الرئيسية / الأعمال الأدبية / دراسات نقدية / قنديل أم هاشم و تحديات الإبداع قراءة فى نص الدكتور”إسماعيل رجب عبد الله”

قنديل أم هاشم و تحديات الإبداع قراءة فى نص الدكتور”إسماعيل رجب عبد الله”

 نشرت فى مجلة وجهات نظر

عدد مايو 2006

قنديل أم هاشم و تحديات الإبداع

قراءة فى نص الدكتور”إسماعيل رجب عبد الله”

منذ شخصتُ عمر الحمزاوى فى نقدى لشحاذ نجيب محفوظ على أنه حالة اكتئاب صريح (سنة1970)[1] ثم اعتذرت عن ذلك فيما بعد (قراءة فى نجيب محفوظ 1982)[2] وأنا أتجنب مثل هذه الورطة التى تكاد تفسد كلا من الطب النفسى والنقد الأدبى بضربة واحدة، كتبت بعد ذلك فى فصول (1983) [3] عن النقد الأدبى والعلوم النفسية أنبه إلى خطأ وخطورة هذا المنحى الشائع الذى يسطح النص الأدبى، ولا يضيف إلى التحليل النفسى والطب النفسى إلا غرور الوصاية وأوهام التصنيف، لكننى وبرغم ذلك وقفت طويلا أمام أحوال إسماعيل هذا أسائل نفسى أين أضعه، لا بصفته يستحق تشخيصا له اسم طبى، ولكن باعتباره تركيبا بشريا له حضور، وحدس، ووعى، وتقلبات، ومرض، وصحة، وإيمان، وشطح.

كنت قد اكتشفت مؤخرا فى ممارستى المهنية (ليس مؤخرا جدا) أننى أقرأ مرضاى ناقدا تجنبا لسجنهم فى  قوالب ثابتة تسمى تشخيصا، اعتبرت مريضى (ونفسى) من خلال ذلك “نصا بشريا” يحتاج لنقد بناء بديلا عن لافتات الوشم التى نلصقها به تبعا للتصنيف المعتمد!!. إسماعيل رجب عبد الله هو نص بشرى نحاول قراءته معا من هذا المنطلق:[4]

(1) نشأ إسماعيل فى ظل إحاطة الأسرة له بعواطفها وأمالها وطموحاتها حتى كادت تؤلهه. كان بالنسبة لها مشروعا استثماريا، و حراكا طبقيا معا، جعلوه مبرر وجودهم ودليل قدراتهم . “….إذا أوى إلى فراشه فعندئذ، وعندئذ وحسب، تشعر الأسرة أن يومها قد انقضى، ..كل حياتها وحركاتها وقف على توفير راحته، جيل يفنى نفسه لينشأ فرد واحد من ذريته” ص62 إلى أن قال الراوى (ابن أخيه)  ” تعلق هذه الأسرة بولدها تعلق مسلوب الحرية والإرادة!  ” ص 63

(2) كانت النتيجة أنه منذ الطفولة حرم هذا الطفل حركية النمو الطبيعية، فتحوصل على ذاته من حيث المبدأ، برغم ظاهر الكبران (!) وبرغم زخم النبض الشعبى من حوله، و برغم فرص الإبداع الحضارى بعد سفره

(3) وصلته حركة الناس فى الميدان، ونور النور فوق المقام لما لم يفك تجمده حول ذاته، وقف من هذا وذاك إما متفرجا، وإما مذهولا، وإما ملتحما بالكتلة البشرية حتى التلاشى فيها دون حراك فردى.

الوصف الذى توقفت عنده طويلا، وشككنى فى سلامة نشأته،  هو ما جاء قرب البداية فى وصف وعلاقته بالناس والميدان (ص 69) هكذا :

  • “… لا يفاجئه نداء بائع، ولا ينبهم عليه مكانه، تلفه الجموع فيلتف معها كقطرة المطر يلقمها المحيط،صور متكررة متشابهة اعتادها فلا تجد فى روحه أقل مجاوبة، لا يتطلع ولا يمل، لا يعرف الرضا ولا الغضب، إنه ليس منفصلا عن الجمع حتى تتبينه عينه”.
  • “من يقول له إنكل ما سمعه ولا يفطن له من الأصوات، وكل ما تقع عليه عينه ولا يراه من أشباح لها كلها مقدرة عجيبة على التسلل إلى القلب  والنفوذ إليه خفية والاستقرار فيه والرسوب فى أعماقه، فتصبح فى كل يوم قوامه”
  • “أما الآن، فلا تمتاز نظرته بأية حياة، نظرة سليمة، كل عملها أن تبصر”

من الصعب أن  نعتبر هذه المشاعر طبيعية، أو إيجابية ، لقد شككت فيها حتى حسبت أن ثم خطأ مطبعيا، فرجعت إلى طبعة أخرى، الأعمال الكاملة (المجلس الأعلى للثقافة سنة  2005)، فوجدت الطبعة التى بين يدى، وهى مرجعى هنا، طبعة مكتبة الاسرة (2005)، أكمل وأدق، حيث سقط  سطر كامل فى طبعة المجلس  وهو”  منفصلا عن الجمع حتى تتبينه عينه، من يقول له إن  ….، فمن أدرانى ماذا حدث فى طبعة مكتبة الأسرة؟ ومع ذلك فسأعامل النص الأصح على علاته ، فما زادتنى طبعة المجلس الأعلى إلا حيرة وتشككا.

إن وصف مشاعر شاب فى مقتبل حياته، أحاطته الأسرة بكل هذا التركيز حتى التأليه، بأنه لا يتجاوب مع ناسه “…لا يتطلع ولا يمل، لا يعرف الرضا ولا الغضب” هو وصف منذر باستعدادٍ ما، لاضطراب ما ، ولا يكفى تبرير ذلك بأنه “…. إنه ليس منفصلا عن الجمع حتى تتبينه عينه”. إن هذا قد يعتبر، بعد تتبع الحالة- نوعا من التبلد و”إلغاء الذات فى المجموع”. أن يصبح الواحد جزءا ذائبا فى المجموع قد يبدو أحيانا صفة حميدة من قبيل التماهى مع الناس، لكن الأمر ليس كذلك، إنه حين تختفى المسافة بين الفرد والآخرين (الموضوع) تختفى فرصة حركية الجدل اللازمة للنمو، وبالتالى تقل أو تتوه أو تنعدم فرص “العلاقة بالموضوع”.  هذا ما قد يفسر الجملة الأخيرة التى تفيد أن: عينيه أصبحت تبصر ولا ترى، وهى  جملة لها نفس الدلالة أيضا من حيث أنها تعلن نوعا من التبلد الوجدانى رغم وصفها بالسلامة . إن الراوى (الكاتب) بذلك يتهم السلامة بالفتور، حيث أنها “لا تمتاز نظرته بأى حياة”، وهذا وارد فى حدود خطأ ترادف “السلامة” مع “العادية” أو “فرط العادية”، فلو جاز أن نقرأ هذه الجملة بعكسها، لتصورنا أن  الكاتب يوحى لنا بأن النظرة المريضة هى التى تبصر فترى، وهنا يصبح لبعض الأمراض جانبا إيجابيا وهو ما يندرج تحت فرط حدة الوعى وشحذ البصيرة، حتى لو كان ذلك بسبب المرض (فى البداية عادة). المراد هنا هو إيضاح أن احتمال مرض إسماعيل ليس قدحا على طول الخط، وإنما هو تمهيد لتفسير الذى حدث بعد ذلك، بما فيه  الجانب الإيجابى منه.

(4) جاءت فرصة المراهقة كأزمة نمو جيدة، لكن يبدو أنها لم تتم فى الاتجاه الصحيح فأعلنت صعوبة النقلة لإعادة الولادة: “.. فهو فريسة ممزقة بين قوى دافعة وأخرى جاذبة، يهرب من الناس، ويكاد يجن لوحدته … ص 71”

(5) أعلن مرض إسماعيل الصريح بعد سفره للخارج ،   ص 88  : “..فمرض، وانقطع عن الدراسة، وافترسه نوع من القلق والحيرة، وبدت فى نظرته أحيانا لمحات من الخوف والذعر.  حدس المؤلف  الذى رجح حالا أن  النظرة السليمة “..كل عملها أن تبصر” ص  89 يقر هنا أن للمريض سحره الأخاذ عن السليم الفاتر المعتاد، تركته “مارى” لما شفى ففقد سحره ، إذن : إن للمرض لسحرا !…. “رآها تبتعد عنه وتنصرف  إلى زميل من جنسها ولونها، إنها ككل فنان يمل عمله حين يتم ، شفى إسماعيل ففقد كل سحره وأصبح كغيره  ممن تعرفهًم (ص 89)

(6) سافر إسماعيل (فى سن الثانى عشر مثلا) كهلا، وعاد شابا، مما يشير إلى عكس مسار النمو بما لايدل على مرض منه بالضرورة، وإنما هو ينبه إلى استعداد ما: ص 80 (السفر) “.. تخيلت صاعداً سلم الباخرة شابا عليه وقار الشيوخ، بطئ الحركة، غرير النظرة، أكرش، …”

(عند العودة) ص 83 “.. من هذا الشاب الأنيق السمهرى القامة، المرفوع الرأس، الذى يهبط سلم الباخرة قفزا..”.

(7) ظهرت إرهاصات مرض إسماعيل قبل سفره ، حين رأى نعيمة وهى تطلب التوبة وتقبّل سور المقام، حتى كاد يرى السيدة زينب وهى تبادلها القبلات، لم يتمالك نفسه واستنقذ بالشيخ درديرى الذى هدأ روعه بما استطاع، ثم نسى كل شىء، (ص 81) “..فكل ما حدث له بعد خروجه من المقام شمله من أخمص قدميه إلى رأسه، كالتيار المندفع العنيف، يتأرجح فيه ملقى القياد مقلوب الوضع، فقدَ خِلاله الزمن ترتيبه، والمرئيات اعتدالها، والأصوات صدقها وفروقها..” .إن هذه النوبة العابرة قد لا تعتبر مرضا جاثما يحتاج علاجا حاسما إذا مرت عابرة مهما كانت شدتها، لكنها المرض من حيث المبدأ على الأقل، المرض بإيجابياته وسلبه، ولعله هو ما  أشار إليه الكاتب أو الراوى فيما بعد :

(8) ص 100″… المرض العصبى القديم  قد عاوده فجأة: وانفجر بشدة من جديد، فقد وعيه وشعر بحلقه يجف، وبصدره يشتعل، وبرأسه يموج فى عالم غير هذا العالم، شب على قدميه واقفا، لا شك أن فى نظرته ما يخيف، قد تضاءلت الأم أمامه وابتعد الأب عن طريقه، …حتى طوح بها (زجاجة الزيت) من النافذة. لم يرد ذكر لهذا المرض العصبى القديم قبل ذلك اللهم إلا ذهوله العابر الذى وصفناه حالا والذى أعقبه نسيان تفاصيل الأحداث ، بل لعله شمل بعض فقد الإرادة الحاد الذى يصف بعض بدايات الذهانات.

(9) ثم يعلن المؤلف (أو الراوى) شكلا آخر للمرض أكثر صراحة  بعد عودته، حيث يأخذ شكل الرفض لكل ما حوله من سجن العادية التى وجد نفسه منغلقا فيها، ووجد ساجنيه رهط  المصريين المتخلفين من المتخاذلين المذعنين الكذابين ” … هذه الجموع أشلاء ميتة تطبق على صدره وتكتم أنفاسه، وتبهظ أعصابه ص 103″.  هذا ما أعلنه صراحة فى نوبة مرضه التى وصفها فيما يلى:  “…..ثم أخذته غفوة واختلط عليه الأمر، إنه كالطير قد وقع فى فخ وأدخلوه القفص، فهل له من مخرج؟ يشعر بجسمه وقد شد إلى هذه الدار التى لا يطيقها، وربط إلى هذا الميدان الذى يكرهه، فمهما حاول فلن يستطيع فكاكا. (ص 108)  ليس فى كل ذلك –بعد- مرض صريح جسيم معوق، لكن لعله التمهيد لانفصال جعله يتمادى الناحية الأخرى، ناحية العلم الجزئى المغترب، بعد نوبة صحيان ، بنشاط عجيب، من النقيض إلى النقيض، هكذا:

(10) وهناك عاوده ما يبدو كأنه نقلات الأعراض فى زمن قصير، وهو علامة دالة على اضطراب محدد معروف بذلك،: (ص 108) “.. ثم أخذته غفوة، واختلط عليه الأمر، إنه كالطير فى فخ، وادخلوه القفص، … يشعر بجسمه وقد شده إلى هذه الدار التى لا يطيقها، وربط إلى هذا الميدان الذى يكرهه.

بعدها مباشر نفس الصفحة (ص 108) “… واستيقظ إسماعيل ذات صباح وهو يشعر بنشاط عجيب. فى مثل هذه الأحوال يقفز الشخص من النقيض إلى النقيض فجأة وبلا سبب ظاهر، وخرج من الدار مبكرا، وعاد يحمل حقيبة ملأى بالزجاجات والأربطة والمزاود، وبدأ علاجه لفاطمة كما يقتضيه طبه وعلمه. ..” وسلمت الفتاة إليه نفسها مطمئنة، لا يهمها مرضها بقدر ما يهمها أن تكون بين يديه،موضع عنايته ورفقه.  وتجنبه أبوه وأمه ولم يعودا يعارضانه فى شىء إشفاقا على صحته.

فصله المرض هنا عن أصله، عن هارمونية وجوده فى رحاب إيقاع الكون، حتى لو تسلح بما يقتضيه طبه وعلمه فهو أسير تلك الفصلة إلى جسم غريب منلق على ذاته بعيدا عن اللحن الأساسى، وهذا ما تمثل فى صيحته  “أنا … أنا …أنا ” (ص 94) وهو يكسر القنديل. هذه الفصلة تعلن انغلاقا على الذات دون الناس والكون، وقد جاءت مواكبة لتدهور حالة فاطمة برغم الطب والعلم “…. ومر يوم وثان وثالث ورابع، وأسبوع وآخر، وعيون فاطمة على حالها ثم إذا بها تسوء فجأة وتلتهب ” : (ص  109) “لقد انطفأ آخر بصيص تتعزى به..”.

(11) تعقيب إسماعيل على ما حدث  ص (111) بأن “..عماها دليل على عماه”، يشير إلى أنه تبين مؤخرا كيف أنه  فقد البصيرة بشكل ما، فهو  لم يقل، “وعماها دليل  على جهله”، أو حتى”دليل على فشله” وإنما “دليل على عماه”. فقد للبصيرة، وفيم ؟ لا يمكن أن يكون قد فقد ما حصله من علم فى الخارج عالج به مئات الحالات مثل حالة فاطمة، يبدو أنه يشير إلى عمى آخر، لعله ما قال به الشيخ درديرى منذ البداية (“يشفى  بالزيت المبارك من كانت بصيرته وضاءة بالإيمان ص 72).

(12) تذبذبت آراء إسماعيل أيضا من أقصى الكره والحكم الفوقى على ناسه وشعبه، إلى أقصى الحب والسماح لهم، ومن أكبر الاحترام والانبهار بالغرب وقيمه، إلى أصعب الرفض والشجب لميكانيكية ومادية التعامل معهم حتى فى الحب (“مارى” هناك فى الخارج) أو فى افتقادهم للكرم والسماح والسلاسة (مدام “إتاليا” صاحبة البنسيون الذى لجأ إليه هربا من ناسه بعد عودته واستحالة بقائه فى بيته)، كل ذلك التذبذب ليس دليلا على مرض بذاته، لكنه يشير إلى تركيب نفسى به جموح إلى أقصى كل جانب يتذبذب باندفاع من ناحية إلى أخرى حتى لو كانت فى عكس الاتجاه، هذا التركيب ليس سلبيا تماما، لأنه الخطوة التى لو أمكن تحمل غموضها وقتا كافيا فقد تؤدى إلى توليف ما، فهل أدّت؟

(13) نعم أدّت، ولو لمرحلة كافية للتوليف التناغمى الإيجابى الذى أيقظ الإيقاع الحيوى الممتد (بديلا عن التحوصل على الذات والانفجار فى النور الذى يأبى إلا أن يتم “أنا..أنا..أنا)، فراح يستعمل الإنجاز العلمى المعروف والناجح تحت مظلة تناغم الوعيين البشريين – هو والمريضة –  فى رحاب النور الإيمان النغم الأكبر “نور على نور” حتى  شفيت فاطمة (وغيرها فيما بعد).

(14) إلى هنا وسكت الجميع عند هذا الموقف، بتر الفيلم النهاية، وأحل محلها “فيلم عربى” (كما يقال دعابة، وجدا معا) كما يبدو أن النقد قد توقف أيضا عند ذلك، فهل توقفت الفروض كذلك؟ وهل اكتفى الناس بالشعار المعلن، بديلا عن الإبداع الناقد؟ تماما مثلما سطح العامّة صيحة أحد الأخوة كارامازوف: إذا لم يكن الله موجودا فكل شئ مباح “باعتبار أن هذا دليل على وجود الله سبحانه، الأمر الذى بدا استسهالا أقل بكثير مما قالته رواية ديستويفسكى تأكيدا لاستحالة الإلحاد”[5].

ليس من حق الناقد أو الباحث أن ينحى جانبا – دون اعتراف صريح بذلك- سطرا واحدا، أو حتى كلمة واحدة من العمل الإبداعى، بل عليه أن يضع ما لم يستطع استيعابه فى سياق العمل كله مهما بلغت غرابته، وأن يعلن عجزه ‘ذا لم يستطع شيئا إزاءه، وأن يواصل فروضه دون أن يهمله، وأن يعود إليه كلما لاحت فرصة، لهذا يعنى أن أسطح النقد هو ما يقرب المسائل إلى أقرب واحد صحيح مما يتفق مع منظومة الناقد الخاصة الواعى بها أو غير ذلك.

(15) يختلف الأمر تماما إذا توقف الناقد – مثل الفيلم – عند شفاء فاطمة وزواجها من اسماعيل عنه إذا ما قرأنا صفحة النهاية بتعجب مؤلم يقول:

يبدو أن الثمن الذى دفعه إسماعيل ليحقق تواصله مع لحن الناس فالكون: النور على نور – ولو مؤقتا-  لم يكن هينا. إن الذى يحدث على مسار النمو، بما فى ذلك أزماته (أزمات النمو) التى تصل حدتها أحيانا إلى درجة المرض، هو أن تتحقق إيجابيات بادئة تدل على طفرة نمائية واعدة، لكنها تجهض إلى عكسها، أو ينحرف مسارها هنا أو هناك دون أن تنكر إيجابيات البداية، هذا  ما يسميه  الطب  النفسى أحيانا : تنوع المآل،أو عدم تجانس بقايا الأزمات والاضطرابات، حيث قد تكون خليطا من إيجابيات وسلبيات. (وليس التسوية) فى جانب:

(16) حين صالح إسماعيل المكان والناس وامتد فيه وفيهم وفيما بعدهم ، وحين رأى حقيقة النور يتجاوز ضوء القنديل، استوعب ناسه وسامحهم سماحا غير متوقع ” ص 115… “..ودار بعينه فى الميدان، وتريثت نظرته على الجموع فاحتملتها، ليس أمامه جموع من أشخاص فرادى، بل شعب يربطه رباط واحد، هو نوع من الإيمان ثمرة مصاحبة الزمان والنضج الطويل على ناره، هنا وصول فيه طمأنينة وسكينة والسلاح مغمد، وهناك نشاط فى قلق وحيرة وجلاد لا يزال على أشده والسلاح مسنون، …”. ثم يتمادى التوليف والسماح حتى يحدث ما يشبه الوصل الصوفى “.ص..”…116وغاب عن أفكاره، فإذا به ينتبه على صوت شهييق وزفير عميقين يجوبان الميدان.  هذا هو سيدى العتريس ولا ريب. رفع بصره : القبّة فى غمرة من ضوء يتأرجح  يطوف بها، انتفض إسماعيل من رأسه إلى أخمص قدميه، أين أنت أيها النور الذى غبت عنى دهرا، مرحبا بك ، لقد زالت الغشاوة التى كانت ترين على قلبى وعينى، وفهمت الآن ما كان خافيا على…”.

إذن فهو النور، لا ضوء القنديل : نور على نور!!

(17) اعترف إسماعيل بأن حب فاطمة له حتى التلاشى والطاعة والتضحية بعينيها كان بلا إيمان به، فردا إنسانيا منفصلا عن الكون، و أن إيمانها الأعمق كان بهذه الوسيلة الوصلة بين الإيقاع الشخصى والإيقاع الكونى (السدة زينب) “…إنها لم تكن تؤمن بى ،  إنما إيمانها ببركتك أنت وكرمك ومنك، ببركتك أنت يا أم هاشم”(ص 117)، حضور هذه الوصلة (كرامات الولى) ليس إيحاءا سطحيا، ولا هو اقتناعاً عقليا، لكنه يبدو واقعا بيولوجيا أو شبه بيولوجى، يتجاوز الإيحاء والعقلنة جميعا، فى نفس الوقت الذى هو ضد الخرافة النشاز تماما، وهو الذى يعتبره الفرض المقدم فى هذه الدراسة : العنصر المساعد نحو الشفاء، وهو الذى يلزمه نوعا من الصفاء المتناغم الذى يستعمل معلومات العلم من خلال وعى وفن من يستعملها باعتباره مبدعا يستعمل أداة يشارك بها فى عزف لحن الإيقاع الحيوى (الصحة)

(18) توقفت مليا أمام “عدم” دهشة إسماعيل لما حدث “…. ولما رأها ذات يوم أمامه سليمة فى عافية لم تقفز إليه الدهشة التى كان يخشاها، فلم  يجدها”. كان يتوقع  أن يخشى المفاجأة فيندهش من أن نفس الوسيلة التى فشلت قبل ذلك عادت فنجحت، لكن يبدو أن داخله كان قد وصل إلى يقين من البصيرة الأعمق جعلته يدرك ماذا كان ينقص علاجه السابق. الدهشة التى كان يخشاها كانت بحساب المعلومات العلمية منفصلة عن من يستعملها وقد تراجعت (الدهشة) أمام اليقين الداخلى بفاعلية تواصل الوعى البشرى لاستعادة التوازن (الصحى) تواكبا مع لحن الجموع والطبيعة فى نور النور.

المآل غير المتجانس لحالة: إسماعيل رجب عبدالله

يبدو أن كل هذه الإيجابيات قد تمت فى منطقة محدودة من تركيبة إسماعيل المختنقة منذ نشأته، والتى خطت على طريق النمو والتعثر بقفزات غير منتظمة، دفع ثمنها فيما بدا من سلبيات أخيرا، لقد غلبت السلبيات على مناطق أخرى فى شخصيته، طولا وعرضا، إنه تنوع وعدم انتظام “المآل” الذى أشرنا إليه منذ قليل.  لا يمكن تجاهل سلبيات هذا المآل لمجرد انبهارنا بإيجابيات استعادة لحن التوازن البشرى التى اسهمت فى شفاء بعض من يحتاجون إلى استعادة الانضمام للحن الأساسى.

بدأنا هذه الثلاثية النقدية ونحن نصر على احترام إبداع المبدع مهما تناقض مع معطيات أية منظومة أخرى (علما أو دينا أو أيديولجية ..إلخ)، ومن هنا جاء التحدى وأنا أقرأ نهاية الرواية فلا أرفضها، ولا أحكم عليها، وفى نفس الوقت لا أجد لها تفسيرا سهلا كما أشرت فى البداية. سألت نفسى منبهرا، عن تلك الفقرة رقم 13 فى هذا العمل، لماذا؟ وكيف؟ هذه فقرة من صفحتين صغيرتين إلا قليلا، مفاجأة بكل معنى الكلمة. ما الذى اضطر الكاتب أن يضيفها؟ لماذا لم يتوقف – مثل الفيلم- عند مرحلة الشفاء المعجزة، تاركا القارئ يصفق لشعار مسطح؟ الكاتب الذى ظل أكثر من أسبوع يبحث عن كلمة مناسبة يقولها بطل روايته وهو يكسر القنديل، فيحمّل صيحة  “أنا..أنا .. أنا..” كل ما يريد أن يوصله من معان، (هامش سنة 1974)  لا يمكن أن يكون قد اضاف صفحتى النهاية هاتين هكذا  بلا معنى، ولا هدف. ولو حتى بدرجة أقل وعيا من أهدافه الأخرى.

 نتأمل أكثر وبالحركة البطيئة بعض ملامح هذه النهاية:

(1) المنظر صادم فعلا، وهو لا يتفق لا مع العلم الذى أتى به إسماعيل من “بلاد بره”، ولا مع نشأته مدللا فى بيت عز، ولا عن التصالح الصوفى الذى غمره حتى التسامح والإسهام فى شفاء فاطمة ومن تلاها من فقراء المرضى المحتاجين علمه وكرمه، المنظر : “… منزل يصلح لكل شىء إلا لاستقبال مرضى العيون”، ومع ذلك يصر الكاتب – وله كل الحق دون إلزام بتفسير – أن يفرض علينا أنه “….كم من عملية شاقة نجحت عل يديه، بوسائل لو رآها طبيب أوربا لشهق عجبا، وترك المبالغة فى الآلات والوسائل واعتمد على الله، ثم على علمه ويديه فبارك الله فى علمه ويديه”. هذا كله قد يصح  من حيث المبدأ، لكن الرسالة التى تصلنا من التفاصيل تقول شيئا أخر، تقول إن الكاتب ، أو الراوى ، قد انبهرا بأهمية استرجاع الإيقاع الحيوى حتى ضرب بألف باء النظافة والوقاية عبر الحائط تماما. فى بلد متحضر يمكن محاكمة هذا الطبيب وإدانته حتى السجن والتعويض بالملايين، لكننا فى موقف إبداعى وليس فى ساحة محكمة، ما الذى يريد أن يوصله إلينا المبدع باعتبار أن سرده حقيقة ممكنة”؟

هذا المنظر ليس مطلوبا  ولا مقبولا حتى فى عمق الموقف الصوفى، ولا يمكن تصور أى مبرر له، أو سماح به، فى الممارسة الطبية الجراحية المعتادة مهما بلغ التجاوز، ولا هو حلال فى حدود الدين الرسمى، أى دين.

التفسير الأقرب أن ما انتهت إليه حال إسماعيل مما لا نملك إلا أن نرفضه هو من مظاهر مآل مرضه التى تجمع بين الإيجابيات والسلبيات معا. وبالتالى علينا أن نقبل الصورة المطروحة  فى حدودها  كواقع إبداعى دون أن ننكر على إسماعيل علمه، أو تصوفه، أو تقشفه، أو بساطته، أو نجاحه، أو نتائج علاجه أو كرمه، أو حد به على الفقراء.

(2) من هذا المنطلق يمكن أن نتحمل (نحاول أن  نفهم صابرين!) جوانب سلبية أخرى للمآل غير المتجانس مثل زواجه من فاطمة الذى بدا كنوع من الشفقة أو تحصيل الحاصل. الأسلوب الذى أعلن به الزواج فالإنجاب (أنسلها)  لخمس بنين وست بنات يشير إلى نوع  من الاستسهال والاستعمال معا. إن   من يسترجع إيقاعه الحيوى ليغنىّ لحنه مع لحن بشر آخر مع لحن الكون حتى يستعمل كل ذلك فى شفاء  المرضى حتى لو كانت أمراضهم ليست فقط وظيفية نفسية من الصعب أن نراه هو هو الذى يلغى كيانا بشريا طيبا مستسلما محبًّا له متفانيا فيه بهذه الصورة المهينة تماما، لقد اعتبرت  هذا أيضا بعض جوانب سلبيات المآل؟س

(3) إن ما آل إليه شكل جسمه ولبسه  لا يتفق مع احتمال استعادة توازن إيقاع نبضه الحيوى مع نبض الكون، ولا مع احتمال مشاركة وعيه المتناغم فى إعادة التوازن لمرضاه. “…..ضخم الجثة، ملابسه مهملة…إلخ”

(4) إفراطه فى التدخين بعشوائية قهرية ” تتبعثر على أكمامه وبنطلونه أثار رماد سجائره  التى لا ينفك يشعل جديدة من منتهية”..هى إعلان لقلق لا يتناسب مع ما وصل إليه من سلام مع نفسه ومرضاه وناسه

(5) إن علاقته بالطعام يمكن أن تحمل معنى “عدم الأمان بشكل ما””….وكان فى آخر أيامه أكولا نهما..”

(6) ثم إن إصابته بالربو هو إعلان آخر لعدم التوازن الإيقاعى البيولوجى، فالتنفس بالذات له موقع هام جدا فى أنواع من التطبيب البديل المفروض أن الدكتور إسماعيل قد توصل إلى بعض مبادئه من خلال فشله فنجاحه، يصح هذا حتى لو افترض الكاتب أن مرضى الصدر أكثر حيوية وأحضر وجدانا من العاديين الأصحاء

ثم إن الخطبة التى تقولها عيون المصدورين بعد تصميم مديحهم بلا مبرر، والتى نصها للأسف هو كالتالى “..ليس كل ما فى الوجود أنا وأنت، هناك جمال وأسرار ومتعة وبهاء، السعيد من أحسها فعليك بها عليك..”  كادت تفسد كل ما كان ينبغى على القارئ أن يصل إليه بنفسه. ثم إنها خطبة ليس قاصرة على المصدورين، ولا مرضى العيون، قد تفيد فى التنبيه على إعلان أهمية دلالة العودة إلى سلسلة الناس التى وردت فى تشبيه ذرة الرمل المنفصلة  التى عادت فانتظمت فى سلسلة ذرات البشر فى وطنه (ص 91) ، وأيضا  لإعلان فشل ما هو “أنا…أنا”….منفصلا، باعتباره إعلان سقوط إسماعيل نيزكا بعيدا عن هارمونية لحن الناس/ النور/ الكون الأشمل، لكن الطريقة التى قيلت بها هذه “الخطبة” بدت لى أبعد ما تكون عن الإبداع (أشرت إلى بعض مثل ذلك فى تحفظى على نهاية ملحمة حرافيش نجيب محفوظ بفصل “التوت والنبوت” مع الفارق (1992)[6]

(7) الناظر فى  باقى موقف إسماعيل  من خطيبته فزوجته فاطمة النبوية –رغم كل شىء- لا بد أن يكتشف فيه احتقارا واستهانة شديدين ، فهو يدعى أنها لم تؤمن به ولهذا لم تشفَ، مع أن ما بدا ظاهرا هو أنها لم تؤمن إلا به، ربما أكثر من السيدة زينب شخصيا، ولعل هذا يشير إلى مشاركتها فى إفشال  العلاج  الأول، هذا عن الظاهر، أما فى أعماقها، فلعل إيمانها ببركة السيدة زينب وسرها الباتع كان أقوى، فتصادم مع إيمانها الظاهر حبا وتفانيا فى إسماعيل.

(8) ….. ثم قوله “… وفوق ذلك سأعلمك كيف تأكلين وتشربين وتلبسين (ص 119) ، (ثم أيضا بـ) “سأجعلك من بنى آدم”،  ألا يكشف  بذلك عن أقبح حضور للذكورة المغرورة القاسية المغتربة، ثم إنه عكس ظاهر دروشته يستلهم نموذج من هو “بنى آدم” من آداب وطبائع غربية، تجعل طريقة الأكل والشرب واللبس هى التى تحدد من هو البنى آدم من عدمه؟ ثم إذا كانت فاطمة ليست من البنى أدميين، لماذا تزوجها و”أنسلها” كل هؤلاء؟ أم أنه ظل يعلمها كيف تأكل وتشرب وتلبس حتى صارت بنى أدم ثم تزوجها ؟ وهل هو تزوجها لينسلها هذا العدد من البنات والبنين ، ويتحصل هو على مزاجه ومتعه واحتياجه من أى جميلة أخرى “.. ظل عمره يحب النساء، كأن حبه لهن مظهر من تفانيه وحبه للناس جميعا”  (ص 122) لا يا شيخ !!!!

 تساؤل:

إذا كان هذا هو مآل إسماعيل غير المتجانس بعد مرضه وتصوفه، وغربته، واستسلامه، وطيبته ، وشطحه، وأنانيته، وحضوره، فكيف شفيت فاطمة وسائر المرضى على يديه ؟ هل تجلت فيه فطرة ما ، بدرجة بعيدة نسبيا عن الوعى، فكان هذا الناتج الإيجابى الخفى هو الذى يتم عبره استعادة التوازن (الصحة)؟

تحذير

لابد من التنبيه على استبعاد احتمال الترويج للاعتراف ببركة يفرح بها الدجالون، ولا نحن نستطيع فى نفس الوقت أن نستسلم للرفض السهل والإنكار المطلق لأى إجراء مفيد بعيدا عن احتكار السلطة الطبية الدوائية، هذا ما يفعله معظم الأطباء أو كلهم.

الفرض

ما زال الإيقاع الحيوى، واللحن الكونى، ومستويات الوعى، وتعدد الذوات، وجدلية  التناقض (بما فى ذلك التناقض البيولوجى)  من المسائل التى يرصدها المبدع دون وصاية، وعلى العلم أن يحتمل غموضها حتى يسبر غورها، بأقل قدر من المضاعفات ما أمكن ذلك، الفرض المطروح فرض يدعو إلى تحمل الغموض، بدرجة قد لا يحتملها الطبيب السلطوى الجاهز، لكن: هكذا الفروض.

  • إسماعيل هذا إنسان حمل جذور المرض بالمعنى الإيجابى والسلبى معا، وهو قد مرِض ولم يمرض صراحة ولمدد طويلة !! نشأ فى ثقافة لها تاريخ عريق فى مسرح الإيمان والهارمونى، تجسد هذا التاريخ وتجدد حول الديانات اللاحقة أولا بأول حتى صار راسخا فى عمق الدين الشعبى الذى تمحور حول الأولياء وزيارتهم واستشفاعهم واستعمالهموسيطا إلى الهارمونى الأعظم المفتوح النهاية والذى ليس كمثله شئ. تركزت آمال الأسرة وطموحها وطمعها حوله منذ صغره فجمدت نموه الظاهر على الأقل، تماهى إسماعيل بناسه (دون جدل) حتى أصبح جزءا خالصا منهم دون نفسه، فتجمد فى المكان كما تجمدت مشاعره بلا ذات مستقلة. تم ذلك  منذ مرحلة باكرة من عمره ، ولمدة ليست قصيرة، فلم يعد يرى الناس ناسا برغم أنه يبصرهم بعيون سليمة. إن ما بدا ميزة الاندماج فى الناس حمل معه مخاطر الامحاء فردا مستقلا، ومن ثم التبلد.
  • سافر إسماعيل إلى بلاد بره وهو بهذاالجمود المفروض عليه، فتحرك رغما عنه، فانبهر ومارس نوعا حرَّا من الجنس والرقى الإنسانى بعد أن فضت بكارته مارى الحاضرة المختلفة الحرة، إلا أن ما وجدهعلى المدى الطويل تكشف له أنه أسطح من هارمونية أهل بلده التى لم يكن قد غاص فيها بالقدر الكافى (ربما نتيجة لتوحده بهم حتى التجمد كما أشرنا)، لكن يبدو أنه قبل أن يسافر إلى الخارج كان قد وصلته بعض أنغام اللحن الأكبر ممن عزفوه أو استمعوا له سواء كان الوعى الجماعى، أو الحكى الفردى (مثل كلام الشيخ الدرديرى ورؤاه).
  • تقمص إسماعيل هذا الجانب الناجح  المعقلن من رحلته فرفض كل ما لا يمكن تفسيره من خلال منطق وعلم الأكثر تقدما وحضارة، لكنه بدلا من أن يستوعب منظومتهم بأسرها، اكتفى بقشرتها اللامعة فأصبح  مثل آلة صماء تطبق ما وصلها بآلية مفرغة،  دون إدراك أن المرض ليس مجرد خلل عضو أو جزء من عضو، وإنما هو ، مثله مثل أى اغتراب، ليس إلا  نشازا  خارج اللحن الإيقاعى الحيوى المنظم للذات فى الكون، وبالعكس.
  • حين مارس إسماعيل مهنته مع ناس ما زالوا على علاقة بهذا الهارمنى الأعظم، مهما كانت بدائيتهم، فشل حتى أجهز على ما تبقى من بصر فاطمة، وحين استعاد موقعه من هذا الهارمونى واستعمل نفس أسلوبه العلمى،ولكن عبر هارمونية الوعى المشارك، نجح،( وهذا ضد التسطيح بالإيحاء، كما جاء بالفيلم دون الرواية)، وحين نجح فى شفاء فاطمة لم يندهش كما كان ينتظره ما يشير إلى عمق تجربته ويقينه الداخلى بدور استعادة هارمونية الوعى المشارك فى شفاء أى مرض كان.
  • ثم هو لم يتحمل جرعة الولاف التى لم تؤهله لها نشأته السالفة الشرح، حينئذ تجلت بعض آثار دائه القديم فى مناطق أخرى من شخصيته، بصور أخرى بعيدا عما حقق من استعادة فاعلية الإيقاع الحيوى الشافى، فبدا برغم نجاحه المهنى (غير المضمون استمراره ولا المحدودة مضاعفاته)شخصا، أناني ، طيبا، حسيا، محتقرا لشريكته ومستعملا إياها كوعاء للإنجاب أوطاهية للتسمين ..إلى آخر الصورة التى أزعجتنى إبداعا.

خاتمة

لولا صفحتْى النهاية الرائعتين هاتين، لكانت الرواية إرشادية أو استقطابية، أو خطابية، قد تنصح البعض بسماع كلام العلم الجزئى، وقد تبرر لآخرين التسليم للتطبيب العشوائى، كما قد تهدى المؤلفة قلوبهم إلى شكل الالتزام بالدين الشكلى، دون تأمل أو نقد أو مراجعة، أو لكانت ضمن الروايات التى تتناول تلك الفروق الثقافية بيننا وبين الغرب أو الشمال، وخلاص، فى هذه الأحوال كان لابد أن تنتهى بالتبات والنبات لينجب البطل والبطلة خمسة أولاد وستة بنات.

أما وقد انتهت كذلك بهاتين الصفحتين (الصفعتين) للإفاقة، فعلينا أن نقف أمامها مرارا وتكرارا لنعرف أكثر عن إيجابيات السلب، وسلبيات الإيجاب، ونضع الفروض، ونغيرها بعد أن نختبرها بلا توقف.

نقرأ الأدب لنستلهم منه ما تيسر مما يفتح الآفاق للعلم،  لا ليحل محله (محل  العلم)، ونأخذ من العلم ما يكمل المعرفة وليس كل المعرفة، حتى لا يقزم البشر باحتكار الحقيقة، أو يفسد الإبداع بترجمته إلى معلوماته المتباعدة. ثم علينا أن نلتقط – برغم كل الظاهر – كيف أنها دعوة لرفض الخرافة المتفسخة المختزلة المغتربه سواء سميت علما أو بركة، وأن نضع الفروض الممكنة طول الوقت ونحن نحتمل الغموض – أيضا – طول الوقت، ونقبل فشل الفرض تلو الآخر، فنضع غيرها ، وهكذا.

يا ليت.

[1] – يحيى الرخاوى (كتاب  قراءة فى نجيب محفوظ)، (هوامش الشحاذ ص 184 – 191)، 1992، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

[2] – يحيى الرخاوى (كتاب  قراءة فى نجيب محفوظ) 1992، الهيئة المصرية العامة للكتاب

[3] – يحيى الرخاوى (إشكالية العلوم النفسية والنقد الأدبى)، مجلة فصول المجلد الرابع، العدد الأول، 1983.

[4] – كتبت قنديل أم هاشم فيما بين (1939 –  1940) ونشرت لأول مرة فى سلسلة أقرأ العدد 18 سنة 1944،.. ونشرت فى مكتبة الأسرة عام 2005 وهى النسخة المشار إلى صفحاتها فى هذا العمل

[5] –  قراءة‏ ‏يحيى ‏الرخاوى فى نقد (الإخوة‏ ‏كارامازوف ديستويفسكى) الندوة الثقافية لجمعية الطب النفسى التطورى .

[6] – يحيى الرخاوى  (قراءات فى نجيب محفوظ) 1992.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *