الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (136) عن “الاحترام”: عموما وفى الممارسة

الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (136) عن “الاحترام”: عموما وفى الممارسة

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 19-12-2016

السنة العاشرة

العدد:  3398

الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (136)

عن “الاحترام”: عموما وفى الممارسة

ثم نكمل  اليوم ما بدأناه يوم السبت، فننتقل إلى:  وجدان/فضيلة: “الاحترام”:

 هى فضيلة رائعة اعتدنا أن نوصى بها الأصغر نحو الأكبر، والأقل رتبة نحو الأعلى… وهكذا.  فهل هى كذلك تماما، وهل هى كذلك فقط من منظور ما نحاول تقديمه؟

ذكرت فى نشرة السبت 17 الجارى أن “الاحترام وجدان من أرقى ما يتميز الإنسان، وأنه ليس فضيلة أخلاقية بالمعنى الاجتماعى السائد،  ولكنه وجدان خلأق“، وقد يتصور قارئ هذا الكلام لأول وهله أننى أقلل من قيمة ما هو “فضيلة”، طبعا لا، هذا غير وارد إطلاقا لكن دعونى أميز بين القيمة الأخلاقية الاجتماعية التى تسمى فضيلة، وبين الوجدان الفطرى الطبيعى الذى أحاول أن ادرج الاحترام تحت لوائه، هذا الأخير هو برنامج بقائى أساسى، وضعه خالق الأحياء وخالق كل شىء، لنتبعه حتى نحافظ على أنواعنا، فنحافظ على الحياة،

إذا تكلمنا عن الاحترام كفضيلة فإننا سوف نعدد مزايا من يتمتع بهذه الفضيلة وفوائدها الاجتماعية والعلاقاتية، أما إذا تكلمنا عن الاحترام كوجدان فطرى، وقانون بقائى، فإننا ننتقل إلى مساحة أخرى من الإحاطة بماهيته وتوظيفه، وهذا المنطلق الأخير هو ما يحاول هذا الطب الإيقاعحيوى أن يتناول به الاحترام الآن.

أنا لن أتعرض بأية تفاصيل  لهذا البرنامج البقائى (الاحترام) الذى اعتبرته وجدانا فطريا أصيلا فى الإنسان، كما أننى  لن أتعرض لاحتمال وجوده فى الأحياء قبل الإنسان، فهو من الوجدانات التى أرجـّح أن الانسان اختص بها إن لم يكن وحده، فقد اختص بها أكثر من غيره.

ثم إن الأرجح أن هذا البرنامج البقائى ليس منفردا عن برامج  آخرى متداخلة ومساعدة، مثل وجدان “الحياء” (وقد تم نشر بعض جوانبه أمس)، بل وأتمادى فأقول: ومثل “وجدان العدل”، أيضا كبرنامج بقائى أخر يحافظ على استمرار الحياة، خاصة الحياة الإنسانية: بمعنى أنه لكى يكون الاحترام هو ما وصلنى وأريد توصيله كما خلقه الله، لا بد أن يصدر تلقائيا ملازما للعدل، والحياء، معظم الوقت

 ولما كان الأمر قد استقر على أن البقاء ليس للأقوى كما كان الظن سابقا،  وإنماالبقاء للأقدر تكافلا“، بمعنى الأقدر على تكييف وجوده وتناسق غاياته مع سائر الأنواع المعاصرة له، فإن ذلك إنما يعنى مباشرة أن كل كائن نجح أن يبقى حتى الآن قد “احترم” حق الكائن الآخر فى الاختلاف، ومن ثم فى البقاء

أما أنه فضيلة فهو فضيلة، لكنه ليس فضيلة مكتسبة مثل سائر الفضائل الاجتماعية، لكنه فضيلة بمعنى كشف (واكتشاف)  الفطرة والحفاظ عليها.

وقد يكون من الجدير بنا أن نرجع إلى أصل الفكرة الإيقاعيوية التطورية، وتسلسلها، ثم تطويرها كما سبق أن عدّدنا، مع تعديلات  طفيفة جدا:

هناك نوعان أساسيان من الوجود البشرى يمكن أن نتحقق منهما عند المتدين ‏(أو من يدعى ذلك‏),‏ وأيضا عند غير المتدين ‏(أو الذى يتصور ذلك‏):‏

النوع الأول: هو النوع الذى يقف شامخاً فخوراً لينتهى عند أعلى نقطة فوق هامة الإنسان وقد زانه عقله ولمّعته أدواته‏  (وهو ما يمثله اغلب ما يسمى الحضارة الغربية الشمالية التكنولوجية، ويشمل فضائل مستحدثة،وملتبسة، مكتوبة اساسا، بأقل قدر من التلقائية الطبيعية‏).‏

والنوع الثانى: هو الذى تمثله الحضارات الإيمانية التوحيدية التواصلية النابضة الممتدة إلى ما لا يحد من وجودها عقل ظاهر، أو وصاية آلة بالغة المهارة.

* هذه هى الثقافة التى انطلق منها الطبنفسى الإيقاعحيوى وهو يقرأ الفطرة الطبيعة البشرية حيث تسلسلت الأفكار والأحداس والفروض على الوجه التالى:

(1) الله خلق كل الأحياء بلا استثناء

(2) الله هو الذى خلق القوانين التى تسمح لهذه الأحياء أن تحافظ على بقاء نوعها فى تكامل مع غيرها

(3) من أهم وأقدر وألزم هذه القوانين: قوانين جدل التعامل مع الأخر المختلف نوعا، وأفرادا.

 (4) الكائن الحى الذى نجح فى استعمال هذه القوانين استمر وبقى

(5) الكائن الذى فشل فى استعمال هذه القوانين ضمرُ وتآكل حتى انقرض

(6) هذه القوانين ليست قوانين رياضية مكتوبة تحسبها الآلات الحاسبة (1) لكنها قوانين ذات كفاءة إبداعية تكافلية نابضة، وهى التى تحافظ على بقاء وتطور الكائن الحى الفردى والجماعى حتى بقاء النوع إذا أحسن استعمالها فى علاقته بوعى الكائنات الأخرى والطبيعة المحيطة، وهو يبدع ويجدد كل ما أكرمه الله به،  وهو يعيد التشكيل الناجح المناسب باستمرار.

(7) إن الكائن الذى يفشل فى تَمَثُّل وتشغيل هذه القوانين يفشل فى إبداعه ما يبقيه حيا متطورا، فيجهض الإبداع إلى التفسخ (كما فى الجنون) وينقرض أفراداً فجماعاتٍ فنوعا.

(8) إن الكائن الذى ينجح – بفضل الله وعلاقته به وتسبيحه له – فى حسن استيعاب واستعامل هذه القوانين بالمعنى البيولوجى الإيمانى، يضطرد نموه ويبقى ويتطور.

 (10) إن الأحياء (المبدعين، وعلى رأسهم المخ البشرى القادر على إعادة تشكيل نفسه) الذين بقوا حتى الآن عليهم أن يواصلوا الإبداع مع أفراد نوعهم ومع الطبيعة ومع بقية الأحياء التى تحاول بدورها نفس المحاولة بنجاح، ومن ثَمَّ تستمر وتتطور، وهى تواصل الإبداع فى تناغم مع كل دوائر الوعى بداخلها وخارجها، مرورا بما يمثل إعاقات الطريق أو انحرافات المسار مما يسمى “مرضا”، (وما هو ألعن من المرض !!)

وبعد

إن الاحترام الفطرى المصحوب بالعدل التلقائي البقائي، هو الأقدر على استيعاب هذه الثقافة الأقرب إلى ما خلقنا الله عليه، وما خلقنا به،

كما أن هناك مواصفات خطرت لى حتى أميز هذا الاحترام حتى عن فضيلة الاحترام الظاهر أقدم بعضها على سبيل المثال لا الحصر:

(1) الرؤية المتكاملة للآخر (نوعا وأفرادا) بمعنى ألا أكتفى بالتعامل مع ظاهر السلوك، وأحترمه وأنا لا أعرف شيئا عن بقيته، ولا أعنى بذلك فتح الباب على مصراعيه للتشكك والظن، وإنما اعنى احترام الإدراك والعقل الوجدانى الاعتمالى ولك ما نتواصل معا به لنبقى، وأنه بغير رؤية واضحة مهما نقصت، يصبح الاحترام منقوصا، أو ملتبسا

(2) العدل الممكن بما ينفى تماما أن هناك فئة تستحق الاحترام، وأخرى غير جديرة به، والتعامل مع الجميع على هذا الأساس بوعى يقظ، وتواصل مسئول

(3) قبول الخطأ فى الحكم على الآخر، خاصة إذا ما جدّ ما يدعو للمراجعة والنقد

(4) الاستمرار برغم الاختلاف، وانتظار النتائج:  لتغيير أو تأكيد الرأى

(5) عدم وضع شروط مسبقة للاحترام

الخطوات التطبيقية لاستثمار توظيف هذا الوجدان فى الممارسة الطبية عمليا: 

أولا: تبدأ ممارسة الاحترام باحترام الحياة وخالقها، وأنها لم تخلق عبثا

ثانيا: احترام تاريخ هذه الحياة وكيف تسلسلت بفضل قوانين البقاء التى وضعها لها خالقها

ثالثا: احترام تاريخ الفرد (المريض) كائنا متفردا يمثل تاريخ هذه الحياة “هنا والآن”

رابعا: احترام الطبيب للتشابه الحتمى بينه وبين مريضه من حيث المبدأ، بمعنى أنه يحمل كل ما يحمله مريضه، لكن المريض أعيق، أو تجاوز، أو تراجع

خامسا: احترام حق المريض فى انه هو الذى قرر اختيار – أو اختبار- هذا الحل الفاشل المجهض، علما بأن هذا المبدأ الذى يبدو اتهاما للمريض هو احترام ضمنى لقدرته على  العودة عن قراره إذا نجحنا أن نلحقه ونواكبه ونشاركه ونثبت له فشل هذا الحل، ونقدم البديل المحتمل معا، أو نقوم بتشكيله معا، فنحن لا نفرض عليه “الصحة” كما نتصورها، وإنما نعرض عليه البدائل بعد أن نرى معا حجم فشله، ونستشرف سوء مأله

سادسا: احترام آلية تكوين الأعراض باعتبارها تمثل – غالبا – مراحل طبيعية، ودفاعات مشروعة فى مراحل باكرة من النمو والتطور

سابعا: احترام حق المريض فى الدفاع عن اختياره (مرضه) بما يبدى من مقاومة للعلاج، وبالذات رفضه للعقاقير المثبطة الجسيمة إذا تمادت حتى أصبحت تهدد جزءا من أصل وجوده، بدلا من أن تنظـِّم شطح بعض أجزاء مستويات وعيه

ثامنا: احترام قدرة المريض على العودة إلى التناسق الصحى المتوازن الخلاق  بين مستويات وعيه (أمخاخه)  إذا ما أحسن إعادة تشكيلها وتشغيلها فى نمط أكثر تحقيقا لأهدافه دون مخاطر الإجهاض والفشل والتراجع

تاسعا: احترام حق الطبيب أن يقرأ  فى مريضه ما لم يقرأه فى كتبه، ما دام قد وضع نصب عينيه غايته من العودة إلى “ربى كما خلقتنى”، ووضع لذلك المقاييس العملية التى تعينه على ذلك.

عاشرا: احترام الاختلافات المتعددة حول كيفية تناول حالة مريض بذاته، إذ مهما بلغت صحة النظرية، فثم طرق بلا عدد تساعد أغلب المرضى على مستويات مختلفة، وكل مريض ينتقى منها ما يناسب حالته ويتفق مع مرحلته.

 

[1] – مع أن طبيعتها رياضية غالبا – حسب إنجازات الطبيعة والرياضة والميكانيكا الكوانتية الأخيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *