الرئيسية / مقالات صحفية / مجلة سطور / الأسس البيولوجية للدين والايمان، ماذا آل إليه حال الدين؟

الأسس البيولوجية للدين والايمان، ماذا آل إليه حال الدين؟

نشرت فى مجلة سطور

عدد يوليو 2004

 قراءة فى الفطرة البشرية

(الأسس البيولوجية للدين والايمان)[1]

الجـزء الأول:

ماذا آل إليه حال الدين؟

عن أينشتاين أنه قال:

  • العلم بلا دين أعرج، والدين بلا علم أعمى.
  • الخيال أهم من المعرفة.

من أقوال ابن عربى:

v       فانظر ما ترى، واعلم ما تنظر، وكن بحيث تعلم، لا بحيث ترى.

v       ..لا أعلمُ من العقل، ولا أجهل من العقل.

من مواقف النفرى:

Ø     اطلِّعْ فى العلم: فإن لم تر المعرفة، فاحذرْه، واطلِّع فى المعرفة فإن لم تر العلم فاحذرها.

(موقف المطلع)

Ø     من لم يستقر فى الجهل لم يستقر فى العلم

(موقف وراء المواقف)

 أسئلة وإجابات ناقصة

نبدأ بمحاولة متواضعة للإجابة على بعض الأسئلة الأساسية منعا لخلطٍ محتمل.

السؤال الأول:

هل هناك فروق جوهرية بين الأديان؟

الإجابة الظاهرة التقليدية أنه لا توجد فروق جوهرية، وهى إجابة ناعمة هروبية كاذبة غالبا، كما أنها إجابة تستعمل حاليا، فى أغلب الأحيان للتأجيل والتسكين والخداع، ذلك لأن الواقع المعلن، والواقع الخفى يؤكدان وجود هذه الفروق بشكل صارخ لا يمكن إنكاره. صحيح أن إعلانات الاجتماعات، وادعاءات الحوارات، تعلن غير ذلك، لكن صحيح أيضا أن فتاوى المفتيين المعلنة والمغلقة تؤكد أن الفروق الحالية فى واقع الممارسة من خلال وعود وتهديد المستقبل، أكبر من كل حسابات.

لكن ثم قاسم مشترك حقيقى يمكن أن يمتد حتى إلى الأساطير أيضا[2].

السؤال الثانى:

 هل ثم فرق بين الدين والإيمان؟

الفرق موجود، ومعترف به، وهام . فمن ناحية هما ليسا مترادفين، “قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا، ولمّا يدخل الإيمان فى قلوبكمً. ومن ناحية أخرى هما ليسا متلازمين: فَثَّم متدين هو ليس فى عمق أعماقه مؤمن (الآية الكريمة السابقة)، وثَمَّ مؤمن لا ينتمى إلى دين بذاته (وهذا ليس مجال تفصيله حالا)، وبرغم هذه التفرقة الواضحة فإن العلاقة وثيقة بينهما، فالأغلب أن الدين والتدين هو المظهر السلوكى والعقائدى لما يسمى الإيمان الذى يصبح فى هذه الحال خبرة أو معايشة أو موقف وجودِ غائر.

السؤال الثالث:

ما علاقة ما يسمى الروحانية بالدين؟

يعترف الكاتب بأن تناول مسألة الروح (التى هى من أمر ربى) ليست واردة فى هذه المداخلة بالمعنى الشائع عن كلمة”الروحانية”، ومع ذلك يبدو أن المشتغلين بمحاولة التوفيق بين الأديان قد جعلوا ما أسموه الروحانية، نسبة إلى الروح كما صوروها أو تصوروها، هى القاسم المشترك الذى يجمع بين المتدينين.

باختصار: إن الروحانية هى مفهوم كامن فى غور كل من الدين والإيمان، لكنه قد يكون اغترابا عنهما أحيانا، بل وأحيانا أخرى يكون اغترابا عن الواقع المعاش، وعن الجسد، وعن البيولوجيا . من هنا لزم التنويه أن الفرض المقدم فى هذه المداخلة هو من منطلق أبعد ما يكون عما يسمى “الروحانية” كما يتناولها الدعاة المحدثين مؤخرا.

السؤال الرابع:

ما هى علاقة السلطة الدينية بالدين والإيمان؟

واقع ما آل إليه حال معظم الأديان، حتى تاريخه، هو نتيجة محاولة مقاومة استيلاء ما يسمى السلطة الدينية على حق تفسير الأديان باعتبارها من الملكية الخاصة، لهذه المؤسسة الفوقية. وقد استسلم أغلب المتدينين لهذا الترادف حتى ابتعدوا، بغير قصد غالبا، عن حقيقة وظيفة الدين وحقيقة الإيمان. ثم إن السلطة الدينية من جانبها قد استمرأت هذا الترادف فعينت نفسها وصية ليس فقط على الدين والإيمان، وإنما أيضا على وعى الناس المتدينين (وغير المتدينين).

كثيرا ما يتردد الحديث عن الوصاية على ضمائر البشر، وهذا أمر وارد من جانب السلطة الدينية، لكن ثمَّة وصاية أخطر هى الوصاية الداخلية على حركية الوعى، فهى أكثر قهرا حيث أنه يترتب عليها منع معايشة خبرة الإيمان إلا بالمقاييس التى يضعونها، وليس فقط منع التفكير الحر أو منع إعلان الهرطقة.

السؤال الخامس:

هل ثمة علاقة بين الدين والغرائز؟

الشائع فى ظاهر الأمر، مع التعجل فى الحكم، أن التدين يقف على طرف نقيض من الغرائز، كذلك الإيمان، وذلك باعتبار أن الغرائز بدائية فجة، وأن الدين التزام منضبط، أو أن الغرائز دوافع دونية فى حين أن الإيمان هو روحانية راقية. هذا الشائع يحتاج إلى مراجعة مسئولة، حتى بالنسبة للغريزة الجنسية (بما فى ذلك مقولات فرويد) وكذلك بالنسبة لغريزة العدوان (الذى قد تساهم إيجابياته فى الابداع). من باب أولى: علينا أن نستوعب ابتداءً كيف أن هذا الاستقطاب غير وارد أصلا فى تناول مسألة الدين والايمان وجذورهما البيولوجية، الغريزية.

الغرائز هى أصل الوجود، والارتقاء بها، وليس على حسابها، هو التكامل الطبيعى على مسار التطور.

وبعد:

أين يقع ما هو “دين” فى منظومتنا الحياتية الآن؟

 إن إمعان النظر فيما‏ ‏آل‏ ‏إليه‏ ‏حال‏ ‏التدين‏ ‏ ‏فى‏ ‏الممارسة‏ ‏الفعلية‏ ‏فى ‏عالمنا‏ ‏المعاصر ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏وقفة‏ ‏مراجعة‏ ‏نوجزها‏ ‏على ‏الوجه‏ ‏التالى‏:‏

‏1‏) عَجَز‏ ‏التدين‏ ‏التقليدى ‏عن‏ ‏الوفاء‏ ‏باحتياجات‏ ‏الإنسان‏ ‏وسعيه‏ ‏إلى ‏الإبداع‏ ‏والتطور.

‏2‏)‏ ‏لم‏ ‏يستطع‏ ‏العلم‏ (خاصة بمنهجه التقليدى المحكم) ‏أن‏ ‏يحل‏ ‏محل‏ ‏الدين‏ ‏والإيمان، حتى بعد أن أصبح له (للعلم) كهنته وطقوسه ومفتييه الجاهزين للحكم بالهرطقة على كل من خالف العلم (كما يرونه).

‏3)‏ ‏فشلت‏ ‏محاولات‏ ‏اختزال‏ ‏الدين إلى ما أتى به العلم كما فشل حبس العلم فيما يقره الدين.

‏4)‏ ‏فشلت‏ أغلب ‏محاولات‏ ‏التخلص‏ التام ‏من‏ ‏الدين‏، أو تهميشه، ‏لصالح‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏العلمانية، كما فشلت محاولات إنكاره كلية‏ ‏تحت‏ ‏زعم‏ ‏أن‏ ‏الدين‏ ‏مخدر‏ ‏للشعوب. (الشيوعية التقليدية)

‏5)‏ ‏فشلت‏ ‏محاولات‏ ‏تفسير‏ ‏التدين‏ ‏والإيمان‏ ‏باعتبارهما‏ ‏مجرد‏ ‏ميكانزمات‏ ‏لسد‏ ‏حاجة‏ ‏شعور‏ ‏البشر‏ ‏بنقصهم‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏قوى ‏ساحقة‏ ‏أوغامضة‏.‏ (التحليل النفسى التقليدى)

6) أيضا‏: ‏فشل ترويج‏ ‏تفسيرات‏ ‏تعتبر‏ ‏الدين‏ ‏بمثابة‏ ‏موقف‏ ‏أخلاقى ‏لتحسين‏ ‏العلاقات فى المجتمع (أو حتى باعتباره ديكورا أخلاقيا يزين حقوق الانسان)‏

‏7)‏ ‏ثُم إن محاولات تحديث‏ ‏الدين- بإعادة‏ ‏تفسير‏ ‏نصوصه‏ ‏من‏ ‏منطلقات‏ ‏أحدث بدت وكأنها تسويق للدين بلغة معاصرة، وليست استلهاما لدوره المحورى المتكامل.

‏8)‏ أما ما يسمى ‏تثوير‏ ‏الدين، باعتباره ‏دافعا‏ ‏مناسبا‏ ‏لاستعادة‏ ‏كرامة‏ ‏وإنسانية‏ ‏الإنسان‏ (مثلا: ‏الكنيسة‏ ‏اليسارية‏، ‏واليسار‏ ‏المسلم‏، ‏وبعض‏ ‏الأفكار‏ ‏الشيعية‏ الثورية) ‏فإنه انتهى إلى اختزل الدين إلى ‏أداة‏ ‏سياسية‏ ‏لجمع‏ ‏الناس‏ ‏لرفع‏ ‏الظلم‏، ‏أو‏ ‏حتى ‏لاستلام‏ ‏الحكم أملا فى دفع الظلم‏ أو تلو بما يدفع الظلم. ‏ ‏

9) ظهرت محاولات‏ ‏انقلابية‏ ‏وطرْفيه (شاذة)‏ ‏تعلن ما يشبه الثورة، على الدين التقليدى بإحلال أديان حديثه لكنها – لظروف معاصرة – بدت بدعاً انقلابية أكثر منها أديان بديلة، ومن ذلك:

‏(أ) ‏إحياء‏ ‏ديانات‏ ‏قديمة‏ ‏شاذة

 (ب) ‏ابتداع‏ ‏ديانات‏ ‏خصوصيه‏ (من الكنائس الجديدة جداً حتى عبادة الشيطان)

(جـ) ‏نشاطات‏ ‏فيها سرِّية ما،‏ ‏تتهم‏ ‏بأنها‏ ‏ديانات‏ (كما اتهمت ‏الماسونيه‏ – ‏والروتارى‏)‏

(د) ‏طرق‏ ‏صوفية‏ ‏خاصة‏ ‏جدا‏ : ‏قديمة‏ ‏أو‏ ‏جديدة‏ ‏

(هـ) تدين كيميائى (تجلى فى “ثقافة الإدمان”) بحركيتها فى الوعى، وطقوسها رغم سلبية نتائجها.

(و) ظهرت ‏أيديولوجيات‏ ‏بديلة، لها نفس مواصفات ما هو دين، برغم قد تكون أنها مبنية على إنكاره، وقد حسب أصحابها أنها يمكن أن ‏تقوم‏ ‏مقام‏ ‏الدين‏ ‏وتؤدى‏ ‏وظيفته،‏ ‏ومن ذلك‏ المناهج‏ ‏العلمية‏ المغلقة‏ اليقينية (دين العلم)‏ وكذا المناهج ‏ ‏التنويرية‏ ‏المتعصبة (دين التنوير) أو المناهج ‏ السياسية‏ ‏العقائدية (الماركسية التقليدية)‏، كل ذلك دار فى فلك العقل الممنطق، لكنه اتصف بكل المواصفات التى يمكن أن يدرج بها تحت ما هو “دين”.

رأى ورؤية؟

(1) إن‏ ‏كل‏ (‏أو‏ ‏أغلب‏) ‏محاولات‏ ‏الاستغناء‏ ‏عن الدين نهائياً‏ أو استبداله، ‏قد‏ ‏فشلت‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر.

(2) إن‏ ‏الأديان‏ ‏جميعا‏، ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏تشوه‏ ‏تكاد‏ ‏تتفق‏ ‏فى ‏بداياتها، ‏وإن‏ ‏اختلف‏ ‏المحتوى، ‏لكنها‏ ‏تعود‏ ‏تتفق‏ – ‏إلى ‏درجة‏ ‏ما‏ – ‏فى ‏غايتها. ‏

(3) إن‏ ‏الإيمان‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏الدين، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏قبله، ‏وبعده، ‏وقد‏ ‏يكون‏ ‏مع‏ ‏التدين، (وقد لا يكون).

(4) إن العلم ليس له علاقة –مباشرة- بالدين.

(5) إن الدين ليس نشاطا ترفيهيا اختياريا.

بعض ما آل إليه استعمال (أو سوء استعمال) الدين حاليا عبر العالم:

إذا كانت أغلب محاولات التخلص من الدين قد فشلت مما ألزم بالعودة إلى شكل من أشكال الدين والتدين هنا وهناك، فإن هذه العودة لم تكن خالصة لوجه الحقيقة، وإنما بدت –غالبا- كنوع من المناورة – على أنفسنا أساسا، حتى نبدو وكأننا اعترفنا بفشل تلك المحاولات، ومن ثم نحاول الإبقاء على التمسك بما يسمى “الدين” بأى صورة والسلام!.

إن الناظر المتمعن فى هذه المحاولات التوفيقيه لا بد أن يعذر أصحابها بدرجةِ ما، حين يتبن أنها لم تكن محاولة للتخلص من الدين والإيمان، بقدر ما كانت محاولة للتخلص من سوء استعمال السلطة الدينية لكل من الدين والإيمان لصالح كل ما هو عكس الدين والإيمان.

إن ما يقال عن العودة إلى الدين ليست عودة خالصة ولا مخلصة، وإنما هى تمثل نوعا أخر من التهميش والاختزال، على جانب، كما تمثل نوعا من الردة والنكسة على الجانب الآخر،

وفيما يلى بعض ما صار إليه استعمال الدين (أو ما يقال عنه دينا) فى العصر الحاضر

1- يستعمل الدين كمسكن كلما لزم الأمر، (وحتى إذا لم يلزم الأمر).

هذا هو ما التصق بنوع من السكينة يحققها التدين الاستسلامى أو التسليمى. ارتبط هذا المفهوم بمقولة “النفس المطمئنة” بمعنى السكون والتسليم. أنه مثلما يحدث فى الطب النفسى، فإن تحقيق السَكينة يمكن أن يتم بنوعين من المعالجة: إما بتهميد الجزء المفرط النشاط من الدماغ أو من النفس بتعاطى بعض العقاقير القادرة على ذلك، ومن ثم بالعمل على إزاحة هذا الجزء أو قمعه كبتا دائما، وإما باحتواء هذا الجزء الناشر فى كلية قادرة على استعادة هارمونية التوازن الكلى بإشراك هذا الجزء فيه. الذى حدث فى حالة استعمال الدين مسكنا أو مخدرا هو أنه قد بولغ فى التركيز على مفهوم جزئى للنفس المطمئنة  كغاية فى ذاتها، تكاد ترادف فعل التدين. إن المبالغة فى تصوير دور الدين فى تحقيق السكينة بالمعنى السلبى هو اختزال يخل بالمعنى الذى تقدمه حركية الدين كدْحا إلى الإبداع (الايمان).

2- يستعمل الدين بعض الوقت، غالبا فى نهاية الأسبوع، (أشبه ما يكون بنشاط ترفيهى).

هذا استعمال غربى توفيقى طيب، فهو يسمح للمتدينين (وغير المتدينين) بقضاء فترة محدودة يمارسون فيها نشاطا اجتماعيا ناعما، مع جرعة مناسبة من الود والحلم، يتم ذلك فى دور العبادة فى نهاية الأسبوع عادة، أو كلما عَنَّ لهم ذلك. إن

من يمارس أو يوصى باستعمال الدين بهذه الصورة يؤكد مكررا أن الدين أمر شخصى تماما حتى يصبح – من واقع الممارسة – أقرب إلى الهواية الدمثة . هذا استعمال قد يؤدى دورا اجتماعيا مفيدا، لكنه أسطح من دور الدين والإيمان فى تحقيق بشرية البشر من حيث عمق الجذور البيولوجية التى تجلى ويتجلى من خلالها الإيمان عبر التاريخ حتى قبل أن تكون الديانات أديانا.

3- يستعمل الدين كوسيلة لغيره، وبالذات للوصول إلى السلطة السياسية (بأى وسيلة بما فى ذلك الديمقراطية)

الأمر فى هذا الصدد لا يحتاج إلى دليل بعد ما جرى مؤخرا فى الولايات المتحدة، وبعد ما يجرى حاليا فى أغلب البلاد الإسلامية التى يستعمل فيها النظام الحاكم، أو النظام الذى يريد أن يحكم. يدّعى هذا، أو ذاك، أو هو يتصور أنه باستعماله سلطة الدين سوف يغير نوعية الحياة إلى كيف خلقها الله كما قرر هو وليس بالضرورة كما أرادها الله.

4- يستعمل الدين كوسيلة للتربح والاحتكار وقفل دائرة التعامل على أهل دين بذاته.

 هذا من أشهر ما يربط أفراد الأقليات الدينية خاصة، وهو جائز وجارٍ أيضا بين بعض فرق المسلمين الأحدث وأمثالهم، ولعل قيام ما يسمى بالبنوك الإسلامية هو من هذا النوع من الاستعمال بشكل ما.

5- يستعمل الدين تبريرا للاستيلاء على أوطان الغير، وطرد أهلها- وقتل الأطفال.

وهل يحتاج الأمر للإشارة إلى الدولة العبرية أو إلى أمريكا وأفغانستان والعراق؟ أو إلى الأندلس قديما؟

فى مراحل معينة من التاريخ يصبح الدين من أقوى الدوافع لإفناء البشر من الديانات الأخرى تحت زعم هدايتهم، أعنى هداية من تبقى منهم، إلى دين بذاته.

6- يستعمل الدين تبريرا لما يسمى صراع الحضارات

الحضارات تتعاون، وتتتابع، وتٌتَـوارث لا تتصارع بالضرورة، هذا هو المفروض. إن صح ذلك فى سائر الحضارات التاريخية فهو يصح أكثر فى الحضارات المؤسسة على أديان إيمانية فعلاً. من باب أولى فإن الأديان الحقيقية لا تتصارع لأنها حضورٌ دائم متجدد، وليست تاريخا جامدا قامعاً. إن الذى يتصارع هو أهل حضارات وأديان لم يعودوا أهلها.

7- يستعمل الدين لتفسير بعض العـلوم والمعلومات، وبالعكس

فى لوثة أخيرة شاعت حتى بدت أنها الحق، انتشر ما يسمى “التفسير العلمى للنصوص الدينية”، وهو نشاط جاد بعضه، حسن النية أغلبه، سطحى كله. ذلك لأنه يدل على جهل خطير بكل من الدين والعلم على حد سواء. الدين – خاصة بالمعنى الذى تتناوله هذه المداخلة – هو أقدم تاريخا وأرسخ قدما، ولعله أكثر عمقا وإفادة لتأكيد ماهية الإنسان حتى منذ عهد الأساطير الجيدة،أما العلم فهو فى حركية دائبة متجدده، لا يعنيه أن يستمد مصداقيته من غيره.

8- يستعمل الدين كوسيلة لقهر أو وأد الإبداع.

إن قياس كل ما يصدر من جديد (فى الفكر أو فى العلم أو حتى فى الاقتصاد والسياسة) بتفسير جامد (قديم عادة) بنص دينى معين هو من أكبر الإهانات التى يمكن أن يجهض – فى نهاية النهاية أية محاولة لإعادة وضع الدين والإيمان فى موضعهما التطورى المناسب. إن الإبداع الذاتى خاصة (خبرة الكدح إلى وجه الحق تعالى باستمرار) هو السبيل الأساسى لتواصل النمو الذاتى، ومن ثم اطراد تطور النوع البشرى بعد أن اكتسب الوعى، فكيف -يقف الدين فى وجه أى نظرية للتطور؟

 ”الدين“؟ (كمفهوم ومنظومة)

آن الأوان أن نخطو خطوة أخرى نحو التعرف على ما يطلق عليه “دين” من أكثر من زاوية ومنطلق، ولكن علينا أن ننبه ابتداء أن هذا التحديد ليس له علاقة مباشرة بالتفسير الدينى التقـليدى للـَّـفظ نفسه.

يمكن أن نعدد الأبعاد التى مفهوم “الدين” ممارسة حياتية على النحو التالى:

1- هو منظومة”كيانية- فكر- وجدانية“

يستعمل هذا اللفظ المركب “فكر- وجداني” للإعلان الضمنى ان فصل الفكر عن الوجدان هو أمر مفتعل فى أغلب الأحيان. وليس معنى أنه مفتعل أنه خطأ أو سىء، لكن المقصود أنه ليس مطلوبا دائما، وليس سليما دائما، ثم إن هذا الفصل لا يخدم المداخلة الحالية تحديدا.

الدين بهذا الوصف يتجاوز الاعتقاد الفكرى (العقلى) الخالص، ليحتوى ما هو وجدان فى نفس الوقت، أما إضافة صفة ثالثة (صفة كيانية) ليصبح المفهوم أكثر تركيبا (وليس أكثر تعقيدا بالضرورة) فإن ذلك جاء اجتهادا ليؤكد تجاوز الدين لكل من الفكر والوجدان ليحتويهما معا وهو يعلن “موقف وجود” كلى، يكاد يستحيل فصله إلى مكوناته الجزئية. إلا على حساب حقيقته.

2وهذه المنظومة هى شعورية جزئيا ”فقط“ (الجزء الأقل غالبا).

بعد الإنجازات الأحدث فى دراسات العقل والتفكير من خلال العلم المعرفى، والعلم المعرفى العصبى بوجه خاص أصبح من المسلم به أن التفكير هو لاشعورى أساسا (وليس تماما). إن ما يظهر فى الشعور ويقاس هو نوع واحد من التفكير أو مستوى واحد منه. يترتب على ذلك أن علينا أن ننظر فى هذه المنظومة المسماة الدين بما يناسبها من حيث أنها لا تقاس بنوع التفكير الظاهر (الذى يسمى عادة التفكير المنطقى أو العقلى وهى تسميات قابلة للمراجعة أيضا)، وإنما بما يناسبه من أنه وعى كلى غائر غائى فى نفس الوقت. يدفعنا هذا إلى التنبيه إلى أن محاولة قراءة ما هو دين (باعتباره تفكيراً آخر) من خلال شفرة ما هو منطقى عقلى ظاهر هى محاولة محكوم عليها بالفشل من ناحيتين : الأولى اختزال الدين إلى ما يسمح به هذا العقل الظاهر، والثانية هى اختزال العقل إلى ما استعملناه فيه مستبعدين ما هو غير ذلك.

3- وهى (تلك المنظومة) تجيب – إجمالا عادة – عن كثير من تساؤلات الوجود الغامضة.

للإجابة على مثل هذه التساؤلات مستويان (على الأقل) المستوى الأول: هو المستوى الجاهز بالإجابات التفصيلية التى يصدرها عادة المفسرون والمفتون والمفكرون العاديون، ثم مؤخرا بعض من يحاول أن يجعل بعض معطيات العلم تفسيراً للدين وبالعكس قادراً على الإجابة عن تلك التساؤلات، أما المستوى الثانى فهو مستوى الإجابات من خلال التفكير الأعمق المتصل بالوجود والوجدان من ناحية، والمتناغم مع الكون والإيقاع الحيوى من ناحية أخرى. هذا المستوى من الإجابة أصبح – بفضل العلم المعرفى – قادراً على إعطاء إجابات أكثر كلية وأعمق نبضا.

 ظل المتصوفة يقولون بهذا المستوى المعرفى عبر التاريخ، لكنهم لم ينجحوا فى أن يشرحوا ماهيته لغير من خبره، إلا أن الأمر الآن يبدو أقرب إلى الإقرار بفضل ما استحدث من مناهج معرفية لا تستبعد آليلت الرصد والتشابك العملاقة.

4- وللمنظومة (المسماة الدين) تجلياتها فى السلوك (طقوس/ عبادات)

لم يقتصر أى دين، بل وما هو مكافئ للدين قبل ظهور الأديان، على أن يكون “منظومة فكر- وجدانية” دون أن يتجلى فى سلوك يعلن وجوده، وليس بالضرورة محتواه الفكرى. لكل أسطورة طقوسها، ولكل دين عباداته . الأصل أن تكون ثمة صلة وثيقة بين المظهر السلوكى للدين إذ يتجلى فى عباداته، وبين الحضور المعرفى الغائر فى الوعى المتوجه إلى غايته، (متجاوزين وصاية العقل الظاهر). واقع الحال يعلن فى كثير من الأحيان أن هذه الصلة قد تكون – أو تبدو – واهية، أو منقطعة، أو حتى معكوسة.

5- وهى (المنظومة: الدين) تفى ببعـض احتياجات صاحبها (كلُّ دين يـُرضى أتباعه)

إن وجود هذه المنظومة لا يستمر، وقد لا يجد له مبررا حقيقيا، ما لم يقم بسد بعض (أو كل) احتياجات أصحابها. تختلف هذه الاحتياجات باختلاف درجة نضج صاحبها: من أول الانتماء إلى من يشبهه، حتى الوصول إلى مرحلة الإبداع الذاتى المفتوح على الوعى الفائق بلا نهاية. يقع ما بين هاتين النقطتين عدد هائلا من الاحتياجات الدفاعية البسيطة (الميكانزمات: مثل الإنكار والإزاحة والإسقاط …إلخ) إلى الاحتياجات المتوسطة (مثل الطمأنينة والاعتمادية المشروعة والحفاظ على الأمل).

6- كما تعد الطيبين منهم بجزاء طيب “مستقبلا” عادة (لا سيما بعد الموت)

حتى الآن، لا يوجد دين، حتى الأديان غير السماوية لا يعد معتنقيه بالخلاص والتكامل والروعة الفائقة الانسجام. تختلف تفاصيل هذه الوعود من دين إلى دين. أغلب هذه الوعود يختص بها المخلصون للدين المتبعون لتعاليمه المؤدون لعباداته، كما يُحَرُم منها كل من خالف صاحب الدين المعنى. يتضاءل ربط معايشة هذه المنظومة (الدينية) بهذا الوعد المستقبلى مع اطراد النمو الفردى فى اتجاه الوعى الفائق والتناغم مع المطلق، لعل هذا هو ما يفسر تنازل كثير من الصوفية عن الحرص على الجنة مثلا فى مقابل رؤية وجه الحق سبحانه وتعالى (رابعة العدوية من أشهر الأمثلة وإن لم تكن أعمقها).

7- وينتمى إليها جماعة من البشر

 لكى يكون الدين دينا، خصوصا بالمعنى الشائع، لا بد أن ينتمى إلى نفس المنظومة التى يمثلها عدد من البشر. إن من أهم الوظائف الإيجابية لما هو دين هو حضور “الآخر” الموضوعى فى الوعى، وفى الواقع، على حد سواء.

 لا يكون الإنسان بشرا إلا بأن يكتسب الوعى (ومن ثم احتمال الاختيار) الإنسان لا يتحقق إلا مع “آخر” من نفس الجنس. إن هذا الانتماء له ميزاته، كما أن له مخاطره: فمن ناحية هو يحقق للمتدين بعضا مما يسمى “المصداقية بالاتفاق”، إلا أن هذه الحاجة نفسها قد تشتد حتى تظهر سلبياتها باستبعاد من لا ينتمى إلى نفس المنظومة، من وعود جنته، حتى لو توجه إلى نفس الهدف المشترك.

وبعد؟ أسئلة جديدة

أولا: هل يكفى أن نرضى بتطبيق ما ذهبنا إليه فى تحديد أبعاد ما هو دين لفهم كيف ظلت الأديان راسخة فى وعى (ولاوعى) الانسان كل هذا التاريخ؟

ثانيا: ألا يحتاج الأمر لمزيد من البحث الأعمق، فى جذور ما هو دين وإيمان، مما يمكن معه أن نكتشف أن تكون تلك الجذور منغرسة فى عمق ما هو بيولوجى فى تناغمه مع الكون الأسع، بما يوازى ويدعم ذلك التناغم الإيمانى الخلاق فى الخبرة الايمانية خاصة (وفى مجال التصوف بشكل أخص)؟

ثالثا: ألا يمكن أن يكون هذا البعد الأعمق (بالبحث عن الجذور الحيويه للدين) هو المدخل الأمثل لفهم إيجابيات الدين والايمان بلغة تسمح باستيعابه لصالح التطور والإبداع توجها إلى وجه الحق سبحانه وتعالى؟

رابعاً: إذا صح ذلك، أو بعض ذلك، ماذا يمكن أن يترتب عليه

هذا ما سوف أحاول تقديمه فى الجزء الثانى.

الأسس البيولوجية للايمان، والغريزة الهارمونية.

ثم الجزء الثالث: قراءة فى الفطرة البشرية (منطلقات تطبيقية).

[1] – هذه الورقة (من ثلاثة أجزاء)، قدمّت بشكل مبدئى فى مؤتمر عالمى فى سانت كاترين (اكتوبر 2003)، ثم قدمت فى مركز ابن خلدون (فبراير 2004) ثم موجزة فى اجتماع خاص للجنة الثقافة العلمية المجلس الأعلى للثقافة، ثم فى منتدى ابو شادى الروبى الذى تنظمه نفس اللجنة فى (18 مايو 2004) مقتصرة على الجزء الثانى منها الخاص بالفرض الذى يقدم الوعى بغريزة التوازن الإيقاعى باعتباره أساس الإيمان ثم الدين، أما هذا الجزء الأول فهو مقدمة لما آل إليه حال الدين حتى وقتنا هذا، ثم يأتى الجزء الثالث وهو خاص ببعض التطبيقات العملية والإكلينيكية.

 [2] – إن ما جاء فى هذه الفقرة يسرى على الأديان السماوية والأديان غير السماوية معا، مع زعم أو حقيقة  أن الأديان غير السماوية أقل تعصبا، وإن لم تكن –غالبا – أقل استعلاء من الأديان السماوية.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *