الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (139) النفسمراضية التركيبىة المنهج نحو قراءتها وتشكيلها بين المعلومات، والمخ، والوعى، والعقل

الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (139) النفسمراضية التركيبىة المنهج نحو قراءتها وتشكيلها بين المعلومات، والمخ، والوعى، والعقل

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 26-12-2016

السنة العاشرة

العدد:  3405

الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (139)

النفسمراضية التركيبىة

المنهج نحو قراءتها وتشكيلها

بين المعلومات، والمخ، والوعى، والعقل

مقدمة:

حين عدت أتأمل الصور التى ظهرت فى نشرة أمس، شككت أننى سوف أستطيع أن أصحح أيا من هذه المفاهيم التى جرت وتجرى حول هذا الكيان الرائع الغامض القادر العجيب المسمى “المخ”، وعذرت الزملاء (والعلماء) الذى يعزفون عن مثل هذه المغامرة، وأن يكتفى كل منهم بظاهر ما هدته إليه منظومته التنظيرية، الخاصة أو العامة، وخاصة أنه غالبا قد استمدها من كتابة مطبوعة على ورق مصقول، ويا حبذا بلغة أجنبية مشهورة!!

وإذا كنت قد قللت من قيمة الوصف المحدد الذى يميز هذا العـَرَض عن ذاك، ودعوت للبحث عن المعنى وراءه الأعراض واحترام الدافع لظهورها قبل الاندفاع لتغييرها، وإذا كنت قد وضعت ترتيب “التشخيص” فى نهاية قائمة الأهمية لتنظيم الصياغات جميعا باعتبار أن أهميته مكتبية، بحثية، إحصائية، تمويلية، قبل أن تكون علاجيبة تشكيلية تدعيمية هادفة.

وإذا كنت قد نبهت أيضا على ضرورة الحذر من التمادى فى الحكى والبحث عن الأسباب فى الماضى غير المتاح لنا فى اللحظة الراهنة، وأوصيت بالتركيز على “إذن ماذا؟ “بدلا من “لماذا”؟

إذا كان كل ذلك كذلك، فما هو السبيل إلى الوصول إلى ما يعين على قراءة النص البشرى، وبالذات المخ البشرى، ومن ثم القيام بنقده بالمشاركة مع صاحبه، لاستعادة المسيرة على صراط الصحة المستقيم؟

رجعت إلى خبرتى ومنهجى، وما أقوم به من تدريب للزملاء الأصغر، وما أمارسه من مشاركة وعى مع مرضاى، وخاصة الذهانيين منهم، وخاصة أيضا فى العلاج الجمعى، ووجدت أن المسألة تحتاج إلى وقفة ومزيد من التوضيح.

الأرجح أنه لم يعد لدى خيار إلا أن أواصل، وأن أحاول توصيل ما يجرى فعلا ويوميا مهما كانت الصعوبة، فإن مجرد المضى تقليدا فيما اعتدنا عليه، وما نستورده ونترجمه أولا بأول، أصبح غير مناسب لما نأمله لنا، ولناسنا، مرضى وأصحاء.

وحتى لو توقفتُ احتراما وادعاء للتواضع (وبينى وبينكم: خوفا من الهجوم والنقد والشجب والضحك)، فهل هذا سوف يغير الحقائق التى وصلتنى من ممارستى ونتائجها، والتى تدعمت بقراءاتى فى كل مجال، وليس فقط فى مجال تخصصى، والتى تأكدت من خلال تكاملها مع بعض محاولاتى النقدية فى الأدب ومحاولاتى الشخصية فى الإبداع.

خلاصة القول: إنه يبدو أنه لا  مفر من مواصلة التمسك بمنهج الخبرة المعيشة، والتعلم من التاريخ وخاصة تاريخ التطور، ووضع الفروض تلو الفروض وتعديلها وتطويرها وابتداع غيرها مع استمرار الممارسة ورصد نتائجها.

عودة إلى المخ وعلاقته بالوعى خاصة:

26-12-2016_1

المخ ليس عضوا قد اختص به الجنس البشرى وحده، فمعظم الأحياء، من طيور وجوارح وحيوانات وزواحف لها أمخاخ عاملة والارجح أنها غامضة ومبدعة وقادرة، وإلا لما بقى من هذه الأحياء نوع واحد، أو حتى فرد واحد من هذا النوع، التفسير البسيط لهذه الحقيقة الدامغة هو أن أمخاخ هذه الحيوات تعمل بكفاءة تطورية بالغة تحقق بها استمرار الحياة من جهة، والتكافل والتكيف مع الأحياء والطبيعة من جهة أخرى، كل ما حدث بالنسبة للإنسان هو أنه أصبح قادرا على رصد بعض ما يجرى، وعلى وصف البعض الآخر بأقرب درجة تستطيعها لغته الرائعة الخطيرة، التى كادت تتخلى مؤخرا عن وظيفتها الأولى للتكيف فالتواصل، بل كادت تصبح معطــِّلة لو أنها احتكرت الساحة وأزاحت كل اللغات الأخرى التى حفظت الحياة والأحياء عبر التاريخ،  جميع الأحياء لا تحتاج إلى لغة لفظية، ولا إلى مراجع علمية، ولا إلى نحو تطبيقى، لكنها تمارس الاستمرار والتطور بنجاح لا شك فيه (طبعا بالنسبة لمن استطاع أن يبقى منها).

البداية ينبغى أن تكون من النظر فى كيف استطاعت هذه الأحياء جميعا أن تبقى وهى تفتقر إلى اللغة التى يفتخر بها الإنسان (ولا أقول والتى تورط فيها الإنسان، وإن كان هذا جائز إن لم ننتبه)

التفسير يكمن فى أن الوعى هو الأصل، وأن ارتباط المخ، وخاصة المخ الأحدث فى الإنسان بكل من اللغة، والتفكير، والمنطق الحسابى، والتسلسل الخطى، جعلنا نتصور أن هذه هى كل وظائف المخ عند الإنسان، (بل وامتد التعميم إلى الأمخاخ جميعا ونحن نحاول فهم سائر الأحياء)

26-12-2016_2

الخلاصة: أننا لن نستطيع أن نلم بما هو مخ وأمخاخ، وبالتالى بكيفية اختلال العلاقة بينها حتى المرض، بما يتطلب ضرورة محاولة تعديل المسار وضبط العلاقات لاستعادة المسيرة الطبيعية كما خلقها الله لما خلقها له، وهذا هو العلاج (كما كررنا مرارا)، إلا إذا توسعنا فى مفهوم ما هو مخ، ثم ما هو عقل، وقبل هذا وذاك: ما هو وعى.

 بداية التعرف على حقيقة وماهية المخ ودوره هو إعادة النظر فى توصيفه تشريحيا، وتقسيمه موضعيا localization ومكانيا، فالأمر يتجاوز هذا وذاك كثيرا، ولعل الفضل فى التوضيح الذى وصلنى بهذا الصدد: يرجع إلى دانيال دينيت صاحب كتاب “أنواع العقول” Kinds of Minds الذى استشهدت به مرارا، وخاصة أنه لفت نظرى منذ البداية العنوان الفرعى للكتاب وهو: “نحو محاولة فهمٍ للوعى” Towards an Understanding  Consciousness، فنلاحظ كيف أن عنوانه هو عن العقول، وأن غايته هى فهم الوعى، وهذا رائع وهو فعلا ما نجح فيه.

من أهم ما قدمه هذا الكتاب الرائد هو تركيزه ومن البداية على: أن لكل نوع من الأحياء – دون استثناء- وعى خاص به  يحافظ من خلال نشاطه على بقائه بشكل أو بآخر، وقد أسمى هذا الوعى “عقلا”، فى معظم تناوله للمسألة، (كما أسميته أنا مؤخرا منظومة الوعى المقابلة لما شاع أنه المخ الفلانى)، وقد سبق أن قدمت نقدا لترجمة هذا الكتاب بالعربية فى نشرات مستقلة (نشرة 25-12-2007 “أنواع العقول وتعدد مستويات الوعى” و(نشرة 2-1-2008 “أنواع العقول  (وإلغاء عقول الآخرين) الطريق إلى فهم الوعى”)، كما خصصت لنقده ندوة كاملة من ندوات جمعية الطبنفسى التطورى والعمل الجماعى (الندوة العملية – مارس 2004 ” تطور العقول”). 

وقد انتهى دينيت إلى أن العقل البشرى هو نتاج لكل من: (1) الانتقاء الطبيعى  (2) ثم إعادة تصميمه ثقافيا،

26-12-2016_3

 وقد أكد المؤلف على إن العقول لم تكن دائما موجودة / وأننا قد تطورنا من كائنات لها عقول أبسط (إن كانت لها عقول  أصلا)، وهذه تطورت من كائنات لها عناصر أبسط مما نسميه عقولا، وكان ثَمَّ وقت (منذ خمسة بلايين سنة: لم تكن توجد عقول مطلقا لا بسيطة ولا مركبة)

أكتفى بهذا القدر من الاقتطاف مع الإحالة إلى النشرات المذكورة أو الكتاب الأصل (نشرة 25-12-2007 “أنواع العقول وتعدد مستويات الوعى” و(نشرة 2-1-2008 “أنواع العقول  (وإلغاء عقول الآخرين) الطريق إلى فهم الوعى”

لكن الذى يهمنى هو أننا لكى نفهم المخ ووظيفته علينا أن نبدأ من فهم الوعى الذى هو الأصل، وما المخ ، فالعقل، إلا نتاج هذا الأصل (الوعى) وليس العكس، فى البدء كان الوعى بالمعنى الحيوى البقائى الفعال، وهو لم يختف أبدا بل ظل فاعلا مبدعا فى كل الأحياء بما فى ذلك الإنسان.

وهكذا نجد أنفسنا فى حيرة أخرى، فإذا كان علينا أن نتعرف على العقل من خلال تعرفنا على المخ، ثم كان علينا أن نتعرف على المخ من خلال تعرفنا على الوعى، فهل هذا يسهل المسألة أم يصعبها ؟

فى ملف الوعى(1) بينت بوضوح عجزى، بل وعجز كل من لجأت إلى عطائهم، وجهودهم، فى التعرف على الوعى، وبصراحة قدمت هذه الظاهرة الأساسية لكل من برامج التطور ثم الأمخاخ ثم العقول بالنفى أكثر منها بالإثبات، أى أننى قلت أن الوعى ليس هو كذا، وليس هو ما شاع عنه أنه كيت….إلخ،  وقبل أن أستسمحكم أن أعيد هذا النفى، الذى هو ضمنا إثبات لما أحاول الوصول إليه تمهيدا  للترشيد لقراءة المخ البشرى من خلال الوعى البشرى، دعونا نتعرف على بعض الصعوبة كما سبقت الإشارة إليها، لننتقل منها إلى معالم المنهج المتبع:

  صعوبة التعرف على ما هو وعى

وعودة إلى التأكيد على المنهج المتبع:26-12-2016_4

حين تكشـّفتْ لى كل هذه الصعوبات بهذا الحجم، وأنا أمهد الطريق إلى دعوة الزميل الفاحص أن يقرأ المخ البشرى أولا وأساسا قبل الأعراض ومعها، وقبل التشخيص تأكيدا، إذا بى أكتشف انه لا يمكن أن يقرأه كما أرجو وينفع إلا من خلال اطمئنانه إلى منهج آخر غير ما اعتاد عليه، وهو منهج الوصول إلى المعرفة من خلال  تنشيط الوعى البينشخصى الذى يمكن أن يهديه إلى ما يثبت المعلومات الجزئية فى مكانها الصحيح فى كلٍّ شامل قادر على رسم النفسمراضية التركييبة الكلية الهادية للتخطيط العلاجى الهادف.

لا مفر من العودة إلى عرض ما وصلنى عن الوعى من خلال نفس المهنج الذى أدعو إليه الآن لإمكان تشكيل النفسمراضية التركيبية، والذى أزعم إمكانية التدريب عليه:

الخبرة تنشط الوعى المشارك فالمعرفة:

إن ما وصلنى من خبرتى المهنية، وخاصة فى العلاج الجمعى، ومع الذهانيين بالذات، ومن خبرتى الشخصية،  يقول مايلى:

  • الوعى ليس وظيفة مستقلة ولكنه حركية إيقاعية.
  • الوعى ليس صفة لاحقة ولكنه منظومة مشتملة .
  • الوعى ليس نشاطا متبادلا مع الوظائف الأخرى أو متصلا بها سندا أو وسادا، ولكنه حركية متداخلة فى كل الوظائف .
  • الوعى ليس واحدا ولكنه منظومات متعدده متصاعدة تمثـِّـل مراحل فى التطور، التى هى هى مراحل النمو، وهى متبادله النشاط- دورية الإيقاع- متكافلة متجادله فى حالة السواء، وعكس ذلك فى حالة المرض.
  • الوعى ليس مرادفا للروح ولكنه على علاقة وثيقة بالادراك الأعمق عامة وبالوجدان خاصة.
  • الوعى ليس هو “الشعور” الظاهر فى بؤرة الانتباه، وبالتالى يكون ما تحته هو اللاوعى!!، ولكنه متعدد فاعل ، ظاهر وكامن ونشط على كل المستويات.
  • الوعى ليس صفة ثابتة، لكنه حركة متصاعدة متوجـِّهـَة نحو “واحدية الوعى المطلق” المفتوحه النهاية .
  • الوعى ليس وجدانا متميزا ولكنه شديد الارتباط بما يسمى: العقل الوجدانى الاعتمالى.
  • الوعى ليس قاصرا على الوعى بالوعى، ولكنه موجود عند كل الأحياء (وغالبا فى المادة غير الحية أيضا).
  • الوعى ليس هو تعريفه فى المعاجم، ولا حتى فى كثير من الكتب العلمية ولكنه حاضر حضورا أوسع وأشمل من كل الألفاظ التى تصفه.
  • الوعى ليس دائما فى متناول التناول بالحكى أو الرموز أو الحرف، ولكنه يشكل لغة جديدة غائرة فى الإبداع عامة وفى الشعر خاصة .
  • الوعى ليس موضوعا للحوار الشخصى لكنه ممارسة متعددة المستويات والأبعاد بين الأحياء أساسا، (ومع كل شئ وفى كل شئ إلى كل شئ إلى من ليس كمثله شىء).
  • الوعى ليس نشاطا فسيولوجيا للمخ فحسب ولكنه نشاط حيوى (بيولوجى) وجودىّ يشمل كل الخلايا وخاصة الجسد (وحديثا: المادة أيضا: انظر بعد).

وأضيف اليوم:

وبعد

مرة أخرى: إن أغلب ما وصلنى فى هذا الصدد كان ومازال يبدأ من الممارسة المهنية (نقد النص البشرى)، والخبرة الشخصية (نقدي نصّى البشرى، ومحاولاتى فى الإبداع) ثم إن ذلك راح يتدعم أو لا يتدعم بالمتاح مما يصلنى من معلومات ومعارف، وما يتكشف لى من مجاهدات وكدح.

وهأنذا أعود للتأكيد على أن الخبرة هى الأصل، وهى الحاضرة فى البدء، وهى مرتبطة ارتباطا وثيقا بالثقافة التى أنتمى إليها، والتى تمتزج تماما وبيولوجيا باجتهادى على طريق إيمانى، لكن كل ذلك ليس نهاية المطاف،

ومرحليا: استطيع أن أقدم الطريق الذى سلكتـُه، وأسلـُكـُهُ،  حتى الآن كالتالى:

من الخبرة ← إلى ← الرؤية،

ومن الرؤية ← إلى ← المعرفة،

ومن المعرفة ← إلى ← الفروض،

ومن الفروض ← إلى ← الممارسة

ومن الممارسة ← إلى ← العلم

ومن العلم ← إلى ← النقد،

ومن النقد ← إلى ← الوقفة،

ومن الوقفة ← إلى ← واحدية المعرفة،

ومن واحدية المعرفة ← إلى ….. >>

                                   خبرة جديدة، وهكذا

وهكذا….!! بلا توقف، لا يهدينا إلا التوجه الغائى العلاجى الذى يسهم بدعم الجهود إلى عودة كل من امْتُحِن بمحنة المرض، بالبعد عن طبيعته السوية النابضة المبدعة، إلى العودة إلى طبيعته،  ولا يعيننا على الاستمرار والمثابرة إلا التواصل الممتد بين دوائر الوعى المتعاقبة المتسعة إليه، والنتائج العملية المحددة على أرض الواقع النابع من ثقافتنا جدا، حتى لا نقيس مسيرتنا طول الوقت بـ “نوعية للحياة”: مستوردة، وسابقة التجهيز، وإنما بما هو أقرب إلى ما خلقلنا الله به، إليه؟

[1] – فى كتاب الأساس فى الطب النفسى الذى لم يكتمل بلغت صفحات النشرات التى حاولت التعرف على “الوعى” حوالى 300 صفحة من القطع الكبير A4 .(من نشرة 3-5-2015) إلى (نشرة 18-10-2015)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *