الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة المصور / الهروب إلى جنة المسكنات

الهروب إلى جنة المسكنات

نشرت فى جريدة المصور

عدد: 4454

 17-2-2010

الهروب إلى جنة المسكنات

لا تقتصر ظاهرة استعمال المسكنات – التى هى أحد مجموعات المخدرات – على فئة الشباب فحسب، وإنما هى تنتشر بازدياد فى كل الأعمار بشكل يحتاج وقفة مراجعة، بل صيحة نذير.

المسألة تبدأ من النظر فى ما آلت إليه منظومات القيم المعاصرة عبر العالم، حيث تمثل القيم السائدة الأرضية التى تترعرع فيها هذه الظاهرة، وأساساً قيمة الرفاهية والسعى إلى الحلول السريعة، إن تكرار الحديث عن أن الهدف الأول وأحيانا الأخير فى الحياة هو تحقيق مجتمع الرفاهية وبأسرع ما يمكن، يصل إلى أولادنا وبناتنا فى سن مبكرة، مع أن أغلبنا يعيش فى مجتمعنا دون أية رفاهية أصلا حتى كلمة الرفاهية التى نرددها معظم الوقت هى ترجمة رخوة للكلمة الانجليزية المقابلة.

اعتماد الشباب على المسكنات فالمخدرات هو ‏كارثة‏ ‏لها‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏وجه، ‏ولا‏ ‏يمكن‏ ‏اختزالها‏ ‏إلى ‏تفسير‏ ‏واحد، ‏فمن‏ ‏ناحية‏ ‏هى ‏إعلان‏ ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏قوة‏ ‏شرائية‏ ‏مادية‏ ‏قد‏ ‏وجدت‏ ‏فى ‏حوزة‏ ‏من‏ ‏هو‏ ‏ليس‏ ‏أهلا‏ ‏لحمل أمانتها، ‏فلا‏بد‏ ‏أن‏ ‏نتذكر‏ ‏ابتداء‏ ‏أن‏ ‏مسيرة المسكنات التى توصل إلى المخدرات قد تكلف‏ ‏‏صاحبها‏ ‏فى ‏اليوم‏ ‏الواحد‏ ‏ما‏ ‏يقيم‏ ‏أود‏ ‏عشر‏ ‏أسر‏ ‏مجتمعة‏.‏

‏ ‏ومن‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى يشيع بيننا اعتقاد راسخ أن الألم هو شىء قبيح على طول الخط ومن ثم نحن نلجأ إلى‏ ‏الحل‏ ‏الهروبى من أى ألم، حتى لو كان ضروريا لمسيرة الحياة فكأن تعاطى المسكنات أصبح هو الترجمة لموقفنا الصعب أمام واقعنا الأصعب‏.‏

ومن‏ ‏ناحية‏ ‏ثالثة‏ ‏يحل المسكن بما يسهله من هرب صعوبة‏ ‏مواجهة‏ ‏العيش‏ ‏”معا” ‏وسط‏ ‏ناس‏ ‏حقيقيين‏ ‏مختلفين‏ فنتجنب بذلك عبء العلاقات البشرية التى أصبحت أصعب فأصعب نتيجة للوعى بالاختلاف الضرورى للنمو.

وأخيرا‏ ‏فإن‏ ‏التسكين‏ ‏يلوح كأنه‏ ‏جنة‏ ‏كيميائية‏ ‏مضمونة، فى ‏مقابل‏ ‏التلويح‏ ‏بجنان‏ ‏مؤجلة‏، ‏إن الذى يتعاطى المسكنات للإسراع بإزالة أى ألم مهما بلغت ضآلته، أو عظمت أهميته إنما يخيل إليه أنه يحصل على عصفور‏ ‏فى ‏اليد، لأنه لم يعد واثقا من جنة مؤجلة موعودة، ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏يقابل‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المقام‏ ‏ما‏ ‏نوجزه‏ ‏فى ‏قول‏ ‏مواز‏: ‏جنة‏ ‏بالسم‏ ‏خير‏ ‏من‏ ‏جنان‏ ‏غير مضمونة‏.‏

حتى الدين الذى هو التزام وسعى وعلاقة إيجابية بالله وبالحياة، اختزله بعض المسطحين من المفسرين إلى أنه دعوة إلى طمأنينة ساكنة، وبالغوا فى الوقوف عند مرحلة “النفس المطمئنة” غير منتبهين إلى ما تلا هذه الآية الكريمة فى التنزيل الحكيم من دعوة إلى حركة هادفة نحو الناس، بل فى الناس، فى قوله تعالى “أدخلى فى عبادى” ثم بعد ذلك “أدخلى جنتى” إن تسويق السكينة على حساب الحركية اليقظة تنتمى إلى الإعلاء من قيمة سكينة خاملة فينقلب الدين إلى نوع آخر الاستسهال ناسين أن الإنسان مدعوُّ إلى أن يكدح إلى ربه كدحا طول الوقت، وكل ذلك يمثل مزيدا من الدعوة إلى تجنب الألم بأسرع ما يمكن، ولأن الدين الساكن لا يحقق هذا الهرب الموعود عادة، تقفز البدائل، ومنها المسكنات، إلى الواجهة كبديل جاهز.

الحاجة إلى حوار حقيقى

كثرة اللجوء للمسكنات عند الشباب يعلن أيضا‏ ‏فشلنا‏ ‏فى ‏أن‏ ‏نحترم‏ ‏فطرته‏ ‏ونحن نتحاور معه إن كنا نتحاور أصلا، ثم إن معظم‏ ‏المؤسسات‏ ‏التى ينشأ الشباب فى رحابها هى المؤسسات‏ الاستهلاكية المغتربة أو السلطوبة القامعة، أو الدينية الساكنة.

تأتى بعد ذلك مسألة كيف يؤدى تعاطى المسكنات إلى إدمان أخطر: إن تعود تناول مادة ما، لها أثر على الجهاز العصبى، يحدث تغييرا فى الوعى، وعادة ما يكون هذا التغير من نوع التعتيم، ثم يترتب على هذا التغير والتعتيم إعاقة عن ممارسة الحياة العادية كما تتطلبها وتنبض بها الطبيعة البشرية، وأهمها أن نعمل وأن نحب، وأن نقبل جرعة من الألم تحفز على الحركة والإبداع.

ثم إنه علىّ أن أعترف أن دور الأطباء فى ترويج هذه القيم المسئولة عن مفاهيم التسكين المستمر هو بالغ الخطورة، ذلك أن معظم الأطباء يختزلون المرض، “النفسى خاصة”، إلى نقص أو زيادة فى مادة كيميائية معينة، وبالتالى فكل ما عليه هو معادلة هذا الخلل، مما لا شك فيه أن العقاقير مفيدة، لكنها ليست الحل السعيد دائما، إن الكيمياء تسهم فعلا فى إعادة تنظيم الطبيعة، لكنها إذا استخدمت لإلغاء الحركة والقضاء على الألم كله أصبحت مسئولة عن حياة خامدة بلا ألم.

دعونا نقر أن أغلبية المرضى لا يقتنعون بأى علاج دون تسكين، و‏معهم‏ ‏كل‏ ‏الحق‏، ‏ولكن على الأطباء أن يتحملوا مسئوليتهم وهم يضبطون الجرعة المناسبة من الألم اللازمة للحفاظ على حيوية الوجود، فى مقابل حق المريض ألا يتألم ألما مفرطا معجزا.

وأخيرا نتذكر دور شركات الأدوية وأكثرها يقوم بتجارة مشبوهة فى هذا المجال ‏فشركات‏ ‏الدواء‏ ‏فى ‏الولايات‏ ‏المتحدة‏ ‏الأمريكية ‏-‏مثلا‏-، ‏هى ‏ثالث‏ ‏مركز‏ ‏قوى ‏سياسى (‏لوبى‏) (‏بعد‏ ‏شركات‏ ‏السلاح‏ ‏واليهود‏) ‏وهى تمثل ‏مؤسسات‏ ‏عملاقة‏ ‏لا‏ ‏تؤثر‏ ‏فحسب‏ ‏على ‏وصفات‏ “‏روشتات‏” ‏الأطباء‏، ‏وإنما‏ ‏تشكل‏ ‏البحث‏ ‏العلمى ‏ومناهجه بما يخدم ثرواتها وليس بما يخدم المرضى‏،.

المصيبة‏ ‏أن‏ ‏النتائج التى تخرج من معامل الأبحاث هى نتائج جيدة فى ذاتها، لكن هذا‏ ‏حق‏ ‏يراد‏ ‏به‏ ‏باطل‏، ‏لأن‏ ‏كل‏ ‏النتائج التى تخرج من المعامل‏ ‏هى ‏معلومات‏ ‏جزئية‏ ‏لا‏ ‏تثبت‏ ‏شيئا‏ ‏أو‏ ‏تنفيه‏ ‏إلا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏رؤية فاعليته على أرض الواقع‏ ‏مع‏ ‏بقية‏ ‏الحقائق‏، ‏ومن‏ ‏خلال‏ ‏الممارسة‏ ‏العملية‏ ‏مع‏ ‏المرضى (‏والأصحاء‏)‏.

 وختاما، إذا كنا نريد أن نواجه مسئوليتنا، بما ينبغى كما ينبغى، علينا أن تتناول المشكلة على عدة محاور:

الأول‏: ‏المحور ‏الإدارى ‏والتنظيمى الذى ينبغى أن ينظم تداول‏ ‏هذه‏ ‏العقاقير‏ (‏وذلك بإحكام‏ ‏القانون‏ ‏والضبط‏ ‏والربط)، بشكل لا يكتفى بالسماح بصرف المسكن ما دام مكتوبا على وصفة (روشتة) طبية، دون سحب هذه الروشتة من المريض (أو الزبون) بحيث لا يمكنه إعادة صرفها.

أما‏ ‏‏الثانى: ‏وهو‏ ‏الأصعب‏، ‏فهو‏ ‏الذى ‏يتعلق‏ ‏بتغيير‏ ‏مفهوم‏ ‏الأطباء‏ ‏ليس‏ ‏بالنسبة لموقع‏ ‏الدواء المسكن‏ ‏بين‏ ‏العلاجات‏ ‏الأخرى، ‏وإنما‏ ‏تغيير‏ ‏مفهومهم عن‏ ‏المرض‏ ‏والصحة‏ ‏عموما‏، باحترام الألم الخلاق والألم المنذر، وفى نفس الوقت التخفيف من الألم المعيق والألم الساحق.‏

‏إن‏ ‏تغيير‏ ‏هذا‏ ‏المفهوم‏ ‏جذريا‏ ‏سيجعل‏ ‏الطبيب‏ ‏قادرا‏ ‏على ‏استيعاب‏ ‏حركية المواجهة مع المرض‏، ‏والإسهام‏ ‏فى ‏دفع‏ ‏عجلة الشفاء‏ ‏بإعادة‏ ‏التوازن‏، ‏وليس‏ ‏بوقف‏ ‏الحركة.

المحور الثالث: ‏هو فى مجال التربية والتعليم مع التأكيد على الوصلة بين المدرسة والأسرة، لتعميق مفاهيم أكثر إيجابية، وأعمق مسئولية، وأقرب إلى حقيقة الطبيعة البشرية فى كدحها للنمو والتطور.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *