الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الدستور المصرية / حذار أن نسكب اللبن (تعتعة سياسية)

حذار أن نسكب اللبن (تعتعة سياسية)

نشرت فى الدستور

31-8-2005

حذار أن نسكب اللبن

(…مش يمكن الصورة تتطلع حلوة !؟)

المنظر: خالتى نجيبة تجلس بين ساقى بقرتنا الطيبة، تمسك ضرعها الخائف حتى الانكماش، تحننه كما يحنن المحب الواثق الرقيق امرأة عصيّة، يمتلئ الضرع بما يعلن الاستجابة، يمتلئ الطاجن لبنا تصل رائحته الغامضة الطازجة الجميلة إلى أى أنف حى يقظ، تقوم خالتى نجيبة ممسكة الطاجن بين يديها، يقع الطاجن منها وينكسر، فينسكب اللبن،  فيحضرنى قول الشاعر:

وإنكَ إذ أطمعتنى منك بالرضا        وأيأستنى من بعد ذلك بالغضب

كممكنةٍ من كفها ضرع حالب        ودافقة من بعد ذلك ما حـلب

أرفض البيت الأول، وتلتحم صورة خالتى نجيبة بإيحاءات البيت الثانى، أتطلع  إلى ما بعد يوم 7 سبتمبر، لا لأعرف من الذى نجح (عيب كذا) لكن لأعرف ماذا تبقى من كل هذا الذى يجرى. يدى على قلبى أن نسكب اللبن تسرعا أو غفلة بعد أن استطعنا أن نحنن ضرع تلك البقرة الحلوب (مصر، وليس حكامها).

أطلت على هذه الصورة والخوف يملؤنى أن يتنكر أولوا الأمر لما اضطروا إليه، كل هذا العبث الجارى، يشكك أى مخلص فى جدية ما يحدث، كل تلك الصور الهزلية الثقيلة الظل تكشف كيف يتعاملون مع  الوعى الشعبى باعتباره أبلها يتهته. (تعرف الكدبة من إيه ؟ قالك من كبرها!!) خشيت  أن يتردد فى وعى الناس بعد 7 سبتمر ما معناه :

فإنك إذْ عدّلت نصَا مخادعا            وأيأستنا من بعد ذلك بالعبث

كممكنة من وعيها حلم ناخبٍ         وناكرة  من بعد ذلك ما حدث

على ذكر البقرة الحلوب تقفز إلى وعيى صورة أخرى قديمة أيضا:

 المنظر:  شارع منصور، باب اللوق، حجرة على السطح (مسكن المرحوم التشكيلى كمال خليفة) الوقت سنة 1968، الشيخ إمام وثلاثة حوله أنا أحدهم . الشيخ يدندن ويبلع ريقه قبل أن  ينطلق مترنما ” ناح النواح والنواحة، عالبقرة السودا النطاحة، والبقرة حلوب (فنرد: حاحا)، تحلب قنطار (حاحا) لكن مسلوب (حاحا) من أهل الدار”… الخ. يتسلطن الشيخ إمام وهو يظهر قدراته على تلحين أى شىء عددا لا نهاية له من الألحان، ولو “تلات تسطر”، نتحدى فيجرب: تلات تستتر، ترانسستور، يارب استر- –  تلااااات تسطر، ترااااااانستور، يارااااااب استر، (إلخ) أرجع إلى الصورة الأولى، أكرر معه وأنا خائف من سكب اللبن ” يا رب استر”.

هل حقيقة أننا نرفض الخروج من القفص نستنشق الحرية كما جاء فى مقال رئيس التحرير العدد الماضى؟ هل حقيقة أن الإنسان يخاف من الحرية كما علمنا إريك فروم منذ نصف قرن فى كتابه “الخوف من الحرية”؟ أم أن الحرية الممنوحة هى التى لا تشجعنا على  الحرص عليها فى مقابل الحرية المستردة عصيانا وفرضا، هذه هى الحرية  التى لا يفرط فيها صاحبها إلا بالموت؟ كنا صغارا نحفظ رجزا يقول  أوله “قد كان عندى بلبل فى قفص من ذهب” ، ولا يكاد الطفل يفتح باب القفص مجربا حتى ينطلق الطائر ويأبى أن يعود مرددا” ..وقال لى حريتى لا تشترى بالذهب”. الحرية ليست فى أن يفتح الطفل القفص، ولكن فى أن يرفض الطائر العودة..  ماذا وإلا فالإحباط تلو الإحباط، بلا طائل، هذا الإحباط هو ما أصابنا جميعا ونحن نكرر نفس النص منذ أكثر من نصف قرن. منذ وعدنا العسكر بعودة الديمقراطية والانسحاب إلى السكنات بعد ستة أشهر (مثلما يحدث فى موريتانيا الآن) . لم يف أحد منهم  بوعده أبدا.

 إن الإحباط إذا تكرر بانتظام فهو  قد يعلن أن الوعد “يصدر من غير أهله”، الطفل الذى يضحك عليه أبوه كلما طلب طلبا بقوله “إن شاء الله” سرعان ما ينبه والده فى المرات التالية أنه “ماتقولشى إن شاء الله” لأن الله لم يشأ فى المرات السابقة أبدا، المريض الذى يشفى من الاكتئاب الدورى (كل عام)  ليصاب به من جديد، يكره الشفاء،  فى ذلك يقول الشاعر القديم

أفى كل عام مرضُة ثم نقْهَة؟

وأنعى ولا أُُنعَى، فكم ذا إلى متى ؟

 شاعرنا القديم قالها من قديم “كفاية”!! (فكم ذا إلى متى؟)، كان يقول كفاية للحياة، وكفاية للبرء من المرض ما دام مؤقتا، وكفاية للمرض ما دام لا يحسم الأمر بالموت كما ينتظره ويرجوه. أتلفت حولى الآن، فأنسج على منواله وأنا أحاول أن أطرد خوفى مما هو بعد السابع (ليس الفاتح)  من سبتمبر، فأقول.

أفى كل  عهد  نكسة ثم وكسة   ونسعى ولا جدوى “فكم ذا إلى متى؟”،

أخشى ما أخشاه أننا لو استسلمنا لإحباط جديد، فسوف نكره الحرية كما كره الطفل “إن شاء الله”، وكما كره المريض الشفاء.

شاعرنا الأقدم يحذرنا من تكرار النص (الاسكريبت) أيضا حين يقول:

هل غادر الشعراء من متردم    أم عرفت الدار بعد توهم

أولى بنا ان نقول الآن :

هل غادر الحكام من مُتَعَسْكَرِ     أم هل عرفتَ الحق بعد تنكر؟

الذى يجرى الآن مهما بلغت عبثيته لن يستطيع أحد أن يلغيه ، أنا على يقين من انه سوف يتبقى لنا من كل ذلك مكسبُ ما. هل نعرف كيف نحافظ عليه؟ كيف  نتعهده ؟ هل نتحمل مسئوليته؟

هل يمكن أن ننتبه أكثر فأكثر حتى لا نسكب اللبن، ولا نعود للقفص، ولا نكره الشفاء؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *