الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الطبنفسى الإيقاعحيوى (114) Biorhythmic Psychiatry استكمال عناصر المقابلة الإكلينيكية (45) الشخصية قبل المرض

الطبنفسى الإيقاعحيوى (114) Biorhythmic Psychiatry استكمال عناصر المقابلة الإكلينيكية (45) الشخصية قبل المرض

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 22-10-2016

السنة العاشرة

العدد: 3340 

الطبنفسى الإيقاعحيوى (114)

 Biorhythmic Psychiatry

استكمال  عناصر المقابلة الإكلينيكية (45)

الشخصية قبل المرض

مقدمة:

ونحن على أبواب استكمال مناقشة فقرات المقابلة الإكلينيكية، وجدت أنه قد يكون من المفيد أن نذكر الأصدقاء ببعض معالم المنهج الذى نتبعه منذ بدأنا عرض هذا المدخل، فأشير معتذرا عن التكرار إلى ما جاء فى أول هذه النشرات عن هذا الموضوع بتاريخ (الأثنين: 25-4-2016  العدد: 3160 ) وكيف أننى اعتبرت أى مقابلة إكلينيكية، ولو اقتصرت على كتابة المشاهدة الأولية (Sheet) بمثابة بحث علمى كامل، يجريه الفاحص بمهارة فنية، حتى عنونت المقابلة باسمبحث علمى بمهارة فنية”، وقد بينت فى هذه البداية ما أعنى بذلك، قائلا (مع تعديل طفيف):

“….. نعتبر أن‏ ‏المقابلة‏ ‏الإكلينيكية‏ ‏‏بمثابة‏ ‏بحث‏ ‏علمى  وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏، ‏فإن‏ ‏عملية‏ ‏إجراء‏ ‏المقابلة‏ ‏ليست‏ ‏إلا‏ ‏مهارة‏ ‏فنّية‏ ‏خاصة‏ ‏تماما، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏جمع‏ ‏المعلومات‏ ‏اللازمة‏، ‏ثم‏ ‏تنظيمها هو ضمن المنهج العلمى، لكن القيام بإعادة تشكيلها‏ ‏حسب‏ ‏الأولويات‏ ‏المناسبة‏ ‏فى ‏إطار‏ ‏الهدف‏ ‏الخاص‏ ‏بكل‏ ‏مقابلة‏ ‏على ‏حدة‏، ومن ثم لخدمة الخطة العلاجية ‏هو‏ ‏من‏ ‏أدق‏ ‏المهارات‏ ‏الفنيّة‏ ‏التى ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏دراية‏ ‏وتدريب”.

من هذا المنطلق نعود إلى  التأكيد على أن ما يميز المقابلة الإكلينيكية بهذه الصفات هو أن نتعامل مع كل مريض على أنه فريد (ليس كمثله آخر)، كما نتعامل مع الصحة النفسية على أنها متعددة المستويات، وبالتالى تختلف من كل فرد إلى الأخر حسب مرحلة نموه، ومستوى وآليات توازنه (أنظر مستويات الصحة النفسية نشرة 20/1/2008 )، من هنا وجب التعرف على موقع المريض ليس فقط حالة كونه مستشيرا الآن، وإنما من خلال التعرف على موقعه قبل المرض، وبالذات قبيل الاستشارة، وربما أمكن الحكم على أى مستوى كان يتمتع بما يسمى “الصحة النفسية” التى هى – من منطلق الطبنفسى الإيقاعحيوى – ليست مرادفة تماما لما هى “العادية”، ثم إن المقارنة بين “الشخصية قبل المرض”، وبين ما آل إليه الحال بعد ما طرأ عليه ما يستدعى الاستشارة هى التى سوف تحكم على مدى، وأحيانا على نوع،  مرضه، والأهم هى التى سوف تسهم بأكبر قدر فى رسم (ولا أقول تحديد) نفسامراضيته (1) ، ومن ثم علاجه.

الفقرة التالية فى المقابلة التى سنعرضها فى نشرة اليوم هى عن “الشخصية قبل المرض”:

نبدأ بإعادة عرض الشكل التوضيحى الذى عرضناه فى بداية مدخلنا إلى المقابلة الإكلينيكية ليبين ضرورة الالتزام بارتباط كل حالة بنفسها طولا أولا، وهذا له أهمية خاصة فى العلاج الهادف إلى فهم معنى المرض والأعراض، الذى هو صلب الطبنفسى الإيقاعحيوى، وأيضا فى التشخيص حتى لو أتى فى المرتبة الثانية، من حيث أن الفاحص سوف يتمكن من تقرير ما إذا كان هذا الذى دعى المستشير للاستشارة هو من سمات شخصيته قبل المرض لكنه زاد عن الحد اللازم للتكيف أو لقبول الذات، أم أنه علامة على تغيُّرٌ نوعىٌّ له معالمه التى تهدينا إلى تقييم ما سوف نصل إليه من خلال فحص ما آل إليه الآن؟

22-10-2016_1

وتسمى دراسة الشخصية قبل المرض: الدراسة المستعرضة الأولى وهى تهدف إلى التعرف على سمات وطباع وشخصية المريض قبل ظهور ما يسمى المرض بفترة مناسبة ، ليست أقل من اسابيع، حتى يمكن التحقق مما طرأ على المريض من تغيّر (هو الباعث إلى الاستشارة غالبا) وذلك من خلال المقارنة بالدراسة المستعرضة الثانية (المسماة فى الشكل: الحالة العقلية الراهنة Present Mental State وتشمل وصف الأعراض (2) وكثير من التفاصيل الماثلة “الآن” (أى وقت الفحص) ويمتد هذا “الآن” إلى شهر كاملَ من تاريخ الفحص (وأحيانا أكثر فى الأمراض المزمنة طبعا)

ثم دعونا ننطلق كما اعتدنا من المتن السابق (1986)

المتن:

 للتعرف‏ ‏على ‏الشخصية‏ ‏قبل‏ ‏المرض‏ ‏يستحسن‏ ‏أن‏ نحدد فترة زمنية محددة  ندرس فيها سمات وعادات وسلوكيات المريض أثناءها  ‏ ‏قبل‏ ‏بداية‏ ‏المرض‏ ، كما يستحسن أن تكون هذه الفترة سابقة للمرض الصريح بدرجة كافية ، ‏حتى ‏لا‏ ‏تختلط‏ ‏الأمور‏ (ستة‏ ‏أشهر‏ ‏إلى ‏سنة‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يمرض المريض‏ ‏أصلا‏) ‏ثم‏ ‏يُسأل‏ ‏عن‏ ‏الصفات‏ ‏العامة‏ ‏التى ‏كانت شخصية المريض تتميز بها ‏ فى هذه الفترة (وعموما طبعا) من حيث ‏:  ‏العلاقات‏، ‏وعدد‏ ‏الأصدقاء‏،

‏والاهتمامات‏ (‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏الاهتمامات‏ ‏الأدبية‏ ‏والدينية‏) ‏والهوايات‏، ‏و‏ ‏كمّ‏ ‏الطاقة‏ ‏الحيوية‏ ‏ومسار‏ ‏انطلاقها‏ ‏فى ‏أى ‏أنواع‏ ‏السلوك‏، ‏ونوع‏ ‏وموضوعات‏ ‏النشاط‏ ‏العقلى ‏والعادات‏ ‏والسمات‏ ‏الخاصة‏.

وتفصيل‏ ‏مناطق‏ ‏البحث‏ ‏والاستقصاء‏ ‏تشمل ما  ‏يلى:‏

(تابع نفس) المتن:

(أولا: ‏العلاقات‏ ‏الاجتماعية‏ (‏البينشخصية‏):  ‏وتشمل‏ ‏العلاقات‏ ‏داخل‏ ‏الأسرة‏، ‏وفى ‏العمل‏، ‏وخارج‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ (‏الأصد‏ ‏قاء‏)، ‏وتوصف‏ ‏فيها‏ ‏درجة‏ ‏الحميمية‏، ‏وطول‏ ‏العلاقة‏، ‏والتفاعل‏ ‏للهجر‏ ‏أو‏ ‏الصد‏ ‏أو‏ ‏الخلاف‏. ‏ثم‏ ‏موقع‏ ‏الشخص‏ ‏فى ‏الجماعة‏ (‏قائد‏، ‏تابع‏، ‏مهرج‏، ‏متنحي‏..‏إلخ‏).‏

التحديث:

22-10-2016_2-3

من واقع الممارسة طولا لأكثر من ثلاثين عاما ما بين كتابة هذا المتن وبين ما أمارسه وأرصده وأتعلم منه حتى الآن (2016)، اختلفت أنواع العلاقات الاجتماعية بالذات نتيجة لدخول عامل تواصُلِى جديد – له وعليه – وذلك بعد قفزة تكنولوجيا التواصل وظهور ما يسمى مواقع التواصل الاجتماعى (الفيسبوك وغيره)، وخصوصا أن  استعمال هذه التقنيات الأحدث لم يعد  قاصرا على الكبار،  بل امتد إلى كل الأعمار، وأيضا لم يعد قاصرا على قضاء المصالح وتسهيل الإداريات وتشهيل المهام، أو حتى النقد السياسى أو التهييج العشوائى، وإنما امتد ليحل محل التواصل البشرى المباشر على كل المستويات، حتى كادت تتوارى قنوان التواصل وجها لوجه  <=> “وعيا لوعى”، وحين يبدأ مثل ذلك منذ الطفولة، علينا – خصوصا من وجهة نظر الطبنفسى التطورى – أن نرصد خطورة إحلال هذا النزوع محل آليات البقاء التواصلية التى وضعها خالق كل شىء فى كل

 حى استطاع أن يبقى!! وبرغم ما لهذه الخطوة من بعض الإيجابيات فى مجالات الإعلام والسياسة وربما الانتاج بما لا يمكن إنكاره،إلا أنها بالنسبة لمهمة الطبيب النفسى عامة والطبنفسى الإيقاعحيوى خاصة أصبحت مسألة جوهرية تحتاج إلى وقفة ونقد ومراجعة، وخاصة فى مجتمعاتنا المخلخلة “بالتقادم” أو “بفعل فاعل” حيث أصبحت هذه الثورة التواصلية مصدرا لكثير من السلبيات المتعلقة بالمرض النفسى مباشرة، وليس فقط بما يسمى  إدمان النت” أو إدمان الفيسبوك،

22-10-2016_4-5

ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:

أ) أصبحت الأسرة تجتمع “فى المكان” أكثر من اجتماعها فى المعاملات أو الحوار أو النقد أو المشورة أو التوجيه أو حتى اللعب معا، ولو لألعاب التسلية فلم يعد ثم وقت باق بعد أن ابتلعته هذه الآليات!

ب) كاد البعض يستغنى عن السعى لعمل علاقة حقيقية فيها كل روعة وصعوبة العلاقات الإنسانية النمائية، باستسهال إحلال آلات التواصل – حتى دون تواصل – محل البشر اللازمين لنموه وأنسنته واستمراره إلى ما بعده!!

جـ) أصبحت الصداقات التى تتم عبر قتوات التواصل الاجتماعى التقنى هذه أسهل وأجهز، لكنها ليست إلا تواصلا عن بعد وبالألفاظ (الكلام أو الكتابة أو كليهما) مع إغفال كل قنوات التواصل الأخرى بالوعى المتبادل والوجدان المشارك والمعية المباشرة.

 راحت حركية النمو وإعادة النمو من خلال دورات نمو العلاقات المتجددة (حسب تنظيرات الإيقاعحيوى المستمر) تسير تحت رحمة وبتوجيه مباشر لتحريكات غامضة، تكاد تفرض ثقافة تجزيئية أغلبها مستورد، هذه الآليات من حيث المبدأ قد وسعت من احتمالات فرص التواصل بين دوائر وعى أوسع فأوسع من البشر، إلا أنها فى الوقت نفسه راحت تغرى بتواصلات يصعب ربطها ببرامج بقائية صحية مؤكدة الإيجابية، ولكن مازال هذا الأمل قائما لكنه يحتاج إلى جهود عملاقة لتخليق وعى إنسانى جديد فى مواجهة النظام الاغترابى التكاثرى المسمى النظام العالمى الجديد، لكن حاليا، وفى حدود ما نمى إلى علمى من الممارسة وغيرها، أكاد أجزم أنه لا يمكن ضمان حجم وتأثير القوى الأكثر اغترابا وبالتالى الأكثر إمراضية لإساءة استعمال هذه الإنجازات المفروض أنها تقدمية ورائعة، الأمر الذى لا يمكن تجاهله وخاصة أن تأثيراته من ناحية هى تأثيرات خفية، ومن ناحية أخرى فإن تقييم نتائجها السلبية مؤجل عادة.

وبعـد

اعتدنا فى الفحص التقليدى أن نصنـِّف “الشخصية قبل المرض” إلى نوع محدد من الشخصيات العادية، مثل الشخصية الانطوائية، أوالشخصية  الشيزيدية، أو الشخصية الوسواسية، أو الشخصية البارنوية، وهذا توجّه مفيد، ولكن الاقتصار عليه يختزل ما نبحث عنه تفصيلا للتخطيط والعلاج، كما ينبغي التنبيه على أن مجرد ذكر هذه الصفة أو تلك، لا يعنى اضطرابا فى الشخصية، فالشخصية البارنوية، غير اضطراب الشخصية البارانوية، والشخصية الوسوساسية  غير اضطراب الشخصية الوسواسية، ولابد من إضافة كلمة “اضطراب” إذا كنا نعنى نوعا مرضيا يدل على تمادى صفات هذه السمات فى شخصية ما إلى درجة الإضرار أو الإعاقة كما سيأتى ذكره مع فصل اضطرابات الشخصية

لكل ذلك قدرت ألا أشير إلى مثل هذا التصنيف تحديدا أثناء وصف “الشخصية قبل المرض” تجنبا للاستسهلال، وخشية من الخلط، وأن أركز على الحصول على معلومات تفصيلية تحت البنود الأقرب للتوصيف العام دون تحديد نوع بذاته، وعموما فإن أمكن الوصول إلى تصنيف عام (مثل إنطوائى – انبساطى مثلا)، أو تصنيف مزاجى خاص (مثل: شكاك متوجس، متجنب، منسحب، متشائم، نكدى.: إلخ) فيمكن أن يثبت هذا التوصيف دون أن نجزم بنوع بذاته لأنه قد لا يمكن عادة الوصول إلى نوع منفرد مستبعدا لما دونه.

والآن

دعونى أختم اليوم وأنا أتصور أنه على الطبيب النفسى (الإيقاعحيوى خاصة) أن يكون أكثر وعيا من مجرد طبيب يطبق ما قرأه فى كتب الطب، فلديه فرصة أن يتسع أفقه ويشحذ وعيه فتزيد مسئوليته وهو يطلع – مثل المبدع والمجنون – على انذارات التدهور باكرا، فيكون عليه أن يقوم بالإسهام  بكل دقيقة وفى كل مجال للحيلولة دونها، أو على الأقل بالقيام بإطلاق صفارات الإنذار لمن هو أقدر وأجهز للإسهام فى ذلك من كل حدب وصوب.

[1] – Psychopathology

[2] – كما جاءت فى ملقات الافتراضات الأساسية وتحت عنوان “اضطرابات الوظيفة الفلانية: مثلا ضطرابات الإدراك، اضطرابات التفكير.، اضطرابات الوجدان …..الخ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *