “بعد الحداثة”، لأن بعد هنا لا تفيد التتابع وإنما التعديل والتجاوز، ما بعد الحداثة هو تجاوز الحداثة، الحداثة معدّلة، مثل العربات التى هى، وأيضا التى ليست هى، إيش عرّفه هو فى هذه الأمور الخاصة بأصحابها جدا، لا الحداثة ولا ما بعد الحداثة من الأمور التى يسمح للعامة أمثاله أن يخوضوا فيها، ليست أى منهما بدعة، ولا ضلالة، لكننا نحن الذين لا نستأهل الخير، ليس إلى هذه الدرجة، فنحن لا ندوس الطعام الذى يوضع لنا بدل أن نأكله كما تقول آية الكتاب المقدس، نحن فقط لا نقدّر الحداثة حق قدرها، لأننا ـ ببساطة ـ لا نعرف قدرها، هذه هى الحكاية، ألم تلاحظ المؤلف وهو يستعمل تعبير “وكان يتمنى أن يحبها” والتمنى هنا غير الترجى لأنه ـ عادة وليس دائما ـ يطلق على ما يستحيل تحقيقه، ولم يقل الكاتب الشاب الذى أصبح مسئولاً كبيراً، إنه كان يتمنى أن يتزوجها كما نسمع فى القصص الأخرى التقليدية، التمنى هنا للحب وليس للزواج؛ لأنه يبدو أن هذا الفتى لا يستطيع أن يحب من أصله، وهذا تكتيك حديث لا يخرج من شاب عمره 19 سنة فى ذلك العهد البعيد الذى لم يعرف مثل هذه التقنيات(!!). فالحداثة ـ سيدى ـ لا تتطلب فقط أن تجعل المألوف معروفا، وإنما هى تستدعى أن تجعل المعروف مسفوحا (حلوة مسفوحاً هذه، خلّ اللغة “تقول”) ـ وسعل سعلة عالية لتخفى ضحكة كان يمكن أن تخرج هذه المرّة بصورة صريحة تفضحه بحق.

ـ لا شكراً، كفاية، شكراً.

تيار الوعي؟ هذا هو، إنه يكتب الآن بتكنيك تيار الوعى، وهذا سيسمح له أن يتداعى، دون مشاكل، حتى يصل إلى القاهرة شخصياً، كل ذلك بجنيه وربع، الكراس بجنيه والقلم الجاف بربع جنيه، وليسرِ تيار الوعى ما شاء له السريان، بل ليفض علينا مثل النيل العظيم، قبل السد وبعده، مازال عظيما، وليذهب إلى الجحيم من لا يفهم فى هذه المسائل، ثم إن الجميع لايجُمعون على اسم هذا النوع من الكتابة. هل هو تيار الوعى، أم تيار اللاوعي؛ لأن الأسلاك قد ضَربت كلها فى بعضها، ولم يعد أحد يعنيه أن يسلـّكها من بعضها البعض (وليس من بعضها فقط)، وكل الإبر التى كان من المفروض أن نلضم فيها الأسلاك أصبحت دون ثقوب، فلماذا نسلـّك الأسلاك أصلاً ما دام ليس ثمة ثقوب للإبر نلضمها فيها، ثم إن الإبر بدون ثقوب ليس لها رؤوس جميلة مهذبة، فلا يمكن أن نطلق عليها اسم دبابيس أو أن نستعملها فى الأغراض التى نستعمل فيها الدبابيس، ثم إن الجميع لا يجمعون على شئ، ثم يبدو، (مازال يتحدث نيابة عنهم) أن “هذا” ـ هذا تعود على “أن الجميع لا يجْمعون” ـ قد أراح الحكومة جداً جداً، (غير جدا جدا التى فى القصة الثانية) هذا قد جعل الغالبية العظمى من أهل الموجة الجديدة لا يجمعَّون هم أيضا، مع أن الذين لا يجمعون هؤلاء من أهل الحداثة يعتقدون أنهم بعدم إجماعهم إنما يغيظون الحكومة، ولكنهم لا يقولونها صراحة، وإنما هم يتكلمون عن السلطة (بضم السين مع تشديدها وتسكين اللام هكذا ” السُّــلْطة”، وليس الكلمة الأخرى التى هى السلاطة، والتى هى غير سلاطة اللسان)، وهم يعتبرون الحكومة سُلطة، مع أن الشائع فى الثقافة المصرية لأولاد البلد أننا نسمّى السُّلطة حكومة، أفلا تسمعهم يتندرون على الذى يعود مبكرا من المقهى تاركا بقية الثلة مجتمعة: إنه خائف من “الحكومة” (التى تنتظره فى البيت)، لكن فى الأغلب هذا تعبير مجازى، أما تعبير أهل الحداثة فهو مجازى أيضاً (اكتشفت هذا فى آخر لحظة، ربنا ستر) ولكنه مجازى من الناحية الثانية، ما علينا، أهل الحداثة لا يـُجمـعون، أو هكذا يشاع عنهم مع أنهم يصرون على أنهم يجمعون فى السر من وراء الحكومة ومن وراء اللغة أيضا، والمسئول الكبير يكتب قصصاً (أسماها أوراقا من باب التواضع) وتنشرها له الصحيفة الكبيرة الواسعة الانتشار، فلماذا هو “لا”، ولَِم لا؟ (حلوة هذه)، ولم لا يكتب هو أيضا قصّة ما بين المباشرة والحداثة، شيئاً أشبه بالتدوير: دَارَ الصف لفـّّوا لــفّوا، لفّ القيد، قيدى وافى، وافى العهد….، لا يذكر ماذا (تُقْرأ منغّمه من فضلك على وزن: فَعِلٌ فعِلُ، فعلٌ فعلو، أو أى وزن تراه مناسباً أنت بمعرفتك).

ـ خلّ الباقى، شكرا.

هذه هى فائدة الكراريس أم جنيه، ملعون أبو الولايات المتحدة الأمريكية، والعربات الفارهة أم مقعدين (مثل عربته الأخيرة) وأم سبعة مقاعد، وجميع صنف سائق خصوصى ليس له لازمة، وجميع صنف قرش يحول بينك وبين الناس، يا كذاب، عيب كذا، لم يبق إلا أن تهتف بحياة الفقر، بطّل تهريج، تنظر من أعلى مرتدياً منظار الحكمة وكأنك تعظ، وكلما قرأتَ نعى أحد الزملاء، وخاصة إذا كان أصغر منك سناً، قلتَ خطبة عصماء فى الناس الذين لا يتعظون، وهات يا جرى، تدّعى أنك عامل حساب الموت فى كل لحظة، ولا عامل حسابه ولا حاجة، وتزعم أنك علّقت نتيجة العدّ التنازلى، تنازلى ماذا وأنت طالع تنهج، تذكر أنك لم تستطع أن تتذكر أنت وصديقك المخرج اسم جمال حمدان، نسيتماه وكأنكما تتذكران اسم قائد معركة ووترلو، أخذتما خمس دقائق لتتذكرا اسمه رغم أن اسمه لايوجد ما هو أسهل منه، جمال حمدان، جمال من جمال عبد الناصر، وحمدان من الحمد لله، وما سمّى الإنسان إلا لنسيه، وما القلب إلا أنه يتقلّب، يا حلاوة، داخلين على التناصّ، يا عم سيبك، الشيخ عبد العزيز فى زفتى، كان اسمه شيخ لمجرد أنه كان مصابا بمرض عصبى يجعل جسمه يترنح (علمتُ بعد ذلك أن اسم المرض هو الرقص الزنجى وأنه روماتيزم فى الجهاز العصبى) ومع ذلك كان يمسك الحديدة التى يدق بها حب البن المحمص فى الحَجَر دون أن تفلت منه الحديدة أبداً، وفى كل مرة يرفع الحديدة، أتصور أنها ستأخذه وتغوص به، وه و يترنح، داخل الحجر، أو أنه سيطوح بها بعيداً وتأتى فى أحد، سألتُه مرّة عن سبب حركاته هذه الملتوية التى لا تتوقف فقال وهو يمسك بيدى ويشدها إلى مقدمة جلبابه، لست أدرى لماذا، كنت فى سنة تانية ابتدائى، قال مجيبا إن السبب هو أن «المخ ساح على العقل»، إذن يبدو أن هذا ـ ولكن بإيجابية، أى الناحية الثانية ـ هو الذى يفسر مسألة الحداثة، (لاحظ الحذر الذى اتخذتُه باستعمال الجملة الاعتراضية التى تقول: ولكن بإيجابية، الاحتياط واجب)، ليس المخ فحسب الذى ساح على العقل، وإنما يبدو أن كله ساح على كله، ليس هكذا بالضبط، يا خبر!! ماذا جري؟ كل ذلك بسبب كراسة بجنيه، فلأدخل على القصه، وكفى نقداً، فالقاص لا يحاسَب إلا على قصّة، أمّا الناقد فحدّث ولا حرج (لن أقول لك أكثر من هذا)، فإلى القصّة:

الكراسة تنتظر، والوعد قائم، والوسواس يعمل، إذا لم ينفذ هذه القصة، بالشكل الذى حدده فى الوقت الذى قرره، سوف يخسر أهم قضية ينتظر الحكم فيها هذه الأيام، طيب ما علاقة هذا بذاك؟. ألم أقل لك إنه وسواس يا أخي؟. الله! خلّ بالك معى، نعم لا بد من ضبط المسألة تحديداً، لأنه إذا كان الثواب على قدر المشقة، فلا بد أن تكون القصة على قدر المشوار، وبالضبط، انتبه:

البداية: تن تن تن، أغش هذه التيمة الصوتية ـ حلوة التيمة دى ولو إنها غلط ـ من رواية عطلة رضوان التى كانت حافزا لكتابة هذا العمل، وهى رواية رائعة بلا شك فى الأغلب، تن ترن تن، علامة البداية وليس سخرية بالرواية، مرة أخرى: البداية، هُبْ:

….. (نقط ـ هى كذا بدأت القصة بنقط، بمعنى أن البداية ليست بداية، ولكنها استمرار لحكاية بلا بداية ولا نهاية يا عم محفوظ، ثم أنت مالك؟)

….. ومرّت الفتاة الملظلظة (سأبحث عن هذه الكلمة فى القاموس حين أصل إلى مكتبتى بالقاهرة) وهى تمشى الهوينى، يانهار أسود، هُوَينَى مرّة واحدة، يا لغرابة النطق، يبدو أننى تقمّصت المعتدى وهو المسئول الكبير إياه، الهوينى كلمة بسيطة لكنّها لم تعد مألوفة، لذلك يبدو أنهم حرّفوها فأصبحت الهويدا، وبما أن هويدا اسم عَلَم ولا ينبغى أن يعرّف العلم بألف لام التعريف (إلا من باب السب والتحقير) فقد حُذفت كل من الألف واللام فأصبحت “هويدا”، لكن هذا بالنسبة إلى ما يتبعه الناس فى تسمية بناتهم هذه الأيام، وهم أحرار فيما يفعلون، أما أنت فلا تستطيع أن تقول إن الفتاة الملظلظة تمشى الهويدا مثلا، لا تستطيع أن تقولها وأنت تكتب قصّة، أو تزعم ذلك (هناك حلّ أسوة بالمسئول الكبير، إذا لم تنفع قصّة، فلتسمّها “أوراق” أو شيئاً كهذا، ماشي؟ خذ راحتك) نقول لا تستطيع أن تقول تمشى الهويدا وأنت تكتب قصّة، لكن ربما تستطيع ذلك وأنت تكتب قصيدة نثر، من أين تأتى هذه الاستطاعة؟. لا تؤاخذنى، من قال لا أدرى فقد أفتى (من الفتوى وليس من الفتّة) ثم، مرة أخرى: إلى القصّة، ومضت الفتاة الملظلظة (بدون علامتى تنصيص)، تمشى “الهويني” اسمع، ما رأيك أن نـترك الكلمة هكذا كما هى دون حرج ودون محاولة تفسير، وسيخرّجها النقاد على أنها تناص من مقامات الحريرى مثلاً، دعها تمر، ولعل أصل التناص من النص نص (بضم النونين فى كل نص) فينطقان على بعضهما هكذا: من النُّص نُصّ، وليس من النص (بفتح النون، يعنى النَّص) نون نون نون، إلا حكاية مجلة نون أو الجمعية النسائية لصحابتها ومديرتها نون، نون والقلم وما يسطرون، إنك بنعمة ربك لمجنون، والمصحف الشريف هذا ليس استهزاء ولاحاجة، بل إن الكاتب يستعير التعبير الجميل مخاطباً نفسه منبّهاً إياها أن هذا الذى يفعله الآن يمكن أن يعتبروه جنونا بالتمام والكمال، ذلك لأنه يخرج من موضوع إلى موضوع ـ من غير تيار وعى ولا حاجة ـ لكن والله هو يفعل ذلك قاصدا جداً وهو فى كامل قواه الحداثية ومسئول، ويعول، وأنت وذمّتك، ثم على من يشك أن ينتظر للنهاية ليرى أن المسائل ماسكة بعضها، أما كيف يكون الإنسان الذى هو الكاتب الذى يصير، بنعمة ربّه مجنوناً، فهذا وارد من باب الرحمة. من حيث إنه من لم يحتمل، ولم يجدْ، ولم يـفهم، ولم يسمَع، فقد يطلب من الله الرحمة ولو بالجنون، هذا إذا عجز عن قرض قصيدة نثر تنقذه من كل ما سبق، ومن الجنون فى آن، كيف؟. لا أعرف، ثم هو وشطارته، كنا قد وصلنا إلى أين؟. إلى تفسير الشيخ عبد العزيز لمرضه المسمى رقصة الزنجى بأن “المخ ساح على العقل”، وبتكثيف المسألة مع حكايه نُص على نُص، تجد أنك إذا وضعت نُصّا على نص، أصبحت المسألة “نص نص” (وهذا ما ألفه العامة فى القاهرة المحروسة حين يعنون نص على نص أى نص نص، يعنى بالإنجليزية. فيفْتى فيفْتى)، وهذا التفسير يناسب مسيرة السلام على كل حَال، ونحن الآن نتكلم عن ثقافة السلام، يعنى ثقافة نص على نص، شوية إسرائيل على شوية أردن، على شوية أسبانيا، على شوية برتغال. لا يا عم البرتغال الناحية التانية ليست شرق أوسطية، ولا حتى أسبانيا، فهى غرب أوسطية، ويمكن فرنسا تطلع وسط أوسطية، ما علينا، إلى القصة أو ما قبل القصة، والله الظاهر إنها كلها سوف ترسى على ما قبل القصّة، ولكننا نستدرك فنقول: إن نَصّ على نَص له معنى إيجابى آخر غير نُص على نُص، فقولك نَصّ على نصّ هو أشبه بقولهم: قول على قول[7]، أو أشبه بـ “قهر على قهر هوَّا العمر فيه كام شهر”، يا للغة العربية ويا لقدرتها على احتواء العامية دون استئذان، (شفت ذي؟، الدال عليها نقطة من فضلك، ولو أنى سأحذفها فيما بعد تجديداً للغة)، ولكن إذا أردنا الأمانة فسوف نكتشف أن اللغة العربية ـ هكذا ـ غيرت المعنى، لأنها قلبت أَهْر (بالهمزة) إلى قهر (بالقاف)، مع أنك حين قرأتَها ـ عزيزى القارئ ـ قرأتَها بالهمزة، وهى مكتوبة بالقاف، فلا احتوت العربية العامية، ولا حاجة، فالقهر باللغة العربية يعنى التسلط والقمع وأشياء من هذه، أما “أهر” بالعامية، فالمثل يقصد الحزن، والزعل، والهم، فإذا أردت أن تكتبها بالعربية فلا بد من القول “حزن على حزن”، وهنا سوف تختلف البقية حتى تلتزم بالقافية، وسوف تضطر إلى أن تكمل “هوّا الشعر فيه كام وزن”، فتصبح على بعضها هكذا: حُزن على حُزن، هو الشعر فيه كام وزن”؛ ذلك لأنه إذا كان النقاد قد سمحوا بالتجاوز عن الالتزام بالقافية، فلم يسمح إلا ندرة منهم بالتنازل عن الوزن، والوزن هو الموسيقى والشكل هو المضمون، ومن لا يعجبه هو حر، وجهات نظر، نحن لا نريد أن نحرج أحدا، الواحد من هؤلاء (ابحث أنت عن من تعود “هؤلاء”) يظل يكتب ويكتب ويكتب حتى تأتى لحظة الصهللة (أى صهيل بشرى) وهات يا إبداع.

ـ لا شكرا، أنا أصْلى منتظر صديقا.

ـ…..

ـ أشكرك، ممكن أدفع من غير ما أطلب.

ـ….

ـ يا خبر، لا أقصد، أشكرك، ذا كرم شديد، أشكرك.

ولا منتظرٌ صديقا ولا حاجة، كل الحكاية أنه من باب مراسيم استعادته لحريته، (لاحظ العودة إلى الحديث “عنه” بضمير الغائب، مع أنه ينسى كثيرا ويتحدث بضمير المتكلم، وهى ليست عودة مقصودة، بقدر ما هى فنية ملعوبة، أكمِلْ) أقول: منذ أن قرر أن يستعيد حريته ما أمكن ذلك، قرر ألا يشرب حاجة ثانية، ما دام هو لا يريد أن يشرب فعلا، وكله بحسابه، الإحراج تدخُّل فى الحرية على كل حال، يا خبر، لماذا لم يمر عليه ولا واحد يبيع اليانصيب، وما الذى ذكّره باليانصيب الآن؟. المهم أنه كلما حاول أن يذكّر نفسه أنه يكتب قصّة لا مذكرات، قفزت إلى ذهنه أوراق هذا المسئول الكبير وجعلت مخّه مثل الصفحة البيضاء، ولا بد الآن أن يعترف أنه أرسل إحدى قصصه القصيرة إلى هذه الصحيفة بالذات التى ينشر فيها المسئول الكبير أوراقه الباكرة، وأنه بطول لسانه (أى بسلاطة قلمه) قدّم فى الخطاب المرفق نقدا لمستوى القصص التى تنشر فى هذه الصفحة، وكان ذلك قبل حكاية المسئول الكبير وأوراقه، والنتيجة أنهم لم ينشروا قصته التى أرسلها، فكتمها فى نفسه، حتى تذكرها الآن، مع أنه لم ينسها أبدا، وقد أثبت هذه الحادثة عملا بالأمانة المطلوبة من واحد مثله، وأيضا لأنه مطمئن أن أحداً لن يعرف سبب حقده وإحباطه، لأنه لا ينوى أن ينشر هذا الكلام (كذا، وكذا) اللهم إلا لو ضغطوا عليه جداً جداً، وساعتها يمكن أن يشطب هذه الفقرة خجلاً أو منظرة، ثم هاهو الآن يقع فى إشكالية جدلية (حلوة هذه): فبينما الدافع الأدبى لمحاولة كتابة القصة ـ المزعومة الآن هو أوراق هذا المسئول المنشورة، كما أن المثير المادى هو شراء كراسة بمحض الصدفة، فإن المانع الآن الذى يمنعه من الدخول إلى القصة هو نفس أوراق المسئول الكبير (على فكرة سرت إشاعهً تقول إن المسئول الكبير كتب هذه القصص هذه الأيام وليس لمّا كان عنده 91 سنة، ولم يعرف إن كانت هذه الإشاعة مدحاً أو ذمّاً، كذلك لم يعرف إن كان المدح أو الذم هذان موجهيْن إليه شخصيا أم إلى القصص، وأيضا هو لم يرفع قضية على صاحب هذا الكاريكاتير، فلا بد أنه لم يفهم اللمز، أحسن. لا، هكذا زادت جرعة النقد بادّعاء نقل إشاعة مغرضة، فإلى القصة، من الأول:

علامتا تنصيص ونقط فى الأول: “…ومرت البنت الملظلظة، مازال مصرا على أن يترك هذه الكلمة هكذا حتى لو لم يجد لها معنى فى القاموس[8]. إنه يعتقد بحدس إبداعى مشكوك فيه أنه لا توجد كلمة فى الفصحى تفيد مضمون هذه الكلمة ذات الإيقاع الممتلئ الرخو، وبالتالى فلا يمكن الاستغناء عنها أو استبدالها، قل بضّة، أو سمينة، أو بدينة، أو مليئة، أو ممتلئة، لكنّك لا تستطيع أن توصل ما توصله إليك ليلى علوى بلظلظتها المتوسطة، قبل مسرحية الجميلة والوحشين (بفتح الواو)، “مضت البنت الملظلظة، وهى لا تدرى أن والد خطيبها استشهد فى حرب الاستنزاف، ولذلك فإن خطيبها لم يره، كان فى الثالثة من عمره، فربّته أمه من معاش محترم، ومكافأة سخية، ولكن ارتفاع الأسعار وبرودة ليالى الشتاء معاً، جعلاها تقبل الزواج عرفيا، وحين شبَّ الفتى (حلوة شبَّ الفتى هذه لكنّها ليست من التناص مثلما ذهبنا إليه بشأن الهوينى ومقامات الحريري؛ إذ لا يوجد نص واحد معروف اختص بتعبير شبَّ الفتى، بل نصوص كثيرة متفرقة) حين شب الفتى وأصر على دخول الكلية الحربية ليكرر أمجاد أبيه، هكذا يقول التليفزيون عند الاحتفال بأعياد النصر والجلاء، ويمكن بمناسبة الهجرة الشريفة أو التهجير الاضطراري. الحقيقة أن أمّه لم تحكِ له شيئا عن أمجاد أبيه تلك، ليس تنكرا لذكرى أبيه، ولا حرصا على مشاعر زوجها العرفى، ولكن هذا هو الذى حصل، وقد عارضت أمّه رغبته فى دخول الكلية الحربية معارضة شديدة، وأقسمت برأس أبيها وتربته معا ـ وليس بذكرى زوجها الشهيد ـ أنه لو دخل الكلية الحربية فسوف تعمل وتسوى، ولكن الولد أصرّ وقدّم أوراقه من ورائها فى السر، ولولا ستر الله ورسوبه فى اختبار الثقة، لما مرّت المسألة على خير، كان يوماً أسودَا. إقفز، إقفز يا أستاذ، الحمد لله ما زال أستاذاً لم يجنّد بعد، ودّ لو تنشق الأرض وتبتلعه، واحترم بُعد نظر أمّه، ولم يقفز،فَــلَمّته كلية الحقوق على خير (قطع) ما هذا؟ إن القصة بدأت بالبنت، والمفروض أن نـقدمها إلى القارئ حتى يتعرف عليها أولاً؛ فهى البطلة، لكن القصة الحديثة ليس فيها بطل ولا بطلة، الشعب هو البطل، الشعب هو القائد. بيان 30 مارس[9]، عندك، كما كنت، إلى القصة، القصة هى البطل. أرجع إلى القصة من فضلك فقد وصلنا دمنهور، هدّأ القطار من سرعته، الهزة زادت، والقلم لا يستقر على ورق الكراسة، من أغرب الخبرات أن تكتب قصة مهزوزة بغير قصد، لمجرد أن القطار يهتز، ولا بد أن الكلام سيتفكك من بعضه البعض ويعاد تنظيمه وحده فتصبح القصة من نوع جديد لم يقصد إليه الكاتب، ولعل صلاح جاهين كان أسبق إلى اكتشاف هذا النوع من الإبداع حين يقول ” لمّا تهشّكها حبّة تلاقيها مفلفلة”[10]. آه لو ينشرون فوازيره فى كتاب مستقل، إذن لتعلّموا معنى الإبداع، مَنْ ذا الذى يتصوّر أن المعزة، حين أكلت البيت، أن البيت كان معمولا من خشب مُصاصة القصب[11]، الله يرحمك يا صلاح ولو أنى زعلان منك، مستعجل لماذا يا رجل فها نحن جالسون، يا الَّلــه،، لكل أجلٍ كتاب، القطار يهتز، والقلم يهتز، واللظلظة تهتز فى غير رجرجرة، لأن هذه مسألة محسومة بفضل النقد الحديث، فإنما يتحقق التوازن الموضوعى فى السياق المتنامى للأحداث بمثل هذا الهارمونى الخفى الكامن وراء أية هزة أو هزهزة، الله!!!. ولمّا كان الكلام عن خطيب البنت قد أخذ أكثر من حقه، فهل ينفع أن نجعل أبا البنت هو الذى استشهد فى حرب الاستنزاف، وبالتالى ننقل كل الكلام الذى وصفنا به أبو الخطيب لصالح البنت فيتحقق التوازن الموضوعى إياه؟. طبعا، لا، لا ينفع؛ ذلك لأن الشعور الذى يتكون عند الشاب وهو لا يرى زوج أمه العرفى إلا وهو خارج من عند أمه فى الضحى العالى قُرب الظهر، هذا الشعور لا يجوز أن تمرّ به البنت، فهو خاص بشاب له مواصفات هذا الشاب بالضبط، وإلا لما أمكن أن يصل إلى القراء بنبضه الحقيقى، حالة كون الشاب يعيشه أو يعايشه، إن المسألة تحتاج فعلا إلى شاب من الذين يقال عنهم “وشبَّ الفتي”، أما البنت، الملظلظة فهى قد تحب أمها وتتقمصها، فتحب زوج أمّها وبالتالى تفرح بمبيته العملى وخروجه المتأخر، وتستفيد من ذلك فى إثراء خيالها، ثم قد يتمادى الأمر فتعتبره بديلاً طيباً للأب، حتى لو لم يعرض عليها أبوته لضيق الوقت الذى يقضيه بعيداً عن حجرة النوم، ثم إنه، والشهادة لله، عمره ما نظر لها نظرة كذا أو كذا. (قطع) ماذا حدث؟. هل نسيتَ أن التى تزوجت عرفيا هى أم خطيب البنت، الذى لم يخطبها بعد، وليست أم البنت، وأن والد البنت لم يستشهد، بل هو مازال حياً يرزق فى السعودية، طنطا هذه أم ماذا؟. لا ليس بعد، القطار هدّأ من سرعته فقط، منطقة إصلاح، ما رأيك لو قلبناها غما ونكتفى بهذا القدر، ونقتدى بالمسئول الكبير حالة كونه عنده 19 سنة، وننهى القصة بأن تأتى عربة مسرعة يقودها شاب متهور، ويصدم البنت وتروح فيها، وخلاص، وسوف يطلع لى فى طنطا بائع الحمص أشترى منه كيساً نظيفاً بجنيه، (نفس ثمن الكراس أو الدولسيكا) وأظل أمضغ كل واحدة على حدة (لاحظ الموسيقى: كل واحدة، على حدة) عشرين مضغة قبل أن أبلعها حتى نصل إلى القاهرة، وأكون بذلك قد أبدلتُ وسواساً بوسواس، «خالصين»، بَلا قصة بلا كلام فارغ. لم يكن جنيهاً اشتريت به كراسة، كل حاجة بجنيه، الحمص والآيس كريم زائلان بطبيعتهما إلا هذه الكراسة التى أحرجته كل هذا الإحراج (رجع يحكى بضمير الغائب. خلّ بالك) فعلا هى منطقة إصلاح، سوف يتأخر القطار عن موعد الوصول، حَسَدَ انضباطه كما حَسَدَ من قبل المسئول الكبير على نشره أوراقه التى أثبت فيها تاريخ التصنيع منذ 91 سنة لكنه ولم يثبت مدة الصلاحية، المصيبة فى التأخير هو أن القصة سوف تطول وهو لا يدرى ماذا يفعل، ثم إن النهاية المقترحة كانت تحتاج أن تكون البنت أقل وزنا، بل إنها كانت تشترط أن تكون البنت نحيفة، ولا مانع من أن تكون مصابة بداء النحافة العصبية[12]، أو رُهاب السمنة، مثل الأميرة ديانا التى تأكل وتتقيأ، تأكل وتتقيأ لتأكل وهكذا، ثم إن القصة هكذا ستصبح قصة قصيرة جداً، وهو (أى أنا) كان قد قرر أن ينتهزها فرصة ويجرّب نفسه فى هذا النوع من القصص التى هى ليست قصصاً قصيرة ولا طويلة، ثم إن المسألة ليست بالطول ولا بالقصر، المهم الفكرة، وهو كان قد سمع فى إذاعة لندن مؤخرا أن مؤلف فكرة لفيلم أمريكى كتبها فى أربع صفحات فقط وقبض مقابل ذلك مليون دولار أو أكثر، لا يذكر كم بالضبط، المسألة إبداع أو لا إبداع، فإذا كان إبداعا فأى شئ يكفى، وإذا كان لا إبداع، خلاص بقى، ما الداعى لأى شئ من أصله، ثم إن العربة التى يقودها الشاب المتهور إذا ما صدمت البنت سوف تشوهها دون أن تدشدشها؛ ذلك لأنها (البنت لا العربة) تبدو مخلية من العظام مثل الفراخ المخلية التى أصبح ثمنها ناراً بعد حكاية جنون البقر، فإذا ما حدثت الحادثة بهذه الصورة المفجعة فلن ينفعها لا المسئول الكبير ولا الكراسة أم جنيه ولا خطيبها ابن شهيد الاستنزاف، وستتحول إلى كتلة من الشحم واللحم مغطاة بـ، أو معجونة فى، قطعة جلد هنا، وقطعة قماش هناك، منظر مرعب وقبيح قد ينفع مصورا صحفيا مبتدئا لكنه لا يصلح لقصّة كهذه، والألعن لو تركوها يوماً أو بعض يوم. ناهيك(!!) عن عدة أيام مثلما يتركون الكلاب فى الطريق الزراعية، فقد تنتفخ لتصبح مثل جيفة بودلير[13] (يا ترى هل هذا تناص أم تشبيه تمثيل أم مجاز مرسل؟. ولا يهمك سوف يجدون لها حلاًّ). قال يعنى قرأ جيفة بودلير، وهو لم يعرفه إلا أول أمس، وبفضل واحدة اسمها سلمى الخضراء الجيوشى، وحتى هو لم يلاحظ أن الذى ترجم قصيدة بودلير هذه هو أدونيس وليس سلمى الخضراء [14]. لا، هذا اقتراح سخيف حتى لو كان سينهى القصة نهاية من نوع قصص المسئول الكبير، لا بد من قصة وإن طال السفر، قصة حقيقية بالرغم من أنها لن ترى القارئ أبداً مثل قصصه السابقة التى لم تـُنشر، هى لم تنشر لسبب بسيط هو أنه لم يتقدم بأغلبها للنشر، تماما مثل فتاة القصة الثانية للمسئول الكبير التى لم تتزوج الواحد الذى كانت تحبّه لأنه لم يتقدّم لها أصلا،ً بل ربما لم يعرف عنها أى شى كان، لكن يبدو أن المسألة متعثرة، والملعوب مكشوف، فلم تكن ثمّة قصة ولا يحزنون، وإنما المسألة أنه كان يريد أن يتحدث عن نفسه بزعم أنه يكتب قصة، فكل قصصه القصيرة ـ التى لم تنشر ـ هى هكذا، لا يجرؤ أن يكتب سيرة ذاتية بشجاعة، فماذا يفعل؟. يكتب، أى يرسم، صوراً لاهثة، يطل من خلالها بذاته الحقيقية أو المتصّورة، ثم يختبئ ويدّعى، أنها قصصا، قال يعنى، ثم إن كل ما ذكره فى موضوع القصة الحالية هذه حتى الآن هو أن ثمة بنتاً ملظلظة، وأن والد خطيبها استشهد فى حرب الاستنزاف، وأن حماتها، التى لم تصبح حماتها بعُد، تزوجت زواجاً عرفياً من رجل لا يراه ابنها (مشروع خطيب الملظلظة) إلا خارجاً فى الضحى العالى من حجرة النوم، وكل ما عدا ذلك كانت أفكاراً سخيفة ومرفوضة، حتى النهاية المقترحة كانت تتعارض مع الأرجوزة اللطيفة التى كانوا ينهون بها مسلسلاً لا يذكره وهم يغنّون “تامّت، بحمد الله، تامّت، بحمد الله” صحيح الحمد لله على كل شئ ولكن كيف نستطيع أن نحمده ونحن نشم رائحة هذه الجيـفة النتنة جيفة بودلير، لا يا عم، الإبداع لابد أن يكون جميلا ولتذهب جيفة بودلير إلى الجحيم يا يوسف وهبى، ليس من الضرورى أن تكون النهاية سعيدة، ولكن لابد أن تكون ثمة نهاية، هكذا قالها الشيخ درويش فى نهاية زقاق المدق[15]، وهو يوحوح متنهدا: أليس لكل شئ نهاية؟ بلى، لكل شئ نهاية ومعناها بالإنجليزية end وتهجيتها e,n,d… ولكن نهاية ماذا ونحن لم نبدأ، إن النهاية هنا تكاد تجئ قبل البداية، وسيقول النقاد، “لم تكد القصة تبدأ حتى انتهت” ـ حلوة هذه ـ غادر القطار طنطا دون أن يمر فى العربة بائع الحمص، درجة أولى ياعم، هل يأكل هؤلاء الباشاوات حمصاً مثلهم مثل صعاليك الموالد، لا يا سيدى، لابد أن مروره كان خطأ الأسبوع الماضى، ثم هو، يركب الدرجة الأولى مثلهم ويتصوّر أنه لا ينتمى إليهم، يضحك على نفسه أم على من؟ قالت له ابنته: لا تركب القطار الفرنساوى سوف يقف بك فى كل المحطات، ورد عليها: إن هذا أحسن لأنه يريد أن يقرأ وقتاً أطول، وأن يرى الناس وهم ينزلون ويصعدون فى كل محطة؛ فقد اشتاق إليهم ولم يكن فى حسابه أن هذا القطار الفرنساوى “هكذا” سوف يكلّـفه أن تصبح القصة القصيرة رواية “هكذا” والعياذ بالله. كيف تكون الكتابة قهرية ثم يخرج منها أى عمل إبداعى صادق؟. لقد لاحظ أنه كرر كلمة “هكذا” ثلاث مرات فى سطرين؟. هذه ركاكة سخيفة، ولكن دعها فقد يجد النقاد لها حلا، قد يسمونها “تيمة مُمَيـِّزَة” مثلا، هم أحرار، فى التكرار جمال خاص، (!) هذا التكرار بالذات، وحتى هذا الأسلوب الذى ينتهجه الآن هو تكرار لمنهج مسبوق، فهو ليس فيه جديد، لقد قرأ قصصاً من قبل مكتوبة بهذا التكنيك (أى الأسلوب، أو المنهج أو التقنية!!) حيث يبتدع الكاتب الشخوص والأحداث أمام سمع القارئ وبصره، ثم يخرج له (للقارئ) لسانه، وهو يغيظه حين يضبطه وقد عايش الأشخاص كأنهم حقيقيون، شفت المهارة؟!. شئ أشبه بالذى يلعب بورق مكشوف ومع ذلك يكسب، زينب والعرش؟يجوز. ولكن فتحى غانم لعب بورق مكشوف وكسب، والتقليد غير الأصل، فمن أضمنه أن القارئ سيتحمله مثلما تحمل هو عبده جبير، ولو أن عطلة رضوان ليست “كذلك”، ولا هى “ذلك” إذن هى ماذا؟. “لست أدري” يا إيليا أبو ماضى، تناصّ هذا أم تداعٍ؟. هذا شغل النقاد، مالى أنا؟. (كانت فى الأصل أنا مالى، ثم قلبتُها فصحى قال باعتبار أنها لما كانت معدولة لم تكن فصحى) فهو (أنا) لم يستحدث هذا النمط من الكتابة (عزيزى القارئ، ليس كل مرة سوف أنبهك أن تلاحظ كلمات وتعبيرات مثل “هذا النمط” أو “يستحدث” أو فنية استعمال العامية أو ما يبدو عامية بالفصحي؛ لأن المسألة زادت، والجمل والقصص الاعتراضية لا تنتهى، وهذه الطريقة ـ عزيزى القارئ ـ تحمل معنى ضمنياً لا يسرك، ما هو المعني. ألم تجده بنفسك؟ تستأهل. يا سيدى معنى هذه الشروح المعترضة أن الكاتب يشك فى قدراتك (ولا مؤاخذة)!. فإذا كنت قد زعلت، فسوف أكف عن أن أنبهك هكذا على العمّال على البطال، ولكن دعنا نتفق على أن التعبير الذى هو، والذى أريد أن ألفت نظرك إليه، سوف ألحق به علامتى تعجّب بين قوسين هكذا:(!!)، لتأخذ بالك مما أريدك أن تأخذ بالك منه، وأنت وشطارتك، خلاص؟. يالله يا سيدى إلى القصّة، وربنا سوف يسهل إن شاء الله. ولكن ما رأيك ـ عزيزى القارئ ـ أن أتركك أنت تكمل القصة كما تشاء، لقد ذهب النقد الحديث إلى التأكيد على أن القراءة مثل التدخين هى مسئولية كل قارئ، وأن على المتلقى أن ينشئ القصة إن شاءً (!!) (بدأنا فى علامات التعجب، خلّ بالك من هنا ورائح) على القارى أن ينشئ القصة وأن يشارك فى تأليفها، لا لأن الكاتب حداثى، أو لأنه عجز عن تأليفها، ولكن لأن المسألة مسئولية مشتركة، فلم يعد ثَمَّ مكان للصوت الواحد، ولا للبطل الواحد، ولا للتسلسل الواحد، ولا للقصة أصلاً، وكل واحد وشطارته، فهل ستفشل أنت ـ عزيزى القارئ ـ أن تلتقط دلالات علامات التعجب، حتى لو لم أضعها أصلا مثلما فشلت أنا فى فهم علامات التعجب التى توضع على الطرق السريعة الطالعة نازلة، والتى عرفت بعد مدّة أنها تعنى “إحذر”، وكنت أحسبها تقول مثلما هو مكتوب على العربات نصف النقل ” لا تتعجب فتلك إرادة الله”، و يبدو أنه كان عندى حق، فقد كنت ألاحظ أنه بالقرب من هذه العلامات توجد عربات محطمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله،..إلخ، نرجع إلى قصتنا، وما دمت يا عزيزى القارئ لا تبدو عليك أية حماسة للتكملة فسوف أكملها أنا وأمرى إلى الله.

تذكرت للتو أننى لم أذكر من شخصيات القصة إلا البنت وخطيبها المزعوم، وحتى اسْمَاهما لم أذكرهما، وهذا نقص شديد ولعله هو السبب فى هذا التوقف، ولو أنه، بينى وبينك، القصة لم تبدأ أصلا حتى تتوقف، ولمّا كان الباقى من الزمن أكثر من ساعة يا عمّنا نجيب[16]، فلا بد من تعداد بقية الشخصيات، ولكن كل حى باسمه، فخذ عندك: البنت الملظلظة لها أخ اسمه أحمد، وأختها اسمها عواطف، وأبوها اسمه عبد الغفار حسن عبد الغفار، وبالتالى فهى من عائلة عبد الغفار من الغربية أصلا، بلد صغيرة بين زفتى وبركة السبع اسمها” دمنهور الوحش” اسمها كذا!!، اسمها مديحة، وأمها عندها حَوَل خفيف من الذى يعطى للعينين جمالا خاصا مثل عنبر إلى الأبد، أعنى مثل لندا دارنل،(!!)، أما خطيبها (خطيب البنت لا الأم) فله أخ اسمه عبده (قد يكون عبد الفتاح أو عبد الغفار أو عبد الله..إلخ)، ومع ذلك فقد اكتشف أنه مكتوب هكذا فى شهادة الميلاد “عبده” لأنه بالإنجليزية Abdu وهو لم يعرف أنه ليس اسم دلع إلا وهو يستخرج الأوراق للهجرة إلى كندا، إذ يبدو أن حكاية زوج أمّه العرفى لم تمر عليه بالساهل، فسافر، الطيب أحسن، وهو (تعود على الخطيب أو على أخيه عبده أيهما أقرب) كانت له أخت اسمها سلوى، وعندها شلل أطفال، ولكنها تزوجت زواجة معقولة، وهذا أمر يتكرر لكثير ممن عندهن شلل أطفال، إذ يبدو أن المسألة فيها أمور جذب وحيوية لا نعرفها نحن الذين ليس عندنا شلل أطفال ولم نتزوج واحدة عندها شلل أطفال، وهكذا يتجمّع عدد من الشخصيات فجأة. يمكن بقليل من التوافيق والتباديل والمصادفات السارة والسيئة، ثم بعض الحذف وكثير من الإضافة يمكن أن يتم نوع من الصياغة المشتبكية (!!) توصلك إلى شرم الشيخ وليس إلى القاهرة فحسب، بل إننى أستطيع أن أتحفك بالمزيد لأنها تبدو عملية أسهل من الحكى الطولى، فعندك مثلا جمهرة من أولاد العم [أولاد عم البنت لا الخطيب] يمكن تسميتهم الواحد تلو الآخر إذا احتاج الأمر، بعضهم يعمل فى العراق ويرسل خطابات ولكن بخط غير خطه، يمكن مات وزملاؤه يصّبرون أمه، وبعضهم فى إيطاليا، وبعضهم كان يعمل فى لندن شخصياً عدداً من السنين حتى أخذ الجنسية الإنجليزية، ثم توقف عن العمل بسبب مرض نفسى، ثم تمادى فى التوقف بحركات مصرية أصيلة، وهو يأخذ الآن بدل بطالة ويكتفى به ليتفرغ للأعمال “الأخري”، مع أن البنت لا يبدو عليها إطلاقا أن لها أقارب من هذا النوع، ويمكن لأى واحد من هذه المجموعة غير المتجانسة أن يرسل خطابا يقلب به الدنيا، فتحلو القصة وتمتد بلا صعوبات، أو يمكن واحد منهم يطب فجأة عائدا إلى مصر، ويحاول أن يخطب البنت شخصيا، لا من أجل لظلظتها ولكن لأسباب دينية تتعلق ببناته اللاتى سينجبهن منها فى الغربة واللاتى قد يرافقن “الصديق الولد” (Boy-Friend) إذا كانت أمهن إنجليزية (لاحظ أننى اخترت الجدع الذى يعمل فى لندن ويأخذ بدل بطالة بالذات دون غيره لأسباب لا تخفى عليك، مثل أنه لو امتدت القصة إلى لندن فسوف تجد هناك جالية عربية لا حصر لها تنفع فى حَبــْـك الأحداث)، وصاحبنا هذا ـ ابن العم ـ الذى يمكن أن يطب فجأة ليخطب البنت، يعلم علم اليقين أن زواجه منها لن يمنع بناته مستقبلاً أن يتمتعن بحرّية البنات الإنجليزيات حتى لو كانت أمهن السيدة زينب نفسها، أقول إن هذه “الفرشة” من الأشخاص هنا وهناك قادرة على عمل ما لا يعمل، فلماذا حبس نفسه من الأول فى هذه الشخوص، هذين الشخصين، اللذين لم يقدرا أن يعملا أى شئ يوصله إلى القاهرة، بل إنه على الناحية الأخرى، ناحية الخطيب، يوجد عدد آخر من الشخصيات الجاهزة للدخول إلى بؤرة الأحداث(!!) وسأضرب لك مثلاً واحداً لأن الدنيا ازدحمت بالشخصيات، فزوجة خال الخطيب اسمها إحسان، وقد راودته عن نفسه وهو بعد فى سنة ثانية ثانوى حتى صار فى كلية الحقوق، كان جسمه فائراً من يومه، وهذا مرتبط ـ بشكل ما ـ بالدور المشابه الذى قامت به معه الغسَّالة التى اسمها أمينة، والتى تناديها أمه بأم فهمى مع أن ابنها الكبير اسمه لطفى (معلومة ناقصة تستكمل: لعله ابنها الأكبر من زوجها السابق. من يدرى) وهو بعد فى سنة ثانية إعدادى، شئ أشبه بالبروفة للأحداث التى ستحدث فيما بعد، وبالذات مع زوجة خاله وليست مع البنت، فقد كانت أم فهمى تجرجر الولد فى الكلام عن ما يحدث فى الحجرة بين أمّه وزوجها العرفى (يسمّونه هذه الأيام “البيات”) وكانت بذلك تضرب عصفورين بحجر(!)، فمن ناحية كانت توغر صدره نحو أمّه وزوجها وهو ليس ناقصاً، ومن ناحية أخرى كانت تثير فيه مشاعر دافئة ولذيذة وسلِسة وأشياء حلوة جدا جداً لايعرف لها اسماً، وهو إذا وصفها باخَتْ؛ ذلك لأنه لا يعرف كنهها(!!). فلما جاءت حكاية زوجة خاله هذه لم يستغرب الأمر، لكنه أبدا لم يغفر لزوج أمه ما يفعله مع أمه داخل الحجرة، مع أنه زوجها فعلا، ولو عرفيا.

أظن ـ عزيزى القارئ ـ أنا عملت ماعلى، ويمكنك بأية درجة من الموهبة، وبدون موهبة حتى، أن تعمل ما تريد من كل هؤلاء، ثم لا حظ أن هذه قصّة داخل قصة داخل قصة، مثل حركات ديستويفسكى الذى كان يكتب بالشبر لزوم القمار والذى منه[17]. الآن فهمت كيف تتولد القصص من بعضها البعض لمجرد أنك مضطر، سواء كان هذا الاضطرار وعداً لمجلة أسبوعية أو بطء القطار الفرنساوى بين القاهرة والاسكندرية، وكاتبنا هنا لن يقبض شيئاً من أى أحد، هو فقط يحاول أن يفى بنذر خفى، فهو مضطر أن يكمل ما بدأه، هكذا، بسبب الارتباط الوسواسى الذى أخذه على نفسه، والبركة فيك بقى ـ عزيزى (بدون “القارئً، هذه المرّة)، خاصّة وأن المسألة انكشفت بعد أن اعترف الكاتب الأول أنه هو الكاتب الثانى، والآن جاء دورك لتصبح الكاتب الثالث والأخير بإذن الله، وإذا كان الكاتب قد نوّه صراحة (!) على أنه هو الذى يتحدث بضمير المتكلم ثم بضمير الغائب، فإنه لم يفعل ذلك نتيجة لضعف الثقة بذكائك، ولكن ـ ربما ـ من باب الحداثة، دون قصد طبعاً، ودون أن نسمّيها حداثة، فكما أنَّ قمّة درجات التصوف أنْ تنزع عنك رداء التصوّف فلا تستحق اسم متصوف، فإن قمة درجات الحداثة هى ألا تكون حداثة، باختصار: إن الحداثة لا تصبح حداثة إذا سُـمّيت كذلك،، فأرجوك ـ عزيزى ـ ألا تدق على مسألة الضمائر هذه وحدها، فالحكاية مهببة من أصله، المهم أن تتمسك بأية فكرة تصل إليك وتقبض عليها بيد، لا أقول من حديد، حتى تستطيع أن تكمل، ولكن تقبض عليها جداً والسلام حتى لا تفلت منّا نحن الاثنين، وأنا ما شرحت نفسى ونفسه فى مسألة الضمائر هذه إلا لأترك لك مساحة للاختيار، ضمير غائب ماشى، ضمير متكلم ماشى، ساعة كذا، وساعة كذا: ماشى، لا أحد يعرف أين الخير، الاختيار وإعادة الاختيار وإعادة صياغة النص، ونص صياغة الاستعادة هى أصل التجاوز الغائى بالصلاة على النبي.

نرجع إلى القصة التى هى فى داخل القصّة (أى القصة الوسطى) فقد آن الأوان أن أذكر اسمَى البنت وخطيبها الذى لم يخطبها بعد؛ لأنه ليس من اللائق أن أذكر أسماء كل هؤلاء حتى اسم الغسالة واسم ابنها الحقيقى وابنها المفترض، ثم لا أذكر اسم الشخصيات الأصلية ـ ولا أقول البطل والبطلة ـ أما اسمها فحميدة، صحيح أنه اسم لم تكن تنتظره ـ عزيزى ـ بعد كل هذا الوصف، كنت تنتظر ـ أنا عارف ـ أن يكون اسمها ليلى، أو لُبنى، أو حتى يمني؛ لأن لظلظتها من النوع الحديث الذى تليق عليه هذه الأسماء. أما اسم حميدة فيوحى لك بنوع آخر من اللظلظة. حميدة اسم قديم بعض الشئ ولكن له حكاية لأن خالتها هى التى أسمت البنت “حميدة”، ليس على اسم أمها (أم خالتها أى أم أمها أيضا) وإنما على اسم المرحومة الزوجة الأولى للوالد، والتى انتقلت إلى رحمة الله قبل زواج والد البنت من أمها، ماتت دون أن تنجب والحمد لله بفضل مرض مجهول، وهذا أحسن، لأنها لو كانت قد أنجبت لتعددت الشخوص فى القصة التى كادت تصبح رواية، ونحن عندنا شخوص كفاية الآن، ينفعون لعمل مسرحية زحمة، وساعتها، لو كانت قد تركت ذرية يسمونهم أولاد البلد من “أم ثانية”، كنت لن تستطيع أن تمنع نفسك من الاستطراد إلى مسائل الغيرة القديمة، والشجار، والدسائس ثم الصلح، وأشياء لا تنتهى، والأب غائب فى السعودية، والعم (اسمه مختار، تصور!!!) ولا هو سائل، ناهيك عن النظرات التى ينظرها الأسطى مختار لزوجة أخيه وهو يعطيها النقود التى يرسلها أخوه بالحوالة كل كم شهر، هكذا أفضل، ماتت حميدة الأولى ولم تنجب، وخلاص، مثل قصص المسئول الكبير، ونحن لا ندرى ماذا كانت تقصد الخالة حين أصرّت على تسمية حميدة حميدة على اسم المرحومة، فمن المستبعد بداهةً(!!) أنها كانت تهدف إلى أن يتذكر الزوج المرحومة باستمرار كلما نادى على ابنته مثلا، فلربما (لست متأكدا أن اللام الزائدة فى “ربما” هذه عربية لكن شكلها جميل هكذا) فلربما كانت الخالة تقصد أن تقوم بعملية إحلال تدريجى دون أن يشعر الزوج، بمعنى أنه كلما جاء ذكر حميدة قفز إلى ذهنه اسم ابنته لا صورة المرحومة، يا ولد!!، ولا أجدع علاج سلوكي[18]، هكذا بالسليقة. إذن البنت اسمها حميدة، وعلى فكرة أنا لم أذكر لك أن الست إحسان ـ زوجة خال الخطيب المزعوم التى راودته عن نفسه ـ لم تفعل ذلك إلا بعد أن توفى خاله بأربع سنوات، وبالتالى فتسميتها بزوجة الخال ظلم لها وللأحداث (كيف للأحداث لا أدرى)، لأنها حين راودت الخطيب المزعوم (أنا متعمّد ألا أذكر اسمه إلا بعد فترة؛ تنشيطاً لخيال القارئ)، أقول حين فعلتها كان المرحوم خاله قد قضى نحبه منذ مدّة، أربع سنوات ليست قليلة فى عُـرف البيولوجيا الحيوية، وخصوصاً بيولوجيا الست إحسان، الأصح إذن أن نقول أرملة خاله، هناك فرق. هذه مُحصْنة (زوجة الخال) وتلك غير مُحصْنة (أرملة الخال)، هذه تُرجم حتى الموت، وتلك تـعَــذّر بكم جلدة شريطة حضور أربعة شهود بالتمام يكونون قد رأوا كل شئ رأى العين، وتأكدوا، كيف؟. لا أدري. ياما أنت حليم ستّار يارب، وبقية الظروف تعتبر فى عرف أى واحد يفهم فى الطبيعة البشرية البيولوجية من الظروف المخفّـفة، وخاصّة إذا كانت الطبيعة البيولوجية من نوع الطبيعة التى تطل من كل فتحات ملابس الست إحسان، وحتى من وراء الفتحات، فإذا أضفت إلى ذلك أن الخطيب المزعوم كان شاباً طويلاً أسمر سابقاً سنّه، خجولاً رياضياً ممتلئاً إلا قليلاً، له حاجبان كثيفان وعيناه الواسعتان تـُظهران حاجبيه بشكل معين، وبالعكس، (يعنى حاجباه الكثيفان يظهران أيضا سعة عينيه. ليس أسهل من هذا) إذا أضفت هذا إلى ذاك، وإلى استحالة التأكد من أى شئ بحضور أربعة شهود، لابد أن تعرف أن رحمة ربنا أكبر من كل تصوّر يا أخى، وأنا لست متأكداً مما حدث بالضبط من هذه الناحية، ولا أريد أن أدخل فى التفاصيل، لأنها تحصيل حاصل، مع أننى أعرف أنك تريدنى أن أحكى لك التفاصيل، لكننى سأغيظك، وفى الوقت ذاته أحاول أن أستثير خيالك، فماذا يعنى يمكن أن يحدث بين الست إحسان التى هى كما ذكرنا إجمالا، وبين شاب بمثل تلك المواصفات السالفة الذكر، وعليكَ، ولكَ، أنت أن تتخيل ما تشاء، ولكن كل ما يتخيله خيالك هو مسئوليتك بالتمام، بما فى ذلك إذا تجرأ خيالك ورمى المحصنات، أو غير المحصنات، المسألة كلها تتوقف على نوع وسعة خيالك، أما عن “أنواع”الأخيلة فثَمَّ (!!) خيال خبيث، وخيال ملتو، وخيال نصف نصف، وخيال كسول، وخيال جامح (حلوة جامح هذه) وخيال متعثر فى طوب وزلط الواقع، أما عن “سعة” الأخيلة، فهناك الخيال بالطول والخيال بالعرض، والخيال الأسطوانى، والخيال القوْسقزحى، وما دام الأمر كذلك فما الحاجة بالله عليك إلى التصريح الذى نلقاه فى هذا النوع من الأدب الذى يقال له الأدب الصريح، أو أدب الجنس، لماذا يصرون فى هذا الأدب المكشوف على تسمية الأشياء بأسمائها، لا بد أنهم (أدباء الجنس الصريح) يظنون أنك عاجز جنسياً، أو أنك طفل فاتتك فرصة تعلّم التربية الجنسية، أو أنك تربيت مكبوتاً فى كُـتــَّاب القرية؛ وهذا لأن أغلبهم أفندية يتعاطون الأدب فى مقاهى المثقفين، ويتصورون أن القراءة عن الجنس هى بمثابة ممارسته، مع أن العكس يمكن أن يكون أصح، لأن معظم الذين تعلّموا فى كتاب القرية، على ما أذكر، ولستُ منهم بالضرورة، كانوا يتعلّمون الجنس من الحيوانات مباشرة، وكانت المباشرة عملية متاحة على مستويات متعددة، وقد رأوا التلقيح الطبيعى لمعظم أبقار البلدة، بمساعدة الكلاف الذى لا بد أنه كان يجد لذة من تقمّص هذا الثور السنافيرى، كان ثوراً أشقر فحلاً ليس عندك فكرة، وكان اسمه هكذا السنافيرى، حتى حسبتُ أنه اسم الدلع لرمسيس الثانى، إلاّ ولمّا كانت خالتك فاطمة تمسك بالبطة لدكر البط حتى ” يكسّرها”، وإلاّ لمّا ذكر الحمام يدور حول نفسه والحمامة تطأطئ رأسها وهو لا يقترب منها وإنما يواصل دوراته الاستعراضية، الآن فهمتُ لماذا سمّى ابن حزم كتابه “طوق الحمامة”، يا خبر هذه كلها من نعم الله الطبيعية على مخلوقاته وإلا انقرضت، فلماذا يستهينون بخيالك هكذا لمجرد تصورهم أنك خرجت من كتاب القرية أو أنك لم تتعلم التربية الجنسية فى المرحلة الثانوية، أما أنا فأنا أثق فى خيالك الخصب، وأتصوّر أنك تستطيع أن تنسج(!!) قصصاً لا تنتهى من مسألة “راودته عن نفسه”، بأمارة أن كل عمّاتك كنّ يطلبنَ منكَ أن تقرأ لهن سورة سيدنا يوسف للاتعاظ المرّة تلو المرّة، وبالتالى، فلن أدخل فى تفاصيل من إياها.

نرجع مرجوعنا إلى الخطيب، وقد آن الأوان أن نسميه، وفى هذا الأمر أسألك المشورة؛ لأن الأسماء التى خطرت ببالى بالنسبة إليه كانت من النوع الرمزى السخيف الذى يوائم بين الدور الذى يقوم به الشخص فى القصّة، و بين اسمه، وذلك مثل الكتاب الذين يتعمّدون هذه المقابلات كالتالى: عادل: قاض، همّام: ضابط، ونبيه: خبير كمبيوتر، ماهر: لاعب كرة، ورفيق: مرشد سياحى، ما هذا؟. تبت إلى الله بعد أن أخطأت مرّة بل مرّات أخطاء من هذا النوع، ما رأيك فى اسم سلامة، أو أشرف، أو باسِم، أو مختار؟ بصراحة، كنت قد اخترت له اسم “يوسف” بمحض الصدفة، ليس صدفة تماما ولكننى أعرف محامياً طيباً شاباً وذكياً اسمه يوسف، وكنت أريد أن أكرمه بأن أستعمل اسمه لشخص مناسب، لكننى حين تذكرت مسألة “راودته عن نفسه” هذه قلت: بـناقص يوسف، خلّها: سامى، ماشى سامي؟ لا مانع، هو اسم يصلح لكل العصور، وليس فى دوره أى سمو أو تسام، وبالتالى، لا حرج، فليكن، سامى سامى، خلّنا نخلص.

بعد إذنك، عزيزى، القطار مازال يسير ببطء وهناك تأخير قد يقلب هذه القصة إلى رواية، وقد تـُـنـشر على حلقات، وقد يطلب من الكاتب أن يكتب موجز ما نشر، ومن باب الاحتياط سوف أحاول الآن أن أجرب حكاية “موجز ما نشر” هذه، وقفة قصيرة ثم نستطرد، شكرا.

(موجز ما نشر)

جلس الرجل (الذى هو أنا فى الأغلب) على المقهى بعد أن اشترى كراسة بجنيه، وطلب واحد قرفة، وادعى أنه ينتظر واحدا، وقرر أن يكتب قصة أسوة بالمسئول الكبير الذى نشر قصصه عينى عينك فى صحيفة يومية آخر تمام، وذلك من فرط غيظ الرجل الجالس فى المقهى من عبده جبير، ومن المسئول الكبير معاً، وكانت الكراسة التى اشتراها بجنيه، قابعة تنتظر، وكان معه قلم حبر جاف مصادفة، فراح يكتب، وكل ما فتح الله عليه به حتى هذه اللحظة هو أن هناك بنتاً ملظلظة، لها خطيب لم يخطبها، ولم يصدمها شاب متهور يركب عربة مسرعة، وخلاص. أما الفتاة فأبوها يعمل فى السعودية. أما الخطيب المزعوم فأبوه مات فى حرب الاستنزاف، وأمه تزوجت زواجاً عرفياً، وزوجة خاله، أعنى أرملة خاله راودته عن نفسه زمان (بعد الغسالة ما علّمته اللازم)، هذا كل ما كان حتى الآن.

 وكان الكاتب قد قرر أن ينهى القصة لا قبل ولا بعد أن يدخل القطار محطة القاهرة، وقد أعطاه القطار مقلباً إذ أنه راح يسير ببطء ولا قطار الدلتا بسبب إصلاحات فى الطريق فى الأغلب، وهو الآن لا يعرف كيف يكمل، فها هو يحاول، قال:

ولمّا تأخر سامى فى التقدم لخطبة حميدة، لست أعرف لماذا (قَطْع) خطر ببالى خاطر الآن تخلّصا من الوسواس الذى ألزمنى بكتابة هذه القصة، وهو أن أحسب التحدّى بالساعات لا بعدد الكيلومترات، مضت حتى الآن ثلاث ساعات وربع، وكان المفروض أن يصل القطار فى ثلاث ساعات إلا ربع، فالنذر (الوسواسى) قد تم الوفاء به، وهو لم يكف عن الكتابة من ساعتها، فماذا تريد أكثر من ذلك؟ عليك أن تكمل الحكاية أنت بشهامة المبدعين، ويكفى هذا، ثم إن هناك سبباً آخر وهو أننى أشعر باقتراب حزن خفى، وأننى لو أكملتُ بعد ذلك فسوف أقلبها غمّاً، فما رأيك؟.

نعم؟ نعم؟. أنتَ مالك؟.

أمّا قارئ أى كلام، ألستَ يا سيدى أنت هو نفس القارئ الذى يتحمّل كلام الحداثة حين يقولون له: إنك تقوم بدور لست أدرى ماذا، وإنك كذا، وإنك مبدع، وإنك وإنك….،فإذا جئتُ أنا أستسمحك بكل طيبة أن تساعدنى، تقوم تهز لى أكتافك هكذا، طيب أنت المسئول عن الغم الذى أشم رائحته قادماً، ثم إن والدتى كانت تكرر أنه “من عمل جميلا يتمّه، وإلا تموت أمه”، فهل معنى أن أمى ماتت فعلا وأنى لا أخاف أن تموت ثانية إذا لم أتم القصة، هل معنى ذلك أن أتحرر فلا أتم العمل الذى أقوم به؟. بالعكس، إكراما لها ولحكمتها سوف أتم هذا العمل، وسوف أعتبر أنها لم تمت، وسوف أحرص على ذلك خوفا على حياتها. ربنا يخلّيها ويطول عمرها لنا جميعا!!

خذ عندك يا سيدى:

البنت حميدة، تعمل فى شركة كمبيوتر، وسامى يعمل محاميا تحت التمرين، رغم أن أمّه كانت تصر على ألا يطلع ضابطا مثل أبيه، كانت تريده أن يكون مهندسا ضاربة عرض الحائط بأنه قسم أدبى، المهم أنه بعُد عن الجيش، وأنهى كلية الحقوق بعد تخلف سنتين ثلاثة، ومرتبه شديد التواضع، ومعاشه انقطع ولم يبق إلا معاش أمّه التى تصرفه على زوجها العرفى الثانى (=الزوج البيولوجى المُعلَن: الثالث) وهو زوج بيات أيضا لكن بياتة مرتاحة وليست خطفاً مثل الأول، ثم إنه يختلف عن الزوج البيات الأول فى أنه أصغر عشر سنين (أصغر من الأم وليس من الزوج الأول) ثم هو يأتى مبكراً، ويبقى فى المنزل أحيانا إلى ما بعد الظهر ورغم أمانة سامى مع حميدة إذ أنه لم يعدها أبدا أنه سوف يتقدم إليها. إلا أنها كانت ولا على بالها، والذى فى مخها فى مخها، وهذا هو الذى جعلها تخرج معه مراراً وتكراراً (!!). المشكلة فى المكان، وقد فكّر سامى ذات يوم أن يستعير عربة “الأستاذ” الذى يتمرّن عنده بعد أن قامت صداقة ـ ليست معتادة ـ بينهما، محام تحت التمرين، وصاحب مكتب مشهور فى التعاقدات، لكن المسألة صدَف، وثقة متنامية (!!). والثقة التى تولّدت بينهما لم تكن بسبب إتقان كتابة المذكرات القانونية أو حسن لقاء الزبون، وإنما حدثت بمحض الصدفة؛ ذلك أن المحامى الكبير (سأسميه: “الأستاذ”) قد أرسل سامى ذات يوم ليحضر له لفافةً ما من أحد المعلمين الممتازين، وكان هذا المعلم الممتاز يعيش ـ ليس بمحض الصدفة ـ فى مكان يحتاج إلى خريطة تفصيلية للوصول إليه، فإذا بسامى يذهب ويرجع بالأمانة (اللفافة) فى لمح البصر(!!). [أظنك مازلت تذكر يا عزيزى مغزى علامات التعجب]. نعم رجع سامى فى لمح البصر وعرف المكان مائة فى المائة حتى لم يعد يستعمل الخريطة بعد ذلك، ومع تكرار ذهابه راحت ثقة الأستاذ فيه تتنامي(!)، بل إن دليلاً آخر قد بدأ فى الظهور وهو أن الأستاذ شخصيا هو الذى أخذ يرفع الكلفة تدريجياً بينه وبين سامى، فبعد أن كان لا يناديه إلا بـ “الأستاذ سامي” أصبح يناديه بـ “سامي”، فقط، طبعا هذا دليل على علاقة أوثق بلا شك، ولكنّ سامى لم يستطب الاسم هكذا “حاف” خاصة أمام الزبائن، خشية أن يحسبوه فرّاشاً مثلاً، لكن حين وصل الأمر إلى “يابو السّام ” تأكد من رفع الكلفة بينه وبين الأستاذ، وهذا ما جعل سامى يفكر أن يستعير سيارة الأستاذ حتى يفسِّح فيها ” لا ـ خطيبته” (شئ أشبه بـ “اللا رواية”، أو كما قال) وكان يتمنى أن يوافق الأستاذ لأنه فى الأغلب سيكسب ثوابا كبيرا، لا لأن ذلك سيسهل عملية التقدم للخطبة، فالزواج، ويا بخت من وفّق.رأسين.. إلخ، ولكن لأن مثل هذه الفسحة فى تلك السيارة الفسيحة يمكن أن يساعد سامى فى الهبوط بـ “لا خطيبته” إلى أرض الواقع، أو قل إلى “لحـم الواقع”، وهذا لا يعنى أن سامى كان يفكر أى تفكير كذا أو كذا، فالالتحام بالواقع فى الأغلب هو اشتقاق من حكاية “لحم الواقع” التى خطرت ببال سامى بديلا عن “أرض الواقع”، كله من مادة لحم يلحم، ثم ـ من وفرة إخلاص سامى ـ أنه لم يستبعد أن يهبط هو كذلك إلى أرض الواقع، أو لحم الواقع، أو لظلظة الواقع، وقد يكون هذا دافعاً أن يجعل الذى فى مخ حميدة ليس فى مخها فقط، من يدرى، من ذاق عرف، هذا قول الصوفية ولكن من أين يا حسرة، من أين يمكن له أن يتم هو الآخر ما بدأه خياله؟ أقول لك من أين: (مازال سامى يحدّث نفسه)، فقد فكر يوما أن يعرض على المعلم أن يقوم بنفس المهمة التى يقوم بها للأستاذ، يقوم بها ـ فى غير أوقات العمل الرسمية ـ لأساتيذ غير الأستاذ؛ وذلك مقابل حسنة محسوبة، وهو محام، صحيح تحت التمرين، ولكنه فاهم كل حاجة، ويا بخت من نفع واستنفع، وهو لن يحتاج ـ حسب حساباته إلى أكثر من عشرة مشاوير، بعدها، يمكن أن يتقدم إليها، وما قدّر يكون، ولكن هذا السيناريو لا يمكن أن يبدأ إلا بعد أن يكون الأستاذ قد وافق على إعارته عربته حتى يحقق قول الصوفية الأفاضل أن من ذاق عرف، وهنا فقط تذكر أنه لا يعرف قيادة السيارات أصلاً، وهو يستعمل التاكسى حين يذهب إلى هذا المشوار بالذات، مشوار المعلم واللفافة، وعلى التاكسى أن يتغير باستمرار، هكذا وصّاه الأستاذ، وقد عمل بوصيته ردحاً من الزمن(!!) ولكن تاكسياً بذاته عرف مواعيده، وأخذ ينتظره وكأن المسألة صدفة، ثم هب أن كل ما تصوّره بشأن الحلول المادية بالجهود الذاتية قد تحقق، فللأمانة هو غير متأكد إن كان سيقدم على خطبة حميدة أم لا. فالمانع ليس فقط المادّة التى يعبّر عنها هذه الأيام الشباب بتعبير ” يكوّن نفسه”، ولا هو عدم وجود عاطفة كافية، ولا هو أمّه وزوجها البيات، ولعلّ القارئ بذكائه يحاول أن يجتهد معى لنبحث عن المانع لأنه (القارئ) فى الأغلب أصغر منى سناً، وهو أدرى بشباب هذه الأيام وموانعهم، ثم إن القطار، رغم الإصلاحات المعوّقة، ورغم تأخره عن الميعاد أكثر من ساعة، ورغم بطئه، قد اقترب من باب الحديد، ولو أننى تركت نفسى أحاول تفسير كل مانع ودافع لكان لزاما على أن أقضى الليل فى القطار، وذكريات فيلم باب الحديد ليوسف شاهين لا تسر (فيما عدا هذا الذى فعلته هند رستم بكل الرجال الذين شاهدوا الفيلم) ورواية السكة الحديد لإدوارد الخراط تخيفك دون أن تكون فيها عفاريت محددة “الهوية”(!!). أنا قلت أكتب قصّة وليس أمثّل قصة، ثم إن الخطأ خطأ حميدة لأنها تعتبر سامى خطيبها فعلا دون أى دليل أو قرينة، كلام هكذا والسلام دون بينة، والبينة على من ادّعى، واليمين على من أنكر، ومع أن سامى لم ينكر، إلا أنه قد أقسم ألف يمين ويمين، وحتى دون أن يقسم فالقارئ عارف، وأنا قلت له إنه لم يلمّح ولم يصرّح بأى شئ، وأنا شاهد حتى بعيداً عن هذه القصة تماما، شاهد أن هذا لم يحدث بأية صورة من الصور، ولا بد أن يصدقنى القارئ، فليس معنى أننى تركته يشاركنى الإبداع والبحث عن الحلول أن يشك فى كلامى وفى قدراتى على الخلق، فليفعل هو ما بدا له فى حدود ما سمح له النقد الحديث (وأنا شخصياً لا أعرف هذه الحدود ولست مهتماً بمعرفتها)، كل ما أعرفه هو أننى ينبغى ألا أعامله (القارئ) وكأنه مثل الإناء الأملس من الداخل، ألقى به ما يعِنّ لى (ملعوبة !!) وما عليه إلا أن يحتويه. لا، هذا كلام قديم، إن النقد الحديث يلزم القارئ أن يكون مثل الفخار المسامى، يمتص ما يلقى إليه، ثم يسيبه الناحية الثانية بلا أى مانع، والاسم استيعاب، وتمثّل، وكلام من هذا الكلام الجيد الذى يحترم القارئ لدرجة الاستغفال، أما أنا، فلا بد أن أعترف أننى، حتى هذه اللحظة، لم أجد مبررا كافيا يبرر أن يرتبط سامى بحميدة، ومسألة الحب التى كانت تبنى عليها قصص زمان أصبحت بعد الفيديو كلوب مسألة فيها نظر، فأنت كنت تستطيع أن تجلس أمام شادية تتملى فيها وهى تسهر طول الليل، “وسهرنا سهرنا سهرنا لحاد الفجر”، وبالتالى تصبح لديك فرصة أن تحبّها، وبالتالى تحب غيرها، مثلها أو نقيضها، المهم تتعلم الحب بإيقاعه البطئ اللذيذ وأنت سهران لحادّ الفجر، ثم بعد ذلك أنت حرّ، أما الآن بعد الفيديو كلوب، فأنت لا تكاد تبدأ فى حب أية واحدة تليفزيونية تغنى، أو تتصور أنها تغنى، حتى تظهر لك عجلة، أو واحد يكتب، أو حمار بجوار ترعة، ثم تظهر ثانية هذه الواحدة، وتحتار هل هى لطيفة أم سحر رامى أم على الحجار، فكيف بالله عليك يتعلّم شبابنا الحب، وكيف أطالب سامى وهو رائح غاد يجلب اللفافة للأستاذ ويحضّر المذكرات القانونية، كيف أطالبه أو أتوقع منه أن يتقدّم لحميدة بسبب الحب، وهو لا يعرفه أصلاً، كانت أيام. أيام مصطفى لطفى المنفلوطى كان يمكن أن تفسّر أشياء كثيرة بهذه العواطف النبيلة (هم الذين كانوا يسمونها كذلك)، أما الآن فالنبل موجود طول الوقت دون أى عواطف ولا تعب ولا خطبة ولا حاجة، هل يمكن أن يكون العائق ـ الذى يؤخّر الخطبة أو يمنعها ـ فى حميدة وليس فى سامي؛ لأننا إذا كنّا افتقدنا الدافع للخطبة، فلعل الأمر يفَسّر بفتور الشّدّ الجاذب نحو العلاقة، المسألة جهاز إرسال وجهاز استقبال، فلعل جهاز استقبال حميدة، على الرغم من لظلظتها، هو الذى به خلل، وهذا يلزمنا أن نعرف أكثر عن حميدة، وبطء سرعة القطار يسمح بذلك:

حميدة ـ كما قلنا ـ تعمل فى شركة كمبيوتر، وهى مخلصة إخلاصاً فائقاً فى عملها لأنه عمل خاص جدا، ومهم جداً جداً، فهى لا تعمل على الكمبيوتر جامعة حروف مثل كاتبة الآلة الكاتبة، لكنّها مصمِّمة برامج، وهذا عمل لا يقوم به إلا شباب أذكياء جداً، وهم عادة من الذكور، وهو إبداع حقيقى، وفيه قدر كبير من السرقة الذكية، وهى سرقة تنهَى عنها اتفاقات الجات فى حين تشجّعها الأمم النامية، ويرضى عنها رب العالمين (فى الأغلب)، وقد استطاعت حميدة ـ بفضل الله ـ أن تفك شفرة برنامج جديد شديد التعقيد، ثم إن هذا البرنامج فى صورته الأصلية ثمنه ألف ومائتان وخمسون دولاراً أمريكياً(!!)، أى أربعة آلاف وثمانية وستون جنيهاً مصرياً وكسوراً (قبل أزمة الدولار الأخيرة)، فكافأها رئيسها بمائتى جنيه مصرى(!!)، وباع نسخاً من البرنامج المفتوح شفرته كما يريد، باعها هكذا عينى عينك، كل نسخة بمبلغ ثلاثمائة وسبعين جنيهاً، وبهذا ردّ بعض ما أخذه منا الاحتلال، وحميدة لا تنظر إلى هذه المسائل، بل كل ما يهمها هو أن تسأل عن برنامج جديد مُلْغـِز، ومـُؤمـَّن، لتواجهه متحدية عنيدة، مثابـِـرة حتى تفك شفرته، وهكذا، وهى تحب الشاى بلبن، وتضع فيه خمس قطع سكر مرة واحدة، وربما كان هذا ومثله من أسباب اكتسابها وصف ملظلظة، فهو لفظ مكتسب، فلظلظتها ليس لها أى جذور وراثية، بل إنهم كانوا يعايرون أمها بأن لها عرقوباً يذبح الطير، وليس معنى انشغال حميدة كل هذا الانشغال بفك شفرة البرامج، وإعداد برامج جديدة، وشرب الشاى “أبو لبن” فائق الحلاوة، أنها كانت مهملة لأنوثتها أو مستهترة بمستقبلها أو كلاماً من هذا؛ ذلك أن جاذبيتها الإنسانية والأنثوية كانتا بعيدتيْن عن أى تشكيك، وفى يوم من الأيام اقترب منها زميل أثناء انهماكها المطلق فى تحدّى مشكلة لو حلّتها ستقفز بها إلى المعادلة النهائية التى سوف تفك شفرة هذا البرنامج العنيد، وهو ليس زميلها بالضبط، لكنّها تعتبرهم كلهم زملاء، ساعياً، فراشاً، كاتباً، سكرتيرة، كلهم زملاء، المكتب مكون من زملاء ورؤساء، وخلاص، وبما أن هذا الشاب الذى حضر ليس رئيسا فهو زميل، ساع لكن زميل، وهو قد حضر كالعادة ليطلب منها شيئاً طلبه منه رئيسه، وهو لم يعلن ما جاء من أجله؛ لأنه بمجرد أن دخل الحجرة، وكانت حميدة منهمكة أشد الانهماك فيما بين يديها، و هو يتراوح فى الوقت ذاته ذهابا وجيئة بين جانبى دماغها[19]، وربما لذلك لم يفقدها انهماكها فى فك الشفرات والبرمجة أى ذرة من جاذيتها الإنسانية أو الأنثوية، ويبدو أن زميلها هذا انبهر بكل هذا، فاقترب منها وأخذ يبحلق فى شاشة الكومبيوتر وكأنه يرى صندوق الدنيا، وهو طويل وعريض وأسمر أيضا، لكنه ـ لسبب ما ـ أخذ يبحلق دون أن يثنى جذعه، وإنما اقترب وكأنه يفهم رويداً رويداً، وزاد اقترابه رويداً رويداً أيضا، على قدر فهمه، وكلما اقترب رويداً، فَهِمَ رويدا هكذا، وهى منهمكة إلا قليلاً، ثم إلا قليلين، ثم إلا قلائل كثيرة، وكأن هناك تناسباً عكسياً بين رويداً، وقليلاً، أو قل بدقة أكبر إنه تناسب طردى بين “رويدا”، و”إلا قليلاً”، حتى أصبح الزميل قريباً جداً وهو مازال واقفا لم يمل برأسه نحو الشاشة، فأحسَّــتْ، واندهشتْ، واستلذتْ، واَستمرتْ، وأنكرتْ، وربما تمنّتْ أن يبقى هكذا فى محله من غير “إلا قليلاً”، كل هذا وهى لا تعرف عن هذا الذى ذكره الكاتب الآن، كاتب هذه القصة، شيئا بالمرّة، كل الذى تعرفه هو أنها فجأة بعد أن كادت تعترف باستسلامها، ماعت نفسها، نعم فجأة، وشعرت بغثيان كأنه نزل صعقا من حالق، فقامت تعدو كالملسوعة خوفا من أن تنقلب معدتها على الكومبيوتر، ولم تنسَ وهى تنصرف إلى دورة المياه مسرعة أن تعتذر لزميلها هذا، بل تستأذنه أيضا، وهناك وضعت إصبعها فى حلقها، ولم تتقيأ، ولم يكن فى بطنها غير هذا الشاى بلبن الزائد السكر السالف الذكر، وحين عادت لم تجده فى الحجرة، فكادت أن تذهب تسأل عنه، أعنى تسأل عن الذى كان يريده ولم يـُـتمّه، تعنى: عن ما كان رئيسه قد طلبه منه، أى منها، أكرر أنها لا تعرف أى شئ من هذه التفاصيل التى حكيتُ عنها حالا، فهى أمور تحدث على الجانب الآخر دون إذن صاحبها، إذ كيف لها أن تعرف أنها “كادت” مثلاً، ثم سواءً كادت أو لم تكد، هى لم تفعل شيئآ، لا هى فعلت ولا زميلها حضر ثانية يكمل، يكمل ما طلب رئيسه، ولا سامى تقدم لخطبتها، ولا القطار وصل إلى باب الحديد، وحين رجعتْ إلى أمها ليلاً قالت لها أمها إن أحدا لم يسأل عنها، وكأن المعتاد أن يسأل عنها أحد، وهذا غير صحيح، وكانت أمها منهمكة فى إعداد تلك الحلاوة ذات الرائحة الخاصة، وجارتهم أم محمود تملأ المنزل بضحكتها المجلجلة، وأمها مبتسمة ابتسامة “غير”، فعرفت حميدة كل شئ، وسألت أمّها عن موعد عودة أبيها بالضبط، وعن طول مدة إجازته هذه المرّة لعل سامى يفكر، فابتسمت أمها ابتسامة أخرى غير الابتسامات التى تبتسمها لها وهى ذاهبة إلى العمل، وذكرت لها موعداً ومدّةً، وبعد أن غسلت حميدة وجهها، توضأت بالمرّة، ثم نادت بسرعة على إخوتها الأصغر، ثلاثة صبيان على بنت واحدة، وهى أكبرهم جميعا، فراحت تسألهم الواحد بعد الثانى عن الواجبات والدروس، وانهمكت فى المراجعة والتسميع والتصحيح، والمراجعة والتسميع والتصحيح، والمراجعة وهكذا.

مرّة أخرى ـ وربما أخيرة ـ أنذرك عزيزى القارئ أن القصة انتهت، وأن القطار الزاحف تخطى قليوب وأنهم حتى لو جرجروه جرّاً فسيصل فى أقل من نصف ساعة، فأرجوك أن تعفينى لأننى أشعر شعوراً قوياً بغمّ قادم، وأنت أقدر على الاتجاه بهذه القصّة المتعثرة إلى نهاية أخرى، ولذلك أقترح عليك أن تكملها أنت بمعرفتك، أمّا إذا أصررتَ كما أنا مضطر استجابة لوسواس لا أعرف تفاصيل مطالبه، فإن المسئولية مشتركة حتما. ليكن، عن نفسى: أنا لا أملك إلا أن أكمل طالما القطار يتحرك.

نرجع مرجوعنا إلى عمّك سامى وهو يحضِــر اللفافة للأستاذ المرة تلو المرة (!!)، وفى مرة من هذه المرات التى هى تلو الأخرى، وكان سائق تاكسى معين قد عرف مواعيده، وأصبح يتصنع التسكع فى الوقت الذى ينزل فيه سامى إلى هذا المشوار الخاص، فتكرر ركوبه معه، ثم تصارحا وتواعدا رغم تعليمات الأستاذ، فى هذا اليوم، وبعد خروج سامى من الحوارى إياها إلى الميدان، وركوبه التاكسى وجلوسه فى المقعد الخلفى كما اتفقا دائماً، لأسباب أمنية، لم يكد التاكسى ينطلق حتى أشار لهم أحد المارّة إشارة معروفة حسب التقاليد الجديدة لاتفاقيات التعاون المشترك فى مسألة التاكسيات فى القاهرة، ولكن الاتفاق المتين بين سامى والسائق كان يمنع منعاً باتاً ركوب ثالث، هذه كانت تعليمات الأستاذ، وهذا هو السبب فى ارتفاع قيمة المقاولة بشكل واضح، لكن هذه المرّة التفت السائق إلى سامى يرجوه، ويبرر رجاءه بأن “المشير” يظهر عليه أنه غلبان، وأنها المرّة هذه وفقط، ومن الذى سيجعل الأستاذ يعرف، وكلام من هذا. حنّ قلب سامى غصبا وصاحب ذلك شعور برعب خطير لم يظهر عليه بعد، ركب المشير فى الكرسى الأمامى، ولم ينظر إلى الخلف ولم يحى سامى أصلا، وطلب بعد قليل بشئ من الصفاقة (هكذا اعتبرها سامى) أن يمروا به على مصر القديمة أولاً ـ قبل أن يتوجهوا إلى الجيزة، أحسن مستعجل، (سكتْـنا له…..)، فوافق السائق بعد إيماءة لسامى فى المرآة، ثم حدثت الأشياء التى تحدث وراء بعضها بتسلسل قدَرى ليس له تفسير، لم يحدث تصادم، ولكن الأشياء التى حدثت كانت داخل السيارة لا خارجها مما ينشر بطريقة مثيرة مليئة بعلامات الاستفهام فى صفحة الحوادث، ثم إن سامى وهم يستجوبونه فى المستشفى لم يستطع أن يتذكر اسم السائق ولا رقم التاكسى الذى ركبه أكثر من مائة مرة، وكان السائق مثل فص ملح وذاب، والراكب (المشير) لا أحد يعرف عنه شيئآ، ومع أن الطبيب طمأن أم سامى، كما طمأن حميدة التى زارته بالرغم من عدم وجود أى شئ رسمى بينهما، ولا حتى هى تعرف أمه شكلاً، بالرغم من أن كل هذا حدث، إلا أن اسم سامى انتقل من صفحة الحوادث إلى الصفحة قبل الأخيرة فى الصحيفة ذاتها التى نشر فيها المسئول الكبير ذو التسعة عشر “ربيعاً” قصصه الباكرة (!!)

المفروض أن أتحدث عن شعور حميدة بشئ أكثر من التفصيل، ولكن ليست عندى أية تفاصيل محددة، ثم إننى فى غمّ شديد، كل ما يمكن قوله هو أنها: سمعتْ ودهشتْ، وزارتْ، وبكتْ، ورجعتْ، وعادتْ، ودهشتْ ثانية، وسألتْ، وخافتْ وأحستْ، وتوجستْ، وصرختْ، وانهارتْ، وتماسكتْ، ولم تخجل أن تلبس السواد على شاب لا أحد يعرف عن علاقتها به شيئا، وحين جاء الزميل الساعى الذى “لم” يكمل، يعزّيها، كادت تقفز فى حضنه صارخة، فى حماس له طعم خاص، وهى تسأل وتتساءل: ماذا كان يريد رئيسه بالضبط فى ذلك اليوم، ولماذا لم يعُد؟، ولماذا لم يكمل (ما طلبه رئيسه)؟ ولماذا أصابها الغثيان فجأة؟

وهكذا انتهت القصة فيما يتعلّق بسامى، والأحسن أن نقفلها أيضا فيما يتعلّق بحميدة، فإذا لم يتوقف القطار الآن فأنا مضطر أن أخبركم عن جانب آخر فى حياة حميدة بعيدا كل البعد عن سامى، وعن زميلها ورئيسه، وعن الكومبيوتر:

ذلك أن حميدة كانت تحب الكلاب حبا جما، وكان الذى زاد من حبها للكلاب هو أنها مضطرة أن تحبهم فى السر. من وراء أمها؛ لأن أمها تكرههم كره العمى، ناهيك عن مسألة النجاسة والحرام والحلال، وبالتالى فإن حميدة لم تعد تجرؤ أن تذكر لأمها أى شئ عن هذا الموضوع، وكانت لا تجرؤ أن تشترى للكلاب الضالة العظام وبعض بقايا اللحم من مرتبها التى كانت تسلمه كله إلى أمها أولا بأول، لكنّها كانت تشترى هذه الأشياء من مكافآتها غير المنتظمة التى لا تعلم عنها أمها شيئا، ثم إن الصدف ساقت لحميدة فرصة نادرة حين لمحت فى فيلا بجوار الشركة التى تعمل بها كلبة صغيرة الحجم شديدة بياض الشعر المتهدل على وجهها وجسمها كلّه، فتعلّقت بها تعلقاً خاصاً جداً، وشعرت نحوها بمشاعر غير مشاعر الشفقة التى كانت تشعر بها نحو كلاب الشارع، أحبتها حباً غير مشروط، وبلا مقابل، فهى ـ الكلبة ـ لا تحتاج منها شيئاً ولا تعلم عنها شيئاً، وزاد من عمق العلاقة أن ابنة صاحب الفيللا لمحت حميدة وهى تشير إلى الكلبة فى ود، فلم تنهرها، ولم تعترض، بل تعرّفت عليها، ودعتها للدخول إلى الحديقة وتناول الشاى معها، وقد دخلت فعلا لكنّها لم تتناول الشاى، وسمحت لـ “جولي”، هذا هو اسم الكلبة، أن تجلس على حجرها، ورفعتها حميدة على صدرها حتى تجرأت جولى ولعقت خدّها فى ودّ لم يذكّرها باقتراب زميلها منها، وإن كان هناك شبه بعيد لا أحد يستطيع أن ينكره، رغم خفاء وغموض جوهره على الجميع.

لو كان القطار لا يزحف بكل هذا البطء لجنّبنا غمّا آخر يقترب، ذلك أنه فى يوم بعد ذلك اليوم، ذهبت حميدة إلى الفيلا كالعادة، لكنها لمحت نوافد الفيلا مغلقة، فتوقعت ألا تجد “جولي” أيضا، فهم يأخذونها معهم إذا سافروا، لكنها سمعت نباحا كثيرا فى الحديقة الخلفية، فاستدارت ووقفت على ركبة السور من الخارج، فإذا بها تفاجأ بجمهرة من الكلاب مختلفى الأنواع والأحجام، والألوان، وكان كلب واحد ملتصقاً بجولى من الخلف، وكان أقبحهم وأجربهم، لماذا يا جولى هذا بالذات؟، كيف رضيتِ به هكذا وأنت معلقة من مؤخرته كالمشنوقة، لا ليس كذلك، حميدة تعرف الكثير عن علاقة مختلف الحيوانات بهذه المسألة،صحيح أنها رأت بعض ذلك وهى تزور خالتها فى البلدة،ولكن هذا شئ آخر، كادت تخاصم جولى عتاباً، لماذا يا جولي؟ لماذا هذا بالذات، هكذا؟. لماذا يا حبيبتي؟ ولمّا لم تستطع أن تكمل الانتظار ولّت وكأنها تجرى، وهى لا تفهم لماذا تركوا جولى وحدها هذه المرة حتى ينتهز الفرصة ذلك النذل وسط كل هؤلاء الشهود الحاقدين، ولماذا النوافذ مغلقة؟ ولماذا البواب القديم غير موجود، وتحسست خدّها وكأنها تريد أن تتذكر جولى الأخرى التى وضعتها على حجرها والتى لعقت خدّها، وكانت وهى تمسح خدّها لا تدرى إن كانت تتذكر ذلك الاقتراب أم تمحو آثاره. وفى اليوم التالى سارعت إلى الفيلا لعلها تجد بعض الإجابات على كثير من الـ”لماذات” السابقة، وإذا بها لا تجد “جولي” أصلا، وقد سألت الشخص الذى حل محل البواب، والذى بدا خفيرا أكثر منه بوّابا، سألته عن أهل البيت، وعن جولى، ولم يفهم ماذا تعنى بجولى، وحين شرحت له أنها تقصد الكلبة البيضاء الصغيرة أجاب: أما عن أهل البيت فقد سافروا، وهو لا يعرف إلى أين، ولكن الذى يعرفه أنهم لن يرجعوا لأنهم باعوا الفيلا لناس من بلاد غير البلاد التى سافروا إليها، وفى إصرار خائف حاولت أن تستزيد، فأضاف الغفير على مضض ومع شئ من الدهشة التى لا تخلو من شفقة، أن أصحاب الفيلا سافروا إلى بلاد الخواجات البعيدة وليس الخواجات الذين نعرفهم هنا ويحضرون للسياحة مثلاً، وأنهم باعوا الفيلا لناس فى السعودية لا يعرفهم رغم أنه الخفير تبعهم، قالت مقاطعة: “السعودية عند بابا؟” لكنّها لم تنطق بما قالته، فقد كانت متلهفة على بقية الإجابة التى تتعلق بجولى، أكمل الخفير متعجّباً أنه أعطى الكلبة لسائق عربة القمامة وأعطاه الذى فيه القسمة ليسرّبها فى أبعد مكان ممكن، فهى عبء عليه لا تأكل ما يلقيه لها ولا تصلح للحراسة، ولا لأى شئ، ولا بد أن أصحاب الفيلا الجدد من السعوديين لا يطيقون سيرة الكلاب أصلا عملا بالسنة، بلعتها حميدة فى صمت وشكرته. لكنّها رجعت تسأل الغفير هل يعرف إلى أين اتجهت عربة القمامة، فلم يرد مشفقاً غير فاهم على ما يبدو.

لاح رصيف قطار محطة باب الحديد فى الأفق، وفى الوقت ذاته لمحتْ حميدة بجوار صندوق القمامة كلبة صغيرة بيضاء فى حجم جولى، معقول؟. هكذا بسرعة؟. هل يمكن أن تقبل جولى هذه البقايا وهى التى كانت تشمشم فى الهامبورجر الذى كانت تشتريه لها حميدة خصيصاً بعد أن عرفت أنها تحبّه رغم أنها هى شخصياً لا تأكله؟. معقول هذا؟ هل هى هذه؟ هي؟. ليست هي؟. هي؟. ليست هي!. اقتربت حميدة أكثر، هي؟. لا مستحيل!. لا بد أن تتأكد، ولن تتأكد إلا إذا أمسكتها وما يحدث يحدث، فإن عرفتها واستسلمت لها كانت هى، وإلا..، وقد حدث ما هو “وإلا….”.

عضةٌ مثل طعنة خنجر مشرشر مسنون، ثم ماذا؟.

ستون حقنة تحت جدار البطن فى مستشفى بجوار قصر العينى يوميا، ثم يوماً بعد يوم،

ولا فائدة.

توقف القطار تماما، وغمرنى حزن لا مثيل له، له طعم مختلف عن كل أحزنى السابقة، وما أكثرها، وكلما ذكّرت نفسى أننى أنا الذى اخترعت كل هذه الأحداث حتى لا أكف عن الكتابة إلا عندما يقف القطار، وأن المسألة كلها كراسة بجنيه حضرت بمحض الصدفة، وقلم جاف، وغيظ مزدوج،ووسواس سخيف، وأنه لا حميدة ولا سامى قد وجدا أصلا،ً كلما كررت ذلك لأطرد كل هذا الحزن، وجدته يزداد أكثر، حزن شديد شديد بحق،

ولم أستطع أن أميز على من حزنت أكثر، على سامى أم على حميدة؟.

يا ساتر يارب.

لِمَ هذا؟.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1 – كتبت هذا العمل إثر استفزازات اجتمعت على، ومن ذلك: أولا: مسئول كبير ينشر فى صحيفة كبيرة سلسلة يسميها قصصا يقول إنه كتبها لما كان عمره 19 عاما.وكان أهم نقد وُجِّه إليه هو مجرد نكتة طريفة (قيل ـ أيضاـ إنها سخيفة). وهى أن هذا المسئول ادّعى أنها قصص باكرة من باب التواضع، وأن الحقيقة أنه كتبها هذه الأيام جدا. ثانيا: دعوة من قبل جمعية النقّاد المصرية أن أقدم دراسة نقدية لقصّة عبده جبير “عطلة رضوان”، فعايشت خبرة فى الناحية الأخرى: أرقى وأصعب. ثالثا: تساؤل شخصى عن: كيف يكتب الكاتب قصّة ما؟. ولماذا؟. وهو ما استدعى شهادتى كاتبا، كما ظهرت فى النص الحالي.

فخرج هذا العمل الذى لا أعرف له اسماً جامعاً مانعاً، فجمعته إلى ما أسميته المقال القصة، حيث يجمع بينهما “العصيان عن التصنيف”. من هنا جاءت التسمية الشاملة للجزأين باعتبار أنهما يمثلان ورطة غير مقصودة، مع احتفاظ كل جزء بعنوانه الأصلي.

[2] – إشارة إلى نظرية المثُل عند أفلاطون التى تقول ما معناه: إن حقيقة الوجود والموجودات إنما تقع بعيدا عن متناولنا فى عالم المثُل، وإن ما تدركه ونعايشه ليس إلا تقليد لهذه المثل، وضرب لذلك مثل “السرير” الذى ينام عليه الذى ليس إلا تقليد للسرير “المثال” البعيد عن متناولنا.

[3] – د. حسن وجيه، علم التفاوض الاجتماعى والسياسي. سلسلة عالم المعرفة الكويت 1994.

[4] – الـ “بدون” فى الكويت هم فئة ليست قليلة، تقيم فى الكويت منذ عشرات السنين، ولكن ليس لهم الحق فى الحصول على الجنسية الكويتية، وبالتالى يطلق عليهم الـ”بدون”، أى: “بدون جنسية”.

[5] – مقطع من أغنية وردة “بطّل نار الغيرة” وأصله “طيب شوف التانية” وليس الثالثة.

[6] – إشارة إلى ما صار يتردد عن سيرة فرويد الذاتية وشخصيته وجوعه الشديد إلى التقدير من تلاميذه ومرضاه، وعلاقته بشقيقة زوجته.. الخ.

[7] – إشارة إلى برنامج “قوْل على قول” للأستاذ حسن الكرْمى الذى (كان) يذاع من لندن؛ حيث يتوالى القول من التراث على قول السائل فى تواتر جميل، دون انحشار مفتعل. وليس إشارة إلى باب ينشرـ بنفس الاسم ـ فى الأهرام لكاتب لا يريد أن يتوقف.

[8] – كنت قد أقحمت هذا الجزء داخل المتن فعلا، ثم انتبهت عند المراجعة إلى أنه بذلك قد أخلّ بالاتفاق المبدئى، وهو أن تتم القصة “فى القطار”، فأنزلتـُه إلى هامش سُفلى، ثم فكرت فى مسألة الهوامش هذه فنقلته هنا هكذا، وقد تركته بالنص الذى كان مكتوبا به فى المتن ليتبين مدى سخف إقحامه، ثم مشروعية حذفه!!! ـ ومع ذلك لم أستطع إلا أن أثبته فى الهوامش، وقد كتبته بشكل آخر، وبنط أصغر، حتى لا تقرأه (عزيزى القارئ) كما يلى:

أثناء المراجعة الأخيرة لم يستطع الكاتب أن يقاوم استشارة المعجم، فبدأ “بالوسيط” وهو واثق أنه سيسعفه وتطلع “لظلظة” كلمة عربية، فإذا به يفاجأ أنه: لظلظت الحية رأسها: حرَّكـَتـْه من شدة اغتياظها، ولا شئ غير ذلك. وهذه البنت الملظلظة لا هى حية ولا مغتاظة، أنا المغتاظ، ثم إنها تُحرك جسمها كله لا رأسها فقط، فكاد الكاتب يرجع فى كل كلامه السابق ويستبدل الكلمة، لكنه استغاث بلسان العرب فأسعفه بشكل أغراه بلعبة التأويل المتعسف هذه التى هى فى واقع الحال نوع من التخريج المزيف، وهى لعبة يتقنها الكاتب بغباء (مالـَك؟. فيه ماذا؟. لاتكملْ القراءة إذا لم يعجبك، أو انتظـْر للآخر، يمكن ربنا يـســهـلها) فقد وجد الكاتب أن من معانى اللظاظة: الملازَمة، “وأشياء” البنت ملازمةٌ بعضها بعضا فقد أنشد “بن برّي” “ألظّ به عَباقيةٌ سَرَنْدَى، جرئ الصدر منبسط القرين”ّ، والبنت فعلاً جريئة الصدر، وهو شخصيا منبسط (ولا بأس من إضافة القرين، لا يضر) ووجد أيضا أن “اللظيظ هو الإلحاح”، وحضور البنت الذى هو هكذا، له إلحاح متميز ومتواصل على وعيه وحواسه وكل شئ، ثم إن بـِشـْراً قال: “ألظَّ بهنّ يحدوهن حتى: تبينت الحبال من الوِساقِ”، وقد فرح بنون النسوة هنا كما لم يفرح بها من قبل، ورغم أن بيت بشر ليس فيه أى معنى من معانى لظلظة ليلى علوى، إلا أن الشطر الأول إذا أُخذ بشكلٍّ كلى أى جشتالطى فهو إنما يوحى بنفس الجو: “ألظّ بهن يحدوهن حتي” وليس مُهما الباقى، طبعاً سيقول النقاد إن هذا ليس تناصَّا، واردٌ هذا الرأى، لكن الكاتب لم يقل إنه تناصّ، هو قال إنه داخل على التناصّ، والداخل على الشئ قد يدخله وقد لا يدخله، والاحتمال الأخير يسمى الرباط فى ليلة الدخلة، ثم إنه يكتب قصة، وليس نقداً، هو يكتب ما يشاء، والنقاد يسمون ما يقرأون بالأسماء المناسبة: تناصاً، فَيهقه، تنطّع، كل واحد ومدرسته، ولا أقول انطباعه؛ لأن النقاد الانطباعيين ليس لهم مكان الآن فى أى شئ. المطلوب من القارئ أن يأخذ راحته، ويتصرّف بمعرفته.

[9] – بيان 30 مارس هو البيان الذى أذاعه عبد الناصر فى 30 مارس 1968 عقب هزيمة يونيو، والذى انتقلت فيه النغمة من الزعامة الفردية إلى نغمة “الشعب هو القائد”وكأنهم تذكروا، ولكنها كانت ذكرى مصنوعة تحت ضغط الظروف، وسرعان ما تلاشت، هذه النغمة الجديدة التى أدت الواجب حتى سكت الناس، وعلى الرغم من أن جيلى يعرف تفاصيل كل ذلك إلا أنه وجبت هذه الاشارة الموجَّهة إلى الجيل الأصغر الذى لم يعش هذه الأحداث.

[10] – إشارة إلى فوازير نيللى فى رمضانٍ ما، عن المهن المختلفة، تأليف صلاح جاهين والمقطع من فزورة “الصحفي”.

[11] – هذا ما صوّره جاهين فى فزورة “المهندس” فى رمضان ذاته، إشارة إلى المنازل المصنوعة من الخشب الحبيبي.

[12] – المقصود هنا هو مرض فقد الشهية العصبى Anorexia Nervosa وهو المرض الذى تخاف فيه الفتيات (والسيدات) من السمنة، فإما أن يكففن عن الأكل إلا قليلاً جداً، وإما أن يتعمدن القئ بعد الإفراط فى الأكل ثم يتكرر ذلك، وهو المرض الذى قيل إن الأميرة ديانا كانت مصابة به.

[13] – إشارة إلى كتاب” الشعر والتجربة” تأليف أرشيبالد مكليش ترجمة سلمى الخضراء الجيوشى، وفيه إشارة إلى قصيدة بودلير “جيفة”، وقد ظهر فى طبعة جديدة فى سلسلة آفاق الترجمة (الهيئة العامة لقصور الثقافة)، وقد أشارت المترجمة إلى اقتطاف ترجمة أدونيس لقصيدة بودلير، التى قال فيها المؤلف” تلك القصيدة المريعة التى يتزوج فيها الموت والجنس فى تجانس لا تجانس فيه، تجانس العهر اللاهث والعفن الفائر”.

[14] – ظل هذا المقطع من نهاية زقاق المدق فى ذاكرتى منذ الأربعينيات، وحين حضرنى هنا شككت لثانية أو اثنتين أنه فى رواية “بداية ونهاية” لكننى رجحت متيقناً أنه نهاية زقاق المدق، وهذا المقتطف جاء على لسان الشيخ درويش مدرس الإنجليزى الذى استقال وهام على وجه، ومشى فى حب الله، وبألفاظ ما جاء فى نهاية الرواية بعد الرجوع إليها:

“ثم وحوح (الشيخ درويش) متنهداً واستدرك قائلاً:

ـ يا ست الستات، يا قاضية الحاجات، الرحمة، الرحمة يا آل البيت، والله لأصبرن ما حييت، أليس لكل شئ نهاية؟. بلى لكل شئ نهاية.. ومعناه بالانجليزية end وتهجيتها”e, n, d ,

[15] – إشارة إلى رواية نجيب محفوظ “الباقى من الزمن ساعة”.

[16] – فيلم عنبر إلى الأبد، قامت بتمثيله لندا دارنل، وقد شاهدته فى أوائل الخمسينيات.

[17] – قيل فى أحد تفسيرات إطناب ديستويفسكى، واستطراداته المترامية إنه كان مضطراً لذلك تنفيذاً لعقد (أو عقود) إحدى المجلات الاسبوعية، المشترط أن يعطيها عدداً معيناً من الصفحات فى ميعاد محدد، وكان استغراقه فى لعب الميسر يجعله مضطراً للوفاء بالوعد بشكل قهري.

[18] – هناك نوع من العلاج السلوكى يستعمل مثل هذه الطريقة: وفكرتها أنه بدلا من تجنب المثير المسئول عن بعض المشاعر الدخيلة أو المزعجة، أو غير المناسبة يدفع المريض إلى مواجهته بالتدريج، وبتصعيد محسوب.

من المأثور عن على بن أبى طالب قوله ” إذا خفتَ شيئا فـَقـَعْ فيه”، وهو قول يحمل نفس الفكرة.

[19] – إشارة إلى أن العمليات العقلية التى تلزم فيها درجة عالية من تنشيط التخيل التركيبى الكلى، وفى الوقت ذاته الربط الرمزى المحدد الترابط، هى عمليات، تحتاج إلى عمل نصفَى المخ معا فى نشاط متكامل، (وهذا ما يخص الإبداع عامة) والنموذج هنا فى عمل الفتاة المتمثل فى فك الشفرة أو إنشاء البرامج الجديدة هو من أدق النماذج المعبِّرة عن هذا النوع من النشاط المتكامل للنصفين الكرويين معا، (أنظر أيضا المقارنة بين عمل نصفى المخ فى الجزء الثانى إن شئت النظر فى الفرق بين المقال القصة “اللعبة والملعوب ص 105) حيث كانت الغلبة للنصف غير الطاغى مقارنا بالمقال “ماذا بعد ما لعبْنا معاً لُعبة الألـفية؟” حيث كانت الغلبة للنصف الطاغى (هامش 15 الجزء الثانى ص 128، وما بعدها).

الجزء الثانى

مقال فى قصة، قصة فى مقال .  

التقرير.. والتوقيع[1]

ـ1ـ

الصليب الأبيض معلق خلف الظهر لتمييز الجنس الأدنى استعدادا للانقضاض، لكن الوجه لا ينم عن ألم مفرط كما كنت أتخيله منذ سمعت الإذاعة تبث هذا العار، يتلاشى الألم إذا زاد. لماذا يتألم الناس إذا كان الألم لا يقتلهم، ولا يدفعهم إلى القتل؟ (الآن ـ وليس بعد؟)

ـ 2 ـ

أُمـْسـِكُ بالقلم لأكتب التقرير. قاضٍ أنا؟.

العدالة معصوبة العينين وأنا مـُفـَتـَّحـُهـُمـَا

محنةٌ أن يُضطرُّ المحكِّم أن يعرى ضميره، أن يتعرى أمامه.، لا أستطيع أن أوقـِّـعَ على هذا الشئ. كيف أوقع على شئ “ليس بشئ”؟.

بمجرد أن أمسك بالقلم تتدلى من السقف بدلاً من النجفات النادرة، أقفاص من طائرات الهليوكوبتر المغيرة، سجون معلقة، تتراقص الصلبان البيض فوق الصفحة السوداء، فتستحيل الكتابة من حيث المبدأ، ألمح أحد السجناء الفلسطينيين فى الأقفاص وكأنه يلوح لى بيده، مودِّعا أو متوعدا، يتحدانى أن أُوَقـّع، كل شئ يتحدى، يتحدانى شخصياً هذا الذى يجرى يتحدى وعى البشرية ويبصق فى وجه تاريخ الإنسان جميعاً.

السلام حتمى، والتقرير الفردى حتمى كذلك.

كيف حكم السادات أنها آخر الحروب؟ نحن نستطيع ـ بالكاد ـ أن نحدد تاريخ بعض ما فات من حروب، فكيف استطاع هو أن يحدد آخرها؟ ربما كان يقصد آخر الحروب الذى سيخوضها هو، ومع ذلك فقد خاض حربا قذرة، قُتل فيها جدا. رحمه الله.

أتمنى لو أستطيع أن أحذو حذوه فأقرر أن هذا التقرير هو آخر التقارير؟ حتى لو كانت نهايته تنتظرني.

ـ3ـ

ليكن.

المجاملة واجبة، والكون لا ينصلح دفعة واحدة، والكل فى الإساءة سواء، الظلم الشامل عدل…، والأبحاث كلها مثل بعضها؛ إما كلام فارغ أو كلام مفروغ منه، وأنا مالي؟ مالى أنا؟ أنا عضو فى اللجنة الموقرة يا أخى، أمــّا بارد.

جـُرْ ياغراب وأفسِد لن ترى أحداً.. إلا مُسيئاً وأى الناس لم يـَجـُرِ”.

يا شيخ المعـرّة؟ هل هذا وقته، تبرر لنا الظلم وأنت لم تظلم إلا نفسك بكل إباء

الصليب أبيض والسجون معلقة والبشر هنا وهناك فقدوا الشئ.

الباحث الذى ينتظر ملءََ هذه الأوراق ليترقى ينظر لى فى لهفة غبية، ولا يجرؤ أن ينظر فى السماء ليرى ما أراه، قال رب لم حشرتنى أعمى، وقد كنت بصيرا أنا لم أحشُر شيئا فى دمـّاغ أحد، هم الذين حشرونى فى هذه اللجنة حشرا بحكم الأقدمية، ملعون أبو الأقدمية، والأكثرية بالمّرة.

مجتمع الرفاهية، المجموعة الاقتصادية الجديدة على وشك التنحى، العقل الشاب، شابَ وانتهى، لم يكن شابا أبدا.

ما الطزاجة؟ أين الدهشة؟.بحثٌ علمى بلا طزاجة أو دهشة ينبغى أن يبحث له عن اسم آخر؟ عقول مخزونة فى برودة غير ملائمة.

انتهى عمرها الافتراضى، عقول لا تصلح للاستعمال الأدمى، لماذا إذن؟

لماذا التقرير؟. ولماذا الفردي؟. ولماذا الجماعي؟ ولماذا التوقيع؟

ـ 4 ـ

لست مثل غيرى، هكذا أزعم، يلاحقنى ظلّى أينما تلفتُّ، يلاحقنى باستمرار، يحاسبنى، يقهقه أحيانا قبل أن أرد، يريد حلا حاسما:”الآن”، دائما “الآن”، وليس بعد، أطلب التأجيل.. يرفض.

“توقيعي” يشحذ السكين التى تذبح الأطفال، يـُحكم قـَفـْل السجن المعلق المدّلى من الهليوكوبتر.

متى أتوقف عن كل هذا؟.

ـ 5 ـ

لا مفرمن التكـُّيف، التشكّل، التعقّل، نحن دولة نامية. وأى شئ يكفي.

أمسك القلم وأهم بالتوقيع، أحس بسائل بارد لزج يتسحّب على ساقى اليمنى حتى فخذى، أرعب فأقوم كالملسوع، أتلفت فيخيل إلى أنى أتخيل، أمد يدى أتحسس فتتأكد اللزوجة وأتأكد أنه خيالٌ أوقع من الواقع، تغمر أصابعى اللزوجة لكن دون سائل ودون دماء.

أحسست ـ فى جزء من ثانية ـ أن ساقى قد غاصت فى بركة دماء تجمعت من أشلاء أطفال بين الثالثة والسادسة، كانوا يغنون ـ قبل القصف مباشرة ـ “وحوى يا وحوى، إياحه،…وكمان وحوى إياحة”، وحين قالوا “.. وحوينا الدار” دمعت عيناى، يتراجع خيالى السوداوى السخيف، لكن اللزوجة لم تفارق أصابعى التى تتجمع بجوار بعضها فى كتلة هلامية هى الأخرى تنتقل إلى القلم فتعجز أصابعى عن الامساك به، أتبين اختفاء أصابعى، كتلة رخوة من لحم مدهنن، كيف أمسك القلم بلا أصابع؟. داخلنى فرح أقرب إلى الخجل ـ حين تصورت أن الامتناع عن التوقيع يمكن أن يبرر بأسباب مرضية.

ليس على المـُعـَاقِ حرج.

ـ 6 ـ

لابد من التوقيع، حتى لو وجهوا إلى مباشرة تهمة قتل أطفال لا أعرفهم، ليكن التوقيع بماء النار أو بمسحوق النابالم، سأوقع هذه المـرّة بشرط ألا يتكرر مثل ذلك أبداً، لكنى على يقين أنى بمجرد أن أوقع سينسى الكل كل شئ، كل شئ، لا بل سيكتفون بنسيان الجانب المؤلم من كل شئ، وخاصة الدماء والأطفال، وصوت تكسير العظام، وإهانة الشيوخ، وجرح حياء العذارى، ومنظر الأشلاء.

قال يعنى كانوا تذكّروا أيا من ذلك أصلا؟

ما هذا الربط الفارغ؟. البحث العلمى شئ، والحرب شئ آخر. لابد أن أفيق وأن أوقع، وأن أصدق أنهم قبلوا شروطى ولو مستقبلاً.

عيونهم مركزة على القلم والورق ومكان التوقيع، وافقوا على شروطى دون أن ينظروا فيها أصلا، أتوهم أنهم يستحيل أن ينسوا الشروط ماداموا يحتاجون توقيعي.

أقاوم رعشة يدى وقد تخلّقت أصابعى من كتلة اللحم الرخوة اللزجة، أهم أن أوقع، تقفز ابتسامات التهانى فوق برك الدماء وتطمئن وجوه الباحثين النجباء أننى عقلت.

تـُشـَلّ أصابعى عن الحركة مع تنميل متسحّب بطئ كله إغاظة فى استرخاء يحيط به غثيان لا يزيد، ولا أتقيأ.

ـ7ـ

كان على ألا أقبل، كان لا بد أن أعتذر من البداية، ولكن من أدرانى بتوقيت ظهور طائرات الهليوكوبتر هذه هكذا الآن وهى تحمل أقفاص السجن المدَلَّى هكذا؟[2]

وهل ثَمَّ جديد؟.

لم يحدث إلا أنهم جسَّدوا الجارى فعلا، الجارى فى كل مكان وليس فقط فوق سماء جنوب لبنان.

أستقيل.

لا بديل.

يفرحون: تـُمصمص الشفاه، يزداد عدد هذه الأبحاث، والأطفال المبتسرين، تتكسّر كرات الدم الحمراد والبضاء خجلا وانتحارا، تتراكمُ الأرقام، والأشلاء، وصفحات الدوريات، وبقايا الكلمات، و الوظائف الشاغرة على الرغم من شاغليها، وجثث الأحياء، لا أستطيع أن أتنفس من تحت كل هذه الأكوام اللزجة ذات الغازات إيهاها، يشكـّون فى سلامة عقلى مع قليل من مشاعر العطف وكثير من كلمات الرثاء، جنبا إلى جنب مع لسع سياط الشفقة من بعيد دون أن تظهر الأيدى الممسكة بها.

أرفض..؟!.

لا يرْقَى، أبحاث هذا الباحث لا ترقَي. ليس لأنها أبحاث سيئة ولكن لأنها ليست أبحاثاً أصلا.

يرفضوني.

شخصٌ صعٌب، دعـُوه.

شخصٌ لا يوافق إلا من وافقه، دعوه.

دعـُوه… دعوه…. دعوه.

يا ليت!!!!

لا هم يدعونى، ولا أنا أدعهم.

ـ8ـ

دعـُوه، دعـُوه، دعوه.

ـ 9ـ

“أناوِر..”؟

فرقٌ بين التكتيك والاستراتيجية.

هذا هو.

أوقع هذا “التقرير” “الآن” حتى يحين الوقت الذى أملك فيه مقاليد السلطة فأغير كل شئ، كرسى السلطة ـ حينذاك ـ سوف يسمح لى بتعديل الكون بما فى ذلك أنظمة البحث العلمى وقواعد الترقية، وساعتها أرفع عنهم الصليب الأبيض وأطلق سراح سجناء الأقفاص المعلقة فى الهواء، وأيضا المعلقة على الأرض، وهكذا أحرر الأرض المحتلة؛ حين أحرر النفوس المحتلة، وأنا أتحدى كل شرور العالم المتغطرس،والعلم الزائف، والعلم الردئ، والعلم “كنظام” العلم،و العلم اللاعلم.

كلام فارغ، حتى هذا الذى أتمنظر به أمام نفسى الآن: كلام فارغ، ليس تماما، سيحصل.

.. متي؟.

بعد سنة؟ عشرة؟.

وحتى ذلك الحين: كم طفلا سوف تتناثر أشلاؤه؟. وكم باحثا سوف تفسد أخلاقه ويتفسّخ عقله؟.

كيف سيكون كل شئ بعد أن ينمحى كل شئ.

متي؟.

لا..

ـ10ـ

هأنذا أضيف إلى نذالة التوقيع جبن التبرير.

الأشرف والأحزم أن أوقع دون غنج قبيح.

أن أشترك فى الجريمة علانيةً وبشجاعة الأنذال خير من أن أضحك على نفسى وأؤجل إلى مالا نهاية.

“أوقَّع” دون تبرير.

أوقِّع.. دون تكتيك أو استراتيجية.

أوقِّع.

وأنتظر دورى لتسليم بيتى ووعيى وعِْرضى لصاحبهما المتغطرس،

رافعا ذراعى الاثنتيْن إلى أعلي.

لم يعد عندى أى شئ أبيض يمكن أن أرفعه.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] – الاسم المطول الذى نشر به هذا المقال/ القصة فى الأهرام هو: “تقرير عن بحث علمي”، كتب فى اليوم التالى لمذبحة إسرائيلية جرت فى جنوب لبنان، فى أوائل الثمانينيات، وقد عُنونت بعنوان فرعى يقول: “مقال فى قصة”. وهو ما ألهمنى جمع هذه المجموعة تحت هذا المسمي.

[2] – إشارة إلى ما قام به الاسرائيليون بعد الحادث من عرض بعض المجاهدين المحتجزين لديهم فى أقفاص حديدية مدلاة من طائرات الهليوكوبتر، تخويفا وامتهانا.

ولـــو!![1]

ـ1ـ

قالها الرجل الواقف خلفه: “ولو…!”

تلفت السيد العظيم فى فزع كالموت ودار برأسه يمنةً ويسرةً حتى كاد يكمل دورة كاملة، فانزعج المهنئون الذين كانوا يملأون الغرفة الواسعة كالقاعة أو البهو، وتلفتوا يمنةً ويسرةً ـ أيضا ـ فى استغراب لم يجرؤ أن ينتقل إلى مرحلتى الدهشة فالتساؤل، ولكن سرعان ما عاد “العظيم” يلتقط ابتسامته الواسعة التى سقطت منه فى دورة الفزع، أحكم وضعها على وجهه وقذف بكل وجوده وسط موج الأحضان المتدفق، كان يتمنى ألا تفرغ الحجرة أبدا حتى لا ينفرد به ذلك الكلب الخفى، ذلك الحقود الذى لم يعد يملك إلا أن يعوى كالذئب الضال، ومن خلف ظهره، ذلك الجبان.

ـ 2 ـ

انطلق مندفعا من الحجرة البهو قبل أن تفرغ تماما ـ ومر سريعاً صائحاً مبتهجاً يلقى قبلةً هنا وأمراً هناك، غاص فى جوف عربته الفارهة، وحين انطلقت به تمنى لو كانت مكشوفة حتى يلقى التحية ذات اليمين وذات اليسار مثل الغزاة العائدين من قهر المدن المحاصرة، وحين سمع صوت “الكلاكس” متغيرا مخنوقا شخط فى السائق شخطة كبيرة متسائلا، فاعتذر له هذا بدوره بأن “فردة” “الكلاكس” قد فسدت وأنه لم يتمكن من إصلاحها بعد، فأمره بضجر مشوب بخوف مجهول ألا يضغط عليه أصلاً لأن الصوت الأعور يزعجه.

أطاع السائق حتى كاد يقتل طفلا مرق أمام السيارة فجأة.

ـ 3 ـ

نظر فى الساعة الرقمية فى “تابلوه” السيارة، ملعون أبوها، رقمية؟. لماذا رقمية؟ بدعة حقيرة!.. الأرقام تقفر بغير حياء، وحتى النقط البينيـّة تضئ وتنطفئ بسرعة مذهلة بين القفزة والقفزة. اختراعات سخيفة تضطر الواحد أن يحسب كل شئ، وإذا ما حسب الواحد كل شئ، فعليه أن يعمل حساب كل شئ.كل شئ دون استثناء، يعمل حساب كل شئ قبل أن ينتهى كل شئ: كل الخيوط فى يده، وأصوات الصفوة تدفئه، وأكف الأحبة والخائفين تملأ أذنيه دون تمييز، ولم يبق شئ ليس فى متناول تحكمه إلا الزمن: 11: 54، 11: 55، 11: 56، 11: 57.

صاح فى السائق:

ـ والساعة؟.

أجاب السائق وقد أشاح بذراعه كلها بعيدا عن النفير “الكلاكس”:

ـ مالها يا سيدي؟.

تراجع السيد بسرعة قبل أن يحتج على أنها “تمشي”، وتمهــّل حتى يتمكن من تغيير لهجته وقال:

ـ مُقَدِّمة.

والواقع أن الساعة لم تكن مقدمة، بل إن السائق كان يفخر بها حتى يزعم أنه يضبط عليها ساعة الجامعة، ومع ذلك لم ينبس حتى عاد السيد يصيح:

ـ ألم تسمع؟. أصـَمٌّ أنت؟.

لكن ساعة الجامعة دقت فى المذياع الخافت بالصدفة فطابقت الساعة الرقمية بالثانية، فحاول السائق ألا تلتقى عيناه بعينى سيده فى المرآة، فإذا بالأخير يصيح وكأنه يكلم نفسه:

ـ ولو..!!.

لم يرد السائق، ولم يفهم، وسقط الرجل فى داخله حين تذكر أنه سمع اللفظ ذاته هكذا بالضبط، اللهجة ذاتها، الصوت ذاته، قالها له الرجل المجهول فى البهو الفسيح، ذلك الرجل القابع فى الخلف والذى لم يره أحد.

فامتقع وجهه.

ـ 4 ـ

دخل البيت متأخراً، وكانت الأسرة الصغيرة مجتمعة تشاهد آخر مشهد فى فيلم نادى السينما، كانوا يـُلْبسون الجندى “سلوفيك” الطاقية السوداء استعدادا لإعدامه بعد أن أصر على أن يقول الحقيقة البسيطة دائما أبداً، تلك الحقيقة التى جعلت سلوفيك يعترف بخوفه وإصراره على الهرب رغم كل التحذيرات التى نبـّهته إلى إمكان تجنب ذلك بقليل من الكذب المشروعوالتظاهر العام، تذكر أنه شاهد هذا الفيلم من سنوات قبل أن يصبح عظيما يشغل منصبا عظيما، وأنه بكى ـ حينذاك ـ على إعدام هذا الجندى الطفل بكاء قويا غسل روحه فتهجد لربه، أخذ يبحث عن دموعه القديمة فلم يجدها ولم يجد بديلا عنها إلا مزيجاً من الغيظ والخوف والغرور، لمح ما يشبه دموعه القديمة فى عيون ابنته، وهو عاجز تماماً التام عن مجرد مشاركتها، فأغلق التليفزيون فى عنف فى اللحظة ذاتها التى أطلقوا فيها الرصاص على الجندى “سلوفيك”[2]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] – كان ذلك عقب نجاح عميد كليةٍ ما للمرة الثالثة وهو يحاول أن يظهر كل الفرح، وأن يخفى كل الخوف، لكننى لمحته دون استئذان، فأشفقتُ عليه فى قسوةٍ وحشيةٍ، بهذه القصة المقال التى نشرت فى الأهرام أيضا.

[2] – إشارة إلى فيلم الجندى سلوفيك الذى كان يمثل البراءة الأقصى لجندى شاب يرفض الحرب، فلا يطيع الأوامر، وحين يحاكم يحاول رؤساءه وزملاؤه أن يساعدوه بأن يحفزوه إلى إنكار التهمة، لكنه ـ بنفس البراءة ـ أصر على قول الحقيقة وأنه لا يفهم لماذا يحارب، من؟ وبالتالى فإنه رفض الأوامر، ثم يحكم عليه بالإعدام، وهو مازال محتفظا بنفس الدهشة والبراءة.

الذراع…والحزام !! [1]

ـ1ـ

تمتد الذراع الأفعى إلى حيث لم أحتسب، تتسحب المياه الراكدة فوق المجرَى المختبئ فى ثنايا الستر، تلصقنى اليد الأخرى على قفاى، يتـنخم صوت خشن دون توقف حتى أتبين أنها قهقهة تصدر من أمعاء مخمور لم يتقيأ، يبصق على وجه ابنتى النائمة فى حجرى قائلا:

كله بثمنه.. والذى عاجبه.

ـ 2 ـ

الممثل الأكبر يدهن شعره المصبوغ بشحم نتن، يتحدث عن العدل القاتل والرد الملغوم، وصدور تشريع أحدث لتقنين النذالة والوغدنة الموجهة، تحت أسماء حركية تحتفظ بشفرتها فى ملفات مجلس الأمن السرية التى لا تفتح إلا بعد انقراض الإنسان بمائة وخمسين سنة ضوئية.

أى والله.

أو كما قال.

ـ 3 ـ

أتقيأ شـِعـْرى، تتناثر أوزان قصائده حجارة من سجيل تلطم وعيى، أفتح درج مكتبى لأبحث عن نتائج آخر بحث علمى لم أفسر بعدُ نتائجه، أرقامه مرصوصة فى جداول معقدة، يشغلوننا ـ طول الوقت ـ بهذا العبث الدائر حول مسائل لا تهمنا، ولن تهمنا، جزئيات الجزئيات، أعثر مصادفة على عقد زواجى فأخفيه بعيدا خشية تمزيقه، ألعن ميثاق حقوق الطفل، والوصايا العشر، وإعلانات العمرة السياحية.

ـ 4 ـ

أخجل من مجرد التفكير هكذا، لا أجرؤ أن أتطلع فى وجه حفيدى، يستدير نائما ـ يخفى وجهه فى رحم وسادة صغيرة، ليست نظيفة، ألعن الانتخابات والصحف وأبراج المساكن والمدن السياحية وأسعار الدولار وأطمس إحساسى عمداً إذْ أخشى أن يتسرب صوت آذان، أو أريج وردة، أو ضوء فجر، عبر مسام غافلة لم تطمس بعد.

ما عاد يجوز.. ما عاد يجوز..

ـ 5 ـ

فرضُ كفاية؟ لا يا شيخ !!

أظن كفاية كل هذا، حتى بعض هذا هو يكفى وزيادة،

بل فرض عين لا يسقط أبداً.

لا يسـقطه أن تحارب كل الأجنة فى بطون أمهاتها.

لا يسـقطه أن يتبدل الناس غير الناس.

العار يصبح عارا أبشع إذا عبثت به عتمة الذاكرة أو مؤتمرات القمة أو أقوال الصحف أو إعلانات القرى السياحية الجديدة.

ـ6ـ

سوف أقبل الدعوة، هذا هو رقم تليفون قريبى الذى كان يعمل بالمخابرات، يكرههم أكثر من كراهيته لذئب مسعور يجرى جائعا فى روضة أطفال، سوف يدلنى على نوع المتفجرات وطريقة التشغيل، لابد أن تكون الزيارة “العلمية” الثالثة أو الرابعة حتى يطمئنوا، زملائى حسنو النية مهدوا الطريق، هذا هو التطبيع الذى أريده، الأسس النفسية للتفاوض الدولى(!!). ليكن بحثا علميا يحتاج إلى مقابلة الصقور والحمائم مجتمعين، سيكولوجية العلاقات الحازمة الإثنية، (فسّرها أنت على مزاجك، كله محصّل بعضه) “كاهـْلشا رونميريزين.. دهلَكْ”، ماذا أعنى بذلك؟ وكيف تنطقها؟ أنت مالك أنت يا بارد؟ لماذا هذه بالذات التى تريد أن تفهمها، كل لغاتهم هكذا، هذه الكلمات أوضح من لغة المفاوضات البنّاءة والمثمرة، دائمة مثمرة وبناءة.

الحزام رقيق السمك تماما، والمواد بلاستيكية جديدة لا تستطيع أن تكشفها آلات الفحص حتى الحديثة منها.

التحكم من خلال قلم حبر جاف

أثناء النقاش شبه العلمى المختبئ فى ثنايا التطبيع، أتَفَجَّرُ بى ـ فيهم.. معلنا وصيتى فى مؤتمر غير صحفي.

ـ 7 ـ

أنتقل عبر الحاجز غير المرئى، أخترق نفقا طويلا ناعما وكأنى أسبح دون حراك، أخرج منه فتتولد لى أجنحة من مادة سحرية، أشعر أنى أخف وزناً وأن الطيران اللولبى الصاعد سوف يدوم.

ـ 8 ـ

هذا الثقل الذى يدب فى أطراف أصابع القدمين، يتسحب إلى الساقيْن فالجذع، يجذبنى إلى أدنى فأدنى، أهبط ـ غير مصدق ـ فى رعب ساحق، لماذا؟. ألم أفعل ما ينبغي؟. ألا يكفى هذا تكفيراً عن قعودى وتعقلي؟. لم أفتح مظلة الهبوط، لا أنا أمتلك واحدة، ولا أنا أريدها.

أحاول أن أفيق مرتين بلا جدوي.

لا أعرف السباحة والبركة آسنة بلا قاع، على الرغم مما بدا لى من أننى سوف أتحطّم فورا فوق “أسفلت” القار المسلّح.

أغوص مختنقا ببيطء بسبب زئبقية القوام لمنقوع العار والمرارة.

ـ 9 ـ

لم تكتب سناء المحيدلى قصة،

لم تقرض شعراً،

ولا خطبت خطبة عالية الصوت بما يشبه البحث العلمى فى مؤتمر عالمى يتجشأ أرقاماً جوفاء وهو يستمني.

ـ 10 ـ

لا أجد عذراً أنتحله.

لا أستطيع النظر فى وجوه أحفادي.

عنيناَ يتوارى خجلاً من استمراره حياً.

ـــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1]- مرة أخرى: تـَوَاكـَبَ قيامى مضطرا بمهمة كتابة تقرير تقييم أبحاث للترقية، مع قراءة خبر استشهاد “سناء المحيدلي” بحزام الديناميت فى هجمة انتحارية على المحتل فى جنوب لبنان.

دبّرنى يا وزير !! !!![1]

ـ 1 ـ

دخلت الطفلة حديثة العهد بالمشى إلى حيث كانوا، فراقها منظر الصفوف المتراصة، فأخذت تتأمل الجميع، إلاأنها سرعان ما ضجرت من أن أحداً لا يتحرك من مكانه، وتذكرت أيام أن كانت مُقعدة بلا حول، فمدت يدها تحاول تحريك الجمود فإذا بالجميع ينطرحون أرضاً، فزعتْ فى البداية ولكنها عادت تتأمل آثار ما كان، واحتارت: أى منهم استلقى على قفاه، وأى منهم انكفأ على وجهه، لم تطل حيرتها إذ أنها سمعت صوت أقدام ثقيلة تقترب، فانزوت فى الركن الأبعد.

ـ 2 ـ

حدث ذلك بعد فترة قصيرة من تلك الأحداث التى يذكرها أهل الاختصاص فى ترتيب رتيب، وينساها سائر الناس وكأنهم يفعلون ذلك بقصد عنيد، والأمر لا يحتاج إلى تكرار الرواية، لكن للتاريخ مطالب غير مفهومة، فتم تحديد المواقع ومراجعة الأدوار السابقة، والتأكيد على ضرورة سلامة البدايات حتى لو كانت محفوظة، وكان فى مقدمة الصفوف جنديان اثنان، وعلى الرغم من أنهما كانا من لونين مختلفين إلا أن الاتفاق كان أن يكونا معاً حتى تلحق بهما ـ أو بأى منهما ـ سائر القوات كما تقضى الأصول.

قال الملك للوزير:

ـ دبرنى يا وزير.

قال الوزير:

ـ التدابير لله يا ملك.

سأل الملك فى استطلاع:

ـ ألا نبدأ الآن؟.

قال الوزير فى أدب ظاهر:

ـ عفواً يا مولاي.. الأسود يؤخَّر فى العادة.. هكذا الأصول.

بدت على الملك بعض علامات الاستياء وعلق قائلاً:

ـ ولكن لِمَ لَمْ تقل لى ذلك من الأول لأغير لوني؟. ألا تعلم أنى أحب المبادأة لأمسك بزمام المواقف؟.

مال الوزير عليه وكأنه يسر إليه:

ـ ليطمئن جلالتكم، فلقد تلقينا وعداً أن الذى يلعب أخيراً يكسب أكيدا.

هز الملك رأسه، ولكن يبدو أنه لم يقتنع تماما، تأكد ذلك لأن شفتيه كانتا قد مُطَّتا بدرجة طفيفة لا يلحظها إلا متخصص، غير أنه قال:

ـ الأمر لله، قل له يبدأ من فوره.

التفت الوزير إلى الناحية الأخرى ونادى صائحاً:

ـ يا أهل الديار… الدور عليكم.

ـ 3 ـ

نظر الجنديان إلى بعضهما البعض وأخذا يعزمان على بعضهما البعض بالبداية، لكن أحداً منهما ـ يبدو من فرط الذوق أو الخوف أو بعد النظرـ لم يتقدم خطوة واحدة، وساد صمت مثير.

ـ 4 ـ

وكان أن همس فارس الميمنة لجاره:

ـ أين نحن الآن؟.

رد الجار الفيل الثقيل الحركة فيما يشبه الجد:

ـ فى الميريلاند.

احتد الفارس قائلا:

ـ لا مجال لسخريتك فإنى جاد.

ـ لتكن جادا أو عبد ربه، فليس للسؤال السخيف إلا جواب أسخف منه، ألا ترى أين نحن وأنت أدرى الناس بالجاري؟.

ـ إنما سألت لأقطع هذا السكون الثقيل.

ـ أنت الذى تقول هذا؟ مع أنك تستطيع أن تقفز بفرسك فى أى وقت فوق أى حاجز، ألا تدع الهم لأصحابه من أمثالى ممن لا يستطيع أن يتحرك إلا إذا تحرك العسكر من أمامه.

رد الفارس فى زهو اليائس:

ـ لو كان الأمر بيدى لقفزت إلى الوسط وحطمت كل هذا الركود بتضحية شخصية.

ـ 5 ـ

اشرأبت عنق الجار ذات اليمين وذات اليسار وعاد يهمس للفارس وكأنه لا يصدق:

ـ خيبتك قوية، لقد انتهى الدور.

استشاط الفارس غيظاً وتساءل رفضاً:

ـ متى كان ذلك ونحن لم نبرح أماكننا أصلاً؟.

ـ هذا هو ما كان.

ـ لعلها إشاعة.

ـ انظر… ملك الخصم ليس فى الميدان.

ـ كيف؟ هل كَشَّ؟ ماتْ؟.

ـ لا بل يبدو أنه غير موجود منذ البداية.

ـ ماذا تقول يا مخّرف… لا يصح اللعب دون وجوده، وإلا فمن يحمى مَنْ؟ ومن يهاجم مَنْ؟.

ـ ليس هذا شأنى، وعلى كلٍّ فالدور قد انتهى حقيقة وفعلاً.

صاح الفارس فيما يشبه الصراخ:

ـ هذا عبث فى عبث، دور باطل… باطل.

هز الجار غليونه المتدلى وتلفت فى بطء خشية أن يسمع أحد الصراخ وحاول تحذير جاره، لكنه قال:

ـ لن يجدى الصراخ…، لا أحد، فالآذان لها حوائط.

– بل العكس

– وأيضا العكس

استمر الفارس فى صياحه.

ـ باطل… باطل.. زواج عتريس من فؤادة باطل.

قال الجار فى أسى ظاهر وغليونه يتحرك مع خروج كلماته:

ـ “جن الفارس من فرط الركود يا رجال”.

ـ 6 ـ

وكان أن تقدم الوزير الأسود ممسكاً بيده صحيفة ملفوفة على هيئة قرطاس حائل اللون، ومال على الملك وقال:

ـ والآن.. الأمر لجلالتكم.

نشر الملك القرطاس أمام عينيه بعد أن ارتدى منظار القراءة المدلى فى سلسلة حول رقبته ونظر فيما يحوى القرطاس ورد فى حدة:

ـ ماذا تعني؟ حتى لوصحَّ كل هذا فأنا مالي؟.

رد الوزير فى فداء مشروط:

ـ نحن جميعاً فداك يا مولاي.

قال الملك فى اطمئنان خائب:

ـ هذا هو… هذا هو… ليكن.

شكره الوزير وهم بالتراجع بظهره، ثم انحنى تحية نصف نصف، وفجأة زادت انحناءته حتى لامست جبهته ـ مع كل الجباه وبعض الأقفية ـ وجه الأرض.

ولم يلاحظ أحد أن ذلك كان إثر دخول الطفلة الحجرة كما ذكرنا.

ـ 7 ـ

اقترب وقع الأقدام من مسمع الطفلة فازدادت احتماءً بالركن الأبعد.

ـ 8 ـ

دخل الرجل الكبير إلى حيث كانت المعركة، فراعه منظر الدحرجة والخلط والضياع وكل الجباه وبعض الأقفية على الأرض.

أخذ يزفر وهو يكلم نفسه: “لعن الله أبا الكل، من فعل هذا يا أوغاد، ألا أستطيع أن أكمل دوراً واحداً فى هذا الجو الزائط”.

ـ 9 ـ

ازدادت الطفلة انزواءً وانكمشت على نفسها حتى كادت تختفى بين ثنيات كرانيش الفستان القصير.

-10-

عاد الرجل إلى صياحه: “والأدهى يا كلاب أنى لا أعرف كيف كان وضع القوات قبل وقوعها، ثم إنى لا أذكر من الذى انتصر على من… رغم أنى ألاعب نفسي”.

ـ 11 ـ

اهتز جسد الطفلة من فرط محاولاتها الإمساك عن الضحك، ثم تسحبت فى صمت وهى لا تتمالك تمام سيطرتها على نفسها حتى كادت تخرج (وفى رواية أخرى: خرجت) منها قهقهة مكتومة أشبه بآثار صوت قُلة تتدحرج على أرض طينية دون أن تـُكسر، لكن الله ستر فلم يسمع الرجل شيئاً إذ ظل يروح ويجئ فى سخط باد، فاستمرت الطفلة تتسحب كاتمة ضحكتها أكثر حتى انصرفت بسلام تماماً.

-12-

توقف الرجل طويلاً ناظراً إلى فلول القوات ثم جلس فى تصميم جديد وأخذ يعيد تنظيم الصفوف وكأن شيئاً لم يحدث.

قال الملك للوزير:

ـ ماذا يجرى يا وزير؟.

قال الوزير فى يقين:

ـ دور آخر يا مولاي.

قال الملك فى فتور:

ـ الدور الأول لم ينته يا وزير.

قال الوزير فى رتابة:

ـ بل انتهى بفوز جلالتكم.

قال الملك:

ـ إذن لماذا لم تظهر على جلالتنا آثار الفوز؟. هه؟.

قال الوزير:

ـ منعاً للحـسد يا مولاي.

-13-

لكن الملاحِظ المتخصص كان يمكن أن يلاحظ أن عين الوزير زائغة وكأنها تغمز لشخص آخر لم يظهر بعد، لكن يبدو أن الوزير كان على يقين من قدومه.

-14-

قبل أن يحل المساء وتختفى المعالم بين الداخل والخارج شوهدت الطفلة وهى تتلصص من ثقب الباب وهى لا زالت تكتم ضحكتها.

ـــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1]- كتبت هذه القصة أولا تحت اسم “الطفلة والرجل” ونشرت فى أول عدد من مجلة الإنسان والتطور بتاريخ يناير 1981 ص 114 ـ 117، العدد الأول، ثم بعد ما يقرب من عشرين عاماً، حدث التغيير الوزارى الشهير (أكتوبر 1999) فوجدت أنها تعبّر عن هذا الحدث بدقّة جعلتنى أغيّر العنوان هكذا، وأرسلها إلى بعض الصحف، ولم تنشر حتى كتابة هذه السطور.

عين و صابت[1]

ـ 1 ـ

كان المؤتمر العلمى عالمياً جداً، الراقصة تتلوي،والحفل هائص، والمناقشات تجرى على الموائد بمنتهى الجدية والحماس، جدية أقوى وأصدق مما كان يجرى فى قاعات المحاضرات حيث تُلقى الأبحاث، والمشاريب تحرك الجمود فيزداد التقارب بين القارات الخمس، دون اعتبار لاحتمال اكتشاف أى قارات مجهولة أخري.

كان قد نجح أخيرا فى عمل ما يكفى من التربيطات والترتيبات والضغوط والوعود، عشر سنوات وهو يسعى إلى ذلك، يسافر، ويتعب، ويضحى، وينفق، ويكتب، وينشر، ويراسل، كل ذلك ليرفع رأس مصر عاليا جدا، ونجح هذه المرّة بعد أن كان قد فشل مرّتين، ورفع رأس مصر وأفريقيا والعرب عاليا جدا، جدا، والنجاح بعد الفشل غير النجاح من أول مرّة، له طعم رائع، ريح الفوز ترتفع به إلى حيث الزهو حتى الخفة، ساعده الشراب على ذلك، لم يسرف، فاستطاع أن يتخيل بوضوح حقد زملائه وفرحهم، ومجاملتهم، وتهنئتهم، وتهوينهم من الذى كان، ونفخهم فى الذى كان، وسعادتهم به، وحسرتهم على أنهم ليسوا هو، وقال من موقع الزهو بالواقع أنه قد حذق كل أبجدية الحياة العلـمية المعاصرة، وهو يقرّ تماما أن كل من ينتقد هذه المناصب والمؤتمرات هو إما حاقد أو خائب أو متخلف أو جبان أو كل هذا.

قالت له فى رقة حانية.. “أو ماذا”؟.

فانتفض يسألها هل كان صوته مسموعا وهو يفكر.

فلم تفهم وإنما أشارت إلى الشراب، وأنه كان قد أشار إليها بيده إلى نوع معـّين ثم قال: ” أو..” وسكـَتَ، فسألتـْه: ” أو ماذا؟”، فاعتذر، واختار شرابا بذاته له لون ملتبس، وتبادل الحديث، وردّ على التهنئة، ولوّح بالوعود إن شاء الله. إن شاء الله، كله بالمشيئة، ربنا يسهل.

ـ 2 ـ

ليلتها انطلق أثناء عودته إلى الطريق الصحراوى يستنشق هواء نقيا قبل العودة، فانفجر إطار السيارة ليس بعيدا من موقع انطلاقه، انفجر مع أنه جديد جداً، ولم يقف له أى عابر راكب أو راجل، يساعده فيما هو فيه، وكان قد صرف سائقه ليتمتع بوحدته وقيادة سيارته بنفسه مثل زمان، أتم تبديل الإطار بكل مشقة.

حين رفع يديه إلى أعلى ليرى مدى تلوثهما تخلل أصابعه هلال آفـل يتوارى، فراح يؤكد لنفسه أنه على صواب دائما، دائما على صواب، وأنه سوف يهب حياته لخدمة العلم والوطن والتخصص و أصحاب الحاجات، وكل الناس.

فخيل إليه أنه لا يصدّق نفسه، فاغتم غمّا غير مألوف، ومسح يديه الملوثتين فى جانبى سرواله (لم يفعلها ـ هكذا ـ طوال عمره) وأدار محرك السيارة فلم يدُر.

وقرأ قل أعوذ برب الفلق، والغم يزداد تصعيداً بلا مبرر ظاهر.

دار المحرك أخيراً.

ولم يتنفس الصعداء

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] – كان ذلك قبيل حصوله على ذلك التكريم العالمى الذى يستأهله، بلغته، والذى بدا أنه لم يؤدَّ ما انتـُظر منه، أو أنه لم يـُشـْبعه، وفى نفس الوقت ظل صاحبى لا يستطع أن يخفى طيبته، وربما خيبة أمله.

قاب قوسين،، أو أدنى[1]

ـ 1ـ

مواطن أنا من بلد بعيد.

بعيد فعلا… جدا فعلا،

أحاول أن أبعد أكثر فأزداد اقترابا حتى يتداخل بعضى فى بعضى، فأجدنى مجتمعا بلا معالم وسط بؤرة ما، بؤرة عميقة بلا قرار، أنا لست نابعاً منها، ولا راغباً فيها.

مالى أنا؟ لم أعد أحتمل.

ـ 2 ـ

هنا لندن،

خيرُ ما نستهل به إذاعتنا هو تلاوة مباركة من آى الذكرالحكيم،

……….، صدق الله العظيم.

السادسة والنصف وخمس دقائق، نشرة الأخبار الموجزة، السابعة، التاسعة، العاشرة إلا ربعا، العالم هذا الصباح، شريط الأخبار، العالم هذا المساء، أقوال الصحف البريطانية، عالم الظهيرة، أقوال الصحف العربية الصادرة فى لندن.

ما الذى يجعلنى أتحمل كل هذا؟. لماذا أصر على أن أعاود الاستماع إلى ما أعرف حول ما يجرى مما أعرف.

زوجتى تكاد تقفز من السيارة كلما سمعت هذا الفاصل الموسيقى اللندنى بين الأخبار.

أشم رائحة التراب، وروحى لم تطلع بعد.

ذات مرّة، حين أوشكتُ على الغرق، كنت أحسب أنها أبشع ميتة، لكن هذا الغرق الآخر هو الأبشع قاطبة، غرقٌ فى تراب لزج يدفننى فيه مسخٌ بشرى لا يكلّف خاطره أن يرتدى قناعا ما. لا يخجل من بشاعته وجبروته، وأنا ـ الضحية ـ أخجل له نيابة عنه.

ما كل هذا التعذيب الذاتي؟.

أكتب مقالا يفرّج عني.

ـ 3 ـ

لا أريد أن أكتب حرفا،

أكتب مقالا ينشر فى الأهرام !!. أصبحوا يحترمون ما أخط.

لماذا؟.

لمن؟ أكتب؟ ثم ماذا؟.

لا أستطيع أن أصمت، أكاد أنفجر.

عدت أتعجّب: لماذا أنا ـ وليس هو ـ الذى يشعر بالخجل مما يفعله هو بنا.

ـ 4 ـ

يبدو أن مجرد الاستمرار فى الحياة هو ذنب يستأهل الاستغفار.

ـ 5 ـ

أعاتبه وأنا أستغفر، فأشعر أننى كاذب فى استغفاري،

فأعاتبه أكثر. أذهب للنوم.

أنا أنام مبكرا عادة، حتى هذه الليلة، أستطيع أن أنام مبكرا.

ـ 6 ـ

الأطفال الخواجات المسلمون الشُّقــر يختبئون معى تحت الغطاء، أهدهدهم لكنّهم لا ينامون، لا أستطيع أن أكذب عليهم أو أطَمئِنُهُـم، يطلبون أن أحكى لهم حدّوتة، لا تحضرنى أية كلمة، يهربون منى فأفرح حيث لا أعرف كيف أعدّ لهم ما يأكلون، لم بهربوا بل ازدادوا اختباء تحت السرير خوفا من أن يعود القصف، ذهب النوم ولم أجرؤ أن أناديه.

حين ذهبتُ إلى دورة المياه وجدتــُـهم قد أحاطوا بى من جديد، ولم يترددوا أن يدخلوا خلفى إليها وهم يمسكون بطرف ثوبى فزعا وحيرة.

أو عتابا ولوما. لست أنا، مع أننى أشعر بالذنب فعلا. ماذا أفعل

هم لا يبكون، ولا هم يضحكون.

ـ 7ـ

قصيدة فاروق جويدة عن البوسنة جميلة مؤلمة،

الشعر رائقٌ، مخترقٌ، حارقٌ. مزعجٌ. مفيقْ.

ثم ماذا؟.

أقول لشيخى إن كتابة مثل هذه القصيدة وأجمل منها هى خيانة لهؤلاء الأطفال المشردين، وللنساء المغتصَبات، وللشباب تحت السادسة عشرة المدفونين أحياء بتهمة أنهم مجرمو حرب!!.

يدهش شيخى، ويصمت شفقة أو حرجا، لا أعرف. يربت على كتفى بيد حانية على الرغم من أنه لم يمد ساعده أصلا، فأفهم إشارته بما أحتاجه ولا أفهم ماذا يعنى، ولا ينفعنى شئ من كل هذا.

أى تسكين ـ مهما بدا رحيما ـ هو تغييب خطير.

ـ 8 ـ

أحاول أن أتعلّم من مرضاي.

مرضاى حين يسحقهم الألم يحتمون منه بفقد الشعور واللامبالاة.

أتذكر ما كتبتُه ونشر فى الأهرام بعد استشهاد سناء المحيدلى أو بعد ضرب جنوب لبنان، لا أستطيع أن أحدد، كتبت ما معناه: “لماذا يتألم الناس إذا كان الألم لا يقتلهم ولا يدفعهم إلى القتل (الآن ـ وليس بعد)؟ “.

أتذكر ذلك خجلا من جديد وأنا أشعر أننى إنما أكرر نفسى، فأجدنى أكثر ألما وأشد عجزا؟.

عندى عادة كنت أفخر بها،(قال يعنى): باعتبارها دليلاً على أننى أهتم بالناس، ومع ذلك، مع فخرى بها، كنت أدعو الله أن يخلصنى منها، وهى: اختلاط الخاص بالعام.

الحدث العام يدخلـُنى حتى النخاع، أتقمص الظالم وكأننى هو، فأنا مسئول عمّا فعل، وأتقمص المظلوم فأشعر بالانسحاق والخزى أننى ما زلت أعيش !!.

ـ 9ـ

روبنشتاين، الحرم الإبراهيمي

نحن الذين قتلناهم وهم سجود فى الفجر، نخرب اقتصادنا، نتهاون، نقصّر، نخنع، نتنازل، نؤجل، نحن المجرمون فعلا.

فهل معنى ذلك أن روبنشتاين برئ؟.

خيبنى الله.

رادوفان كاراجيتشى، طبيب نفسى، أنا طبيب نفسى، إبن الكلب، كان محررا لمجلة علمية اسمها “طب نفس البحر المتوسط”، كنت أكتب لها الموجز باللغة العربية، إبن الكلب.

كل الذى أكتبُه الآن عن هذا الموضوع، وربما ما أكتبه عموما، قصة، مقال، بحث، كل هذا لا لزوم له فعلا، لا جدوى منه، ومع ذلك أكتب، وسأظل أكتب من يدري؟.

الأمم المتحدة، المؤتمر الإسلامى، منظمة العفو، حقوق الإنسان، الثعلب فات فات وفى ذيله سبع لفات.

ولاعزاء للسيدات.

هل هذا وقته؟ !!.

كل ما أرجوه من المجتمع العالمى الجدى، بل من محمة العدل الدولة، ألا يضيعوا وقتهم فى أمور حسومة بفضل القاتل والمقتول معا، كل ما أرجوه هو أن يوصوا القتلة أن يشحذوا سيوفهم أكثر حتى يسرعوا فى القتل بدلا من كل هذا الجزّ ـ هكذا ـ بسكين بارد.

أريحونا بالله عليكم، وسوف تجدون روبوتات أحدث تغنيكم عنا.

ـ 10 ـ

أهرب فى تذكّر مصائبنا المحلية، وأصرف انتباهى إلى معاناة أهلى وناسى الأقربين، أعمّق وعيى بالإهانة، الإهانات القريبة، أحاول أن أخدع نفسى بادعاء الاهتمام بمعاناة أهلى وناسى، هم أوْلى بمشاعرى وفعلى، الفلسطينيون، العراقيون، أهلى فى الصعيد أولى بي.

لا يا شيخ؟!!!

وكأن قضية الظلم يمكن أن تتجزأ.

ـ 11 ـ

ياسيدى على عزت بيجوفتش:

لم َتعجّلت الاستقلال ولم تلحظ مصيدة الإبادة؟.

متى يـُلغَى حق الفيتو فى الأمم المتحدة؟.

متى تُـلغى الأمم المتحدة؟.

أكره صدام حسين، جدا، جدا. ضبطت نفسى وأنا أدعو له بطول العمر، فعرفت مَن المسئول عن ذلك.

ـ 12 ـ

النظام العالمى الجديد..!!، “أ…..” “إسكندراني”.

إن من يعيش هذه الأيام، ويصله ما يصلنى، لو أنه يشعر، لو أنه يحس، و لم يجن أو يكفر فليس أمامه إلا القتل الآن وليس بعد.

ـ 13ـ

القيم العربية القديمة تبدو تاريخية هزلية سمجة إجارة المستجير!! كذا يا دكتور أحمد يا مستجير؟ “أقتل أسيرك إنى مانع جاري”!! لا يا شيخ ـ ميثاق قوق الغيلان: اقتل جارك وأسيرك وكل من يخالفك، هكذا أضمن.

محكمة العدل الدولية تحتاج إلى مافيا شرعية لتقوم بمهمتها المستحيلة.

أُرشق طفلك يا جبان فى رحم ابنتى، جنينا ليس له ذنب حتى لو كان صربيا.

لا أستطيع أن أنتظر. لا أريد أن أعيش.

ـ 14 ـ

على عزت بيجوفتش:

الإسلام يأخذ اسمه من: “…لحظة مفارقة تنقدح فيها شرارة وعى باطني.. من قوة النفس فى مواجهة محن الزمان، من التهيؤ لاحتمال كل ما يأتى به الوجود، من حقيقة التسليم لله “.

لا يا شيخ؟!.

أنا لا أظلمك يا عم على عزت، أنا لا أشك فيك، إن كلماتك هذه يستحيل أن تصدر من شخص لا يعنيها، فقط: أنا لست قدرها، أعرف أنك وقومك تتألمون أكثر من ادعائى مليون مرة، فمن أين لى بتلك اللحظة المفارقة؟. وكيف ينقدح وعيى الباطن لأسلّم لله، وأنا عاجز مقصّر مهزوم هكذا أمام هؤلاء القتلة الذين يدفنوننا أحياء، ويقتلوننا بالسلاح والكذب والشعر والديمقراطية والمنظمات؟.

قتلة اليوم يا عم على يا بيجوفتش، يا عم صلاح يا عبد الصبور، يا سيدنا محمداً صلى الله عليك وسلم، قتلة اليوم: مهذبون، سياسيون، ديمقراطيون، دبلوماسيون، كونجريسيون، و أحرار.

جدا…جدا.

ـ 15 ـ

عزيزى القارئ:

إياكَ أن تأخذ ما كتبتـُه هذا مأخذ الجد. أخشى أن يحدث لك ما هو أنا فيه الآن. أنتَ مالك أنتَ حتى تحمل همّ كل هؤلاء؟.

مالكَ أنت وما لهؤلاء؟ مالكَ أنت وما لكل هذا؟.

ألا يكفيك ما أنت فيه هنا والآن حتى أحمّلك هم هؤلاء الخواجات الشقر المسلمين وغير المسلمين؟.حتى أحمّلك همّي.

ـ 16 ـ

أريد أن أسكت،

“وليتكلم عنى صمتى المفعم”.

لا أستطيع أن أسكت.

” لا أملك إلا أن أتكلم:

يا أهل مدينتنا، يا أهل مدينتنا، هذا قولى: انفجروا أو موتوا”.

المسألة ـ يا صلاح يابن عبد الصبور ـ تخطت أهل مدينتنا.

لم نعد نملك ـ يا صلاح ـ حتى أن ننفجر.

الذين ينفجرون يموتمون فى سياراتهم الملغومة دون ضحايا،

لا يترحم عليهم أحد منهم لأنهم يـُصنّفون إرهابيين.

ـ 17 ـ

نكفر؟.

شعرت أننى قاب قوسين أو أدني.

وحتى هذا، وجدتُ أنه لا معنى له، ولا فائدة منه.

لا أظن أن الكافر يتألّم أقل، ثم إن الكفر مستحيل لمن ما زال حيا

كل ما يمكننا هو أن ندعى الكفر، ثم نفشل فى الاستمرار فيه.

ـ 18 ـ

أنا مواطن من بلد بعيد.

نحن كلنا مواطنون من بلاد بعيدة.

بعيدة جدا.

بلادٍ سوف تنتصر حتما.

مائة

في

المائة.

ـ 19 ـ

ـ كيف؟.

ـ الذى حصل.

ــــــــــــــــ

الهوامش:

[1]- كتبت هذا المقال أثناء مأساة سيربرينسكا فى البوسنة من أربع سنوات، حيث جرى القتل الجماعى، ودفن الأحياء واغتصاب النساء بالجملة، ونشر الأصل باعتباره مقالا فى صفحة الرأى فى الأهرام، وحين فكّرت فى جمع ما هو “مقال فى قصّة” وجدت من المناسب أن أضمنه المجموعة بعد تعديلات متوسطة، لم أذكر فيها مأساة كوسوفو اللاحقة.

اللعبة و الملعوب[1]

ـ 1 ـ

وحدى تماما،.مختبئ فى شقتى المتواضعة (نجمة ونصف، أو نجمتين بعد التعديل)، هناك فى أقصى الجنوب، بين جيران طيبين، مساكن شعبية جميلة، ناسها ليس لهم علاقة بهذه الحكاية، وقد زاد من اطمئنانى إلى نجاح خطة هروبى أنه ليس عندى طبق (دش) فى هذا المكان البعيد الجميل،”دهب”. الشقة ـ شديدة الشعبية ـ تقع بين البحر والجبل، رأيتَ كيف؟!!! قلبت ُالمطبخ والممر الذى أمامه إلى حجرة تطل على البحر، وجعلت المطبخ الناحية الأخرى، أما الصالة فهى تقبع فى حضن الجبل، أحس بالفرق بين ما أكتبه فى الصالة فى حضن الجبل، وبين ما أكتبه فى تلك الحجرة والبحر على مرمى البصر، لا أفضّل هذا عن ذاك، لكن لكلٍّ روحه ورائحته. عبر النافذة، أرى الشجر يتمايل فى نشوة نشطة، لو رأيتُ نفس حركته هذه فى القاهرة لحسبتُها العاصفة، ليس عندى طبق فضائى، ولو أننى كنت أنوى أن أفعلها هنا أيضا حتى أواصل مبادءاتى إلى العالم قبل أن يقتحمنى هو. زوّدوا “دهب” أخيرا بمحطة تقوية جعلت القناة الأولى والثانية متاحة لى ولجيرانى، بمجرد استعمال هوائى (إيريال) داخلى، سوف أحتفل وحدى برأس السنة، ما زلت أذكر ليلتها فى باريس، ياه !! كم هى الفرحة مُعدية شريطة ألا يفسدها السُّكْـرُ البيّن، ليس عندى مانع أن أحتفل بطريقتى وحدى بالسنة الجديدة، لكن عندى ألف مانع ومانع أن أحتفل ببداية ألفية لم تبدأ بعد، سوف أحتفل وحدى وسط خواجات لا أعرفهم، ولا يعرفوني.

هنا، أشعر أنى أنزل ضيفاً على ضيوف بلدي.

ـ 2 ـ

منذ ساعات، وأنا أتناول عشائى، (الذى هو السحور فى واقع الأمر) فى المطعم الصينى الجميل فى العسلة. جاءنى النادل وهمس فى أذنى، وادّعى أنه متعجّب كيف يحبنى الناس هكذا من بعيد دون معرفة، وأن دليله على ذلك أن أحد الخواجات الجالسين على المائدة المقابلة يعزمنى على شرابٍ ما، صحيح أننى أبالغ فى ما أنفح هذا النادل بالذات من منح (بقشيش) زيادة عن الحساب، وكأنى أشترى صمته، أو أجهض تساؤلاتِه، أضمن بذلك أن يتركنى فى حالى، ألاحظ أنه يفهم جيِّدا ما أريد، يبدو دائما ممتنا مرحبا مجاملا، لكن ليس لدرجة أن يحبب الناس فى هكذا، أو أن يدّعى ذلك، نظرتُ إلى المائدة المشار إليها فوجدت مجموعة من الأجانب الشباب الذين أدعو لهم عادة بالسعادة الحقيقية، مرة لأننى أتصور أنهم يحتاجون لدعوتى هذه، ومرة لأنه يخيّل إلى أن نوع سعادتهم “ليست هي”، ومرة لأصالح من خلالهم كل ما هو خواجة، ومرة لاعتقادى أننى رجل طيب، و أن دعوتى مستجابة، لا أعرف كيف، فلا أستخسرها فيهم، لا أذكر من الذى قال من الخوجات القدامى: “كن أخى وإلا قتلتك”، أما نحن فكنا نغنى أطفالا “يا احنا ياهمّه يا كوم الريش، همّه يموتوا واحنا نعيش”، لم نكن نعنى الخوجات طبعا، كنّا نعنى أى “هُمّــه”. لاحظ من فضلك الفروق الثقافية، لسنا قتلة بطبعنا، كل ما نقدر عليه من عدوان هو أمنية أن يتولى عنا سيدنا عزرائيل المهمة، أما هم، فـ”كن أخى وإلا قتلتك”، ياه!!، كلام فارغ هذا وذاك، لا هُم قتلة، ولا نحن نتمنّى لهم الموت، التنوع البشرى الخلاق؟!! القبول بالآخر!! لا يا شيخ!!؟ والشيشان؟ أليسوا آخر؟ وأهل كوسوفو أليسوا “آخر”؟ والفلسطينى فى الداخل، والخارج أليس آخر؟

يا أخي. إلى أين أنت ذاهب، لا تذهب بعيدا هكذا إلى الناحية الأخرى، الروس والصرب والصهاينة حاجة ثانية، الدنيا فيها وفيها؟ والتاريخ ملئ بالمآسى، ولا يبقى إلا الخير، لست متأكدا من ذلك، لكن لعلّه خيراً، هذه التكنولوجيا المتسارعة ترفع الحواجز بين الناس بسرعة أكبر من تنامى حقدهم وعماهم، هل يمكن أن تعمل شيئا أكبر يذيب التعصّب ويرسى العدل؟ يزيل التعصب يمكن، لكن يرسى العدل !! كيف؟ هل يمكن أن “تخلّق” لنا آخرين بطريقة أصدق؟ الآخر موجود ونصف،، ألم يقرر العالم هذه الليلة أن يتجاوز تاريخه الدموى، وأن نلعب معا نحن الناس، كل الناس، هذه اللعبة على مستوى الدنيا بأسرها؟ لعبة بداية الألفية الثالثة، الألفية التى لم تبدأ بعد. بدأت أو إن شا الله ما بدأت، كله واحد، لماذا بدأناها قبل أن تبدأ؟ نحن أحرار، لماذا ننتظر حتى نبدأها فى وقتها؟ وهل يعرف أحد تحديدا وقت بداية أى شئ؟. الأمور دائما تبدأ قبل أن تبدأ، وحين ندرك أنها بدأت تكون قد طابت وطلبت الأكّالة.

لم أصدّق النادل واعتبرتُ كلامه من باب المجاملة، إلا أنه عاد فأصرّ على إبلاغ الرسالة، مشيرا بتأكيد حار إلى شاب “خواجة” يبدو ظريفا وطيّبا.

ـ 3 ـ

كنت عندما أحضر إلى هنا أحاول أن أنصت إلى اللهجات من حولى لأتبين الجنسيات، توقفتُ عن ذلك بعد أن اعتبرت أنهم، أننا، كلنا أولاد حواء وآدم. فلماذا البحث؟. لا بد أن التراب الذى خُلق منه سيدنا آدم كان من هذه الجبال النقية الفتية الجميلة من حولي.

ـ 4 ـ

أنظر إلى المائدة المشار إليها، فإذا بالشاب الذى على طرفها يومئ لى برأسه فعلا، يومئ وهو يرفع ما يشرب إلى أعلى، فأفعل مثله شاكرا، ثم أربّت على صدرى بمعنى أننى لا أستطيع أن أقبل كرمه بما عرض من شراب، فيبتسم ويحنى رأسه ثانية فى دماثة دافئة، الله !!!!، هؤلاء الناس بهم دفء خاص بعكس ما أشيعُ ـ أنا ـ عنهم، قلت للنادل إننى لا أعرف هذه الوجوه، فهل يعرفهم هو، قال إن الشاب هو أحد مدربى الغطس هنا، ألمانى على الأرجح، وأن الجلـساء ضيوفه أو زبائنه، (لا فرق) وأنه لا بد قد لاحظ كيف أننى آتى أجلس وحدى الأسبوع تلو الأسبوع، وسألنى النادل إن كنت أعمل هنا، ولم أرد، فلم يلح، إذن فأنا آتى وحدى، تعجبتُ لذلك مع أنى آتى وحدى فعلا، ألستُ أنا الذى أعلنت منذ قليل أننى إنما هربت إلى هنا لأحتفل وحدى، كيف لم أنتبه إلى ذلك بنفس المعنى الذى لاحظه النادل؟ لماذا أتحدّث عن وحدتى مع أننى لا أمارسها، أو لعلى لا أشعر أننى أمارسها، هل أنا وحدى فعلا؟ لا أظن، الأغلب أننى لست وحدى، كيف؟ لا بد أننى كثيرٌ، وابتسمتُ.

نظرت إلى النادل وإلى المضيف (هكذا اعتبرت ـ كما أشرتُ ـ أنى ضيف هذا الخواجة) ودعوت ألا يكون أحدهما قد سمع ما لم أقله.

ـ 5 ـ

أعود إلى صديقى الحاسوب، كان ينتظرنى فى أدب وسماح لا تعرفهما الزوجات العصريات، اعترفتُ له أننى هارب وربما كاذب أدّعى الوحدة، واكتشفت كيف أن لصديقى الحاسوب هذا، فضلُ، أو وزر، خفوت وعيى بوحدتى التى لاحظها كل من الخواجة والنادل، معا!!، كنت قد اقتنيت هذا النوع من الحاسوب حديثا، وهو نوع به بطاقة تلفاز تسمح بالاستقبال على شاشة صغيرة يمكن إزاحتها إلى زاوية هامشية على ناحية، وكنت قد اعتدت أن أشغّل هذه الخلفية أثناء استغراقى فى عملى، وأن أعاود النظر للألوان الصامتة أحيانا، أو الإنصات للأصوات الهامسة أحيانا أخرى، أو إغفال هذا وذاك رغم بقاء أى منها فى الخلفية. ثم وأنا فى هذه الحال متصورا نجاح خطة الهرب المزعوم، وأنا أدعّم إصرارى على مقاومة هذه الخدعة الجماعية المسماة الاحتفالية بالألفية، إذا بى أكتشف أن القناة الثانية، التى تصل إلى هذا المكان النائى من خلال محطة تقوية حديثة، تجرنى جرا إلى العالم كله، كل الناس اتفقوا أن يلعبوا معا هذه اللعبة الجماعية هذه الليلة. ليس أمامى خيار، ورائى ورائى، أُضطر أن أتابع ما يجرى بجزء من وعيى، أجدنى أتسحّب من ورائى لأنضم إلى هذه المليارات من البشر الذين يلعبون، هكذا أكتشف أننى غير رافض ولا حاجة، على الأقل لست رافضا كما كنت أتصور.

ـ6ـ

مباراة كأس العالم فى كرة القدم، كان ذلك منذ أكثر من عامين، لست متأكدا، قفزت فرحاً بالهدف، ليس المهم مَنْ أصاب مَرْمَى مَن، الهم أننى جالس أمام التلفاز أشارك ألف مليون بنى آدم نفس الشعور، فى نفس اللحظة هل هذا هو “الحج الالكتروني”؟

ـ7ـ

قبل الفجر، اعتدت آنذاك ـ منذ عشرين عاماً ـ أن أقتطف بضع ساعات أكتب وأقرأ فيها قبل أن تلتقطنى عجلة الواجبات اليومية، أفتح المذياع الصغير، لم يكن إرسال البرنامج الموسيقى متصلا 42 ساعة كما هو اليوم، ألعب فى المفتاح على الموجة القصيرة، أى دندنة تكفى، تكسر صمت الـليل، مع أنى لا أشبع من مناجاته، ورائى ما ينبغى إنجازه قبل وبعد مناجاة الصمت. الموسيقى الخالصة تأتينى، وهى لا تحتاج إلى فك رموزها. الأغانى الغريبة ألفاظها لا تحتاج بدورها إلى فك شفرتها، أعتبرها ضمن الموسيقى التى لا أفهمها، الأخبار التى تأتينى برطان متدفق أتركها دقيقة، أو أكثر، لا أغيّر المحطة، أنصت إلى جَرْس رطانٍ فتحضرنى أسئلة كثيرة عن معتقدات أصحاب هذا الرطان وعن دينهم، وعن مآلهم، وعن رحمة ربنا بى وبهم، أطمئن إلى عدله طمأنينة لا قبلها ولا بعدها، من قال غير ذلك، الله يخيّبهم، هذا المذياع الصغير “الترانسستور” يساعد الناس أن تتقرب إلى الله، يقربنا من بعضنا البعض، من ذا الذى يستطيع أن يقاوم؟

أهلا !!!

“أكتب فرِحا”:

غَصْبًا صدفةْ، لمستْ إصبَعِى المفتاحْ، فسَرَت كلماتٌ عجميّةْ،… تنتزع السيفَ من الغمدِ، تلتهم ظلام َالرؤية”.

“أكتب أيضا”

يجتمع السامرُ من أحباب الله، البيضُ السودُ السمرُ الحمْر.

البيذقُ والـفرزُ ورُُخُّ الشاه”

أنُهى ما كتبت بأنه:

“يتراقص سهمُ الأفق يفتّح وعيى المرتجف الأعشى، فيُرينى العالمْ.،… مذياعا مُلقَى، فى حجم الكف ْ، والناس الواحدُ كلٌّ ليس له مـِـثـْـلٌ أصلا.

أختم صلاتى قائلا

“… يتصاعد كدحُ الناس إلى خالقهم جَمْعاً فى معراج الرحمة”.

ـ 8 ـ

أسير فى هذه المظاهرة العالمية وأنا وحدى هكذا فى أقصى الجنوب، أنتقل غصبا عنى من جزر “الأوكلاند” شرقاً حتى جزيرة “سماو” غرباً، أنبهر من هذه الألعاب النارية فى سيدنى، و أرقص مع الراقصين فى هاواي.

يا حلاوة!! لماذ اتفقَ العالم على الاحتفال معا هكذا بألفية لم تبدأ بعد؟

لا أقصد لماذا، بل كيف؟

كيف أقنع الناس بعضهم البعض أن يغيظوا التاريخ الحقيقى وهم يحتفلون بما اتفقوا عليه، وليس بما يفرضه عليهم هذا التاريخ الأعشي؟.

أشعر فجأة أن من حق الناس عبر العالم أن تلعب معا متى شاءت كيف شاءت، أفرح أننى واحدٌ من هؤلاد الناس.

ـ 9 ـ

هذه الأرقام الأربعة التى تبدأ من اليسار بواحد ثم تسعة تلحّ على منذ تعلمت القراءه والكتابة 1911ـ1919 -1933 ـ 1945ـ1925ـ 1976ـ 1937 ـ 1999، لابد أن كل الناس مثلى، ثم نمى إلى علمنا ـ جميعا ـ أن هذا الشكل اللحوح، سوف يتغيّر، وماذا فى ذلك؟ يتغيّر كما يشاء، أنا مالي؟ نحن مالنا، كيف سيكون منظر التاريخ وأنا أكتبه قبل بداية أى رسالة، كيف سأكتب الرقم الجديد؟ تحريرا فى كذا شهر كذا سنة 2000، يا صلاة النبى، سنة مثل كل السنين، لماذا تغمرنى هذه الدهشة البريئة وأنا أتصور منظر التاريخ الجديد؟ يبدو أن هذه التسعات اللحوح أخذت حقها وزيادة. من يدري؟ بشرى، تختفى التسعات، ويختفى معها كل ما نريده أن يختفى ليحل محله ما لا بد أن يحل محله. من يدري؟

من فـَمـِكَ إلى باب السماء.

ما دامت السنون تجرى وراء بعضها، حتى وصلنا إلى سنة 2000 هكذا فلا بد أن العالم يتغيّر، لابد أن شيئا ما سوف يتغيّر، ليست المسألة فيما هو ليزر أو غير ليزر، المسألة هى نحن، ما هذا الليزر؟ طز، لا أريد أن تمتد هذه “الطز” إلى فانتوثانية زويل، نحن ما صدّقنا فرحنا به وبها. كم فانتو ثانية مرّت بنا حتى وصلنا إلى هذه السنة ذات الدم الخفيف هكذا؟

ثلاثة أصفار وبجوارها اثنين، منظر طبعا.

أقاوم أن يسحبونى أكثر من هذا، لابد أن آخذ حذرى، ليس كل سحب مثل الآخر، ربما يسحبونى لأشارك بالمرة فى النظام العالمى الجديد أو فى بورصة نيويورك بقروشى الخائفة قليلة الخبرة، من يدري؟ حتى لو لم يكن ملعوبا أو مؤامرة، فقد ضحكنا عليهم، أنا والناس، كل الناس ضحكوا على كل الناس. فـَرِحـْنا – نحن الناس -بهذا الرسم الجديد ورحنا نلعب.

-10-

“أخيـــــرْ”.

ألُقى بإحدى البليات الثلاث فتقع داخل المثلث بالكاد، فالبلية الثانية، فالبلية الثالثة، أجمعهم وأرصهم، يتقدّم الرقم اثنين فـَاِرِدًا جذعه مختالا، يميل برقة حانية، يبتسم،أطمئن إليه فأترك البلـْى بجوار بعضها فى رعايته، لعله يحرسهم.

الخواجات يلعبون بالأصفار الدوائر الكرات مثل رجل السيرك فى مولد السيد البدوى، رقمهم الاثنين بالإنجليزية يهتز على موسيقى الراى، ثم ينتظر رصّتهم أمامه وهو لا يكف عن الرقص.

فيمَ كان اعتراضى إذن على ما اتفق الناس عليه؟

آه! تذكرت، كنت معترضا أن يغالطونا وهم متجهمون يفرضون علينا حساباتهم لمجرد أنهم تورطوا فى فرحة طفلية مثلما أكتشف الآن.

كل ما أطالب به الآن هو أن يعترفوا أنه ليس احتفالا بالألفية الثالثة، ليكن الحفل هو الحفل، لكن فلنسمه حفل وداع الألفية الثانية، وداعا يمكن أن يستغرق عاما بأكمله.

لا يعنينى أن تبدأ ألفية ثالثة أو تنتهى ثانية، ما يغيظنى هو الاستعباط، يعايرونا كل رمضان وكل عيد ويقرصون أذننا أنه “عيب كذا”، وأننا لا بد أن نسمع كلام علم الفلك، يعنى كلامهم، فهم أصحاب توكيل شركات العلم الحديث، فلماذا لم يسمعوا هم الآن كلام علم حساب يحذقه طفل ذو سبعة أعوام. ما الفرق بين أن نحتفل اليوم بألفية لم تأت بعد أو أن نحتفل بها بعد عام أو خمسة، حتى لو أعلنوا أنهم أجّلوا الألفية الثالثة لتأتى بعد الرابعة، مسموح. كل شئ مسموح ما دمنا نلعب جميعا معا، حلوة هذه، فقط علينا وعليهم، شروط أى لعب أن تسرى القواعد “علينا وعليهم” حتى لعبة الحرب، حتى الإجراءات الأمنية على الحدود، علينا وعليهم، أليس كذلك؟.

أين الحَكَم؟

يطل على فيدل كاسترو من الشاشة المظلمة، كنت قد أغلقت الحاسوب والتلفاز معه، تملأ لحيته واجهة النافذة، يمسك ورقة كبيرة يقرأ منها فرماناً سلطانياً، يختفى وجهه ليحل محله وجه فؤاد المهندس، كم هو ثقيل الظل فى الافلام رائع الحضور فى المسرحيات، يعود وجه كاسترو وهو يصيح “والله ما انا لاعب”، فيصفق له مارادونا وينتقلان معا من شاشة الكمبيوتر إلى الشاشة الصغيرة فى الركن يقفزان من النافذة دون أن تـُـفتح، لست متأكدا من الذى قفز أولا: فؤاد المهندس أم كاسترو، لم أكن أعلم أن فيدِلْ خفيف الظل هكذا. فيجدان الظلام الدامس، يـُرْعبان.

افتح التلفاز فإذا مذيع صينى يشترط سرا أو علانية، كذا وكيت وأن الرئيس الصينى قد قرر بالنسبة لاحتفال الألفية، واتفاقية الجات معاً، أنه “فيها لاخفيها”، وذلك بعد أن أملى شروطه، ولم ينتظر ليعرف إن كانوا قد قبلوها أم لا. خاف أن تنتهى اللعبة دون أن يحسبوا حسابه، سوف يشترك ويـُطـَنـْبـِل، ثم يأتى الحساب فيما بعد. ونحن؟

متى نقبض ثمن سماع الكلام؟

ـ 11 ـ

سوق النخاسة لتسويق المحترفين، أجور المدربين بعشرات أو مئات الألوف، تتراءى لى حركات الشابات لاعبات القوى، وأرقام الفوز تـُحـْسـَبَ بجزء من الثانية.

لم ذاك يا بناتى الحلوات؟ تفوز الواحدة منكن بفارق يصل إلى جزء من عشرة من الثانية؟ هذا ليس لعبا، هذه صفقات (بيزنس).

أى قسوة يسمونها تدريبا؟ وأى منافسة يسمونها لعبا؟! “إخص”

اللعب خيال جامح، نشاط حر، فرحة فى ذاته وليس فى نتيجته، معية زائطة، اتزلى يا بنت أنت وهى حتى نرقص ونلعب معاً دون شقاوه. نحتفل معا بأى كلام، المهم نحتفل بعيدا عن سوق النخاسة ومزادات أجزاء الثانية.

تلك الهيْجة البهيجة الراقصة المضيئة لا تعرف من الذى يديرها.

هل يمكن أن نكون قد استطعنا أخيراً أن نلعب هذه الليلة معا، فعلا،

نلعب بجد.

هل يمكن أن يسمح السادة فى البيت الأبيض أو السراى الصفراء أن يلعب العالم دون إذنهم ودون عائد عليهم؟ طبعا لا،

إذن فهو “بيلي”.

بيلى من يا جدع أنت،؟ كل حاجة كلينتون، بيلي؟ بطّل تفكير تآمري.

يعنى تريدنى أن أصدق أن ناس العالم الطيبين ـ نحن ـ هم الذين قرروا الاحتفال بالتخلّص من هذه التسعات اللحوح “قبل الهنا بسنة” منهم لأنفسهم؟

والله فكرة !! لماذا ننتظر عاماً آخر؟

ثم من أدرانا أن الألفية الأولى قد بدأت فى ميعادها؟

إن كل ما هو تاريخ هو مجرد لعبة وثائق خائبة. تُبرر عجز الإنسان أن يكون كذلك.

-12-

أين ذهب رفضي؟ كيف ذابت مقاومتي؟ أنا لا أستطيع أن أشارك فيما ليس لنا، فيما ليس نحن، لماذا نتركهم يقررون لنا متى بدأ التاريخ، ومتى ينتهي؟ فوكوياما يعلن عن نهاية التاريخ، وهاهم يذكرونا ببدايته التى قرروها بغير استئذان من أصحابها، نعم هم الذين فرضوا علينا ما يجرى هكذا، وليس نحن ناس العالم الذين قررنا أن نلعب سويا.

-13-

أدخل مترددا إلى حجرة حضرة الناظر لآخذ إذنا أن ألعب فى الخمس دقائق التى بين الحصص، التى بين العقدين، التى بين القرنين،،التى بين الألفيتين، يصرفنى الناظر وهو يضحك دون سخرية، أسأل الفراش لماذا كان يضحك حضرة الناظر، فيخبرنى بإجابتين، الأولى: لأن اللعب لا يتطلب إذنا، والثانية: لأنه لا توجد فواصل بين أى وقت وأى وقت.

نحن الذين ابتدعنا الفصل بين أى شئ و أى شئ، كله متصل بكله، ونحن الذين نوقف الحركة اصطناعا لنتأمل، ونأمل،لعل وعسي. من يدري؟

-14-

أدرك التلفاز الصغير القابع فى زاوية الحاسوب الصباح، فسكت عن الاحتفال المباح،. فعاودتنى التساؤلات والمراجعة.

يبدو أننى سُرقتُ مثل غيرى، والذى كان قد كان. أحسن.

-15-

الألفية الثالثة لم تبدأ بعد، والمسألة لا تحتاج إلى مناقشات وإثباتات، لكن للأمر دلالات مطـْمـِـئنْة، ذلك أننا أثبتنا نحن البشر (حلوة هذه) أننا حتى لو استُدرجنا إلى ما لم نقرره، فإن اتفاق الناس أهم من حسبة الأوصياء.

مرّة أخرى، “علينا وعليهم”.

-16-

مدرسة رياض الأطفال بالمعادى، كى چى تو، زفتا، بركة السبع، “سلطانية مهلبية، بابا قال لى عدّ لميّة، عشرة عشرين تلاتين اربعين… سبعين تمانين تسعين ميّة”، فسنة ألفين ليست هى، فلماذا يعايرونا فى مسألة تحديد رمضان والأعياد؟ لماذا نسوا أن اتفاق الناس وتوثيق العلاقة بالطبيعة أهم من أى علم للفلك أو الحساب أو المنطق؟

-17-

يرفع لى أرسطو[2] حاجبيه فأنهره وأعايره أن منطقه هذا هو الذى أخّر مسيرتنا نحن البشر ألفيّتين بالتمام، يُـلـعِّــب لى حواجبه وهو يغمز بإحدى عينيه، فأضطر أن أخرج له لسانى، وأنا استغيث بصديقى فون دوماروس[3]  الذى لا يعرفه أحد، مع أن صديقنا المشترك سلفانو أريتي[4] هو الذى أبلغنى وجهة نظره، كان أريتى وقتها يدافع عن منطق المجانين الأعمق مستشهدا بفون دوماروس.

-18-

أقول لشيخ الأزهر التنويرى الطيب: إن الدين يا مولانا لن ينقص أو يزيد إذا نحن صُمنا يوما زيادة أو يوما ناقصا، إن المهم هو احترام اتفاق الناس وتوثيق العلاقة بالطبيعة، علينا أن نحافظ على علاقتنا مباشرة بالله سبحانه، وبالطبيعة الأم، بلا وصاية آلات، أو حسابات، ثم ها هو العاَلَُم كله يتفق على “أنه: “هو ماله”؟ (يقصدون أرسطو، أو مرصد حلوان).

يا عم أرسطو، يا سيدنا أرسطو، الله يخرب بيتك.

يا فضيلة المفتى، يا مصطفى يا محمود، إن الناس يا مولانا إذا أجمعوا على خطأ فقد يكون أصوب من أى صواب.

لم لا؟

ـ 19 ـ

تنتهى الاحتفالات فى جزيرة “سماو” فيعاودنى التفكير التآمرى الذى هو ليس تآمريا:

من يا ترى هذا الذى ضحك على العالم هكذا، لتحديد هذا الوقت بالذات؟ أقصد من ذا الذى قرر ميعاد اللعب، ومكان اللعب، وطريقة اللعب؟ ليس مهما أن نجد إجابة، وليس لائقا أن نتهم أمريكا مثلا ـ كما اعتدنا ـ بأنها وراء كل هذا الملعوب، المهم أن هذه الشائعة (أن الألفية الثالثة بدأت)، مهما كان مصدرها، قد سرت بسهولة خطرة بين بقاع العالم لمدة عام أو بعض عام (على الأقل)، حتى صدّق الناس أنهم يمكن أن يكونوا “معا”.

يا عم فهمى يا هويدى، يا دكتور عبد الوهاب يا مسيرى، هم يتحيّزون لأفكارهم، وتواريخهم، وآثارهم، وأديانهم، ليكن. أليسوا أحق بنا منا، أكثر الله خيرهم أنهم سمحوا لنا أن نفرح معهم.

-20-

تقفز الست مونيكا من الشاشة وجسمها البضّ يملأ فراغ الحجرة كله، زاد وزنها سبعين كيلو جرام فظهرت معالم الزيادة داخل الملاءة اللف التى لا تعرف كيف تستعملها فتقع منها كل خطوتين وهى تتعثر، فلا أبتسم ولا أشمت، لكنى ألمح سهير البابلى وقد ضربت لخمة فى قسم اللبان[5] حين لم تستطع أن تحكم الملاءة عليها فصاحت فيها ” روحى كتك نيله وأنا مش عارفه وشك من ظهرك” لم أعرف إن كانت تخاطب الملاءة أم تخاطب مونيكا التى رعبت منها رعباً ليس له مبرر، فاختفت رغم حجمها ولزوجتها. يا بنت يا سهير لم فعلتِ ما فعلت؟ أيرضيك أن تتركى لنا هذه الفيلة تلعق بقايانا الهامدة، وهى إنسانة خاوية مثل طاحونة مهجورة؟

طيب

الله يسامحك يا سهير يا بابلي.

أنتِ السبب.

فى ماذا؟ لا أعرف.

-21-

ماذا يا سهير لو أنهم استعملوا نفس الأداة لتسويق وترويج أفكارهم الأخرى، فراحت تسرى بين الناس، كل الناس، بهذه السرعة فصدقوها، صدقناها بنصف وعى، أو حتى بدون وعى، حتى أصبحت أى فكرة يروجونها حقيقة أكبر من أى حقيقة موضوعية.

تقولين أن هذا هو الحادث فعلا؟ لا ياشيخة؟

يرقص الناس ويغنون معا فى توقيت ليس هو، “قبل الهنا بسنه”، يمر الحال،

هذه المرّة جاءت سليمة، ولعبناها خطأً معا، لكن ما العمل والسائق مجهول، والوقود غير كاف، والأفكار ليست واضحة ولاجيّدة، وكيف نحول دون أن يسرّبوا لنا أفكارا أخرى تخرب بيوتنا وعقولنا معا؟ أنا مالى، ننقرض جـَمـْعاً كما لعبنا جمـْعاً.

حين تهاجمنى فكرة الانقراض هذه، أتصوّر أننى أمثّل النوع البشرى كله، يا ذى الفضيحة، ألا أخجل؟ لكنها حقيقة،حين أتأمّل الأفكار المتسربة عن الرفاهية، وعن الديقراطية، وعن سيدنا العلم الفوقى، وعن الشذوذ الجنسي. أتحسس رأسى، وأهرش فى أجزاء خاصة من جسمى، وأتجرع بعض ما تبقى فى إناء “المخلل” بعد أن اختفت محتوياته الصلبة، وأمنع نفسى عن التعليق.

ـ 22 ـ

أصرخ بالمخرج معتذراً أن سامحنى، وأنها آخر مرة، كومبارس كومبارس، لكننى مهم فى خلفية المشهد، أقسم له أننى لن أفعلها ثانية، يطيب توفيق صالح خاطرى، ويطمئننى أننى لم أخطئ فى اللقطة ولا حاجة، لأنه ليس لى دور أصلاً فى هذا الفيلم، يعدنى توفيق صالح أن يبحث لى عن دور مناسب فى الفيلم القادم، وأعلم أنه يكذب رحمة بى، أشعر أكثر يقينا باقتراب نهاية النوع البشرى كله، مع أننا نحن البشر كان دمنا خفيف ولا يصح أن ننقرض هكذا بخطأ ما فى حسبة البقاء.

لو كان عند الديناصور وعيى مستقبلى، ربما كان مازال معنا حتى الآن، أخاف منه مثلما كنت أخاف طفلا أن يلتهمنى “وابور الزلط”.

-23-

مع تسحب هذه السيرة، سيرة الانقراض، ومع هذا الرعب، رعب الفناء بخطأ غبى، يتسرب منى السماح الذى عشته بالرغم منى وأنا أشارك فيما جرى هذه الليلة دون استئذان.

تصورتُنا ـ فرحا ـ عبر العالم ونحن نخرج لساننا جماعة لأى رقم فيه رسم تسعة، ثم هأنذا أتراجع عن اعتبارها لعبة فرحت أبحث عن أصل وفصل فاعلها، هل هى فعلا ملعوب وليست لعبة، ملعوب بفعل فاعل، والفاعل قوى ومجهول؟ لا بد أنه فاعل يملك السلاح، والمال، وكل وسائل الإعلام مما نعرف، وما لا نعرف.

-24-

أريد أن أذهب للخواجة الذى عزمنى على الشراب أمس فى المطعم الصينى وأقبّلُ رأسه و أنا أقبل دعوته.

-25-

لو أن أمريكا وإنجلترا وفرنسا، اتفقوا منذ عام أو بعض عام أن يؤجلوا هذه الاحتفالات سنة كاملة حتى يسايروا العلم والموضوعية، هل كان يجرؤ أى واحد غيرهم أن يعملها؟ هل كانت كوريا أو نيجيريا، أو حتى الهند الذرية تجرؤ أن تحتفل وقتما تشاء؟ تنضم مصر أم الدنيا إليهم، مصر جاهزة للانضمام طول الوقت “سـَنـْتـَتـْنـَضـُّم”[6] حالا، دقيقة واحدة، هل كان سيستجيب لنا أحد إذا قلنا أننا سنحتفل مبكرا عاما لمجرد أن سنة 2000 دّمها أخف، ومنظرها أجمل، وأننا زهقنا جدا من حكاية ألف وتسعمائة وكذا هذه، لو حدث ذلك لفتحوا علينا نار السخرية والاتهام بالجهل والتخلف، واتهمونا بقلّة حقوق الإنسان، وقلّة العلم، وقلة العولمة، والسفالة لكنهم لا يستطيعون أن يتهمونا بقلة الذرية أو الضعف الجنسي.

-26-

أخرج لهم لسانى ولا أجرؤ على التصريح باتهامهم بالعجز الجنسى مع أنى أعرف الكثير، خلّ الطابق مستور.

أقفل نافذة العالم التكنولوجية التى فـَرَضـَتَ على، وأتاحت لى، فرحة المشاركة، وفكر التآمر معا.

-27-

أكتب مقالا للأهرام[7] أقول فيه أن المسألة كانت لعبة طريفة، وأننى كنت مخطئا، وأن من حق الناس فى كل مكان أن تفرح وقتما تريد، حتى لو لم تعرف من ذا الذى يحركها. فقط علينا أن نأخذ الحذر، و أن نتدبر الأمر، وأن نؤكد على هـُويتنا المميزة، وكلام ماسخ من هذا، كلام أعلم أنه لا يقدم ولا يؤخر. كلام مثل عدمه، لكننى أكتبه، وهات يا واحد اثنين ثلاثة، إبرة الخـّياطة…

-28-

أتساءل عن عدد الذين سوف يقرأون هذا المقال، وعن جدواه، وعن لزومه،

أتجنّب التمادى فى التساؤل، كما أتجنّب محاولة الإجابة.

أخاف لو أننى صدَقْتُ فى الإجابة أن أمزق ما كتبت.

هل أنا أضحك على نفسي؟ أبرر وجودى بمثل هذا الذى أكتبه. فى حماس طفلى لا يهمد، وكأن أحدا ـ يهمه الأمر جدا ـ ينتظره فعلا؟

تصعب على نفسي. أكتشف أنه ليس لى فى الأمر شئ.

أحسن.

تصبحون على خير (ما أمكن ذلك).

******

الهوامش

أفضّل، بصفة عامة، ألا يكون للعمل الأدبى هوامش شارحة، أو متحفظة، أو مستدركة، أو معتذرة، مع أننى تعـلّمت من هوامش ديستويفسكى خاصة، ما جعلنى أعتقد أنه لا غنى عنها احتراما للقارئ. فرجحت كفّة أن تظهر هوامش هذا العمل، ربما تفسيرا أو تبريرا لبعض ما أشار إليه من متابعات، ونصوص، وأحداث، قد لا تحضر القارئ بسهولة، وخاصة الأصغر سنا.

وأيضا: لمّا وجدت هذا النص عصيا عن التصنيف أصلا، إذ يقع بين المقال والقصة مرة، وبين النقد والحكى والشهادة مرة، بدا لى أن الهوامش تصبح لزومية، وخاصة أن أغلب هذه التجارب كانت مستثارة بأحداث محددة، ومرتبطة بتاريخ معيّن.

هذا، وقد يكون مناسبا، قبل تقديم هوامش كل جزء، أن أفسّر ابتداء ما عنيته باختيار الاسم “الورطة “، حيث أردت أن أعلن به حيرتى فى تصنيف هذا العمل كما ذكرت، خاصّة وأننى حين استشرت المعجم، وجدت فى لفظ “الورطة” ما يعبر عن حالتى هكذا:

جاء فى لسان العرب:

الورطة: كل غامض.

و الورطة: الهلكة

قال أبو عمرو:

إن تأت يوماً مثل هذى الخطــّهْ تلاق من ضرْب نمير هلَكَه

وقال يزيد بن طعمة الخطمي

قذفوا سيدهم فى ورطة قذفـك المـقلة وسـط المـعترك.

ولعل فى هذا الاستشهاد ما يحذّر القارئ العزيز من أن يأت يوما مثل هذى الخطّة، حتى لا يجد نفسه مقذوفا (مثلى) “قذْفك المقلة وسط المعترك”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]- كتب أصل هذا النص أولاً فى شكل مقال نشر فى الأهرام باسم ” ماذا بعد ما لعبْنا معاً لُعبة الألـفية؟” بتاريخ: 18/1/2000. [أنظر هامش 15]، ثم أعدتُ صياغته بعد أن جمعت هذه المادة “هكذا” لتقول نفس المعنى مع السياق الحالى، وقد نشر لاحقا كما جاء فى هذا المتن بعنوان “اللعبة والملعوب”، فى مجلة سطور العدد 40 مارس 2000.

[2] – يراجع العاَلَمُ ناقدا فكر أرسطو ومنطق أرسطو بصفة خاصة ومدى إعاقته للتفكير البشرى طوال ألفيتين.

[3] – ظهر منطق “فون دوماروس” سنة 1947 ليتناقض مع، ويصحح منطق أرسطو ليثبت أن الشئ يكون نفس الشئ وضده فى آن… الخ.

[4] – سليفانو أريتى طبيب نفسى أمريكى مبدع، صاحب كتاب “تفسير الفصام”، والمحرر الأول للكتاب الأمريكى للطب النفسى فى السبعينيات والثمانينيات وهو الذى تبنى منطق فون دوماروس ووظفه فى فهم لغة الفصامى وغائيته ومن ثم فهم “إرادة المجنون واختياراته وموقفه”

[5]- إشارة إلـى مسرحية ريا وسكينه، (شادية وسهير البابلى).

[6] – إشارة إلى مسرحية مدرسة المشاغبين.

[7] – مقال الأهرام نشر بعنوان: ماذا بعد ما لعبنا معا لعبة الألفية18/1/2000،وقد رأيت أن أورده فى هذا الهامش بنصّه (إلا بضعة سطور) لمن شاء أن يعيش تجربة المقارنة بين ما كتب تحب زعم غلبة نصف الدماغ الكروى الطاغى (مقال الأهرام) فى مقابل غلبة النصف الكروى غير الطاغى [مقال سطور: هامش 8]

ماذا بعد ما لعبْنا معاً لُعبة الألـفية ؟

                    [الأهرام: 18/1/2000] 

إن أهم وأطرف ما حدث فى هذه المناسبة هو أن العالم كله، قد شارك فى فرحةٍ ما، فى مناسبة ما، فى لُعبة ما، لعبة بكل قواعد اللعب، بما فى ذلك أن واحدا يحرن ويقول “والله ما انا لاعب” (فيدل كاسترو)، وأيضا أن آخر يتلكأ ويهدد ويشترط، ثم فجأة، يسارع قبل البداية مباشرة أنه:”فيها لاخفيها” (الصين).

لا يشمل تعريف اللعب ـ نفسيا ـ تلك الألعاب التى تجرى فى الملاعب أو فى الصالات حيث يبلغ سعار التنافس وإرهاق التدريب مبلغا هائلا من القسوة والاحتراف، يؤكد ويبرر هذا وذاك ما وصلته أسعار اللاعبين وأجور المدربين الفلكية، وكذا مكافآت الفوز، ومقاييس التفوق التى تصل فى بعض ألعاب القوى إلى جزء من عشرة من الثانية، هذا ليس لعبا، هذه صفقات وأكل عيش وتنافس قهرى (بزينس)، وإنما يُعرّف اللعب عند علماء النفس والطب النفسى بأنه: نشاط حر، يُعمل لذاته، ولا يُرجى منه ـ ابتداء ـ عائد نفعى واقعى محدد، وهو نشاط مرغوب فيه، لما يعـِدُ به، ويحققه عادة، من فرحة وانطلاق. ويكون هذا النشاط (اللعب) أطيب وأبهج إذا تمّ فى جماعة. أليس هذا هو ما حدث بالضبط، هكذا، على مستوى العالم،حتى الصباح فى تللك الليلة الليلاء؟! ألا ينطبق هذا التعريف تحديدا على تلك الهيْجة الهائصة التى عمّت الدنيا من جزيرة فوكلاند فى أقصى الشرق إلى جزيرة سماو فى أقصى الغرب؟ عمّت الدنيا بتلقائية منتشرة شاملة، لا أحد يمكن أن يجزم بمصدرها الأوّل (انظر بعد)، هكذا اتفق العالَم أن يلعب، لعبة احتفالية الألفية الثالثة، أما كيف كان ذلك؟، فقد قرأت الحكاية على الوجه التالى:

تعوّدنا منذ تعلّمنا القراءة والكتابة، بل والاستماع، تعوّدنا على هذه الأرقام الأربعة التى تبدأ من اليسار بواحد ثم تسعة، 1901ـ1911ـ1919 ـ 1952ـ 1967ـ 1973 حتى 1999، ثم نمى إلى علمنا أن هذا الشكل اللحوح، بما له وما عليه، سوف يتغيّر، فأصابتنا دهشة طفلية بريئة، صوّرت لنا أنه ما دام هذا الشكل المتكرر جدا سوف يتغيّر، فلا بد وأن العالم بالتالى سوف يتغيّر، وخاصّة ونحن فى مرحلة تنبهنا وتلح علينا أنه: إما التغيير وإما الهلاك، فقررنا، دون مؤامرة، أن نفرح معا بهذا الرسم الجديد لأرقام التأريخ، نفرح فرحة طفل لم يتعلم حتى الكتابة فراح يفضل منظر رص الأصفار الثلاثة بجوار بعضها على يمين الرقم اثنين، فَرُحنا نلعب بها، ونغنى لها وكأننا ندحرج ِ”بـِلْيا”ً ينحنى لها رقم اثنين فى تحية نصف نصف، (بالعربية) أو كأننا نتقاذف كرات يتراقص أمامها رقم اثنين بالإنجليزية ، فإذا كان الأمر كذلك، فلا اعتراض على ما اتفق الناس عليه، حتى لو أعلنوا أنهم أجّلوا الألفية الثالثة لتأتى بعد الرابعة. خيال اللعب الحر يسمح بذلك، وأكثر.

هذا هو التفسير الذى استُدرجتُ إليه لأفهم وأصالح ما جرى فى تلك الليلة مما تابعته بالصدفة مضطرا، ذلك أننى فى البداية كنت رافضا متحفزا محتجا أن أُستدرَج إلى ما لستُ موافقا عليه، أنا لا أستطيع أن أشارك فيما ليس لنا، وما ليس نحن، وقد تابعت أصوات التنبيه الطيب (صلاح منتصر مثلا) أن هذا الحفل سيتم “قبل الهنا بسنة”، كما تابعت سماحه المتراجع، وكأن صلاح يقول مبتسما: ما دمتم مصممين، فلنحتفل مرتين، كما تابعت الأصوات الزاعقة المتألمة وهى تنبّهنا إلى خطورة اختزال التاريخ إلى ما يقرّونه هم تحديدا، وكأن تاريخ العالم يبدأ حين يقررون لا أكثر ولا أقل، ولو صحّ ذلك، فيمكن أن يمتد المنطق إلى: ماداموا احتكروا حق تقرير متى بدأ التاريخ فهم الذين سوف يقررون متى ينتهى (بدأت ملامح ذلك فى كتاب فوكوياما:نهاية التايخ)، فأخذت بعضى وهربت على بعد ستمائة كيلومتر من احتفالنا الليزرى الخاص.

كنت هناك وحدى تماما، فى شقتى المتواضعة بين جيران طيبين، ليس لهم أدنى علاقة بهذه الحكاية، وزاد من اطمئنانى إلى نجاح خطة الهروب أنه ليس عندى طبق (دش) فى هذا المكان البعيد ـ جنوب سيناء ـ يمكن أن يلاحقنى رغما عنى، إلا أننى وأنا فى عز هربى مستغرقا فى الحوار مع صديقى الحاسوب (الكمبيوتر) ومربع التليفزيون الصغير يحتل زاوية هامشية فى الجزء الأعلى الأيسر من شاشته، كما اعتدت أن أشغل خلفية استغراقى ببعض ألوانه الصامتة، أو أصواته الهامسة، أوكليهما. وأنا فى هذه الحال فرحا بنجاحى فى الهرب، أدعّم إصرارى على مقاومة هذه الخدعة الجماعية، إذا بى أكتشف أن القناة الثانية، التى تصل إلى هذا المكان النائى من خلال محطة تقوية حديثة، تجرنى جرا إلى العالم كله، وهو يلعب معا هذه اللعبة الكوكبية. لم يكن أمامى خيار، ورائى ورائى، فاضطُررتُ للمتابعة بجزء من وعيى، ورويدا رويدا وجدتنى واحدا من بين هذه المليارات من البشر الذين يلعبون هكذا، ووجدتنى غير رافض تماما لما يجرى كما كنت أتصور، أو كما كنت أصرّ، وأيضا تذكرت ذلك الشعور الذى سبق أن أشرت إليه فى هذه الصفحة، حين كنت أشاهد كأس العالم، ودخل هدف ما، فى فريق ما، ووجدتنى أشارك ألف مليون بنى آدم نفس الشعور، حتى كدت أسمّى هذا الذى حدث أنه شئ أشبه بالحج الإلكترونى، ساعتها تذكرت خبرة أخرى مرّت بى منذ عشرين عاما، و أنا أصحو قبل الفجر أقتطف بضع ساعات أكتب وأقرأ فيها قبل أن تلتقطنى عجلة الواجبات اليومية التى لا تتوقف، وكنت أحتاج أن أفتح المذياع الصغير أسمع أى دندنة لا أتابعها، وكنت أفرح حينذاك وأنا أسمع لغات لا أعرفها، وأسأل نفسى فى صمت عن معتقداتهم، وعن دينهم، و عن مآلهم، و عن رحمة ربنا بى وبهم، وأطمئن إلى عدله طمأنينة غامرة، حتى اعتبرتُ أن اختراع المذياع “الترانسستور” هذا يساعد على التقرب إلى الله سبحانه، إذ يقرب الناس المختلفين من بعضهم البعض، عاودنى كل هذا وأنا أتابع هذه المظاهرة العالمية. وحيدا فى أقصى الجنوب، فرحتُ أشاهد ما يجرى، وأنا أعملُ مازلت على الحاسوب، وشاركت الجميع:من أول فرحة الاستراليين، حتى الرقص فى هاواي.

وبعد أن أدرك التلفاز القابع فى زاوية الحاسوب الصباح، فالظهر، فسكت عن الاحتفال المباح، والقهر، عاودتنى التساؤلات والمراجعة: فمن الناحية الموضوعية، لا يختلف اثنان على أن الألفية الثالثة لم تبدأ بعد، والمسألة لا تحتاج إلى مناقشات وإثباتات، فأى طالب فى سنة ثالثة ابتدائى يعد من واحد لعشرة، وأى مجموعة أطفال تردد أغنية “بابا قالّى عدّ لْميّة: عشرة عشرين تلاتين أربعين…….تسعين ميّة، يعلم أى واحد من هؤلاء أن سنة ألفين هى المكملة للألف الثانية، وليست بداية الثالثة، ولكن الذى حدث لا بد أن يشير إلى قيم ومبادئ أخرى غير هذا الحساب الساذج، قيم ومبادئ لا بد أن توضع فى الاعتبار ونحن نتابع ما يدور حولنا، ونحاول أن نشارك فيه أو أن نرفضه، وفيما يلى بعض ذلك:

أولا: إن اتفاق العالم كله على شكلٍ ما، ورأى ما، ونظامِ سوقٍ ما، واحتفالٍ ما، وتوقيت ما، لا يعنى أن أيا من هذا هو الصواب، ولا أنه هو الأصوب.

ثانيا: يبدو أن ما يـُجمع الناس عليه له من الأهمية والجذب والدلالة ما هو فى مرتبة الحقائق الموضوعية المجردّة، أو أكثر، حتى ولو انطلقت هذه الحقائق من معامل الأبحاث أو من مراصد الفلك.

ثالثا: إذا كان الأمر كذلك، وكان ما أجمع عليه أغلب الناس قد أدى إلى هذا الاحتـفال “قبل الهنا بسنه ” كماذكرنا، فلماذا تثار ضدنا نحن المسلمين فى كل رمضان، وفى كل عيد، ما يشبه المعايرة بأننا ناس غير علميين، وأننا نفضّل الخداع البصرى الذى يرصد هلالا لم يولد بعد، يرصده طالب مكافأة، أو منجذب لعاطفة، أو مصاب بهلوسة بصرية، نفضّل أيا من ذلك على حسابات الفلك؟ وكم كررتُ ردا على ذلك أن قياس الدين وتعليماته بما استُحدث من علم، وما تعملق من عقلانية، هو إهانة للاثنين باختزال أحدهما للآخر، فالدين لا ينقص أو يزيد إذا نحن صُمنا يوما زيادة أو يوما ناقصا، المهم أن يشترك الناس فى أمر ما، وأن تظل علاقتهم بالطبيعة، وبالله مباِشرة، متجددة، ومحترمة، وذات دلالة، بعيدا عن وصاية الآلات والحسابات التى ينبغى أن تُستعمل فيما جُعلت له، لا أن تستعمل بديلا عن علاقة الناس بعضهم ببعض، أو عن علاقة الناس بالطبيعة المباشرة. على شرط ألا يحل رأى الناس محل موضوعية المعلومة، وإنما يتم التكامل بوضع كل منظومة معرفية حياتية فى موضعها، وأن تقاس بمقياسها هى، دون تعميم أو وصاية من أخرى، وأيضا دون تنافر.

رابعا: إن الذى سهّل أن يتفق الناس على هذا الخطأ الظريف، وبالتالى أن يلعبوا معا هكذا، هو إنجازات التكنولوجيا المعاصرة، حتى الذين هم حول حدّ الفقر، أمكنهم أن يشاركوا بالمشاهدة، و بالتقمص المندهش.

خامسا: إن صحّ أن بعض العالم كان يلعب كل هذا اللعب” معا”، والباقى يتفرْج كل هذه الفرجة، فى اتفاق مبنى على خطإ طريف كما ذكرنا، فإنه قد يلزم علينا بعد نهاية اللعبة أن نتساءل: من ذا الذى ضحك على العالم هكذا، لتحديد هذا الوقت بالذات؟ أقصد من ذا الذى قرر ميعاد اللعب، ومكان اللعب، وطريقة اللعب؟ ليس مهما أن نجد إجابة، وليس لا ئقا أن نتهم أمريكا مثلا ـ كما اعتدناـ بأنها وراء كل هذا الملعوب، المهم أن هذه الشائعة (أن الألفية الثالثة بدأت)، مهما كان مصدرها، قد سرت بسهولة خطرة بين بقاع العالم لمدة عام أو بعض عام (على الأقل)، حتى صدّق الناس أنهم يمكن أن يكونوا “معا”، دون حتى التوقف عند “إشكالية التحيّز” إلى ما يمثله الغرب أو إشكالية التحيز إلى التاريخ الأحدث، دون التاريخ الأعرق.

إن خطورة الأمر تتمثل فى إمكان تسريب أى فكرة ـ صوابا كانت أم خطأ ـ حتى تسرى بين الناس، كل الناس، بهذه السرعة، فيصدّقونها،بنصف وعى، أو حتى بدون وعى، حتى تصبح هذه الفكرة حقيقة أكبر من أى حقيقة موضوعية. هنا مكمن الخطر. فلا بأس أن يرقص الناس ويغنوا، وأن ويطلقوا الألعاب النارية”قبل الهنا بسنه”، ولكن الخطر كل الخطر، أن تستعمل نفس الوسيلة، فنتلقى ما تبثه إلينا هذه الأنظمة المخترقةْ القادرة، نتلقاه بنفس التسليم الذى مارسناه فى لعبة الألفية، لكنه أمتد إلى أمور جادّة، لها آثار باقية، قد تكون ضارة، إلى درجة التهديد بالانقراض،(صدّقونى)، وأورد هنا بعض الأمثلة لمثل هذه الأفكار التى تتمادى فى الانتشار دون سند موضوعى، حتى لو بدت برّاقة وواعدة ورشيقة، وأحيانا مثالية:

(1) فكرة مجتمع الرفاهية كهدف إنسانى أسمى، أو أوحد، مع أن الهدف الحقيقى للبشر أعمق وأرقى وأجمل من حكاية الرفاهية هذه. خذ مثلا الكدح إلى وجهه تعالى كدحا لنلاقيه. قارن ذلك برفاهية الاستلقاء أمام التليفزيون، أو رفاهية أمل صيد السمك بعد المعاش.

2) ) فكرة تقديس “سياسة السوق” باعتبار أنها الحل الأمثل لضمان التنافس، ومن ثم خفض الأسعار، ثم لا نرى إلا مزيدا من التنافس، والاحتكار بواسطة الشركات المندمِجَة، مع تهميش دور الحكومات أمام جشع المؤسسات التى جعلت حركة النقود(لا مسؤولية الاقتصاد) هى الإله الجديد لهذا العصر الغامض.

(3) فكرة نهاية التاريخ تحت زعم أنه لم يعد هناك مجال لما يسمّى الصراع بين الأيديولوجيات والنظم السياسية والاقتصادية، ومن ثم فإن كل ما بقى أمام الإنسان هو أن يحسّن أداءه بالمنهج المتاح، ليحقق هدف النظام المتفق عليه!! مع أننا ـ أصحاب المصلحة ـ لم نتفق بعد على شئ واحد.

(4) فكرة تقديس المعلومات الجزئية الخارجة من معامل الأبحاث، بمنهج محدود، مع أن هذه المعلومات مهما برقت، لا تمثل إلا إحدى قمم جبال المعرفة الظاهرة على سطح محيط وعى الناس. (ملحوظة: القمم الأخرى تشمل: المعرفة الإيمانية، و المعرفة الفنية، أقول المعرفة الإيمانية وليس فقط الاعتقاد الدينى، وأيضا المعرفة الفنية وليس فقط الاستمتاع الجمالى بالفن).

(5) فكرة عبادة الديمقراطية (وخاصة ديمقراطية الإنابة) بغض النظر عن وسائلها ومطابخها.

(6) فكرة مشروعية الشذوذ الجنسى لعموم البشر (وأفضليته أحيانا)، باعتباره طبيعة بشرية بديلة.

كل هذه أصبحت أفكارا شائعة ومقبولة. وبعضها مـُبـَرَّرْ. وبعضها مقدس، وأنا لست بصدد مناقشة أى منها الآن، لكنّ ما أنبه إليه حالا هو دلالة ما حدث، لا من حيث صوابه من خطئة، فقد لعب العالم وفرِح، وشاركتُه مضطرا، وما كان قد كان، وإنما أناقش الأمر من حيث الانتباه إلى خطورة الوسيلة، التى إذا استعملت لإقحام أفكار ومعتقدات بذاتها فلا بد من الانتباه إلى احتمال الضرر حتى الانقراض، ولنتذكر أن الانقراض قديما كان يتوقف على مسيرة التطور وقوانين الطبيعة، أما الآن فقد يتوقف على من يتحكم فى هذه الوسائل المغـيرة على وعى وسلوك النوع (نحن البشر)، فالتاريخ لا يحكى لنا تفصيلا عن بداية خطأ أى نوع من الأنواع التى انقرضت، اللهم إلا إشارات إلى عدم تناسب المحيط مع المسيرة التطورية. لكن النوع البشرى يمتلك من الوعى والوسائل ما يمكن أن ينبهه إلى أن المسألة الآن أصبحت تجرى فى هذا الاتجاه (الانقراضى) على الرغم من الإنجازات المتسارعة، واللعب الجماعى الزائط.

إن محاولة التعرف على القوى التى أصبحت تدير دفة العالم ـ وتزرع الأفكار وتتحكم فى الألعاب ـ سرا وعلانية تقول: إن من يملك ما يكفى من المال والسلاح ووسائل الإعلام يمكنه أن يمسك الدفة سرا وعلانية، وليس أمام الأضعف إلا أن يتبع كلا من الخطأ والصواب دون تمييز دقيق ضاربا تعظيم سلام، زائطا أو راقصا أو مـُلـيـْزِرًا (مستعملا الليزر)، ولتوضيح ذلك: فلنتصور مثلا أن أمريكا وإنجلترا وفرنسا، اتفقوا منذ يونيو سنة 1999 أن يؤجلوا هذه الاحتفالات سنة كاملة حتى يسايروا العلم والموضوعية، فهل كان أى أحد يجرؤ أن يحتفل نفس الاحتفال هكذا؟ هل كانت كوريا أو مصر أو نيجيريا، ومعهم الهند الذرية تجرؤ أن تحتفل وقتما تشاء؟ رغم أنف السادة “الذين هم”. هل كان سيستجيب لنا أحد إذا قلنا إننا نحتفل لأن سنة 2000 دّمها أخف، ومنظرها أجمل، وأن المهم أن نلعب سويا، وأن يتفق الناس..إلخ؟ هل كان يمكن أن نفعل ذلك فى حين قرر الرؤساء الكبار أن يكون الاحتفال سنة 2001. إن نصيبنا فى هذه الحال لن يكون سوى سيل من السخرية والاتهام بالجهل والتخلف بما يكفينا وزيادة، لكن إذا قال نفس المقولة هؤلاء الكبار الأقوياء الشطّار، فكُّلــه يسكت، ثم يشارك وهو يرقص، وحتى يفرح دون أن يقرر هو لنفسه متى أو لماذا!!

ومن يجرؤ أن يقاوم يمكنه أن ينشر مقالا، حتى فى الأهرام، وقد يقول نكتة، ثم يستسلم، ويشارك.

ربنا يستر.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *