إنى لو لم أولد مصريا…!!

نشرت فى الدستور

6-8-2008

 تعتعة

إنى لو لم أولد مصريا…!!

هل يولد الإنسان إنسانا أم أنه يوجد مشروعا لاحتمال أن يكون “بشرا سويا”؟ ما هى الحقوق الطبيعية والحقوق الموضوعة، والفرص المتاحة، والأنظمة المنضبطة، والتربية الصحيحة التى تتيح الفرصة لهذا الكائن الحيوى البادىء، أن يحقق مشروعه، فيتخلق إنسانا يتمتع بسمات أعلى مثل: الوعى والكرامة والاختيار، كما يعيش حقوقا أرقى مثل: الاعتراف به، واحترام رأيه، وإقامة العدل بينه وبين أفراد نوعه؟

تبدأ خطوات تحقيق هذا المشروع بأن يولد الإنسان من أُمٍّ تتمتع بهذه الصفات، فى أسرة تمارس هذه الصفات، هى وحدة فى مجتمع يعرف وينمى هذه الصفات، مجتمع هو جزء من عالّمٍ يسعى إلى تحقيق هذه الصفات، فيتخلق الوليد بمرور الزمن “إنسانا” له قيمة وكرامة ومعنى.

أين هذا مما نحن فيه الآن فى مصر المحروسة؟

لن أتعرض لحكم المحكمة فى جريمة العبارة، فليس هذا هو موضوعى ، ولا هو من حقى، كما لن أتعرض لآلام الفقد، ولا لفجيعة الأهل، ولا للشعور بالظلم، ولا للاشتباه فى خلل الضمائر، لكننى أتساءل عن موقفنا نحن الأحياء “هنا والآن”، وما تبقى من الضحايا فينا، هل ماتوا وانتهوْا، أم أنهم مازالوا داخلنا؟

 ما هى الرسالة التى وصلت إلينا؟ كيف يتلقى أولادنا معنى الجارى، قضاءً وإعلاما؟ هل يدفعنا ذلك، دون قصدٍ، أن نراجع “قيمتنا” أنفسنا أمام أنفسنا وأمام الله ؟ كيف؟

تعلمتُ من “علم العقاب” من أساتذتى المستشارين أثناء إسهامى فى إعداد رجال القضاء المبتدئين أن للعقاب وظيفتين هما: “الردع الخاص”: أن يرتدع المجرم فلا يعود لإجرامه، والردع العام: حتى يعلم  سائر الناس أن الجريمة لا تفيد، وأن من يرتكبها منهم سوف يلحق به نفس الجزاء الذى لحق بالمجرم المُدان، ومن هنا جاءت حكمة علانية المحاكمات إلا للضرورة القصوى، هكذا يتعلم الناس من القانون وتطبيقه تحت سمعهم وبصرهم كيف يسهم العدل أن يقوّمنا لنواصل مسيرتنا لنكون “بشرا أسوياء” فى مجتمع سليم، ويظل “الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره”، حتى لو كانت تلك المعاذير هى حكم المحكمة.

شغلنى ردحا من الزمن اهتمام الإسرائيليين باسترداد رفات موتاهم، وكيف يتبادلون حفنة من التراب وبعض العظام وجمجمه بعشرات أو مئات الأحياء من أسْرانا الأحياء الأقوياء الخطرين عليهم فور عودتهم، ما هى الرسالة التى تبلغها حكوماتهم وإعلامهم هكذا إلى ناسها من الأحياء مهما كانت مبنية على خرافات غبية وأساطير فوقية؟

فهمت مؤخرا، خاصة بعد التبادل الأخير بين حزب الله وإسرائيل أن الحكومة الاسرائيلية – بذلك – تقول للمواطن الاسرائيلى – ولو إيهاما وغرورا -: أنت عندنا لك كل هذه القيمة حيا وميتا، ومن ثَمَّ يتشكل انتماؤه للأرض التى يعيش عليها (مع أنه اغتصبها من أهلها) ، وللناس الذين احترموه، ولو دون أحقيته فى ذلك.

رجعت للتأمل المقارن وسألت نفسى ذات السؤال: ما هى الرسالة التى يمكن أن تصل المواطن المصرى، خاصة الأصغر فالأصغر، من المشهد الجارى هذه الأيام: قضاءً وإعلاما؟ أنا شخصيا وصلتنى رسالة خشيت منها على صغارنا، رسالة مؤلمة، تقول: أنت لا تساوى شيئا، بل لعلك عبء علينا بوجودك وإصرارك على إنجاب أمثالك، أنت لستَ من حقك أن تواصل مسيرتك بشرا، أنت بلا قيمة ولا كرامة ولا شىء.

حضرنى مصطفى كامل يغيظنى وهو يبرم شاربه ساخرا ويردد: “إنى لو لم أولد مصريا لوددت أن أكون مصريا”، فتقفز إلى وعيى أغنية غنيتها يوماً مع فريق الجوالة إلى الشام بأعلى أصواتنا فى شوارع بيروت سنة 1954 “اسلمى يا مصر إننى الفدا”، لأتوقف عند مقطع “.. إن رمى الدهر سهامه، أفتديها بفؤادى، واسلمى فى كل حين”، كنا نغنيها بأعلى صوت، فتهتز الراحلة، ويصفق لنا الناس فى الشوارع.

كيف يفتدى شبابنا اليوم مصر بفؤاده وهذه هى قيمته كما تصل إليه من كل الجارى دون استثناء؟

 هل عرفنا الآن لماذا يتزوج الشباب المصرى إسرائيليات، ولماذا ينتحر على شواطئ إيطاليا دون حاجة لجهود أصحاب العبارات!!

وبعد

أخشى ما أخشاه أن تتراكم أكثر فأكثر تلك الرسائل التى تصل شبابنا خاصة من مثل هذه التجاوزات والصفقات والتربيطات والإهانات والظلم، فيمتلىء وعيه بشعارات وهواجس عكسية، حضرنى منها مثلا:

 “إننى لو لم أولد مصريا، لكانت أمامى فرصة أن أكون بشراً سويا …”

“إننى لو لم أولد مصريا، لفضّلت أن أكون …..”

أرفض أن أتمادى لأتقمص شابا مصريا آخر يقول:

 “إننى لو ولدت إسرائيليا….”!! يا خبر!! هل هذا ممكن؟!!

ولا حوة ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

لا .. لن يستمر “هذا” هكذا أبداً،

 أبداً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *