الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الدستور المصرية / قصيدة اسمها: عبد الوهاب المسيرى

قصيدة اسمها: عبد الوهاب المسيرى

نشرت فى الدستور

9– 7 – 2008

تعتعة

قصيدة اسمها: عبد الوهاب المسيرى

“..كان يوما عابقا برائحة التاريخ والأزلية، حلمت أننى أسير فى حقول المشمش، رائحته الطيبة تمسنى مسًّا، ونوّاته البيضاء تحوم من حولى كفراشات نورانية، وحينما استيقظت، كان الفرح يسرى فى كيانى”..

“و… وفى الصباح أخبرنى صديقى أننا سنذهب إلى عزاء شهيد فلسطينى..”

“..جاء مجلسى إلى جوار عجوز من أتباع الشيخ عز الدين القسام (رحمه الله)..”

“….. صمت العجوز قليلا ثم تحرك :انه جبل قديم من جبال فلسطين..”

“حين خرجت من المستشفى تساءلت “هل تموت الفروسية بموت الفارس..هل تموت البطولة باستشهاد البطل؟”

وهل يختفى الصمود إن رحل بعض الصامدين..؟

* * *

هذا بعض ما كتبه عبد الوهاب المسيرى لمقدمة موسوعته (اليهود واليهودية والصهيونية) وهو يهديها إلى أبى سعيد: خالد الحسن..

أنهى عبد الوهاب المسيرى حياته القصيدة، حين انتقل راضيا مرضيا إليه،

أوقفنى ذهابه وقفة أخرى أمام الموت: ذلك الشعر الآخر (كما قال أدونيس فى رثاء صلاح عبد الصبور) فأدركت أكثر ماهية الشعر.

هكذا فعلها المسيرى

 أول ما تعرفت عليه شاعرا (بمنطقى الخاص) كان ذلك فى أواخر سنة 1973 (سنة الحرب العظيمة) وكان معه ابنته نور وابنه ياسر، وهو يشترك مع ابنته وابنه فى قرض شعر بالانجليزية (على ما أذكر) هو يقول شطراً (أو لعله يعزف نغمة) فيكملها ابنه، أو ابنته أو بالعكس.

 فرحت فرحا شديدا بهذا الإبداع الجماعى، وعرفت نوعا آخر من الشعر.

عرفت بعد ذلك أنه يكتب الشعر، ويكتب للأطفال، لم تتح لى الفرصة أن أقرأ هذا وذاك، وإن كنت قد أرسلت “حالا” لاقتناء بعض ذلك.

 الذى أكتب عنه ليس شعره، وإنما قصيدته التى هى رحلته الزاخرة بنبض الحياة، والتى انتهى “آخر/ أول” بيت فيها منذ أيام: “عبد الوهاب المسيرى” القصيدة/الحياة.

لم أعرفه صديقا برغم ما أتاحه لى أخى الصديق أ.د.محمد شعلان فى تلك الفترة الباكرة عقب عودتهم فى أوائل السبعينات من بلاد العم سام، عرفنى به وبالمرحوم أ.د. كمال الابراشى والسفير تحسين بشير، صاحبت الثلاثة عن بعد ولم ألتق د. المسيرى بعد ذلك إلا بالصدفة فى ندوة منذ عام وبعض عام عقدت فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسة عن “الحوار بين الحضارات” وفوجئت به يسألنى بعد إلقاء محاضرتى السؤال الذى كنت أحب أن أسمع إجابته منه، وحين ظل الطريق مفتوحا بيننا لكل الاحتمالات، شعرت أن هذا الرجل القصيدة ينبض شعرا.

كان قد تولى قبل أسابيع مسئولية حركة “كفاية”، وكان حاضراً تلك الندوة وتحت إبطه تلك السنادة الطويلة كساق ثالثة ينقلها فى خفة رشيقة تؤكد لى عزيمته وقوته وهو يتولى هذه المسئولية دون أن تعيقه إعاقته

وحين امتُحن امتحانا صحيا أصعب، وسافر للعلاج، وعاد فى إفاقة واعدة، وصرّح بفضل الله وقوة اليقين أنه استعاد صحته، اطمأننت بلا تردد، لكن يبدو أنه غيّر رأيه وعدّل النهاية، وإذا به يكتب آخر بيت فى القصيدة منذ أيام.

فهل نحسن قراءتها ؟

وهل نعرف كيف تكون الحياة نفسها شعرا؟ وكيف يكون الشعر هو حلم التغيير على أرض الواقع؟ وكيف يكون الحلم هو الواقع الآخر .

إن فرط تفهمى مؤخرا للموت والشعر بعيدا عن القبر والنَّظْم، جعلنى أستقبل خبر رحيله بأنه البيت الأول فى قصيدته الأخيرة، قصيدتنا الجديدة.

 تساءلت: إذا كنت قد صالحت الموت، كما أدعى فما الذى يزعجنى وأنا أعيش مفاجآت الفقد هذه.

نعم! لماذا كل هذا الانزعاج ؟

لكن هذا هو ما حدث، ويحدث

استغفر الله العظيم.

حين كنت أتابع قراءه حياته قصيدة عن بعد، كانت آلامه تصلنى دون علمه، فأدعو له وأشكره، لأختم تحيته – لا رثاءه- (بعد أن وصلنى ديوانه حالا)، متقطفا شعره من قصيدة بعنوان: “أغنيةٌ للطفلة العنقاء، قبل أن تنام فى الليلة الأخيرة” يقول فيها:

…….

…….

“كان الفرسُ – يا صغيرتى- يسيرُ على الأسفلت الساخن

مطأطئَِِ الرأس

يجرُّ العربة.

على جسده كانت تمر العجلاتُ.

تدور وتدور وتدور،

إلى أن تصل إلى أذنيه ثم فمِه،

فيبلعُها ولا يبوح.

كان يسير بجوار السيارات الرتيبة

يَشَمُّ الدخَانَ والضجيج.

وعند إشارة المرور

كان يقف ذليلاً

يتلقى السِِّياط ويَمضُغ العلفَ الرتيب.

…….

…….

وحين ارتطمَ بالسور

صرخ – يا صغيرتى- فى صمت،

سقطَ على الأرض،

نزفَ دمُه

ثم أغمض عينيه.

ولكننى – ذلك المساء- رأيتهُ يرتادُ السُّحُب”

…….

…….

****

سلاما يا سيدى سلاما

صاحبتك السلامة

 يا سيدى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *