الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الطبنفسى الإيقاعحيوى (93): المقابلة الإكلينيكية (27)

الطبنفسى الإيقاعحيوى (93): المقابلة الإكلينيكية (27)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 4-9-2016

السنة العاشرة

العدد:  3292

الطبنفسى الإيقاعحيوى (93)

 Biorhythmic Psychiatry

عودة إلى ما تبقى فى:

المقابلة الإكلينيكية (27)

استهلال

4-9-2016_1أوافق من يتابعنا  – إن وُجد – على استغرابه من هذه النقلات الجسيمة من موضوع إلى موضوع، وفى نفس الوقت أشكر !! من لا يتابعنا لأنه يعفى نفسه من هذا القفز، فيعفينى من النقد، ولكنه يحمّلنى مسئولية النقد الذاتى هكذا:

أبدأ بالتذكرة بما توقفنا عنده فى شكل خوارزمية محتملة (نشرة 16/7/2016) و(نشرة17/7/2016)، سوف نرجع إليها غالبا فى فصل (أو كتاب)  مستقل عن تصنيف المرض النفسى، وقد تقدمنا بها فى سياق التنبيه ألا تكون المسارعة إلى التشخيص هى همنا ومنذ اللقاء الأول، كما كان أملى مما نشر وأشير إليه فى عجالة أن أؤكد على أهمية  أن يكون المجال مفتوحا ومن البداية  للوصلة المحتملة بين السواء والمرض، وبين التاريخ (الحيوى أساسا) وما هو “الآن”، ومع ذلك فقد بدأنا بطرح فرضين يحملان مظنة الاختزال بعد التأكد من أن من جاء يستشيرنا هو مريض يحتاج إلى علمنا ونقدنا معا، أم أنه جاء نتيجة معلومة خاطئة أو من باب حب الاستطلاع.

وقد قدمنا تعميمين أساسيين خشيت وأنا أعيد قراءتهما أن يتلقاهما البعض على أنهما اختزالان مخلان، وأرى أن أبدأ عودتنا الآن بإثباتهما  لأننى سوف أرجع إليهما فى مجال الفحص المبدئى وأيضا فى مجال العلاج : (نقد النص البشرى)

الاختزال (الفرض)  الأول هو أن مسيرة الحياة فى المرض والسواء هى لدعم الحياة “لمَا خلقها كَمَا خلقها”، وأن هذا يتم من خلال استعادة مراحل دورات النمو الإيقاعية الراتبة ليل نهار، وأن نتيجة هذه المسيرة تظهر فى السواء بالسواء واضطراد النمو والإبداع والإيمان الخلاّق، كما يظهر فشل هذه المسيرة فى صورة ما يسمى  المرض، وأن كل النبض الإيجابى يحول دون رجحان كفة النشاز والنكوص، وفى نفس الوقت فإن معظم الأمراض تساهم من منطلقها فى محاولة الحيلولة دون المرض التدهورى الأخطر (الفصام ) بكل ما تيسر من ميكانزمات وآليات تظهر فى صورة أمراض أخرى، أقل خطرا على الحياة  وأنه إذا فشلت دفاعات الحياة   (النمو والإبداع) وعجزت دفاعت المرض الأخف، ظهر المرض الأخطر وهو الفصام  بدرجاته المتدهورة الواحدة تلو الأخرى.

بتعبير آخر فيما يخص الأمراض: إن كل الأمراض النفسية هى إما فصام، أو دفاعات ضد الفصام  (أنظر الشكل 1)

4-9-2016_2

      الاختزال (الفرض)  الثانى هو أن جميع أشكال العصاب هى إما قلق أو دفاع فى محاولة التخفيف من القلق حتى لو أدى إلى عصاب مزعج  أكثر

 (أنظر الشكل 2)

4-9-2016_3

ثم بعد هذه المقدمة التى أمِلنا توصل رسالة المفهوم الواحدى للمرض النفسى  Unitary Concept of Psychiatric Disordrs رحنا نستعرض تجليات القلق (العصاب الأم) من منطلق علاقته بالوعى وفرط الدراية أو خفوتها (من نشرة 23/7/2016 إلى نشرة 3/9/2016).

حتى آن الأوان أن نرجع نستكمل المقابلة الإكلينيكية، بدءا من متن قديم كما ذكرنا (نشرة 16/7/2016) مع التحديث المناسب وخاصة من منطلق الطبنفسى التطورى

………….

 7- ‏التاريخ‏ ‏الشخصى:

المتن:

أولا‏: ‏فترة‏ ‏الرضاعة‏ ‏والطفولة‏ ‏الأولى

‏قد‏ ‏يبدو‏ ‏غريبا‏ ‏أن‏ ‏نرجع‏ ‏بتاريخ‏ ‏المريض‏ ‏إلى ‏منذ‏ ‏أن‏ ‏كان‏ ‏فكرة‏ً ‏فى ‏وعى ‏والديه‏، ‏ولكنه‏ ‏أمر‏ ‏متصل بطبيعة ‏ ‏هذا‏ ‏التخصص‏ الذى  يبدأ من البداية وما قبل البداية :

فعلى الفاحص (الطبيب) أن يستقصى إن كان المريض  ‏كان‏ ‏مرغوبا‏ ‏فى ‏ولادته‏ ‏آصلا‏ ‏أم جاء بالصدفة أم كان فائضا عن الحاجة بعد استكفاء الوالدين بمن أنجبوا، ومن ذلك مثلا:‏ هل‏ ‏جاء‏ ‏بالرغم‏ ‏من‏ ‏تنظيم‏ ‏النسل‏، ‏هل‏ ‏كان‏ ‏جنسه‏ ‏هو‏ ‏المطلوب‏، ‏وهل‏ ‏كان‏ ‏الحمل‏ ‏والولادة‏ ‏طبيعيين، كما يُسأل عن ‏ ‏المضاعفات‏ ‏التى ‏حدثت‏ ‏أثناء‏ ‏الحمل‏ ‏والولادة‏ ‏إن‏ ‏كان‏ ‏قد‏ ‏حدث‏ ‏شيء‏ ‏من‏ ‏هذا القبيل، وذلك بارتباط كل هذا يما يمكن أن يصيب الشخص لاحقا، وخاصة بما هو مرض نفسى.

التحديث:

4-9-2016_4من البديهى أن المريض – صغيرا أو كبيرا –  لا يمكن أن يجيب إجابة موضوعية عن هذه الفترة، وعادة ما نكتفى بالمعلومات المتاحة من الأم أساسا، ومن الأب نادرا، أو من أخت أو مرافق فى مقام الأم، ولا تؤخذ أقوال الأم قضية مسلمة، ليس فقط احتراما لحدود ذاكرتها، ولكن أيضا وأساسا لأنها مشاركة أساسية فى قدوم طفلها ثم فى رعايته إيجابا وسلبا، بل إن خبرة الولادة ذاتها تحمل فى طياتها فرصة “إعادة ولادة  الأم نفسها،  باعتبارها “أزمة نمو متميزة”.

وقد تناولنا قبل ذلك دلالات طقوس “السبوع” فى مجتمعنا (نشرة 22-1-2008 “طقوس “السُّبُوعْ”، وجدلية الانفصال/الاتصال”)، وكيف أنها جميعها تقريبا تخدم  شحذ وعى الأم بأن “مَنْ” كان جزءا منها (بداخلها) أصبح كيانا كاملا منفصلا عنها يحتاجها تماما  تماما، ولكن  بشكل آخر، وتدرّج آخر،

 4-9-2016_5

والأم ، مثل كل أم (حتى قبل مرحلة البشر) لا تحتاج تعليمات لتقوم بدورها النمائي والوقائى كما يرسمه النفسيون وغير النفسيين، فغريزتها الطبيعية – ما لم تكن قد تشوهت – قادرة على رعاية طفلها بفطرة سلسلة إيجابية بناءة،  لأنها غريزة  نابعة من برامج حياتية تطورية أساسية عبر تاريخ الحياة كلها، لا تحتاج إلى توجيه أو إرشاد.

أما عن طبيعة هذه الفترة وحقيقة دور الأم فى التهيئة للنمو السلس السليم أو فى تثبيت يعرّض طفلها لصعوبات لاحقة ومرض محتمل، فقد سبق أن تناولت هذا الموضع بتفاصيل ناقدة لفروض  مدرسة العلاقة بالموضوع وخاصة بالنسبة لتركيزها على دور الأم فى السماح لطفلها بالانتقال من الرحم إلى مواقع النمو المتتابعة  تبعا لنوع علاقتها به ومدى نضجها الذى يسمح او لا يسمح بسلامة هذه الرحلة الأساسية الرائعة، ولن نعيد هنا نقدنا لهذا التركيز ، وكيف أن هذا النقد كان هو المنطلق لرفض فكرة “الموقع”  position، وأن يحل محلها مصطلح “الطور” stage  (نشرة 16-2-2016).

 كما  ناقشنا أيضا فكرة أن  هذه الأطوار ليست قاصرة على علاقة الطفل بأمه، وإنما هى منزرعة فى تركيبه التطورى البيولوجى الممتد فى تاريخ الحياة كلها ، وأن دور الأم يظل له أهميته لكن البداية ليست منها، وإنما تقوم – بفطرتها أساسا- بشحن كل طور بما يناسبه وما تقدر عليه لينتقل إلى الطور الآخر وهكذا ، ثم يأتى المنظور الإيقاعحيوى فيعطى لهذه النقلة التنظيرية أهمية عملية آنيــّة:

 ما دام هذ المنظور يفترض أن الأطوار البادئة ليست قاصرة على الأم، ولا هى خاصة بمرحلة الرضاعة دون غيرها، وإنما هى أدوار مستعادة طول الوقت طول العمر من خلال نبض الإيقاعحيوى المستمر المستمر، فبالتالى تظل المسئولية المتجددة ليست فقط مسئولية الأم ولكن مسئولية الراعى (1) أيا كان.

من البديهى أننا لا نسأل الأم- إن كانت موجودة فى المقابلة – عن أىِّ من ذلك، لكن انطلاق الطبيب من هذا المنطلق يقلل من المبالغة  فى احتمال أن نعزو كل ما ألمَّ بابنها أو بابنتها إلى نقص فى قدراتها التربوى، أو فى ثقافتها النفسية، أما الفائدة الأهم فهى فى  تحريك الأمل فى:  “أن يصلح الدهر (ممثلا في المعالج والعلاج) ما أفسد الدهر (ممثلا فى أم بريئة متهمة)، وهذا يفتح الباب  لمراجعة مفهوم الأم المـُفصـِمة (2)  (أى سبب الفصام) ، مرة أخرى : من منطلق الطبنفسى الإيقاعحيوى:

ما دامت الدورات تتكرر ليل نهار، وما دام الراعى الجديد مسئول عن رعيته، فالمأمول أن “يصلح الدهر ما افسد الدهر ” كما ذكرنا سالفا.       

المتن:

يستحسن الاستقصاء  – ما أمكن ذلك – عن بعض التفاصيل حول فترة الرضاعة، مثلا :‏ ‏ ‏و‏‏هل‏ ‏كانت‏ ‏الرضاعة‏ طبيعية من ‏ثدى الأم ، ‏أم‏ ‏صناعية‏، ‏أم‏ ‏من‏ ‏مُرضعة‏ (كان زمان) ، ‏ثم‏ ‏عن وقت‏ ‏الفطام، ‏وطريقته‏ (‏صبار‏ ‏وصدمة‏ ‏مفاجئة‏ المرارة ، ‏أم‏ ‏تدريجيا وتحت إشراف‏) ‏وعن علامات‏ ‏النمو‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏التسنين‏، ‏وتنظيم‏ ‏عادات‏ ‏الإخراج‏، ‏وعلامات‏ ‏النمو‏ ‏الحركى ‏وتطور نمو‏ ‏الكلام‏ ‏…إلخ

التحديث:

برغم أن هذه المعلومات مهمة ، إلا أنه لا ينبغى أن نبالغ فى قيمتها أو بقاء آثارها حتى الآن، اللهم إلا إن كانت مما يساعد على تقييم قصور أولى فى قدرات معرفية، أو ربط بعض أمراض وسمات الطفولة ببعض الأمراض التى تحدث لاحقا، فهذا وارد، إلا أنه لا ينبغى أن يكون معوّقا لبذل الجهد أكثر فى الاتجاه الصحيح ، وقد تظهر بعض السمات الدالة على استعداد خاص  منذ لحظة الولادة دون ربطه بأى استهداف وراثى محدد(3).

 

[1] – أصبح الاستعمال الأحدث لمن يقوم بدور الراعى منذ الطفولة هو “مانح الرعاية Caregiver وبرغم أنها مصلح مستورد  فإن جذورها موجودة لدينا فى الحديث الشريف “كل راع مسئول عن رعيته”،

[2]- Schizophrenogenic Mother

[3] – فى حالة توأم متماثل، قمت بفحص أحد التوأمين  مع أستاذى المرحوم  أ.د. عبد العزيز عسكر وكان عمره المريض 19  سنة، وكان يعانى من فصام خطير متمادى، فى حين كان توأمه سليما تماما، وناجحا جدا فى دراسته وعلاقاته، وقد حكت لنا الأم أن المريض منذ الولادة، عزف عن الرضاعة من ثديها، وكان يزيح وجهه الناحية الأخرى واضطرت أن ترضعه صناعيا، فى حين كان أخوه السليم يقبل على ثديها بشراهة وفرحة بادية منذ أول يوم فى الولادة أيضا، وظل الحال والفروق تزيد فى نفس الاتجاه حتى ظهر الفصام على التوأم الذى كنا نفحصه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *