الرئيسية / مقالات صحفية / مجلة الإذاعة والتليفزيون / التحليل النفسى للمعارضة المصرية أجرى الحوار مع أ.د. يحيى الرخاوى

التحليل النفسى للمعارضة المصرية أجرى الحوار مع أ.د. يحيى الرخاوى

نشر الحوار فى “مجلة الإذاعة والتليفزيون”

بتاريخ 24 أبريل 2010

العدد: 3919

التحليل النفسى للمعارضة المصرية

أجرى الحوار مع أ.د. يحيى الرخاوى

 الأستاذ: أيمن الحكيم

مقدمة الحوار:

ما الذى يجرى فى الشارع المصرى؟

قبل سنوات قليلة كان السياسيون يصرخون من عزوف المواطن المصرى عن السياسة .. لا مشاركة ولا تفاعل، وكأن السياسة تهمة أو جريمة!.. الآن هناك تحول هائل .. لا يكاد يمر يوم دون “حدث” سياسى .. اعتصامات .. مظاهرات .. مؤتمرات .. صفقات حزبية .. ناهيك عن معارك الانتخابات وصراعاتها، التى وصلت إلى ذروتها مع ظهور شخصية كالدكتور البرادعى فى الساحة السياسية.

التفسيرات كثيرة ومتعددة ومتناقضة فى وصف وتحليل هذا التغيير .. تفسيرات تختلط فيها الظروف السياسية بالأوضاع الاقتصادية بالمؤثرات العالمية .. لكن لا أحد فكر فى الوقوف عند تحليل نفسى للمصريين، يجيب عن السؤال الذى يشغل الجميع: ما سبب هذا الحراك السياسى الذى يموج به الشارع المصرى؟.. ما سبب هذا التحول فى اتجاهات المصريين نحو السياسة، من العزوف المقلق إلى الاندماج المدهش؟.. هل ما يحدث ممارسة ديمقراطية حقيقية .. أم حالة فوران عابرة.. ستهدأ وتزول؟.. ما التحليل النفسى لظاهرة البرادعى؟.. كيف نضبط الرؤية وسط الصراخ والغبار والتناقض الحاد فى الآراء بين ما يراه قديسا نبيلا .. ومن يعتبره مهرجا سياسيا؟!.. الأمر يحتاج إذن إلى تحليل نفسى علمى عاقل يقول لنا ويجيب علينا: إيه اللى بيحصل فى الشارع المصرى؟.. والحق أن د. يحيى الرخاوى أستاذ الطب النفسى الشهير لديه إجابات مدهشة وتحليلات مذهلة تؤدى الغرض وتزيد..

*****

أ. أيمن الحكيم:

الذين رصدوا الشخصية المصرية وحللوها وكتبوا عنها يكادون يجمعون على ميلها للثبات.. فالمصرى بطبعه يميل 00 فالمصرى بطبعه يميل إلى الاستقرار وعدم التمرد وعدم المغامرة وهو ما كان يوحى بأنه شخصية سلبية لا ترد الظلم ولا تريد التغيير .. فما تفسيرك لهذا الانقلاب فى الشخصية المصرية ..؟ بدليل ما حدث فى الشارع المصرى مؤخرا يوحى بعكس ذلك ..  فهناك جدال سياسى واسع .. ومظاهرات واعتصامات أصبحت شبه يوميه ..

د. يحيى:

لا‏ ‏أحسب‏ ‏أننى ‏فى ‏موقع‏ ‏يسمح‏ ‏لى ‏بالتفسير‏ ‏أو‏ ‏بالتبرير‏ ‏لما‏ ‏يقال‏ ‏عن‏ ‏سلبية‏ ‏الشعب‏ ‏المصرى، ‏أو‏ ‏الشخصية‏ ‏المصرية‏.‏ ذلك‏ ‏لأن‏ ‏الأمر‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏إحصائيات‏ ‏أولا‏ ‏للتحقق‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏المقولة‏.‏ بل‏ ‏إن‏ ‏الأمر‏ ‏يحتاج‏ ‏قبل‏ ‏ذلك‏ ‏إلى ‏تعريف‏ ‏لماهية‏ ‏السلبية‏ ‏المزعومة‏ ‏التى ‏وصف‏ ‏بها‏ ‏شعبى ‏الذى ‏أنا‏ ‏منه‏ ‏بكل‏ ‏تأكيد‏، ‏وأيضا‏ – ‏رضيت‏ ‏أم‏ ‏لم‏ ‏أرض‏ – ‏بكل‏ ‏فخر‏.‏

وسوف‏ ‏أكتفى ‏بعرض‏ ‏انطباعاتى ‏بهذا‏ ‏الشأن‏ ‏من واقع ‏خبرتى ‏فى ‏ممارستى ‏للطب‏ ‏النفسى ‏مما‏ ‏أتاح‏ ‏لى ‏رؤية‏ ‏عينات‏ ‏بلا‏ ‏حصر‏ ‏من‏ ‏أفراد‏ ‏هذا‏ ‏الشعب‏ ‏وهم‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏عرى ‏كامل، ‏أو‏ ‏تمزق‏ ‏كاشف، ‏أو‏ ‏تحد‏ ‏متألم‏ (‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏المرض‏ ‏النفسي‏)‏ أقول‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏فإن‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏سلبية‏ ‏هو‏ ‏النتاج‏ ‏الطبيعى ‏لعوامل‏ ‏التاريخ‏ ‏والجغرافيا، ‏وذلك‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏أصالة‏ ‏وعمق‏ ‏العلاقة‏ ‏بين‏ ‏الإنسان‏ ‏المصرى ‏وكل‏ ‏مما‏ ‏يلي‏:‏

‏ ‏أرض‏ ‏منبسطة –  ‏قـدر‏ ‏دورى (‏فيضان‏ ‏النيل‏) – زراعة‏ ‏موسمية‏ (‏قديما‏)‏ – خلود‏ ‏محتم‏ ‏ورب‏ ‏واحد‏ (‏نحن‏ ‏من‏  ‏أول‏ ‏الموحدين‏)‏ – زمن‏ ‏ممتد‏، حياة‏ ‏راسخة. وأحسب‏ ‏أنه‏ ‏إذا‏ ‏اجتمعت‏ ‏هذه‏ ‏العوامل‏ ‏وتغلغلت‏ ‏عبر‏ ‏آلاف‏ ‏السنين، ‏فلا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏تفرز‏ ‏إنسانا ‏له‏ ‏تفاعل‏ ‏هادئ‏ (‏يبدو‏ ‏لامباليا‏)، ‏وصبر‏ ‏على ‏الحكام‏ (‏يبدو‏ ‏مستسلما‏)  ‏وهو‏ ‏ليس‏ ‏كذلك‏ ‏لأن‏ ‏منطقه‏ ‏التاريخى ‏يؤكد‏ ‏له‏ ‏أنه‏ ‏الأبقى ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏الحاكم‏ ‏إلى ‏زوال‏ : ‏ليرحل‏ ‏لتجيله‏ ‏مصيبة‏ ‏تأخذه‏!!!!) ‏

واستيعاب‏ ‏لغزاة‏ ‏حتى ‏يصيرهم‏ ‏مصريون‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يصيروه‏ ‏محتلا‏  (‏يبدو‏ ‏مهزوما‏).‏

ورغم‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏فالنبض‏ ‏الحضارى ‏يسرى ‏فى ‏عروقنا‏ ‏لا‏ ‏تخطئه‏ ‏عين‏ ‏حاكم‏ ‏مدقق‏.‏

أ. أيمن الحكيم:

إذن ‏ماذ‏ا حدث‏ ‏للشخصية‏ ‏المصرية‏ ‏خلال‏ ‏السنوات‏ ‏الأخيرة‏؟

د. يحيى:

 ‏الشخصية‏ ‏لا‏ ‏تتغير‏ ‏خلال‏ ‏سنوات‏، ‏الشخصية‏ ‏تكاد‏ ‏تكون‏ ‏مثل‏ ‏بصمة‏ ‏الأصابع‏،  ‏صحيح‏ ‏أنها‏ ‏تتغير‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏المبدأ‏، ‏ولكن‏ ‏ببطء‏ ‏شديد، ‏ونتيجة لتراكما‏ت  ‏متعاقبة‏،  ‏قد‏ ‏يتغير‏ ‏فرد‏ ‏نتيجة‏ ‏لحدث‏ ‏ما، ‏ولكن‏ ‏أن‏ ‏تتغير‏ ‏الشخصية‏ ‏القومية‏ ‏بهذه‏ ‏السهولة‏ ‏كما‏ ‏يوحى ‏السؤال‏ ‏فكلا‏ ‏وألف‏ ‏كلا‏، ‏ومع‏ ‏ذلك‏، ‏وبفرض‏ ‏أنها‏ ‏تغيرت،  ‏فنحن‏ ‏لا‏ ‏نحذق‏ ‏قراءة‏ ‏التاريخ‏  ‏إذا‏ ‏تكلمنا‏ ‏على ‏السنوات‏ ‏الأخيرة، ‏فمن‏ ‏يــعلى ‏من‏ شأن ‏أدب‏ ‏الستينات‏ مثلا ‏ينسى ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الأدب‏ ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏ونضج، ‏ولم يبق‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏ينبسط‏ ‏وينشر‏،‏ قبل‏ ‏ذلك‏ ‏بكثير، ‏تكون‏ ‏فى ‏وجدان‏ ‏المبدعين‏ ‏فى ‏الأربعينات‏ ‏وحتى ‏أواخر‏ ‏الخمسينات ليظهر‏ ‏فى  ‏الستينات‏ ‏مثلا‏، ‏والذى ‏يحاول‏ ‏أن‏ ‏يلمز‏ ‏عصر‏ ‏السادات‏ ‏ويعزو‏ ‏سلبيات‏ ‏الشخصية‏ ‏المصرية‏ ‏فى ‏صورتها‏ ‏الأحدث، ‏تلك‏ ‏الصورة‏ ‏الظالمة‏ ‏المظلومة، ‏يعزو‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏  ‏إلى ‏ما‏ ‏يسمى ‏بالانفتاح‏، و‏ينسى ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏نتاج‏ ‏مجتمع‏ ‏وحكم‏ ‏ونظام‏ ‏الستينات‏ ‏مثلا‏،‏ وكل‏ ‏ما‏ ‏حدث‏ ‏أنه‏ ‏ماإن‏ ‏أتيحت‏ ‏له‏ ‏الفرصة‏ ‏حتى ‏ظهر‏، ‏ولا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏نتحمله‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏نسارع‏ ‏بالحكم‏ ‏عليه‏ ‏بهذه‏ ‏السطحية‏ ‏المتحيزة‏.‏

‏ ‏الإنسان‏ ‏كائن‏ ‏بيولوجى ‏حى ، ‏طفولته‏ ‏من‏ ‏أطول‏ ‏طفولات‏ ‏الثدييات، ‏وإنما‏ ‏تحسب‏ ‏نتائجها‏ ‏بأواخرها، ‏فإذا‏ ‏كنا‏ ‏قد‏ ‏رأينا‏ ‏سلبيات‏ ‏الثمانينات، ‏فهذا‏ ‏يدل‏ ‏على ‏أن‏ ‏التكوين‏ ‏كان‏ ‏خاطئا‏ ‏وسطحيا‏، ‏وما‏ ‏إن‏ ‏أتيحت‏ ‏الفرصة‏ ‏حتى ‏ظهرت‏ ‏السلبيات‏.‏

أ. أيمن الحكيم:

وهل ما يحدث مجرد فوران أم حالة حقيقية، وما توقعاتك لما سيسفر عنه هذا الفوران؟

د. يحيى:

هذه الاحتجاجات ليست علامة سياسية أيجابية دائما ، هى غالبا تجمعات وصرخات فئوية، كوادرية، موقفية، تصحيحية، أكثر منها احتجاجات ثورية، جماعية، احتجاجية نقدية، وأنا لا أرفضها ولا أتحفظ عليها، وإنما أنبه ألا ننخدع بها، بديلا عن ما هو أعم، حتى لا نتوقف  عندها.

يمكن أن تكون لها بعض الفائدة السياسية إذا بلغ من خلال السلطات أن الناس قادرون على الحركة، اليوم فى اتجاه مصالحهم الفئوية المحدودة، وغدا من خلال الصالح العام، وهذه  الأخيرة هى التحركات السياسية الحقيقية، إذا كان الأمر كذلك ، فقد يكون مفيدا أن نرحب بها، وإن كنت أخشى أن يصل  لأصحابها أن دورهم قد ينتهى عند الاستجابة لبعض مطالبهم تسكينا، لا تغييرا.

أما بالنسبة للفوران الأخير المتعلق بترشيحات السياسة فهو منطقى، وله ما يبرره، ولكنه محدود ، ولا أعتقد أنه دليل على تغير فجائى، هى فرص موقفية محدودة لفئات مظلومة من ناحية، وآملة من ناحية أخرى فى تحرك أثير من خلال حضور غير متوقع لشخصية محترمة استجابت لأمل غامض.

أ. أيمن الحكيم:

وما توقعاتك لما سيسفر عنه هذا الفوران؟

د. يحيى:

سواء كانت هذه التحركات حقيقية أو مفتعلة، فالنتيجة واحدة، ثم من الذى يفتعلها ؟ أليسوا هم أصحاب المصلحة، هذا سؤال يجاب عليه بمراجعة موضوعية لمطالب كل فئة على حدة، وليس فى البحث الأمنى لمن وراءها وكلام من هذا.

أما بالنسبة للتحركات  المتعلقة بالترشيخ للرئاسة فنتيجتها العاجلة هى صفر واضح لى تماما، أما نتيجتها الآجلة فقد تكون إيجابية جدا جدا حسب درجة إصرار ومثابرة من يتعهدها وينميها.

أ. أيمن الحكيم:

فى التاريخ المصرى يمكننا نرصد ظاهرة اسمها البطل المُخلّص .. البطل الذى يصفه التاريخ ليعيد للناس حقوقها المهدرة .. سعد زغلول مثلا .. عبد الناصر مثلا .. وقبلهما فى التاريخ الفرعونى ستجد مينا مثلا ..فى كل لحظة تاريخية فارقة يظهر هذا المُخلّص .. فهل يمكننا أن نضع   د. محمد البردعى فى تلك القائمة من المخلصين .. أم أن الظروف مختلفة والمقارنة لاتجوز ؟!

د. يحيى:

الذى يضطرنى لفتح هذا الملف الصعب، وأنا بكل هذا الجهل السياسى، هى الصحفية الألمانية التى سألت  السيد الرئيس، أتم الله عليه شفاءه، خلال المؤتمر الصحفى المشترك الذى عقده الرئيس مبارك مع المستشارة الألمانية ميركل بمقر المستشارية الألمانية “إذا ما كانت مصر تعامل البرادعى كبطل قومى؟ فرد عليها قائلا: إن مصر ليست بحاجة إلى بطل قومى لأن الشعب المصرى بأكمله هو البطل القومى، وبصراحة: أنا لم أستطع أن أحدد ما الذى دعا الصحفية الألماينة إلى استعمال لفظ “البطل القومى” وصفا للبرادعى، هل هو الاستقبال الشعبى فى المطار؟ هل هو الالتفاف حوله من مختلفين فى أمور كثيرة إلا التعلق بأمل التغيير، والبحث عن بديل واقعى محتمل؟

يا ترى ما الفرق بين “الزعيم” و”الرئيس” و”البطل القومى” لشعب ما، عشت مع النحاس باشا زعيما، ومع عبد الناصر بطلا قوميا، ومع السادات رئيسا يحلم بزعامة لم يحققها إلا جزئيا بعد الحرب ثم الاغتيال، حققها بشقيها السلبى والإيجابى معا،

وعندما تتردد تعبيرات، “الشعب هو البطل القومى” “الشعب هو القائد” تستعمل فى الأزمات كشعارات ليس لها تفعيل على أرض الواقع: بعد كارثة 1967 تردد مثل هذا الكلام فى مواجهة مظاهرات الاحتجاج قبيل صدور بيان 30 مارس، ثم صدر البيان، ثم استغنى المسئولون عن خدمات الشعب برمته، حتى عاد يتنفس الصعداء من خلال حرب الاستنزاف ثم حرب أكتوبر، ثم عادوا فاستغنوا عن خدماته مرة أخرى، ولم يعد الشعب قائدا ولا بطلا قوميا، ولا حتى ناخبا فاعلا.

فى تصورى أنه  لم يعد هناك مكان لما يسمى البطل القومى فى العصر الحديث، ولا حتى مكان لما يسمى الزعيم، قد يقوم أحد الرؤساء أو القادة بدور فذ فى أزمة ما، أو قد يفرض آخر نفسه بألعاب إعلامية قصيرة العمر لفترة أقصر، وقد يكون هذا أو ذاك نائبا عن ناسه أو مفروضا عليهم بألاعيب موقوتة المفعول، لكن كل هذا أصبح هو الاستثناء: خذ عندك أمثلة معاصرة مثل شافيز، وكاسترو، وربما القذافى، وحسن نصر الله، وصنفهم أنت كما تشاء، لكنك سوف تكتشف أنه بغض النظر عن التصنيف، أنها أصبحت صفة “بعض الوقت”.

فى ظل أغلب نظم الحكم السائدة، وتراجع الثورات الرائدة، يبدو أنه لم يعد ثم مجال لظهور ما يسمى البطل القومى التاريخى الحقيقى، او حتى الزعيم، لا أوباما، ولا بيرلسكونى، ولا ميركل، ولا ساركوزى، يعتبر أى منهم بطلا قوميا، ولا حتى زعيما، هم رؤساء لا أكثر،

ما نحتاج إليه هو “المشروع القومى”، وليس البطل القومى، ولن يكون المشروع قوميا بحق فى ظروف التحديات المعاصرة إلا إن كان جزءا من “المشروع الإنسانى العالمى الجديد”(وليس العولمة المشبوهة). 

أ. أيمن:

ذهب الناس فى تحليل شخصية البرادعى مذاهب فى غاية التطرف والتناقض .. بعضهم يعده زعيم سياسى يكاد يتحول إلى أسطورة .. وبعضهم يراه مجرد مهرج سياسى ليس إلا .. رجل يبحث عن “الشو” والأضواء التى غربت عنه بعد تركة لمنصبه الدولى المرموق .. 

من خلال مراقبتك له .. أين تراه بعيون علم النفس ونظريايه وتحليلاته؟

د. يحيى:

لم أشاهد أحاديث ولقاءات البرادعى فى التليفزيون، لكننى تابعت أغلب تصريحاته، ولا أحب أن أدلى برأيى بصفتى المهنية، فقط بصفتى مواطن مصرى يهمه خير لمصر، فأقول: هذا رجل مهذب، يتمتع بدرجة عالية من كل أنواع الذكاء، الذكاء الأكاديمى، والذكاء الاجتماعى، والذكاء الدبلوماسى (دون الذكاء الفهلوى، الذى قد يشمل الحداقة السياسية)، وهو  حسن النية، يحب وطنه، لم يخطر على باله مثل ما هو فيه الآن، مدعوا للترشيح رئيسا لأمة يحبها، من ناس يثقون فيه، لا أظن أنه طوال حياته كان من بين  طموحاته أو أحلامه أن يكون رئيسا،

 ما بلغنى هو أنه مواطن متميز أمين متحصر، “ليس عنده مانع” أن يخدم حياته بما يستطيع أن يقدمه لها أينما كان موقعه، ولو حتى كان هذا الموقع هو “كرسى الرئيس”

انتبهتُ إلى دبلوماسيته الزائدة عن اللازم، ورفصتها،  وهو يسمى الوضع فى فلسطين “المشكلة الفلسطينية” ، وليس إسرائيل، بما تمثله مباشرة من  احتلال الأرض، أو اغتصاب الكرامة والأرزاق، و قتل الأبرياء، رجحت أنه  ما زال متأثرا بمن عاشرهم كل هذه السنوات (ومن عاشر القوم أربعين يوم …. إلخ)

–  أظن أن هذا بديهى لأى شخص جاد، يدرس شروط الترشيح الحالية، ويعرف ظروف الانتخابات، وإن كنت أنبه على أنه لم يطلب “وفد أجنبى”، وربما كان التعبير “إشراف دولى”، أو شىء من هذا القبيل، وهذا حق بسيط لأى مرشح، وواجب طبيعى لأى نظام لا يخاف مما يسمى الشفافية. 

–  هناك التفاف حقيقى، لكنه ليس جماهيريا تحديدا، ولا هو هائل جدا، إن أغلب من شاهدتهم يلتفون حوله بعد استقبال المطار بدوا لى من الصفوة المتكلمة جدا، وهى صفوة متيمزة مضحية مخلصة أمينة، لكنها صفوة، وليس جماهية الناس.

أتصور أن ما يقوم به هذا الرجل الفاضل فى هذه الأيام من أجل بلده، لم يكن يخطر على باله قبل شهور أو سنوات، عرفت والده مصطفى البرادعى، وعايشت مواقفه، (عمرى يسمح بذلك) واحترمته، كما تابعت تاريخ ابنه، محمد البرادعى، تاريخه العلمى أساسا، والدبلوماسى العالمى المسئول أيضا، واحترمته كذلك جدا، وفخرت به أيضا فى حدود ما تسمح به مخاوفى، وفهمت، أو تصورت أننى فهمت لماذا قبل هذا الدور الجديد فى هذه السن، ولو بعض الوقت.

لا أظن أن أحدا يتصور أن كل الذى يجرى الآن سوف يتمخض عن أى احتمال أن يلى البرادعى شخصيا (أو أى برادعى) أى منصب قيادى جدا، مسئول فعلا، يتيح لنا أى تغيير أيا كان، ليس معنى ذلك ان نكف عن مواصلة ما يجرى، يأسا أو بعد نظر، الوعى الشعبى يتكوّن بتراكم ما يصله من أحداث، وما يحاوله من تجارب، وما يتعلمه من خبرات، ولا يصح إطلاقا أن نقيس فائدة أية معلومة، أو جدوى أية خبرة، أو أو ناتج أية تجربة، منفصلة بذاتها، وإلا توقفت مسيرة نمو الوعى عند الجماعة (وعند الفرد كذلك). فكرة التراكم، ثم التغيير النوعى فى طفرة ملائمة هى التى حكمت التطور طوال تاريخ الحياة، من كل ذلك أنا مع استمرار ما يجرى أن يظل يجرى بكل همة ونشاط وإيمان بحق هذا الشعب أن يحكم نفسه يوما ما. يمكن القياس على الحديث الشريف فنقول: إعمل للبرادعى كأنه سيتولى قيادة السفينة غدا، وواجِهِ النظام كأنه باق إلى الأبد!!

قيل وكيف كان ذلك؟      

الوعى بالتاريخ، وبالزمن، يلزمنا أن نعرف أن يوما عند ربك هو كألف سنة مما نعد، وبالتالى فعلينا أن نتعامل مع الستين سنة إياهم، والثلاثين سنة إياهم أيضا، على أنهم بضع ثوان عند ربنا، وأيضا: بحسابات تطور الحياة كلها على ظهر الأرض.

كل ذلك يجعلنا نركز على الأداء الأصح، والأصلح، دون ربطه بأية نتائج عاجلة.

 فلتستمر الحملة، وليتحرك الأمل، ولن يفوز البرادعى، بل ربما لن تتاح له الفرصة لترشيح نفسه أصلا، وحتى إذا أتيحت فهى مسرحية محسومة النهاية من واقع الخبرات السابقة، وبرغم كل ذلك فثم خير كثير يجرى الآن، يحتاج منا الحذر والاستمرار معا.

فمن ناحية علينا أن نرصد سلبيات هذا الاندفاع حول البرادعى، دون أن يوقفنا ذلك عن مزيد من هذا الاندفاع وأكثر، وعلى سبيل المثال أنبه إلى احتمال أن يكون فى هذا الاندفاع ما يشير إلى أن الناس، بعد أن أنهكوا انتظارا، يستسهلون الحصول على رئيس “سابق التجهيز”، ما دامت لم تتح لهم الفرص لأن يفرز وعيهم الجماعى الشعبى واحدا منهم يخرج من عمق وعيهم، ليتخلق بهم، فيمثلهم. نعم:  من حق الناس أن يلتفوا حول رئيس محتمل “سابق التجهيز” حين يكون البديل هو أن يساقوا وراء رئيس غير جاهز أصلاً، ويبدو أنه يستحيل تجهيزه حسب ما يصلنى من تحفيظ وتلميع من الظاهر لا، ولن يجدى، حتى لو حسنت النوايا!!.

ورغم كل ذلك فإن ما أخشاه هو أن ينساق هذا الإنسان الكريم العالم الحكيم، وراء مستشارين يخلطون بين ما تفضل به علينا الزمن من اكتشاف إيجابياتنا مثل ما ذكرنا، وبين محاولة إرضاء فئات متناقضة، (إرضاء جميع الأطراف!!) بشكل يمسخ حضوره، وقد يختزل أو ينفى كل ما يمكن حصده من الدلالات الإيجابية السابقة. دعونى أضرب مثلا واحدا لما خِِفت منه وأنا أشاهد صوره وهو ينتقل من حضن المصرى الكهل الطيب على أبواب الأزهر إلى مقعد الضيف المكرم فى الكاتدرائية، إلى حضن شباب المنصورة، بصراحة: خفت من احتمال إيهامه أن مهمته هى أساسا: إرضاء جميع الأطراف ، فننسى دلالات ميزاته بعيدا عن جميع الأطراف.

يا سيدى البرادعى الطيب الحكيم: من بعد الشكر الواجب والاحترام الحقيقى، دعنى ألفت نظرك حبا وتقديرا إلى أن من يلتفون حولك هكذا هم من أكرم، وأخلص، وأشرف المصريين، الذين يحتاجون حكمتك وأمانتك وعلمك، لكنهم قبل وبعد ذلك ليسوا إلا: رهط من المثقفين، وصفوة من المتحمسين، والأكاديميين، والمثاليين، والشباب الجميل، وهؤلاء ليسوا هم الشعب المصرى على أية حال، أو دعنى أقول لك هم ليسوا “كل” الشعب المصرى جدا، مع أنهم قد يكونون الطريق الأجمل إليه، يوما ما، عسى ألا يكون بعيدا.

أ. أيمن:

يقولون أن المعارضة فى دول العالم الثالث تحديدا لديها عقدة اضطهاد .. وأنها تشكو وتتهتم عمال بطال .. فكيف ترى المعارضة ونجومها الآن فى مصر .. هل بعضهم مصاب بعقد اضطهاد فعلا؟

كثير من شباب المعارضة الآن يتخفون وراء التكنولوجيا خاصة الفيس بوك .. فهل ترى فى ذلك تطور للمعارضة وفى وسائلها  أم نوع من الهروب النفسى..؟ خاصة وأن المعارضة طول عمرها كانت باسلوب واحد مباشر ومواجهة صريحة ؟! 

د. يحيى:

مالنا ودول العالم الثالث، نحن فى مصر لا ينبغى أن نصنَّف هكذا بهذا التعميم مع بلاد غيرنا لها ظروف مختلفة، وتاريخ آخر، المعارضة فى مصر إما معارضة مروّضة، وإما ديكور للنظام، وإما معارضة دونكيشوتيه، لأنها تحارب أشباحا لا وجود لها،

 الحكومة لها دعم سلطوى لا شعبى برغم أن اسمه هو “الحزب الوطنى”، الحكومة وهذا المسمى وجهان لعملة واحدة، وبالتالى لاتوجد فرصة حقيقة لتخليق معارضة قادرة على المواجهة فالتغيير . المعارضة تتخلق من مواجهة ناس أمام ناس، وليس من مواجهة محكومين أمام سلطة لها وجهان.

أما شباب الفيس بوك فموقفهم ليس هروبيا أصلا، هم يمثلون عندى الأصل البازغ الآمل واحتمال تخليق معارضة مستقبلية بصوت قد يتخلص من مركزية الإعلام ووصاية الرقابة فكيف نتهمهم بالهروب هكذا.

أ. أيمن:

العنف الذى أصبح عليه الشارع المصرى سياسيا واجتماعيا ورياضيا (لعلك تابعت الأحداث المؤسفة  فى مبارة الزمالك واتحاد الشرطة ) .. البعض يرجعة إلى انه “عدوى” تنتشر بين المصريين .. فما تفسيرك  لهذا العنف المتصاعد أولا ؟ ثم هل العنف أو السلوك العنيف يمكن أن يكون “عدوى” ؟!

د. يحيى:

الشارع المصرى ليس عنيفا بطبعه وليس قاسيا، وليس عدوانيا مقارنة بشوارع نيوريوك  مثلا بعد الثامنة مساءًا، الشارع المصرى شارع محروم من التعبير، فهو يطلق لانفعالاته العنان كلما أتيحت الفرصة، وهذا ليس عدوانا بالضرورة.

ثم إن العدوان هو طبيعة متجذرة فى الحياة، ومالم يجد الناس طريقة للتعبير عن مواقفهم ومواقعهم ليفرغوا بذلك طاقة العدوان فى فعل خلاّق فإنه قد ينفجر فى أية لحظة.

هذا هو كل ما هنالك!!

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *