الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (132): الصياغة الوصفية (المريض ليس معادلة كيميائية خاطئة)

الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (132): الصياغة الوصفية (المريض ليس معادلة كيميائية خاطئة)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 11-12-2016

السنة العاشرة

العدد:  3390

الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (132)

الصياغة الوصفية

(المريض ليس معادلة كيميائية خاطئة)

استهلال:

دعونا نواجه الأمر الواقع فنكتشف أن الطبيب الأصغر يتعلم ويمتحن وينجح ويحصل على الدرجة، وقد تمت برمجته ان يكون الهدف  الأول (وأحيانا الأخير) من المقابلة الإكلينيكية هو “الوصول إلى تشخيص”.

 ودعونا نعترف أن هذا فى ذاته اختزال مطلق لكل ما ذكرناه طول تقديمنا للمقابلة الإكلينيكية، وأنه تجاوز للفروق الفردية بين أى إنسان وأى إنسان آخر التى هى حقيقة ماثلة مثل بصمات الأًصابع، وهى التى تتعمق وتتأكد فى أزمة  المرض، وقد اعتدنا أن نتكلم عنها عند الأسوياء وفى نظريات الشخصية، وأن نهملها بشكل مباشر أو غير مباشر بعد المرض.

يترتب على هذه البرمجة المدعمة بالمؤهلات، أن الطبيب بمجرد وصوله إلى هدفه ووضع لافتة التشخيص على مريضٍ ما، تتم الترجمة الفورية للمريض إلى معادلة كيميائية، ثم يروح الطبيب يبحث فى أرشيف معلوماته عن ماذا حدث لهذه الكيمياء من تغيرات، ثم يُـترجِمَ المريض نَفسه، وليس كيماءه  فقط، إلى “ما يصلح له” بكيمياء  جاهزة لتصحيح المعادلة.

يحدث هذا باستمرار باستمرار حتى يصبح برنامجا  منغرسا فى المنظومة المعلوماتية عند كل طبيب، والنتيحة هى البعد عن المريض وعن الحقيقة، بل عن ما هو أهم.

الصياغة بكل مستوياتها تحاول تجنب ذلك.

مقدمة:

تصحيحا للترتيب المخلخل لنشرات ختام المقابلة الإكلينيكية وهو الذى يمكن أن يكون قد أفقد التتابع تسلسله، سوف أركز اليوم على الصياغة الوصفية التى كان ينبغى أن تأخذ موضعها قبل الصياغة النفسمراضية بنوعيها (السببية والتركيبية).

وكما كررنا مرارا فإن الصياغة‏ عامة هى: ‏رسالة‏ ‏موجهة‏ ‏إلى ‏شخص‏ ‏بذاته‏، ‏تريد‏ ‏أن‏ ‏تلفت‏ ‏انتباهه‏ ‏من‏ ‏خلالها‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏ينبغى ‏الانتباه‏ ‏إليه‏ ‏أولا،‏ ‏فَتَالِيَا، وبالتالى فهى رسالة‏ ‏موجهة‏ ‏إلى ‏زميل أو معالج، أو عضو تمريض أو جهة عمل أو مؤسسة، وهى محاولة لتقرر واقع الحال بتفصيل نسبى وهذا المستوى الأساسى من الصياغة والمسمى “الصياغة الوصفية” يعنى أنها: لا تتعرض ابتداء للأسباب أو التفسير أو التنظير إلا إذا لزم الأمر جدا، وإنما تركز على الوصف والبلاغ لاتخاذ اللازم.

إعادة ترتيب المعلومات

مرة أخرى: نعيد التذكرة بأن  الموجز هو اختصار كل المعلومات التى حصلنا عليها فى المقابلة الإكلينيكية بنفس  الترتيب الشكلى والتاريخى فيما لا يزيد عن نصف صفحة أو أكثر قليلا، فى حين أن الصياغة الوصفية تعيد ترتيب هذه المعلومات وغيرها حسب أولويتها لتحقيق الهدف منها،

وفيما يتعلق بالعلاج كهدف نورد معالم أولويات مثل هذا الترتيب بصفة عامة:

أولا: ذكر احتمالات الخطورة بما فى ذلك الانتحار، والهرب.

ثانيا: وجود ما يحتاج تجنب احتمال حدوث مضاعفات .

ثالثا: الأسباب الدوامية (هنا والآن) التى تعمل على استمرار أو تفاقم الحالة المرضية.

رابعا:  الأعراض الأوْلى بالتركيز من حيث السبب فى الإعاقة ، أو التهديد بالتمادى (مثلا).

خامسا: العوامل المحيطة التى يمكن أن تساعد أو تعطل العلاج 

سادساالتشخيص ” و”التكهن” و”المآل” المحتمل

(لاحظ تعـَمُّـد ورود التشخيص (وأيضا التكهن والمآل) فى نهاية الترتيب!!)

وكما ذكرنا تختلف هذه الصياغة باختلاف الهدف من المقابلة، الذى يمكن أن يتمثل فى التنويعات التالية (كأمثلة):

(1)   ‏عرض‏ ‏حالة‏ ‏فى ‏مرور‏ ‏إكلينيكى ‏أكاديمى.

(2)   ‏كتابة‏ ‏تقرير‏ ‏علمى ‏لأحد‏ ‏الزملاء (خاصة‏ ‏لمريض‏ ‏قادم من بعيد أو ذاهب إلى بعيد‏).

(3)   ‏كتابة‏ ‏تعلميات‏ ‏متصلة‏ ‏بالتأهيل‏ ‏موجَّـهَـة‏ ‏لعائلة‏ ‏المريض‏. ‏

(4) ‏إيضاح‏ ‏مبادئ‏ ‏وشروط‏ ‏التعاقد‏ ومحكات المتابعة ‏بين‏ ‏الطبيب‏ ‏والمريض‏ ‏لتنفيذ‏ ‏خطة‏ ‏علاجية‏. (وغير‏ ذلك: انظر أيضا التقرير الذى هو ليس مرادفا اللصياغة)

المزيد عن ترتيب الخطوط‏ ‏المرشدة‏ ‏تنازليا:

أولا‏: ‏تجنب الخطر والمضاعفات:

1)  يُعَرّف المريض – كما ذكرنا – بالمناطق الأوْلى بالتدخل الفوْرى لتجنب الخطر ‏بالنسبة‏ ‏للمخاطر‏ ‏المهددة‏ ‏التى يأتى ‏فى ‏مقدمتها‏ ‏الانتحار‏، ‏والهرب،‏ ‏والعدوانية.

2)  يلى ذلك تحديدا احتمال حدوث أى من المضاعفات المحتملة بدءًا بالمضاعفات الجسدية، ‏مثلا‏، ‏مريض‏ ‏عنده‏ ‏منظم‏ ‏معدنى ‏للقلب‏ (‏حتى ‏لا‏ ‏يعطى ‏جلسة‏ ‏كهربائية‏) ‏أو‏ ‏آخر‏ ‏عنده‏ ‏خلل‏ ‏فى ‏وظائف‏ ‏الكبد‏، ‏أو‏ ‏هبوط‏ ‏فى ‏القلب‏، ‏أو‏ ‏سيدة‏ ‏حامل‏ ‏فى ‏شهورها‏ ‏الأولى ‏تخشى ‏عليها‏ ‏أن‏ ‏تعطى ‏عقاقير‏ ‏تضر‏ ‏الجنين‏، ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏يقدم تماما وبوضوح كامل‏ ‏فى ‏المقدمة‏ ‏للتنبيه‏ ‏على ما يمكن أن يترتب عليه.

3)  يعرف‏ ‏المريض‏ ‏بصفاته‏ ‏المميزة‏ ‏له‏ ‏بما‏ ‏يتعلق‏ ‏بأهمية‏ ‏المعلومات للعلاج‏، ‏فمثلا‏ ‏مريض‏ ‏عنده‏ 85 ‏سنة‏ ‏يأتى ‏إثبات عمره‏ أولا، ‏أو عانس‏ ‏عمرها‏ 47 ‏سنة‏ ‏تأتى ‏حالتها‏ ‏المدنية‏ ‏أولا‏، ‏وهكذا‏، ‏تأكيدا‏ ‏لما‏ ‏تريد‏ ‏أن‏ ‏تلفت النظر‏ ‏إليه‏ ‏بوجه خاص‏.‏

ثانيا‏: ‏أولويات‏ ‏تتعلق‏ ‏بالعلاج:

ثمة‏ ‏مسائل‏ ‏بالنسبة‏ ‏للعلاج‏ ‏تحتاج إلى التقديم مثل:

1 – ‏وجود‏ ‏سبب‏ ‏تأكدت‏ ‏مسئوليته‏ عن ‏استمرار الحالة المرضية، وهو ما يسمى “العاملِ المُدِيمْ” perpetuating factor وهو أهم من الأسباب المهيـّئة Predisposing، والمرسبةPrecipitating، وكثيرا ما يكون – خاصة فى بيئتنا – أحد الوالدين هو الذى يقوم – لا شعوريا غالبا- بالإسهام فى تغذية الإمراضية المسئولة عن ‏إحداث‏ ‏المرض واستمراره،‏ مما قد يحتاج إلى فصل حاسم عن الوالد (‏وهو ما‏ ‏يشبَّه‏ ‏أحيانا‏ ‏بالعملية‏ ‏الجراحية‏، ‏حتى ‏يطلق‏ ‏على ‏هذا‏ ‏الإجراء‏ ‏عملية‏ “استئصال‏ ‏الوالد نفسيا” مؤقتا Psychic Parentectomy). ‏

2 – ‏الحاجة‏ ‏إلى ‏اتخاذ‏ ‏قرار‏ ‏بشأن‏ ‏الإيداع‏ ‏بالمستشفى

3- الحاجة إلى اتخاذ قرار ينقذ تفكك الأسرة المحتمل حالا …..الخ

‏‏ ثالثاً‏: ‏صعوبات‏‏ ‏خاصة:

من أهم ما يتقدم فى الأوليات فى هذه ‏الصياغة‏ ‏ذكر‏ ‏الصعوبات‏ ‏التى ‏قد‏ ‏تعوق‏ ‏خطة‏ ‏العلاج‏ ‏كدعوة‏ ‏للتفكير‏ ‏فى ‏إمكانية‏ ‏حلها‏، ‏وذلك‏ ‏مثل‏ خلل أو فراغ أو فساد الجو الاجتماعى الراعى كالافتقار إلى ‏منزل‏، ‏أو عدم‏ ‏وجود‏ ‏راع‏ ‏كبير‏ ‏مسئول‏، ‏أو عدم‏ ‏ضمان، امتثال المريض للعقاقير أو لتعليمات التأهيل أو المتابعة.

رابعاً‏: ‏تعليق‏ (‏نقدى ‏توفيقى) ‏على ‏الاستقصاءات:‏ ‏

تتضمن هذه‏ ‏الصياغة‏ ‏أيضا‏ ‏تعقيب‏ ‏نقدى ‏على ‏ما‏ ‏تم‏ ‏من‏ ‏فحوص‏ ‏استقصائية‏، ‏ومناقشة‏ ‏نتائجها‏ ‏بنقد‏ ‏موجز‏، ‏كما‏ ‏تتضمن‏ ‏التوصية‏ ‏باستقصاءات‏ ‏أخرى إذا لزم الأمر. ‏

خامسا‏: ‏تقديم‏ ‏المشاكل‏ ‏المهنية‏ (والعلمية‏) ‏المتحدية‏: ‏

تستدعى ‏الصياغة الوصفية أيضا‏ ‏مواجهة‏ ‏التحديات‏ ‏الماثلة‏ ‏كما‏ ‏ظهرت‏ ‏من‏ ‏فحص‏ ‏الحالة‏، ‏وعلى ‏الفاحص‏ ‏أن‏ ‏يقدم‏ ‏هذه‏ ‏المسائل‏ ‏قبل‏ ‏ذكر‏ ‏المألوف‏ ‏والمباشر‏ ‏من‏ ‏المعلومات‏ ‏التى ‏لا‏ ‏تحتاج‏ ‏لنقاش‏ ‏خاص‏، ‏أو‏ ‏رأى ‏آخر‏، ‏و‏ ‏فيما‏ ‏يلى ‏بعض‏ ‏الأمثلة‏ ‏الموضحة‏:

1‏- ‏مشاكل‏ ‏تتعلق‏ ‏بالتشخيص‏ ‏وخاصة ما يترتب‏ ‏عليها‏ من ‏تغيير‏ ‏فى ‏وسائل‏ ‏العلاج‏ ‏أو تقييم‏ ‏المآل.

2‏- ‏المعالم‏ ‏غير‏ ‏النموذجية‏ ‏التى ‏قد‏ ‏تؤدى ‏إلى ‏تغيير‏ ‏التشخيص‏ ‏بالتحقق‏ ‏والمتابعة‏ ‏مثلا‏، ‏اكتئاب‏ ‏غير‏ ‏نموذجى ‏قد‏ ‏يثبت‏ ‏أنه‏ ‏فصام‏ ‏كامن.

3- التشخيصات التفاعلية والموقفية (1) التى يبدو أنها لا تزول إلا بتغيير الموقف وتصحيحه.

سادساً‏: ‏إشارة‏ ‏إلى التكهن بالمآل Prognosis ‏:

 ‏وخاصة‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏إشكاليا، علما بأن هذا ينبغى أن يتضمن فحص موقف الطبيب نفسه، ومدرسته ومنهجه (بل وأيديولوجيته إذا أقرّ بها، أو عرفها)، بقدر ما تؤخذ فى الاعتبار والإمكانيات المادية والواقعية المتاحة للعلاج.

سابعاً‏: ‏تحديد‏ ‏مؤشرات‏ ‏قياس‏ ‏التقدم:

يستحسن – ما أمكن ذلك – تحديد مؤشرات التقدم وليس الاكتفاء باختفاء الأعراض، وكذلك تحديد الأهداف المتوسطة ومحكات القياس، ‏وحسابات‏ ‏المراجعة‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تغير‏ ‏التشخيص‏ ‏أو تعدل مسار‏ ‏العلاج

ثامناً‏: ‏تحديد‏ ‏الهدف‏ ‏النهائى:

 ‏إذا أمكن ذلك (وبالنسبة للطبنفسى الإيقاعحيوى)، فإنه يكاد لا يكون هناك هدف نهائى حسب مبدأ “دوامية النمو”.

….

….

وبعد

أرجو أن أكون بذلك قد ملأت الفراغ الذى نتج عند خلخلة التسلسل، وإذا كان الغرض فى البداية والنهاية هو العلاج فإنه يمكن إعادة ترتيب الأولويات لما ننهى به المقابلة الإكلينيكية بعد كل ما سبق فيما يتعلق بالعلاج على الوجه التالى:

أولاً : الصياغة التركيبية النفسمراضية (قراءة المخ والأمخاخ البشرية وعلاقاتها) “هنا والآن”.

ثانياً : الصياغة الوصفية (النشرة الحالية) .

ثالثاً : الموجز (ويشمل إشارة إلى الاستقصاءات) .

رابعاً : الصياغة السببية النفسمراضية (المرتبطة عادة ولو جزئيا بنظرية من النظريات النفسية).

خامساً : التشخيص (بما يشمل التشخيص الفارقى)

………….

وهكذا

نلاحظ، باحترام شديد، أين يقع التشخيص الذى أخذ أكثر من حقه فى برمجه عقول الممارسيين حتى كاد يصبح معيقا، خاصة لو حل من محل كل ما سبقه.

[1] – Reactive & Situational Disorders

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *