الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الطبنفسى الإيقاعحيوى (102) Biorhythmic Psychiatry مازالنا فى المقابلة الإكلينيكية (35) حركية التطور إلى إبداع الإيمان (2)

الطبنفسى الإيقاعحيوى (102) Biorhythmic Psychiatry مازالنا فى المقابلة الإكلينيكية (35) حركية التطور إلى إبداع الإيمان (2)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت24-9-2016

السنة العاشرة

العدد:  3312

الطبنفسى الإيقاعحيوى (102)

 Biorhythmic Psychiatry

مازالنا فى المقابلة الإكلينيكية (35)

حركية التطور إلى إبداع الإيمان (2)

مقدمة:

فى نشرة الإثنين الماضى قدمنا المتن الذى كان بعنوان “تاريخ التدين”، ولم أقم بتحديثه مباشرة كما اعتدت، وفضلت أن أقدم خلفية لموقفى الذى يصبغ كل أعمالى وفكرى عبر ما نشرتُ فى هذه النشرة خلال عشر سنوات، بل ربما عبر ما نشرت طول عمرى بما فى ذالك أعمالى النقدية والإبداعية، ولا أجد فى نفسى رغبة أن أعيد نشر المتن الذى سبق نشره، وفى نفس الوقت أوصى الجاد فى المتابعة أن يعيد قراءة النشرة السابقة كلها “حركية التطور إلى إبداع الإيمان (1)” .

التحديث

الفرق بين التدين و الدين والإيمان

عنوان الفقرة فى المتن هو “تاريخ التدين”(1) والمقصود بذلك هو السؤال عن علاقة المريض بالدين من بداية ما وصله من “معلومات” و”تعليمات” عن دينه وما يتبع ذلك من ممارسات وإلى درجة أقل من معتقدات، وكيف استقبل هذه المعلومات، وأيضا كيف انتظم على تلك التعليمات، وكيف تغيرت علاقته بهذا وذاك بصفة عامة، ثم بصفة خاصة بعد أن حدث له ما دعاه للاستشارة باعتباره مريضا نفسيا، هذا باختصار ما بلغنى مما جاء فى متن هذه الفقرة، وهى أمور مهمة ، ولها دلالات متعددة ، ليس من أهمها الحكم على المريض بأنه ملتزم دينيا ومدى ذلك إن وجد، فهذه ليست وظيفة الطبيب لكن بصفة عامة فإن هذا السلوك التدينى – فى مجتمعنا خاصة – له مستوياته ودلالاته المختلفة حسب الثقافات الفرعية المتعددة، وحسب مدى تدين الأسرة، وخاصة الوالدين، ونوعه، وكل هذا يعامله الفاحص على أنه سلوك واجب الرصد، وقد يشير تاريخ التدين– أو كان يشير – إلى مدى الانتماء إلى بعض القيم الأخلاقية والإنسانية التى يعرضها، أو يفرضهاهذا النوع من التدين أو ذاك.

النقطة الثانية المهمة أيضا التى وردت فى هذه الفقرة هى عن التغيرات التى طرأت على علاقة المريض (المستشير) بهذا كله، سواء التعليمات أو المعتقدات، وكيف تطورت، وخاصة فيما يتعلق ببعض المراجعات أوالتساؤلات التى قد تبدأ منذ الطفولة حسب درجة السماح المتاحة فى الأسرة أو المدرسة، وتَحْتـَدّ فى فترة المراهقة، حتى تصل أحيانا إلى درجة الوسواس، ثم تتراجع أو تختفى مع استمرار التعود، وغلبة الميكانزمات العادية الضرورية، والتعرف على كل هذا يعتبر من العلامات المساعدة على التعرف على معالم سمات شخصية المريض، مما قد يفيد ليس فقط فى تشخصيه، وإنما أيضا فى تخطيط العلاقة معه، وعلاجه.

أما إذا عدنا إلى ما يميز الطبنفسى الإيقاعحيوى، فإن الأمر  يختلف، مهما بدا الظاهر واحدا، إن الطب النفسى الإيقاعحيوى، وهو ليس مرادفا للطبنفسى التطورى (أنظر نشرة 9/2/2016)  إنما يستحضر تاريخ التطور كله فى “هنا والآن“، وإذا كانت نظرية تشارلز داروين  قد تم التحفظ عليها من بعض العلماء وكل المتدنين التقليدين فإن نظرية الاستعادة لإرنست هيكل (2) قد تم دحضها من معظم العلماء وبلا رحمة، ومع ذلك فإن هذه وتلك: كانتا نقطة انطلاقى إلى الطبنفسى الإيقاعحيوى الذى  يستلهم كلاًّ من نظرية التطور ونظرية الاستعادة معا، لكنه لا يتوقف عندهما ولا يتراجع أمام حدة نقدهما.

الطبنفسى الإيقاعحيوى يحضّر التطور كله من خلال التأكيد على أن حركية الإيقاعحيوى الإيجابية هى الأساس النيوروبيولوجى الذى يُمكـِّن المخ من إعادة بناء نفسه باستمرار، ولفظ “باستمرار” هنا إنما يعنى دوام الاستعادة الخلاَّقة  ولا يكتفى بالتأكيد على الدوام فحسب، من هنا يمكن معايشة احتمال استعادة كل تاريخ التطور فى “هنا والآن” أثناء العلاج الجمعى خاصة، مما يبدو  مستحيلا حتى على مجرّد التخيل.

انطلاقا من ذلك، وبالنسبة لى: بفضل العلاج الجمعى عشرات السنين عاما بعد عام،  أمكن الربط بين دوائر الوعى الذاتى والبينشخصى فالجمْعى فالجمَاعى فالكوْنى فالمِجَرىِّ فالمُطلق اللامتناهى فى بؤرة ما هو “هنا والآن” حتى كاد ذلك، أقول كاد ذلك، يقربنا من الحضور الآنى والحقيقى والدائم والظاهر والباطن والقابض والباسط لخالق كل هذه القوانين والنظريات فى “هنا والآن” معنا فاعلا موضوعيا مُعينا طول الوقت.

استلهاما من ثقافتنا الخاصة أمكن معايشة هذا الحضور باعتباره “العامل العلاجى” الأساسى فى العلاج الجمعى (ثم فى كل العلاجات بشروط مختلفة) كما أمكن الاعتماد دون أى اغتراب أو ميتافيزيقا (تقليدية) على هذا العامل العلاجى بدرجات متقاربة من الوعى، وحضرت المقولة الشعبية أن “الله هو الشافى” والنص الإلهى “وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ”(3) حضورا موضوعيا عيانيا دون أى اغتراب أو تأجيل، وكذا كان يحيط بنا معنى الحديث الشريف “اجتمعا عليه وافترقا عليه”.

على هذا الأساس مع اختلاف المواقف والوسط والتوقيت والمدة أمكن تبين هذا “العامل العلاجى” المتمثل فى تواصل مستويات الوعى من “هنا والآن” إلى غايتها الممتدة وعايشنا كيف أن هذا الـــ “هنا والآن” يتجدد باستمرار، وكيف أن الجدل والإبداع يتواصلان فى نبض دائم إليه.

فى العلاج الجماعى خاصة وبناء على الفروض التطورية والتى سيرد ذكرها – وعلى حقائق نيوروبيولوجية أحدث فأحدث تُعطى لأجزاء الثوانى قيمتها، وهكذا تجرى مواكبة قدرة المخ على إعادة بناء نفسه ونحن نعايش  نفس العامل العلاجى الإيمانى دون ذكره بهذا الاسم غالبا فى مسارات هذه العلاجات كلها تقريبا (4).

من كل ذلك رجَّحت أن المقابلة الإكلينيكية التى تنبع من هذا المنطلق تعتمد على تنمية خبرة تنشيط مستويات الوعى الآنى للطبيب (الفاحص المعالج) فى مواجهة نشاط حركية وعى مستويات وعى المريض، وان البداية تنعبث من محاولة إشراك او السماح باشتراك ، أو العمل على اشتراك : مستويات الوعى بعضها ببعض وهى تـُـشكـِّلُ الوعى الجمعى المركزى حول بؤرة الوعى الإيمانية التى تمثل خلفية مهمة فى حضور الفاحص مع مريضه ومرضاه، لتنشيط الجدل الخلاق المتمادي إليه أبداً.

بعد كل ذلك أكرر أننى لا أطلب من الطبيب (الفاحص) المنتمى (أو المتدرب الذى يريد أن ينتمى) إلى تقنية الطبنفسى الإيقاعحيوى أن يستحضر أيا من ذلك فى تقكيره أو أثناء ممارسته، بقدر ما أرجو له، ومنه، أن يسمح أن يتضمن إطاره المعرفى حضور هذه الفروض بأى درجة فى وعيه المسئول مهنيا وإبداعيا وإنسانيا وتطوريا، (وإيمانيا: إن وصلته الرسالة دون اختزال)

من هنا تختلف روح المقابلة الإكلينكية فى الطبنفسي الإيقاعحيوى، وتُطبع ببعض خطوط أساسية قديمة/جديدة/متجددة من أهمها:

 أولا: إن الطبيب (والمعالج) ليس له هدف إلا علاج المرضى

ثانيأ: إن الطبيب ليس مجرد عالِم يطبق نتائج نظريات علمية ثابتة مقننة كميا (أو مزعوم بأنها كذلك).

ثالثا: إن الطبيب يتعامل مع “الظاهرة البشرية” كما خلقها بارؤها، وقد أصابها ما أعاقها أو شوهها أو انحرف بها إلى غير غايتها الطبيعية، وهو لا يتعامل مع مجموعة أعراض أو أسماء أمراض فحسب.

رابعا: إن الطبيب النفسى يمارس مهنته من خلال تنشيط مستويات وعيه – دون قصد إرادى ولكن بمجرد انتمائه إلى الحياة كما وهبنا الله إياها – للمشاركة فى إعادة بناء ما اهتز أو تخلخل أو تشوه فى الظاهرة البشرية التى يتصدى لمساعدتها، وليس فقط من خلال تسجيل ملاحظاته والربط بين مفردات  ما جمع خطيا.

خامسا: إن الطبيعة البشرية الآنـيَّـة ليست منفصلة عن الطبيعة التاريخية (التطور)، ولا عن الطبيعة الكونية الممتدة، ولا عن الطبيعة الإبداعية المتخَلّقة من خلال جدل مستويات النمو (الإبداع) المضطردة

سادسا: إن دوائر توازن الوجود، بدءًا بذكاء المادّة(5)، إلى مطلق تناغم حركية تخليق إبداع الوعى المتنامى، مرورا بالعقل الوجدانى الاعتمالى (6)،  إلى الغيب،  متواصلة بعضها مع بعض بقوانين قد لا يثبتها إلا استمرار الأحياء فى الكون دون فناء بفضل خالقها حتى الآن!!

سابعا: إن هذا يتواصل بإيقاع تناسقى دائم سواءً وصل ذلك إلى تسميته بمصطلحات لفظية، أو علمية، أو دينية ، أو لم  يصل (كما هو الحال عند سائر كل شىء).

ثامنا: إن مظاهر هذا الهارمونى المتوازن والممتد لا تحتاج إلى إثبات من خارجها، وهى لا تُنْكِرُ أىَّ حضورٍ فوقىٍّ مسئول عن دوامها واضطرادها، ولا تتنكر له (7). بل تستعين به وتتواصل معه وتتوجه إليه.

تاسعا: إن كل ما هو دون الإنسان، وغير الإنسان يمارِسُ كلَّ هذا، دون دراية ظاهرة، ودون أن يسميه تدينا أو إيمانا أو إبداعا (كما سنفصِّل فيما بعد).

عاشرا: إن النتائج العملية التى تقاس بمقاييس النمو والتطور والإبداع، بما فى ذلك استيعاب برامج البقاء إلى تنشيط حركية الإبداع نحو تخليق الإيمان هى التى يمكن أن تدعم هذه الفروض بتصاعد تدريجى.

وهكذا:

أتوقف فى هذه المرحلة خشية أن أُسْتَدْرَج إلى قضايا لاهوتية قد تعطل مهمتى الأصلية فى تقديم ما وصلنى من واقع الممارسة وواقع العلاج، وأكتفى بتقديم إشارات محدودة تعفينى من النقاش حول ما لا أتقنه ولا أريد العروج إليه، ومن ذلك:

■      إن كل ذلك يجرى بقوانين وبرامج بقائية وحياتية وإبداعية أصيلة وسرمدية وقادرة. 

■      إن هذه البرامج قد خلقها ونظـَّمها وأبقاها رب العالمين: خالق كل هذا وبديُعه وحافظه

■      ومن بين ذلك برامج  البقاء والنمو والإبداع، (ومنها) برامج الإيقاعحيوى المستمر

■      وإن معايشة هذه البرامج ، والإسهام في الحفاظ عليها، هو حمْل أمانتها بحقها

■      وإن “الإيمان”، هو الإسهام البشرى لمواصلة حركية وتوازن إبداع كل ذلك.

■      وإن كل الأديان التى لم تتشوَّه أو تـُقـَزَّم تـُسهم فى تنشيط كل ذلك إليه (كلٌّ بلغته):

■      ليس كمثله شىء، وهو السميع البصير

وبعد

من كل هذا يصبح مجرد الحصول على تاريخ التدين هو بداية لا تنسينا أن الدين عند المريض هو مجرد بداية لها دلالتها السلوكية، وأنه فى عمق وظيفته إنما يقوم هى بتسهيل السعى إلى إبداع هذه التشكيلات المتضفرة بين مستويات وعيه وبعضها، وبين ما يقابلها عند سائر البشر الأقرب فالأقرب، وأنه حين يتوَجّه أو يُوجَّه إلى تفعيل دوره مشاركا فاعلا  إلى كل ما سبق، إنما يمارس حمل أمانة  الإيمان وما يعنى  من تواصل السعى، ومواصلة تحقيق التوازن والحفاظ عليه

هذه هى البنية الأساسية التى  يمارَسُ فيها هذا النوع من الطبنفسى المسمى “الإيقاعحيوى”.

[1] الأصل باإنجليزية هو religious history وترجمته الحرفية ينبغي أن تكون “التاريخ الدينى”، وليس “تاريخ التدين”،  لكن يبدو أنه قد وصلنى من قديم  بوضوح أقل من الآن:  أننا فى استقصاء علاقة المريض بالدين لا نستقصى التاريخ الدينى ، وإنما تاريخ التدين، فجاءت الترجمة التقريبية أقرب إلى ما ورد فى الفقرة .

[2] – Recapitulation Theory

[3] –  للمرة الألف: ليس تفسيرا علميا للقرآن للمرة الألف لو سمحتم

[4]  – حرصا على تجنب سوء الفهم وتخوفا من تداخل المفاهيم

[5] – أنظر نشرة: عن النظام التساهمى من ذكاء المادة إلى مطلق الهارمونى نحو “الغيب”، وعلاقته بالعامل العلاجى فى العلاج الجمعى، وثقافتنا الخاصة (نشرة 27-8-2016)

[6] – Emotionally Processing Mind

[7] –  كما يصل بعض إلى المتدينين التقليدين على إلصاق الأفكار بمن  لم ينكر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *