الرئيسية / مقالات صحفية / اليوم السابع / هل نحن نصنع بطلا أم ننتخب رُبّانا؟

هل نحن نصنع بطلا أم ننتخب رُبّانا؟

اليوم السابع

الأربعاء: 30-4-2014

هل نحن نصنع بطلا أم ننتخب رُبّانا؟

إن ما مررنا به فى هذه السنوات الثلاثة ونصف، أعنى فى هذه الثلاث وستون عاما ونصف‏، ‏يدعونا‏ ‏إلى ‏مراجعة‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏نحن‏ ‏أو‏ ‏ما‏ ‏نتصور‏ ‏أنه‏ ‏نحن‏ ‏بجهد‏ ‏لا‏ ‏يكل‏. ‏إن‏ ‏تاريخ‏ “‏البطل‏” ‏و‏”‏البطولة‏” ‏يمثل‏ ‏منظومة‏ ‏محورية‏ ‏عبر‏ ‏تاريخ‏ ‏الحياة‏ ‏البشرية‏ ‏برمتها‏، ‏يتجلى ‏ذلك فى التاريخ والأسطورة‏ ‏كما‏ ‏يتجلى ‏فى ‏‏واقع‏ ‏الحياة‏ ‏معا‏، ولعل له وضع خاص فى التاريخ المصرى القديم والحديث. ‏

عبر‏ ‏التاريخ‏ ‏وحتى ‏الآن‏: ‏لم‏ ‏يعدم‏ ‏الناس‏ ‏وسيلة‏ ‏لتخليق‏ ‏الأبطال‏ ‏ما‏ ‏وجدوا‏ ‏إلى ‏ذلك‏ ‏سبيلا‏، ‏فإن‏ ‏لم‏ ‏يتمكنوا‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏على ‏أرض‏ ‏الواقع‏ ‏فإنهم‏ ‏يصنعونهم‏ ‏صناعة‏ ‏فيما‏ ‏يمارسون‏ ‏من‏ ‏فنون‏ ‏مختلفة‏ ‏على ‏مستويات‏ ‏متعددة‏: ‏من‏ ‏أول‏ ‏الملاحم‏ ‏الشعبية‏ ‏حتى ‏التصوير‏ ‏التشكيلى ‏مرورا‏ ‏بفن‏ ‏الحكى ‏طولا‏ ‏وعرضا‏. ‏الأمثلة‏ ‏أشهر‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يشار‏ ‏إليها‏ ‏تفصيلا‏ (‏مثلا‏: ‏الزناتى ‏خليفة‏ ‏وأبو‏ ‏زيد‏ ‏الهلالى ‏من‏ ‏أبطال‏ ‏الملاحم‏ ‏الشعبية‏). ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏الإبداع‏ ‏الحكائى الحديث ‏قد‏ ‏تناول‏ ‏القضية‏ ‏من‏ ‏أبعاد‏ ‏أروع‏، ‏وربما‏ ‏أكثر‏ ‏مصداقية‏ ‏من‏ ‏توثيق‏ ‏التاريخ‏ الرسمى، (‏راجع‏ ‏فتوات‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏عموما‏ ‏ثم‏ ‏خاصة‏ ‏فى ‏ملحمة‏ ‏الحرافيش‏)، ‏وقد‏ ‏بدا‏ ‏مؤخرا‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏تعد‏ ‏هناك‏ ‏حاجة‏ ‏أصلا‏ ‏لأن‏ ‏يركز‏ ‏أى ‏عمل‏ ‏إبداعى ‏على ‏بطل‏ ‏فرد‏  ‏أو‏ ‏يتمحور‏ ‏حول‏ ‏بطل‏ ‏بذاته‏.‏

فضل الديمقراطية الحقيقية:

إن‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏أفضال‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏الديمقراطية – قبل تشويهها واستعمالها حصريا لجمع المال وتزييف البطولات‏ – ‏أنها‏ ‏حين‏ ‏طبقت‏ ‏بشكل‏ ‏جيد‏ ‏حدت‏ ‏من‏ ‏إلحاح‏ ‏ظهور‏ ‏ودوام‏ ‏دور‏ ‏ما‏ ‏يسمى “‏البطل‏” (‏الزائف‏ ‏عادة‏). ‏أثبتت‏ ‏الديمقراطية‏ ‏الصحيحة‏ ‏أنها‏ ‏قادرة ‏ ‏على ‏أن‏ ‏تلغى ‏من‏ ‏قاموس‏ ‏البطولة‏ ‏صورتين‏ ‏متميزتين‏ ‏هما‏: ‏صورة‏ “‏الزعيم‏ ‏البطل‏- ‏الأوحد‏” ‏وكذلك‏ ‏صورة‏ “‏الزعيم‏ -‏البطل‏- ‏الخالد‏ ( ‏وليس‏ ‏فقط‏ ‏خالد‏ ‏الذكر‏) ‏أضف‏ ‏إلى ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏يسمى “‏الشفافية‏” ‏وهى ‏إحدى ‏آليات‏ ‏الديمقراطية،‏ ‏راحت‏ ‏تلاحق‏ ‏هؤلاء‏  ‏الأبطال‏ ‏أولا‏ ‏بأول‏ ‏فتخفف‏ من، ‏أو‏ ‏تحول‏ ‏دون،‏ ‏تقديسهم‏ و‏هى ‏تسارع‏ ‏بتعريتهم‏‏. ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏تحول‏ ‏دون‏ ‏تمنطقهم‏ ‏أنواط‏ ‏البطولة‏ ‏عمرا طويلا أو إلى الأبد.

مؤخرا‏ ‏حلت‏ ‏ألاعيب‏ ‏الإعلام‏ ‏الأحدث‏ ‏عبر‏ ‏الفضاء‏ ‏محل‏ ‏الملاحم‏ ‏الشعبية‏ ‏وكادت تحل قنوات الإعلام الأهلى محل الإعلام السلطوى‏. ‏فترتب‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏ظهرت‏ ‏بطولات‏ ‏براقة‏ ‏زائفة‏ ‏ولو‏ ‏لفترة‏ ‏قصيرة‏ ‏لكنها‏ ‏سرعان‏ ‏ما‏ ‏تتعرى ‏أمام‏ ‏خبطات‏ ‏الواقع‏ ‏فضلا‏ ‏عن‏ ‏ملاحقة‏ ‏الوعى ‏الشعبى (‏من‏ ‏خلال‏ ‏نفس الوسائل).

يا ترى لماذا‏ ‏احتاج‏ ‏ـ‏ ‏و‏ ‏يحتاج‏  ‏ـ‏ ‏الناس‏ ‏إلى ‏تصنيع‏ ‏الأبطال؟

 ‏سوف‏ ‏أكتفى ‏فى ‏هذا‏ ‏الصدد‏ ‏بثلاث‏ ‏مداخلات‏:

‏1) ‏الحاجة‏ ‏إلى ‏الاعتماد

الكائن‏ ‏البشرى ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏كذلك‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏حضور‏ ‏وعيه‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏وعى “‏آخر‏”  ‏من‏ ‏نفس‏ ‏نوعه‏ ‏على ‏أرض‏ ‏واقعهما‏ ‏معا‏.. ‏يستتبع‏ ‏ذلك‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يسمى ‏حق‏ ‏الاعتمادية‏ (‏المتبادلة‏ ‏فى ‏النهاية‏).‏ ‏الناتج‏ ‏الموضوعى ‏هو‏ ‏أن‏ ‏أية ‏جماعة‏ ‏من‏ ‏الناس‏ ‏سوف‏ ‏تفرز‏ ‏قائدا‏ ‏لها‏ ‏تعتمد‏ ‏عليه‏، ‏ولو‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏بذاته‏، ‏ولو‏ ‏لفترة‏ ‏معينة‏. .‏يتخلق‏ ‏القائد‏ ‏أو‏ ‏الرئيس‏ ‏بطلا‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏حين‏ ‏يتسع‏ ‏مجال‏ ‏تأثيره‏، ‏وتتعدد‏ ‏مجالات‏ ‏نفوذه‏، ‏وتطول‏ ‏مدة‏ ‏الاعتماد‏ ‏عليه‏.‏

2) ‏إسقاط‏ ‏الأسطورة‏ ‏الذاتية

لكل‏ ‏منا‏ ‏أسطورته‏ ‏الذاتية‏، وهى الصورة العميقة الخيالية التى يتمنى أن يكونها الواحد منا، ‏وهى ‏منظومة‏ ‏غائرة‏ ‏غامضة‏ ‏وإن‏ ‏كانت‏ ‏راسخة‏ ‏متمادية‏ ‏مبدعة‏ ‏أبدا‏ ونحن ‏حين‏ ‏نفشل‏ ‏فى ‏تفعيل ‏أسطورتنا‏ ‏الذاتية‏ لتحقيقها ‏‏نسقطها‏ ‏خارجنا‏ ‏على ‏بعض‏ ‏من‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يمثلها،‏ ‏أو‏ ‏يرمز‏، ‏لها‏ ‏ليس‏ ‏فقط‏ ‏بما‏ ‏هو‏ ‏وإنما‏ ‏أيضا‏ ‏بما‏ ‏نتصوره‏ ‏فيه‏، ‏فينشأ‏ ‏البطل‏.‏

‏3) ‏وهم‏ ‏الخلود

من‏ ‏بين‏ ‏ما‏ ‏يدعونا‏ ‏إلى ‏تخليق‏ ‏البطل‏ ‏واتباعه‏ ‏إلحاح‏ ‏داخلى (‏وخارجي‏) ‏بأننا‏ ‏كيانات‏ ‏باقية‏، ‏أو‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏تظل‏ ‏باقية‏. ‏نحن‏ ‏نعجز‏ ‏عن‏ ‏تحقيق‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏واقعنا‏ ‏الشخصى (‏وحتى ‏فى ‏مخيلتنا‏) ‏من‏ ‏هنا‏ ‏يصبح‏ ‏البطل‏ ‏مسْـقـَطا‏ ‏مناسبا‏ ‏ليس‏ ‏فقط‏ ‏لأسطورتنا‏ ‏الذاتية‏، ‏وإنما‏ ‏لخلودنا‏ ‏الملوح‏ ‏مع‏ ‏استحالته‏ ‏فينا‏ ‏حالا‏ .‏البطل‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏المنطلق‏ ‏يقوم‏ ‏باللازم‏ ‏حيا‏ ‏وميتا‏، ‏ولعل ذلك هو ما يجعل‏ ‏أبطال‏ ‏التاريخ‏ ‏يوصفون‏ ‏بـ “البطل الخالد” أو على الأقل‏ “‏خالد‏ ‏الذكر‏”.

تعرية الأبطال:

تعرت‏  مؤخرا أكثر فأكثر ‏صورة‏ ‏البطل‏ ‏تاريخا‏ ‏حين‏ ‏اكتشفنا‏ ‏باضطراد‏ ‏أن‏ ‏البطولة‏  ‏فى ‏عدد‏ ‏غير‏ ‏قليل‏ ‏من‏ ‏الحالات‏ ‏تقيّم‏ ‏بعدد‏ ‏القتلى (‏الذين‏ ‏يقتلهم‏ ‏البطل‏)، ‏أو‏ ‏عدد‏ ‏النساء‏ ‏اللائى ‏يسبيهن‏ (‏أو‏ ‏يتزوجهن)، ‏البطل‏، ‏أو‏ ‏عدد‏ (‏وحجم‏) ‏المفاجآت‏ ‏التى ‏يـبهــر‏ ‏بها‏ ‏البطل‏ ‏تابعيه‏، ‏أو‏ ‏مساحة‏ ‏الأراضى ‏التى  ‏يغتصبها‏‏ (‏أو‏ ‏يغير‏ ‏عليها‏)، ‏أو‏ ‏عدد‏ ‏الأكاذيب‏ ‏التى ‏يروجها‏‏ (‏أو‏ ‏يروجونها‏ ‏عنه‏)، ‏أو‏ ‏عدد‏ ‏الحيل‏ ‏التى ‏يحذقها‏‏، ‏أو‏ ‏عدد‏ ‏البلهاء‏ ‏الذين‏ ‏ينخدعون‏ ‏فيه‏، ‏أو‏ ‏عدد‏ ‏الوعود‏ ‏المؤجلة‏ ‏التى ‏يلوح‏ ‏بها‏ ‏البطل‏، ‏أو‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏أو‏ ‏غير‏ ‏ذلك‏.‏

على ‏الجانب‏ ‏الآخر‏ ‏انكشف‏ ‏البطل‏ ‏المعاصر‏ ‏حين‏ ‏عجز‏ ‏عن‏ ‏القيام‏ ‏بإشباع‏ ‏تلك‏ ‏الاحتياجات‏ ‏المسئولة‏ ‏عن‏ ‏تصنيعه‏ ‏وتقديسه‏ ‏والحفاظ‏ ‏عليه‏، فلا هو حمل أعباء تبعية من ألـَّهوه، ولا هو ممثل حقيقى لأسطورتهم الذاتية، ولا هو أثبت قدرته على الخلود من واقع حركية النعوش.

وبعد‏:‏

أخشى ما أخشاه أن نكون مازلنا – خاصة فى مصر – نحلم بالبطل، المنقذ، الساحر، المعجزة، برغم تأكيد أغلبنا بما فى ذلك الذين نورطهم فى البطولة، أنه لم يعد ذلك ممكنَـا، وأن الشعب هو البطل، وكلام من هذا:

على كل واحد يحترم نفسه، ويحب وطنه، ويعبد ربه ويتعلم من التاريخ أن يكون هو البطل الحقيقى عبر حياته، له ولنا، وأن يستعد للقاء ربه فردا، وبالتالى سوف لا نحتاج إلا إلى ربـَّانٍ يقود سفيتنا بحذق إلى شاطئ الأمان والانتاج والإيمان والإبداع.

وعلينا نحن أن نحذق العوم، الاحتياط واجب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *