الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الدستور المصرية / صيد الأحاسيس، وذباب الكلمات فى معرض الكتاب

صيد الأحاسيس، وذباب الكلمات فى معرض الكتاب

نشرت فى الدستور

       06-02-2008

تعتعة

صيد الأحاسيس، وذباب الكلمات فى معرض الكتاب

منذ خمس سنوات كتبت بمناسبة معرض الكتاب عن مسئولية القراءة (الأهرام 13 يناير 2003)، بدأت بأن مهدت بالرشوة المعتادة قائلا: “…هذه‏ ‏المناسبة ‏التى ‏تلتقى ‏فيها‏ ‏العقول‏ ‏العربية‏ ‏ببعضها‏ ‏البعض‏، ‏فتتذكر‏ ‏ما‏ ‏نسيت‏، ‏وتستعيد‏ ‏ما‏ ‏فات‏، ‏وتتفق‏ ‏وتختلف‏. ‏وتستكشف‏ ‏وتتحاور‏،‏… ‏تستنشق‏ ‏رحيق‏ ‏عقول‏ ‏الفكر‏ ‏البشرى‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏حدب‏ ‏وصوب‏، ‏بكل‏ ‏حرف‏ ‏وصوت‏….إلخ” مما سمح لى أن أنطلق أشككّ فى جدوى هذا المهرجان السنوى، وأتساءل عن جدوى الكلمات على الورق، وأن القارئ الذى لا يتحمل مسئولية ما يقرأ، عليه أن يوفر وقته، حتى لا يزداد اغترابا، أو يمتهن المكتوب … إلخ.

أذكر أننى قرأت هذا المقال – كعادتى طوال 12 سنة – على شيخى نجيب محفوظ، الذى كان من فرط طيبته يجامل كل من حوله بالموافقة على العمّال على البطال، إلا أنه فى هذه المرة صَمَتَ لفترة أطول وقال “لا، أنا غير موافق”، وحين استوضحته، قال أنت تعجّز الناس هكذا، من أين لك أن تعلم ماذا وصل للقارئ مما يقرأ، وكيف تفاعل معه، وماذا تبقى منه، وبأى قدر أثر فيه، القراء أنفسهم لا يعرفون (لم يقل: “ولا أنت”، ولم يُضِفْ: “ولا أنا”، لكنها وصلتنى هكذا من فرط أمانته وطيبته وعدْله).

منذ أكثر من سنوات كلما انعقد المهرجان وهممت بالذهاب، انظر فى مكتبتى أولا، وأقلب فى الكتب التى لم أقرأها، واقول لنفسى معاقبا، “… حين أنتهى من قراءة ما سبق أن اقتنيته سوف أذهب”، واعتاد أبنائى وبناتى من ظهرى، ومن فكرى – كل عام – وهم يعرفون توجهاتى، أن يقتنوا لى من كتب التطور، والإبداع، والإيقاع، والمنهج، أهم ما يتصورون أنه يهمنى، فرحت بذلك ووجدت فيه ميزة إضافية، هى أنهم يرفضون، أو يخجلون، أن يقبضوا ثمنها، فتصبح هدية (عادة).

تصادف أن معرض الكتاب هذا العام تزامن مع الندوة الثقافية الشهرية لجمعيتنا “الطب النفسى التطورى”، وكان أن اقترح ابن لى هو الدكتور محمود حجازى مناقشة كتاب “مخيلة الأمكنة” تأليف د. خليل النعيمى (الجراح الماهر، والأديب والشاعر السورى المقيم فى باريس) من إصدارات مكتبة الأسرة 2003 أيام أن كانت مهرجانا أكثر عطاء وتدفقا، قاومتُ اقتراح عرض هذا الكتاب جهلا وتسرعا، لكن الدعوة كانت قد أرسلت، فاضطررت هذا الصباح أن أقرأه متعجلا جدا، فإذا بى أفاجأ بشاعرية وحيوية تدخلان إلى خلاياى بلا استئذان، فتربكنى، وتغيرّنى، وتجعلنى أتراجع ليس فقط عن اعتراضى على اقتراح الكتاب للندوة، وإنما أيضا عن زعم ضرورة حمل مسئولية الكلمة، بوعىٍ كامل، أولا بأول.

الكتاب من أدب الرحلات، لكنه قصيدة طويلة تناغمت فيها الأمكنة مع الوعى مع الأمانة مع الأمل والحزن الجميل، وقد أحيت قراءتى له بداخلى أماكن خلقتها فى رحلاتى من قبل، كما سمح لى أن أعايش أخرى إبداعا نابضا لا مجرد قراءة، وقد أخذنى الكاتب من اليمن إلى مراكش إلى أثينا فروما وعمان وطنجة، والدانوب وأسطنبول، ولشبونة، وحين عرج إلى موريتانيا والقاهرة وختم بدمشق اكتلمت السيمفونية.

 قلت أنتهز الفرصة لأقتطف ما يناسب المناسبة!

 نقرأ معا:

“… هنا يبدو واضحًا أن تلقف “مفهوم الحداثة” الغربى، وتقليده بشكل “قِرْدى” شوه مسارات ومشاريع، خرب قواعد وحيوات، وفتت تراكمات تاريخية عظمى لصالحه (لصالح المفهوم الذى لم يكن معلومًا)! وهو ما يحيرك الآن، وأنت تنظر حولك مرعوبًا تنظر فى هذه الكتل الإنسانية الداشرة، مثل قطعان بلا رعاة!..” (ص 186)

“… نحن العرب البؤساء صرنا نخاف من الريح فى البرية، ونحتار من شدة القمع الممارس علينا، حتى ونحن بعيدون، ولكن من كتب علينا الذلة والمسكنة حتى يوم القيامة؟ اللعنة…” (ص 199)

“… الثقافة العربية البائسة: ثقافة الرضيع من غير ثدى أمه، هى التى تحيل إلى التشدق والتملق، وهى التى تسهل الانحناء الوضيع أمام المؤسسات، حتى ولو كانت دون قيمة تاريخية، وإلا كيف نفسر اجتماع “كبار المثقفين” العرب المعاصرين فى جريدة واحدة، تصدرها، أو تساهم فى إصدارها، أكبر دولة رجعية فى العالم؟ وكل ذلك بحجة أنها مقروءة! مقروءة فقط؟ لكنهم ينسون أنهم “مقرؤون – مرميون” رأساً ! ولا أثر تاريخيا لما يتقيئونه كل يوم!..” ( 220)

“… كما هى الحال مع أكثر ما “يفرزه” المثقفون العرب اليوم وفى مقدمتهم أنا. فالكتابة الحقيقية هى صيد الأحاسيس، ونحن مازلنا نصيد ذباب الكلمات…” (ص 222)

وبعد

تخترقنى الكلمات فلا أملك إلا أن أحمل مسئوليتها بوعى أو بدون وعى

رحمك الله شيخنا الجليل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *