الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الدستور المصرية / تصريحاتُ بلا معنى، ونفىُ ما لا يُثبتْ (تعتعة سياسية)

تصريحاتُ بلا معنى، ونفىُ ما لا يُثبتْ (تعتعة سياسية)

نشرت فى الدستور

3-5-2006

تصريحاتُ بلا معنى، ونفىُ ما لا يُثبتْ

المصيبة أن الكلام هو الوسيلة الأسرع والأسهل والأكثر اقتصادا  للوقت والجهد، للتواصل بين البشر، لكن الذى آل إليه حالنا سَََلَبَ الكلام وظائفه تلك. دع جابنا الكلام فى الحب أو فى الدين أو فى الدردشة لتزجية الوقت، ودعونا نتأمل بعض ما آلت إليه حال الكلمات فى السياسة المحلية والعالمية.

 ذكرت هنا أو فى مكان آخر أننى حين ذهبت إلى فرنسا سنة 1968 كان ما زال جواز سفرى مبين فيه أننى من الجمهورية العربية المتحدة، (وليس جمهورية مصر)، كان ذلك بعد هزيمة 67 مباشرة والعالم ينظر إلينا بشماتة أو بشفقة أو باحتقار، نظر إلىّ موظف الجوازات وتساءل بابتسامة ساخرة: “متحدة؟؟ متحدة مع من يا مسيو؟ لم أفهم:   Avec qui monsieur فقد كانت فرنسيتى أقرب إلى اللغة الصينية، لكنى قرأت ما يريد على وجهه، فخجلت ولم أغضب. نستأهل!! “ما لجرح بميت إيلام”، هذه الحادثة أعدت ذكرها لأظهر أن موظف الجوازات انتبه إلى بقاء كلمة “المتحدة” بعد أن انفض المولد (الاتحاد!)، وأخذها جدا، فانطلقت سخريته.

أتأمل فى تصريحات المسؤولين على المستوى الدولى أو المحلى، فألاحظ أن أغلبها إما بديهى، وإما تحصيل حاصل، أو هو منطلق بالقصور الذاتى، يشمل ذلك حتى الأحاديث والتصريحات التى تستعمِل المفاهيم المقدسة الجديدة، عن الديمقراطية، أو حقوق الإنسان، أو قبول الآخر، إلخ. التصريحات الأكثر إغاظة تصلنى حين ينفى صاحب التصريح ما لا يمكن تصور أنه يمكن إثباته أصلا، خذ هذا المثال:  يقوم الجيش الإسرائيلى بقتل شخص نائم فى سريره داخل منزله، مع سبق الإصرار، ومع فخر الإعلان، ودون محاكمة، يقتله لجريمة أنه كان “ينوى” أن يقوم بعمل إرهابى ولو فى حلمه،  فيسارع البيت الأبيض بالتصريح بأن هذا القتل، ولا مؤاخذة،  “لا يسهم فى تسهيل مسيرة السلام”. كيف أفهم أن هذا الكلام به أى معنى إلا إذا كان هناك احتمال يقول “إن هذا العمل يساعد على تسهيل مسيرة السلام”، فإن لم يكن، فما معنى نفى هذا الاحتمال، ومن البيت الأبيض.

ننتقل إلى مثال محلى قريب: بعد حادث دهب قرأت تصريحا عن السيد الرئيس أو المتحدث باسمه (لا أذكر)، يقول: “إنه لا تهاون مع مرتكبى حادث دهب”، قد يصلح مثل هذا النفى فى الكلام عن جريمة العبارة السلام 98 حين يكون ثمة شبهة تهاون من السلطات سرا أو علانية، أما أن يكون النفى هو لاحتمال التهاون مع مرتكبى أحداث دهب بحيث يحتاج الأمر للنفى، فهذا هو ما يحتاج لمراجعة دهشة، يعقبها غيظ مناسب.  كثير من التصريحات فى المناسبات وغير المناسبات تحمل مثل هذا اللامعنى، مثلا: كل ما قيل ويقال نفيا لفكرة توريث العرش، أعنى الرئاسة، هو من هذا القبيل إذا قيس بالقانون، أو بالدستور، أو بأحقية المتحدث عن نفسه أو عن ذويه أحقيته فى الجزم بهذه البساطة بهذا النفْى (نفى التوريث) دون ضمانات قانونية دستورية عامة وثابتة ومحددة تمنع التوريث الآن ومستقبلا لأى من كان. وإلا: فـ “هذا كلام له خبىء، معناه ليست لنا عقول”.(المعرى).

التصريحات الفارغة من المعنى لا يغفر لها أنها تصدر من قبيل حسن النية، هى كلام مرسل من نوع تحصيل الحاصل، أو بالقصور الذاتى، أو لنفى ما لا يثبت أصلا …إلخ. إذا تكرر مثل هذا الكلام حتى أصبح هو القاعدة، فلا لوم على الناس حين تنصرف عن الاستماع إليه من حيث المبدأ. مثلا حين ينقلون عن السيد الرئيس بتكرار لحوح وكأنه مفاجأة أن سيادته أعلن أنه سوف يعمل على تحسين أحوال الناس خصوصا الكادحين، عكس هذا التصريح غير وارد، لأنه لا يمكن لرئيس ما، أى رئيس أن يصرح أنه سوف يعمل على تجويع الناس الفقراء البشعين، لأنهم لا يستأهلون، وأن سيادته لن يهتم إلا بالقادرين الذين يمكن أن يعترفوا بفضله لحسن خلقهم إلخ..؟؟؟  أو خذ تصريحا آخر بأن الرئيس أو الحكومة سوف تحارب البطالة جدا جدا، وكأن هناك احتمال آخر هو أن الحكومة – أى حكومة – يمكن أن تصرح أنها سوف تشجع البطالة، حتى يتمتع الشباب مدة  أطول بأوقات فراغهم.

حين تصبح أغلب التصريحات، حتى ما يحوى منها من أرقام، هى مجموعة من مواضيع الإنشاء  والتعبير: تختل قيمة الكلمات، وتفرغ من فحواها.

الخطر وارد، والحذر واجب، ولو بالإقلال من التصريحات، والتعليقات، أو حتى بالامتناع عنها من فضلكم. ربنا يخليكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *