الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / أصداء الأصداء: الدراسة الجامعة (1) الطفولة نبضٌ وتجدد باستمرار..”4″ جدل الذوات الداخلية على مسار النمو وتجاوز التحليل النفسى الكلاسى

أصداء الأصداء: الدراسة الجامعة (1) الطفولة نبضٌ وتجدد باستمرار..”4″ جدل الذوات الداخلية على مسار النمو وتجاوز التحليل النفسى الكلاسى

نشرة “الإنسان والتطور”

 الخميس:22 -9-2016

السنة العاشرة          

العدد: 3310

 

naguib-mahfouz-%d9%90%d9%90%d9%90asdaa

أصداء الأصداء:

الدراسة الجامعة (1)

الطفولة نبضٌ وتجدد باستمرار..”4″

الحلقة الرابعة من الفصل الأول:

جدل الذوات الداخلية على مسار النمو

وتجاوز التحليل النفسى الكلاسى

مقدمة:

مازلنا نتعلم ماهية الطفولة “فينا الآن” من أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ، وهذه هى الحلقة الرابعة من الفصل الأول من الدراسة النقدية الجامعة بعد أن قمت بدراسة الأصداء فقرة فقرة فى عمل سابق بعنوان “أصداء الأصداء”(1)، وهذا الفصل هو تحديث للفصل الأخير الذى صدر كمحاولة أولى ملحقا بالدراسة التشريحية . 

‏(12) ‏طفل ‏محفوظ ‏يقفز‏ ‏من‏ ‏تحت‏ ‏عباءة‏ ‏الشيخ‏ ‏عبد‏ ‏ربه‏:‏

راح طفل محفوظ ‏يعلن‏ ‏ماهية‏ “‏‏الحقيقة” ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يظهر‏ ‏الشيخ‏ ‏عبد‏ ‏ربه،‏ وذلك فى فقرة “116” “سيدتى الحقيقة”، وهى تبدأ “عرفت منازل الحقيقة فى عصر الفطرة“…. والفقرة تنتهى بهذه الحركة النابضة “نعم الرفيق الشغف والمنازل“!!، ‏ولم يستطع الشيخ عبد ربه أن يُحِلّ طفله محل طفل الفطرة تماما مع أنها كانت مرحلة لاحقة بين الطفولة والصبا، وحلت البسملة محل طشت الغسيل وحلت القبلة وقطعة الملبن محل وجه القمر، وحل الجمال الأقرب محل الحقيقة الأصل، فانقلبت “سيدتى الحقيقة” إلى “سيدتى الجميلة‏” فقرة (135).

 ‏قدرتٌ‏ ‏أنه‏:‏ بالرغم‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏محفوظا‏ ‏ارتضى ‏أن‏ ‏يعطى ‏الشيخ‏ ‏عبد‏ ‏ربه‏ ‏القيادة‏ فى الجزء الثانى من الأصداء، ‏فإنه‏ ‏لم‏ ‏يستسلم‏ ‏له‏ ‏تماما‏، ‏فما‏ ‏لبث‏ ‏أن‏ ‏قفز‏ ‏طفله‏ ‏صريحا‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الفقرة‏، ‏فإذا‏ ‏بالشيخ‏ ‏يعلنها‏ ‏مباشرة‏:‏

‏”…وفجأة‏ ‏تختفى ‏هذه‏ ‏السيدة‏ ‏الجميلة‏، ‏وحين‏ ‏يـسأل‏ ‏أمه‏ ‏عنها‏ ‏تندهش‏ ‏كما‏ ‏يندهش‏ ‏أبوه”‏،

 ‏وباختفائها‏ ‏يختفى ‏الطفل المحفوظى الذى سرق اللقطة من طفل عبد ربه‏، ‏ولكن‏ ‏محفوظ‏ ‏يلحقنا‏ ‏بكل‏ ‏إصرار‏ ‏ليقول‏ ‏إنه‏ ‏ليس‏ ‏اختفاء‏ ‏دائما‏، ‏بل‏ ‏هو‏ ‏تفعيل‏ ‏المواجهة‏ ‏التركيبية‏ ‏بين‏ ‏الذات‏ ‏الطفلية ‏والذات‏ ‏الوالدية‏، على مسار النمو، ‏وهى ‏المرحلة‏ ‏التى ‏يترتب‏ ‏على الجدل فيها‏ ‏أن‏ ‏تحل‏ ‏الكآبة‏ ‏المُنْضِجَة‏ ‏محل‏ ‏الخيال‏ ‏الجامح‏،‏إن‏ ‏الطفل‏ ‏فى هذه المرحلة يكمُنُ‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يتراجع‏، ‏فتظل‏ ‏الكآبة‏ ‏كامنة‏، ‏لكنها‏ ‏فاعلة‏، ‏فى ‏الأعماق‏ حتى: ‏”هلت‏ ‏ليالى ‏القمر”، ‏وقد‏ ‏ذهبت‏ ‏فى ‏القراءة‏ ‏التشريحية‏ ‏إلى ‏تفسير‏ ‏ذلك‏ ‏كالتالى:‏

“…. ‏استقبلت‏ ” ‏ليالى ‏القمر‏ ‏وهى ‏تهـــل‏ ‏داخلة‏ ‏كإعلان‏ ‏رائع‏ ‏لنجاح‏ ‏تمثل‏ ‏خبرات‏ ‏الطفولة‏ ‏بعد‏ ‏جرعة‏ ‏من‏ ‏التأجيل‏ ‏الواجب‏، ‏بمعنى ‏أنه‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏كبت‏ “‏الطفل‏” ‏خياله‏ ‏استجابةً‏ ‏لرعب‏ٍ ٍ (‏وقمع‏) ‏الوالد‏، ‏حبس‏ “‏الطفل‏” ‏خياله‏ ‏طويلا‏ ‏حتى ‏تـَمَثَّلَهُ‏ ‏فأشرق‏ ‏به‏ ‏ومعه‏، ‏ولولا‏ ‏ذلك‏ ‏الفرض‏، ‏لظل‏ ‏طفلا‏ ‏دون‏ ‏كآبة‏ ‏كامنة‏، ‏وأيضا‏ ‏لما‏ ‏هلت‏ ‏ليالى ‏القمر‏ ‏داخله‏ ‏تضئ‏: ‏له،‏ ‏وبه”.‏

أما حين كان الطفل طفلا فطرة خالصة، لم تختف الحقيقة حتى وراء جدار القبر، ولم تهل ليالى القمر بل كان الطفل هو الذى يمد يده فى الفضاء ليقبض على وجه القمر لتنتهى الفقرة الباكرة (116: “سيدتى الحقيقة”: هكذا:)

“عندما‏ ‏نزور‏ ‏القبر‏ ‏فى ‏المواسم‏ ‏أركز‏ ‏عينى ‏على ‏جداره‏ ‏لأرى. ‏نعم‏ ‏الرفيق‏ ‏الشغف‏ ‏والمنازل‏.”‏

أجد‏ ‏لزاما‏ ‏علىّ ‏هنا‏ ‏أن‏ ‏أضيف‏ ‏إضافة‏ (‏علمية‏) ‏لا‏ ‏غنى ‏عنها‏ ‏لمن‏ ‏لم‏ ‏يعتد‏ ‏لغة‏ ‏التفسير‏ ‏التركيبى ‏للأحوال‏ ‏والمراحل‏ ‏النفسية‏، ‏وبالذات‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بتجليات‏ ‏وكمون‏ ‏ما‏ ‏هو‏ “‏كآبة” إيجابية، وذلك من منطلق تركيبى نفسى، وليس تحليلنفسِى:

إن‏ ‏قراءة الذات البشرية‏ ‏من‏ ‏منطلق‏ ‏تركيبى نمائى: ‏يرتكز‏ ‏على ‏فهم‏ ‏علاقات‏ ‏الذوات‏ ‏المتعددة‏ (‏حالات‏ ‏الذات‏) ‏بعضها‏ ‏ببعض‏، ‏وهذا‏ ‏أمر‏ ‏بسيط‏ ‏ومباشر وهو دائم الاستعادة(2) ‏حالاً: (‏هنا ‏-‏ والآن‏) وهى حقيقة ‏لا‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏المبالغة‏ ‏فى ‏تأويل‏ ‏راجع، ‏أو‏ ‏فك‏ ‏عقد‏، ‏أو‏ ‏ترجمة‏ ‏رموز،‏ (‏كما‏ ‏هو‏ ‏الحال‏ ‏فى ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏الكلاسى).‏

وتفسير‏ ‏الاكتئاب‏ – ‏كمرحلة بنّاءة: من هذا المنطلق التركيبى‏ – ‏يقول‏:‏

إن‏ ‏العلاقة‏ ‏بين‏ ‏الذات‏ ‏الوالدية‏، ‏والذات‏ ‏الطفلية‏ ‏هو أن الحزن الدافعى يظهر حين تحتد‏  ‏المواجهة بينهما (والمواجهة غير الصراع)‏: ‏حين‏ ‏لا‏ ‏ينجح‏ ‏الوالد‏ ‏أن‏ ‏ينفى ‏الطفل‏ ‏أو‏ ‏يزيحه تماما‏، ‏وأيضا‏ ‏لا‏ ‏ينجح‏ ‏الطفل‏ ‏أن‏ ‏يخترق‏ ‏الوالد‏ ‏أو‏ ‏ينحيِّه‏، ‏فيتواجها‏ ‏كلٌّ‏ ‏بما‏ ‏أوتى ‏من‏ ‏طاقة‏ ‏وإصرار‏، وتتواصل المواجهة فى حلقات متنامية ويضطرد النمو.

وفى ‏مرحلة‏ ‏غلبة‏ ‏الوالد‏ ‏الأقوى‏ (‏الشيخ‏ ‏عبد‏ ‏ربه‏ ‏هنا‏) ‏دون‏ ‏استسلام‏ ‏الطفل‏، ‏تتبدى ‏الكآبة‏.‏

أما‏ ‏إذا‏ ‏نجح‏ ‏الوالد‏ ‏فى ‏استبعاد‏ ‏الطفل‏ تماما ‏فإن‏ ‏الناتج‏ ‏هو‏ ‏الوجود‏ ‏الشيزيدى (‏وليس‏ ‏الفصامى) ‏حيث‏ ‏يعجز‏ ‏الشخص‏، ‏ويعزف‏، ‏عن‏ ‏عمل‏ ‏علاقة‏ ‏بآخر‏، ‏كما‏ ‏تغلب‏ ‏عليه‏ ‏مايشبه‏ ‏الحكمة الباكرة‏ ‏ويميل‏ ‏إلى ‏الانطوائية‏.‏ أما‏ ‏إذا‏ ‏استمر‏ ‏الحوار‏ ‏حادا‏ ‏وكامنا‏ ونشطا معا‏، ‏فإن‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏الكآبة‏ ‏المـضمرة‏ ‏يصبح‏ ‏بمثابة‏ ‏النار‏ ‏الهادئة‏ ‏التى ‏ينضج‏ ‏من‏ ‏خلالها‏ ‏الكيان‏ ‏البشرى، بل ويساعد ذلك على تكوين علاقات حقيقية موضوعية أكثر فأكثر.‏

هذا‏ ‏هو‏ ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏التقطته‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الفقرة‏ ‏من‏ ‏قول‏ ‏محفوظ‏ “…‏وظلت‏ ‏الكآبة‏ ‏كامنة‏ ‏فى ‏الأعماق”، ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏أنكر‏ ‏والده‏ ‏عليه‏ ‏ما‏ ‏رأى، ‏وكأن‏ ‏الذات‏ ‏الوالدية‏ ‏قد‏ ‏أنكرت‏ ‏على ‏الطفل‏ ‏طفولته‏ ‏الجامحة‏ ‏فى ‏الخيال‏ (‏والهلوسة‏)، ‏فلم‏ ‏يستسلم‏ ‏الطفل‏ ‏وإنما‏ ‏انسحب‏ ‏بمعركته‏ ‏إلى ‏الأعماق‏ ‏حتى ‏نجح‏ ‏التكامل‏ ‏الخلاق‏ ‏بين‏ ‏الذوات‏ ‏المتواجهة‏، ‏، وهكذا‏: “..‏هلت‏ ‏ليالى ‏القمر”.‏

‏(13) ‏الشيخ‏ ‏عبد‏ ‏ربه‏ ‏يفشل‏ ‏فى ‏إلغاء‏ ‏الطفل‏:‏

الفقرة‏ (‏الفقرات‏) ‏الوحيدة‏ ‏التى ‏تلاحقت‏ ‏دون‏ ‏عنوان‏ – ‏إلا‏ ‏عنوان‏ ‏الفقرة‏ ‏الأولي”‏المطارد” – ‏هى ‏الفقرة‏ (159)، ‏وهى ‏الفقرة‏ ‏التى ‏ترسم‏ ‏مطاردة‏ ‏ما‏، ‏من‏ ‏المهد‏ ‏إلى ‏اللحد‏ (‏من‏ ‏الطفولة‏ ‏حتى ‏نهاية‏ ‏العمر‏)، ‏وهى ‏تلوح‏ ‏فى ‏مرحلة‏ ‏ما‏ ‏من‏ ‏المطاردة‏ ‏بالسباق‏ ‏نحو‏ ‏الفوز‏ ‏بالجميلة‏ (‏الدنيا‏) ‏التى ‏يفوز‏ ‏بها‏ ‏الشاب‏، ‏ولكنه‏ ‏لا‏ ‏يتسلم‏ ‏الجائزة‏ ‏لأن‏ ‏النوم‏ ‏يغلبه‏ ‏منهكا‏ ‏من‏ ‏التعب‏ “‏قبل‏ ‏الوصول”، ‏ولا‏ ‏تنتهى ‏المطاردة‏ ‏إلا‏ ‏والشيخ‏ ‏عبد‏ ‏ربه‏ ‏نفسه‏ ‏ينتظرها‏ ‏فى ‏حجرة‏ ‏الاستقبال‏، ‏فتجئ‏ ‏إليه‏ -‏شيخا‏ – ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏الأب‏ ‏قد‏ ‏دخل‏ ‏عليه‏ ‏ودودا‏ ‏لكنه‏ ‏ينذر‏ ‏بالقيود‏ ‏والعواقب‏.‏

وأجد من الضرورى هنا حتى يتضح مفهوم وأطوار النمو التركيبى بديلا عن مواقع وعقد علم النفس التحليلى وبالذات مدرسة العلاقة بالموضوع (ميلانى كلاين) أن أعيد الفقرة كلها بما فى ذلك القراءة النقدية بعدها مباشرة.

159- ‏المطارد‏:

قال‏ ‏الشيخ‏ ‏عبد‏ ‏ربه‏ ‏التائه

هو ‏يطاردنى ‏من‏ ‏المهد‏ ‏إلى ‏اللحد‏، ‏ذلك‏ ‏هو‏ ‏الحب‏.‏

قال‏ ‏الشيخ‏ ‏عبد‏ ‏ربه‏ ‏التائه

ذاع‏ ‏فى ‏الحارة‏ ‏أن‏ ‏المرأة‏ ‏الجميلة‏ ‏ستهب‏ ‏نفسها‏ ‏للفائز‏. ‏وانهمك‏ ‏الشباب‏ ‏فى ‏السباق‏ ‏بلا‏ ‏هوادة‏، ‏ومضى ‏الفائز‏ ‏إلى ‏المرأة‏ ‏ثملا‏ ‏بالسعادة‏ ‏مترنحا‏ ‏بالإرهاق‏. ‏وعند‏ ‏قدميها‏ ‏تهاوى ‏قرينا‏ ‏للوجد‏ ‏فريسة‏ ‏للتعب‏. ‏وظل‏ ‏يرنو‏ ‏إليها‏ ‏فى ‏طمأنينة‏ ‏حتى ‏لعب‏ ‏النعاس‏ ‏بأجفانه‏.‏

قال‏ ‏الشيخ‏ ‏عبد‏ ‏ربه‏ ‏التائه‏.‏

حتى ‏أنا‏ ‏شهدتنى ‏حجرة‏ ‏الاستقبال‏ ‏وأنا‏ ‏أنتظر‏ ‏راجيا‏ ‏التوفيق‏.‏

ويدخل‏ ‏الأب‏ ‏وقورا‏ ‏ودودا‏ ‏ولكنه‏ ‏ينذر‏ ‏بالقيود‏ ‏والعواقب‏ ‏ودعانى ‏صوت‏ ‏باطنى ‏إلى ‏الهرب‏.‏

تم‏ ‏تجيء‏ ‏هى ‏متعثرة‏ ‏فى ‏الحياء‏ ‏فأسقط‏ ‏فى ‏الهاوية‏.‏

القراءة:

هذه‏ ‏فقرة‏ ‏شديدة‏ ‏التكثيف

فالشيخ‏ ‏عبد‏ ‏ربه‏ “‏يقول” ‏ثلاث‏ ‏مرات‏، ‏والفقرة‏ ‏واحدة‏، ‏فلا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏محفوظ‏ ‏يتناول‏ “‏تيمة‏ ‏واحدة”، ‏فلنحاول‏ ‏قراءتها‏ كما أراد:‏

تبدأ‏ الفقرة الصدى ‏بإعلان‏ ‏أن‏ ‏الحياة‏ ‏كلها‏ ‏مرهونة‏ ‏بدافع‏ ‏لا‏ ‏يهدأ‏، ‏هو” ‏الحب”، ‏وهو‏ ‏دافع‏ ‏لا‏ ‏يكتفى ‏بأن‏ ‏يحفز‏ ‏أو‏ ‏يطلق‏ ‏الطاقة‏ ‏إلى ‏موضوعه‏، ‏لكنه‏ ‏يلح‏ ‏ويطغى ‏حتى ‏يطارِد‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏طول‏ ‏العمر‏، ‏هذا‏ ‏أول‏ ‏ما‏ ‏قال‏ ‏الشيخ‏ ‏عبد‏ ‏ربه‏.‏

ثم‏ ‏إنه عاد‏ فقال‏: ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏المطاردة‏ ‏ليست‏ ‏دفعا‏ ‏للحب‏، ‏وإنما‏ ‏هى ‏تلويح‏ ‏بالفوز‏ ‏لمن‏ ‏يستحقه‏، ‏فلا‏ ‏سبيل‏ ‏إلا‏ ‏للتنافس‏ ‏سعيا‏ ‏إليها‏، ‏إلى ‏الحياة‏ ‏الدنيا‏، ‏اللذة‏ ‏الرائعة‏ ‏الواعدة‏، ‏لكن‏ ‏ما‏ ‏باليد‏ ‏حيلة‏، ‏تستغرقـنا‏ ‏الوسيلة‏، ‏حتى ‏إذا‏ ‏وصلنا‏ ‏لم‏ ‏يبق‏ ‏فينا‏ ‏ما‏ ‏ينفع‏، ‏فلا‏ ‏نحصل‏ ‏على ‏ما‏ ‏بدا‏ ‏لنا‏ ‏مطلبا‏ ‏هو‏ ‏كل‏ ‏شيء‏، ‏

فننام‏ ‏دون‏ ‏مطلبنا‏ ‏الذى ‏أصبح‏ -‏فعلا‏- ‏فى ‏متناولنا‏.‏

لكن‏ ‏الحكاية‏ ‏لا‏ ‏تنتهى،،، ‏

فالشيخ‏ ‏الذى ‏يعرف‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏، ‏والذى ‏رسم‏ ‏الخطة‏ ‏وقبـِـل‏ ‏النتيجة‏، ‏لم‏ ‏ينج‏ ‏هو‏ ‏نفسه‏ ‏من‏ ‏الأمل‏ ‏فيها‏، ‏والتوق‏ ‏إليها‏ ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يستغرق‏ ‏فى ‏لعبة‏ ‏التنافس‏ ‏حتى ‏الإرهاق‏ ‏فالنوم‏، ‏بل‏ ‏فضل‏ ‏الانتظار‏ ‏أملا‏ ‏فى ‏نيل‏ ‏الرضا‏ ‏والوصال‏ ‏بإشارة‏ ‏رضا‏، ‏أو‏ ‏ضربة‏ ‏حظ‏.‏

هكذا‏ ‏نجد‏ ‏أنفسنا‏ ‏فى ‏حضرة‏ ‏وفاق‏ ‏جميل‏ ‏بين‏ “‏الوالد” ‏العاقل‏ ‏المتسامح‏ ‏الودود‏، ‏والوقور‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏، ‏وبين‏ ‏الطفل‏ ‏اللاهث‏ ‏المتعجل‏ ‏اللذة‏، ‏الفائز‏ ‏بغير‏ ‏جائزة‏، ‏وفاق‏ ‏يوحى ‏بالتصالح‏، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏يخفى ‏احتمال‏ ‏أن‏ ‏الوالد‏ ‏لم‏ ‏يصبح‏ ‏ودودا‏ ‏إلا‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏اطمأن‏ ‏إلى ‏خيبة‏ ‏الطفل‏ ‏وسقوطه‏ ‏نائما‏ (‏مغشيا‏ ‏عليه‏) ‏بعد‏ ‏الفوز‏ ‏فى ‏السباق‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يتسلم‏ ‏الجائزة‏، ‏ويبدو‏ ‏أن‏ ‏الطفل‏ ‏المنهك‏ ‏لم‏ ‏يخدعه‏ ‏الود‏ ‏الوقور‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏ما‏ ‏وصل‏ ‏إليه‏-‏رغم‏ ‏ظاهر‏ ‏السماح‏-‏هو‏ ‏الإنذار‏ ‏بالـقيود‏ ‏والعواقب‏، ‏فيرجح‏ ‏الهرب‏.‏

ولكنه‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏نجح‏ ‏فى ‏الهرب‏ ‏من‏ ‏الوالد‏، ‏الودود‏ ‏الوقور‏، ‏المهدد‏ ‏المتوعد‏ ‏فى ‏آن‏، ‏فإنه‏ ‏يهرب‏ ‏منه‏ ‏إليه‏، ‏وأقوى ‏الإغراء‏ ‏وألح‏ ‏الغواية‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏تلفَّع‏ ‏بالتلويح‏ ‏دون‏ ‏التصريح‏، ‏وما‏ ‏تعثر‏ ‏فى ‏الحياء‏ ‏دون‏ ‏السفور

فهى ‏الهاوية‏، ‏وليفعل‏ “‏الأب” (‏الداخلي‏، ‏كلهم‏ ‏فى ‏الداخل‏) ‏ما‏ ‏بدا‏ ‏له

أكرر‏: ‏إن‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الشخوص‏ – ‏ما‏ عدا‏ ‏الجميلة‏ ‏الواعدة‏- ‏، ‏هى “‏ذوات” ‏الداخل‏ ‏المتعددة‏ ‏التى ‏بدأت‏ ‏تتميز‏ ‏فى ‏الأصداء‏، ‏بمجرد‏ ‏إعلان‏ ‏حضور‏ ‏الشيخ‏ ‏عبد‏ ‏ربه‏ ‏التائه.

* * * *

وبقراءتى الآن ‏لما‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏كتبته‏ ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏الفقرة‏ ‏ ‏ ‏أتبين‏ ‏أننى ‏اعتبرت‏ ‏أن‏ ‏الشيخ‏ ‏عبد‏ ‏ربه‏ ‏قد‏ “‏أصابه‏ ‏الدور” ‏حين‏ ‏راح‏ ‏ينتظر‏ ‏فى ‏حجرة‏ ‏الاستقبال‏ ‏راجيا‏ ‏التوفيق‏، ‏أصابه‏ ‏الدور‏ ‏إذ‏ ‏عاد‏ ‏طفلا‏ ‏على ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏حكمته‏ ‏الظاهرة‏، ‏وربما‏ ‏حدث‏ ‏هذا‏ ‏الخطأ‏ (‏الصح‏) ‏لأن‏ ‏الأب‏ ‏دخل‏ ‏على ‏الشيخ‏ “‏وقورا‏ ‏ودودا‏ ‏ولكنه‏ ‏ينذر‏ ‏بالقيود‏ ‏والعواقب”، ‏ولم‏ ‏أدرك‏ ‏إلا‏ ‏الآن‏ ‏لم‏ ‏وقعت‏ ‏فى ‏هذا‏ “‏الصح”: ‏بمعنى ‏أنه‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏الشيخ‏ ‏يمثل‏ ‏الذات‏ ‏الوالدية‏ (‏الأب‏) ‏فمن‏ ‏هذا‏ ‏الأب‏-‏الآخر‏- (‏الوالد‏) ‏الذى ‏دخل‏ ‏عليه‏، ‏وكيف‏ ‏خاف‏ ‏منه‏ ‏الشيخ‏ ‏حتى ‏دعاه‏ ‏صوت‏ ‏باطنى ‏للهرب؟

التفسير‏ ‏العلمى (‏التحليل‏ ‏التركيبى)Structural analysis ‏ يقول‏: ‏إن‏ ‏لكل‏ ‏والد والد (جدّ) ‏فلعل‏ ‏الذى ‏دخل‏ ‏هو‏ ‏الوالد‏ ‏الأعلي  ‏(‏الجد‏: ‏داخل‏ ‏الذات‏Grand-parent ego state) ‏ لكننى ‏أجد‏ ‏الآن‏ ‏أن‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏التفسير‏ ‏تبسيطا‏ ‏غير‏ ‏كاف‏، ‏فأضيف‏ ‏الآن‏ ‏تفسيرا‏ ‏آخر‏ ‏يقول‏:‏

إن‏ ‏الشيخ‏ ‏عبد‏ ‏ربه‏ ‏ليس‏ ‏والدا‏ ‏صرفا‏، ‏وأنه‏، ‏برغم‏ ‏إلغائه‏ ‏لطفلنا‏ ‏الذى ‏نحاول‏ ‏أن‏ ‏نبرز‏ ‏تجلياته‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الجزء‏، ‏ما‏ ‏زال‏ ‏يحتويه‏ ‏داخل‏ ‏عباءته‏‏، ‏وأنه‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الفقرة‏ ‏تنازل‏ ‏عن‏ ‏حكمته‏ ‏لصالح‏ ‏طفولته‏، ‏فقفز‏ ‏له‏ ‏أب‏ ‏من‏ ‏خارجه‏، ‏ودود‏، ‏لكنه‏ ‏نذير‏ ‏مانع‏، ‏فكان‏ ‏الهرب؟

‏تصورت‏ ‏فى ‏القراءة‏ ‏الأولى ‏أن‏ ‏التوفيق‏ ‏الذى ‏كان‏ ‏ينتظره‏ ‏الشيخ‏ ‏هو‏ ‏التوفيق‏ ‏بين‏ ‏الذوات‏ ‏الثلاث‏، ‏وأنه‏ ‏توفيق‏ ‏لم‏ ‏يتم‏ ‏تماما‏، ‏ولكننى ‏أشعر‏ ‏الآن‏ ‏أن‏ ‏الشيخ‏ ‏حين‏ ‏عاد‏ ‏طفلا‏، ‏كان‏ ‏ينتظر‏ ‏الرضا‏ ‏من‏ ‏الجميلة‏ ‏الواعدة‏ ‏التى ‏لم‏ ‏ينلها‏ ‏شابا‏ ‏رغم‏ ‏الفوز‏ ‏فى ‏السباق‏، ‏وأنه‏ ‏سقط‏ ‏فى ‏الهاوية‏ ‏بمعنى ‏استحالة‏ ‏تحقيق‏ ‏حـلم‏ ‏التكامل‏ ‏الكامل‏ ‏باندماج‏ ‏الذوات‏.‏

على ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏فما‏ ‏زلت‏ ‏غير‏ ‏راض‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏التفسير‏، ‏فأضيف‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الفقرة‏ ‏فى ‏قراءتنا‏ ‏لتجليات‏ ‏الطفولة‏ ‏فى ‏الأصداء‏ ‏إنما‏ ‏تعلن‏:‏

■        ‏حتمية‏ ‏استمرار‏ ‏الطفولة‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏طول‏ ‏العمر‏.‏

■        ‏وأن‏ ‏حكمة‏ ‏الشيخوخة‏ ‏لا‏ ‏تستطيع‏ ‏أن‏ ‏تلغى ‏الطفولة‏، ‏وأنها ‏(‏الطفولة‏) ‏أقوى ‏من‏ ‏كل‏ ‏حكمة‏، ‏وأقدر‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏تحذير‏. ‏

■        ‏وأن‏ ‏أى ‏محاولة‏ ‏لإلغائها‏ ‏بالسعار‏ ‏التنافسى ‏أثناء‏ ‏فتوة‏ ‏الشباب‏، ‏أو‏ ‏بالحكمة‏ ‏الرصينة‏ ‏حصيلة‏ ‏خبرة‏ ‏العمر‏ قرب نهايته، ‏هى ‏محاولات‏ ‏فاشلة‏.‏

■        ‏وأن‏ ‏هذه‏ ‏المطاردة‏ ‏من‏ ‏المهد‏ ‏إلى ‏اللحد‏ ‏هى ‏مطاردة‏ ‏الطفولة‏ ‏فينا‏ ‏لإخفائها‏، ‏أو‏ ‏لاحتواءها‏، ‏أو‏ ‏لـلضحك‏ ‏عليها‏ ‏بمكاسب‏ ‏لم‏ ‏تطلبها‏ ‏هى ‏أصلا‏، ‏

■        ‏وأن‏ ‏ظهور‏ ‏الجميلة‏ ‏تتعثر‏ ‏فى ‏الحياء‏ ‏جعلت‏ ‏الشيخ‏ ‏يتردى ‏فى ‏الهاوية‏ ‏بصفته‏ ‏الشيخ‏ ‏عبد‏ ‏ربه‏ ‏المطارِد‏ ‏للطفل‏ ‏المستولِى ‏عليه‏ (‏لا‏ ‏المُطَارَدُ‏ ‏من‏ ‏الأب‏).‏

■        ‏وأن‏ ‏الذى ‏تردى ‏فى ‏الهاوية‏ ‏فى ‏نهاية‏ ‏النهاية‏ ‏هو‏ ‏الطفل‏ ‏الذى ‏أطل‏ ‏من‏ ‏عباءة‏ ‏الشيخ‏ ‏عبد‏ ‏ربه‏ ‏ينتظر‏ ‏الوفاق‏ ‏حين‏ ‏لم‏ ‏يستطع‏ ‏التخلص‏ ‏من‏ ‏الوصاية‏ (‏وليس‏ ‏الشيخ‏ ‏نفسه‏)‏.

وبعد (اعتذار واحتمال)

برغم محاولتى أن أشرح بعض معالم الإمراضية النفسية التركيبيه (السيكوباثولوجى: النفسمراضية التركيبية) إلا اننى أشعر أنها لغة غير مألوفة عند القارئ العادى وأيضا عند الناقد العادى، مقارنة بشيوع لغة ومفاهيم التحليل النفسى الفرويدى، لكننى لا أجد بديلا، وآمل أن نعتاد مثل ذلك مع المثابرة والتعمق والحدس الموضوعى معا،

وربما أضطر لإضافة ملحق محدود لشرح أصول هذه النظرية النفسمراضية الأحدث.

[1] – يحيى الرخاوى:  أصداء الأصداء، تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ)، المجلس الأعلى للثقافة، 2006

[2] – يمكن الرجوع إلى فروض امتداد نظرية الاستعاد حتى تصبح استعادة دائمة أنية مثلا فى نشرات : 29-5-2016 ، 30-5-2016

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *