الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الأهرام / الحزن الجسور: والألم النبيل

الحزن الجسور: والألم النبيل

نشرت فى ملحق الجمعة

جريدة الأهرام: 7-11-2014

الحزن الجسور: والألم النبيل

‏ زاد إلحاح بناتى وأبنائى من الإعلاميين وهم يطرحون سؤالا تكرر مئات المرات عن “ماذا حدث للمصريين” “ماذا حدث للمصريين”؟ وبالذات عن ما أصابهم مما يسمى الاكتئاب، ذلك اللفظ الذى حل محل الحزن بغير وجه حق، ولم يعجبهم ولا يعجبهن أبدا ردى بالدفاع عن حقنا فى الحزن ما دام هناك ما يُحزن، وأن وصف شعب بأكمله بصفة مرضية، هو شىء غير علمى، وغير مسئول، وأن المطلوب ليس هو أن نتخلص من الحزن، وإنما أن نستوعب طاقته لننطلق منه إلى الحياة الزاخرة بالحزن الشريف المولد للابداع والحمد. وغيره طول الوقت.

‏نعم: حل‏ ‏لفظ‏ “الاكتئاب”‏ ‏محل‏ ‏لفظ‏ ‏الحزن‏ ‏بلا وجه حق، ظاهرة‏ ‏الحزن‏ ‏هى ‏أعمق‏ ‏وأرسخ‏ ‏وأقدم‏ ‏وأدق‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏مترادفة حاولتْ أن تحتويها، ‏تتخلق الكلمة من وعى ناسها، والذين أبدعوا اللغة العربية – وهى حضارة قائمة بذاتها بعض النظر عما أل إليه أهلها- لا بد قد استوعبوا نوعا نبيلا قويا من الآلام النفسية، حتى تخلقت من وعيهم كلمة “الحزن” هكذا، بكل عنفوانها وزخمها، ‏ولكن‏ ‏حين‏ ‏تسلل لفظ‏ “الاكتئاب” ‏زحفا‏ ‏على ‏نبضها‏ ‏خَـنـَقـَها‏ ‏أو‏ ‏كاد‏، ‏فقد‏ ‏تضخم‏ ‏هذا‏ ‏اللفظ‏ (‏الاكتئاب‏) ‏وألح‏ (‏بالعلم‏ السهل ‏والإعلام‏ ‏معا، وحماس الزملاء النفسيين‏)، ‏حتى كاد‏ ‏يجمِّد‏ ‏المسيرة‏ ‏البشرية لحساب رفاهية مزعومة مستوردة كأنها غاية المراد.

نبدأ‏ ‏بإلقاء‏ ‏نظرة‏ ‏سريعة‏ ‏على ‏ما‏ ‏يقال‏ ‏له‏ “اكتئاب” ‏كما‏ ‏تجمد‏ ‏داخل‏ ‏المصطلح‏ ‏العلمى ‏أولا‏، ‏فنجد‏ ‏أنه‏ “الإحساس‏ ‏بالحزن‏ ‏وسوء‏ ‏المزاج”، ‏أو‏ ‏أنه‏ “صعوبة‏ ‏فى ‏التفكير‏.. ‏وكساد‏ ‏فى ‏القوى ‏الحيوية‏ ‏وهبوط‏ ‏فى ‏النشاط‏ ‏الوظيفى” ‏أو‏ ‏أنه‏ “‏الشعور‏ ‏بالعجز‏ ‏واليأس‏ ‏وعدم‏ ‏الكفاءة‏”، ليكن، وليكن ‏هذا‏ ‏كله‏ ‏صحيحا ‏بدرجة‏ ‏ما‏، ولكن للحزن شأن آخر، جدير بنا أن نقبل اقتراح المرحوم أستاذنا د.عبد العزيز القوصى ونسمى الاكتئاب المرضى، والحزن السلبى، باسم آخر، وقد اقترح رحمه الله اسم “الانهباط” الذى يكاد يكون عكس جسارة وقوة ما هو حزن، ثم إن فى كلمة “حزن” بتشكيل آخر (بتسكين الزاى أو كسرها) تتضمن ‏غير‏ ‏قليل‏ ‏من‏ ‏إيحاءات‏ ‏الجدية‏ ‏والقوة، ‏فالحزن‏ ‏أيضا‏ – ‏ضد‏ ‏السهل‏ ‏المنبسط‏، ‏حزن‏ ‏المكان‏ ‏حزنا‏: ‏خشن‏ ‏وغلـُظ‏، ‏والحزن‏ ‏فيه‏ ‏مواجهة‏ ‏وعناد‏ ‏ولقاء‏ ‏وشدة‏: “شيخُ‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏لَبِـَس‏ ‏الدرع‏ ‏حَرَنْ‏ سهلٌ‏ ‏لمن‏ ‏ساهـَلَ‏ ‏حزْنٌ‏ ‏للحزِنْ”، ‏الشعر، باعتباره إحياء للغة وتخليق لتشكيلات المعنى من جديد، هو القادر على إعادة الحياة للحزن الشريف القوى العنيد، ولعل صلاح عبد الصبور حين قال “يأتى من بعدى من يعطى الألفاظ معانيها” فى”ليلى والمجنون”، كان يعنى نفسه، فراح يعلمنا تشكيلات أخرى من الحزن الجميل والمؤلم معا، وهو يميزه عن الحزن الكئيب الانهباطى، وذلك فى قصيدته “أغنية‏ ‏إلى ‏الله”، ومع أننى اعترفت مرارا أن الشعر لا يُـنْـقـَد إلا شعرا، إلا أنى مضطر أن أعقِّب لعل زملائى يتراجعون إلى ما علّمنا صلاح فنكف عن استسهال وصف شعبنا الجميل بما لا يستحقه، يقول صلاح عبد الصبور فى “أغنيته إلى الله” وكأنه يعطينا نحن النفسيين درسا أساسيا:

‏(1) ‏حزنى ‏غريب‏ ‏الأبوين، لأنه‏ ‏تكوّن‏ ‏ابن‏ ‏لحظة‏ ‏مفاجئة، ما‏ ‏مخضته‏ ‏بطن

أراه‏ ‏فجأة‏ ‏إذ‏ ‏يمتد‏ ‏وسط‏ ‏ضحكتى

فهو ‏ييدأ‏ ‏بأن‏ ‏يكتشف‏ ‏فى ‏الحزن‏ ‏قدرته‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏الحضور‏ ‏المفاجئ‏ بلا سبب، ‏وهو ‏لا‏ ‏ينفى ‏تراكما‏ ‏سابقا‏ ‏صامتا‏، ‏وهو‏ ‏أيضا‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المقطع‏ ‏يعارض‏ ‏ذلك‏ ‏الاستقطاب‏ ‏المعجمى ‏الذى ‏يضع‏ ‏الحزن‏ ‏والفرح‏ ‏على ‏أقصى ‏طرفين‏ ‏متباعدين‏ ‏متضادين‏: ‏فهو‏ ‏يمتد‏ ‏وسط‏ ‏ضحكته‏، ‏ثم‏ ‏يمضى إلى بقية تشكيلات الحزن:

‏(2) ‏لقد‏ ‏بلوت‏ ‏الحزن‏ ‏حين‏ ‏يزحم‏ ‏الهواء بالدخان، فيوقظ‏ ‏الحنين

وهذا حزن قادر موقظ، ليس فقط للهمم، ولكنه أيضا:‏ “يوقظ الحنين”

‏(3) ‏ثم‏ ‏بلوت‏ ‏الحزن‏ ‏حين‏ ‏يلتوى ‏كأفعوان،‏ ‏فيعصر‏ ‏الفؤاد‏ ‏ثم‏ ‏يخنقه، وبعد‏ ‏لحظة‏ ‏الإسار‏ ‏يعتقه

هذا حزن آخر يمارس عنفوانه بقسوة يتباهى بها وهو يخنق ويُـطلق، وهذه بعض صفاته وقدراته،  ‏

‏(4) ‏ثم‏ ‏بلوت‏ ‏الحزن‏ ‏حينما‏ ‏يفيض‏ ‏جدولا‏ ‏من‏ ‏اللهيب

ثم ها هو ذا يتجلى نارا “تَضْرى إذا ضرّيْتمُوهَا فتضرمِ”

(5) لكن هذا الحزنَ مَسخٌ غامضٌ، مستوحشٌ، غريبْ

ثم ها هو لا ينسى ذلك الحزن السلبى الوحيد، وهو الوحيد الذى يستحق لفظ الاكتئاب، وصلاح يعتبره غريبا.

وبعد

بنظرة ‏متأنية‏ ‏فاحصة‏ ‏لجدل‏ ‏الشاعر‏ ‏مع‏ ‏لفظ‏ ‏الحزن‏ ‏وهو‏ ‏يعايش‏ ‏الظاهرة‏ ‏المحتمل‏ ‏أن‏ ‏يحتويها‏، ‏نجد‏ ‏أنه‏ ‏نجح‏ ‏أن‏ ‏يعيد‏ ‏تخليق‏ ‏التراكيب‏ ‏اللغوية‏ ‏المتضفرة‏، ‏والمتآلفة‏، ‏والمتناقضة‏، ‏والمتعاقبة‏، ‏والمتبادلة‏، ‏بأمانة‏ ‏مغامرة‏

ولعل هذا هو ما وصلنى وأنا أمارس مهنتى، وبما أن الشعر لا ينقد إلا شعرا، فقد حضرنى بعض ذلك فى قصيدة الريح‏ ‏والأحزان حين قلت:

…..

يتحفز ‏حزنٌ‏ ‏أبلج

حزنٌ‏ ‏أرحب‏ ‏من‏ ‏دائرة‏ ‏الأشياء‏ ‏المنثورةُ، ‏الأشياء‏ ‏العاصية‏ِ ‏النافرةِ‏ ‏الهـَيْـجَى

حزنٌ‏ ‏أقوى ‏من‏ ‏ثورة‏ ‏تشكيل‏ ‏الكلمات

حزنٌ‏ ‏يصرخ‏ ‏بكـَما‏، يـُشرق‏ ‏ألما،

حزنٌ‏ ‏يستوعب‏ ‏أبناء‏ ‏الحيرة

يجمع‏ ‏أطراف‏ ‏الفكرهْ

يوقد‏ ‏نار‏ ‏الأحرف‏ ‏والأفعالْ

حزنٌ ‏يحنو‏، ‏يـُدمى، ‏يلهب‏، ‏يصرخُ،‏

يُحـِى ‏روحا‏ ‏ميـّتةً‏ ‏ضجرهْ.‏

حزنٌ‏ ‏أسلس‏ ‏من‏ ‏ماء‏ ‏الدمعة،‏

أعتى ‏من‏ ‏لفح‏ ‏الجمره‏.‏

حزنٌ‏ ‏يحنو‏، ‏يُدمى، ‏يُلهم‏، ‏يَصرخ، ‏ُيُحيى ‏روحا‏ ‏ميّتةً‏ ‏ضجره‏ْْ.‏

لكن يبدو أن ذلك لم يستوعب آلام الرؤية، الناتجة عن البصيرة النافذة: حين ينكشف الداخل والخارج على ما لا نحتمله، وفى نفس الوقت نشعر بكل المسئولية ونحن نحتفظ بالتفاؤل ونمضى نبنى ونحن حزانى، ما وصلنى من هذه العيون التى أبلغتنى هذه الرسالة كان ملتهبا مخترقا “والقلم استعجلْ، ما لْحقـْشِى يترجِمْ، لـَتـْفـُوتُهْ أيُّها هَمـْسَةْ، أو لمْسَةْ، أو فتفوتِةْ حس” فجاء الشعر هذه المرة “بالعامية” فى قصيدة “الدمعة الحيرانة” من ديوانى “أغوار النفس” وانا أقرأ هذه العيون هكذا:

والعين‏ ‏الواعية‏ ‏الصاحية‏ ‏المليانة‏ ‏حُزْن‏.‏

‏(1)

عمركشِى ‏شفتِ‏ ‏بقرة‏ ‏واقفةْ‏ ‏لوًحْديهَا‏،‏ مربوطة‏ ‏فْ‏ ‏شجرة‏ ‏توتْ‏، ‏جنب‏ ‏الساقية‏،‏

‏ ‏وعْنـِيهَـا‏ ‏الصاحية‏ ‏تحتيها‏ ‏دمعة‏ْْ،……لا‏ ‏بتنزلْ‏ ‏ولا‏ ‏بتجفْ‏‏؟

عمّالة‏ ‏تْبُصّ‏ ‏لزميلتْهَا‏ ‏المربوطهْ ‏ ‏فى ‏النـَّافْ‏،‏  والغُمَى ‏محبوك‏ْ ‏عالراسْ‏،‏

والحافِر‏ ‏يُحْفُرْ‏ ‏فى ‏الأرضِ ‏السكة‏ْ ‏اللِّى ‏مالهاش‏ْ ‏أوّل‏ ‏ولا‏ ‏آخـِرْ؟

(2)

والبقرة‏ ‏الواقفة‏ ‏تقول‏:‏

أنا‏ ‏كنت‏ ‏بالـِفْ‏ْ ‏ومشْ‏ ‏دَاريْـَةْ‏ ‏كان‏ ‏لازْمـِتُه‏ْ ‏إيه؟

بتشيلُوا‏ ‏الغُمَا‏ ‏من‏ ‏عَلَى ‏عينِى ‏وتْفكُّونىِ ‏ليهْ؟

عَلَشانْ‏ ‏أرْتَاحْ؟….. هِـيَّا ‏دى ‏راحَـهْ ‏إنى ‏أشُـوفْ‏ ‏ده‏‏؟

لو‏ ‏حتى ‏لْبِسْت‏ ‏الغُمَى ‏تانى ‏مانـَا‏ ‏برضه‏ ‏حاشُوفْ‏.‏

وساعتها‏ ‏يا‏ ‏ناس‏:‏    مش‏ ‏حاقْـدر‏ ‏ألفّ‏.‏

‏…. ‏ما‏ ‏هو‏ ‏لازمِ ‏الواحدْ‏ ‏ما‏ ‏يشوفشِى،‏ لو‏ ‏كانْ‏ ‏حايلِفْ‏.‏

‏(3)‏

الله‏ ‏يسامحكمْ‏، ‏دلوقتى:‏

لا‏ ‏انا‏ قادره‏‏ْْ ‏ارتاحْ‏،‏

ولا‏ ‏قادره‏ ‏ألفْ‏.‏

لا‏ ‏الدِّمْعَهْ‏ ‏بْتِـنْزلْ‏،‏

ولا‏ ‏راضيةْ‏ ‏تْجِفْ‏.‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *