يحيى الرخاوى طبيب نفسى
نشرت فى الدستور
28-6-2006
البنتُ والعـلَمْ
(1)
مع أن البنت تتشاجر مع أخويها كلما استوليا على التليفزيون لمشاهدة الكرة، إلا أنها وجدت نفسها فجأة -تقريبا فجأة- وسط مباراة هائصة من الأعلام الراقصة بين رؤوس الشباب العارية والمغطاة بـ”كاسكتات” محمد أكاديمى. فرحتْ معهم أكثر منهم. كان اسم البلد “مصر” يتماوج بين الشباب هادرا وهو يحاول أن يجد طريقه بين السحاب إلى مكان مجهول. كمْ حفظت البنت أناشيد فيها كلام مسجوع عن مصر، ورددتها فى المدرسة، خصوصا عندما يزورهم زائر مهم، إلا أن “مصر” التى غمرتها “هكذا” هى شىء آخر.
(2)
بثينة بنت شاطرة، حاضرة البديهة، خفيفة الظل، لها ضفيرتان سميكتان، وشعر فاحم، وهى لا تعرف لها بلدا إلا أنها – وجيرانها وأغلب صديقاتها- من روض الفرج، كما أنها تعرف من الحكاوى الطيبة الحاقدة التى تحكيها مديحة: أن ابنة خالتها (خالة مديحة) تنتمى إلى بلد آخر اسمه “مارينا”، مع أنها تسكن فى المهندسين، لكن المهندسين لا تصلح أن تكون وطنا لأحد ولو أقام فيها أحد عشر شهرا فى السنة، حصلت ابنة خالة مديحة على الكارت الأخضر “فالجنسية المارينية” بانتظامها فى الذهاب إليها سنويا مع والدها المقاول جدا.
مع أن رئيس البلدين (“روض الفرج” و”مارينا”) واحد، إلا أنه لم يكن مطروحا أن تقوم أية علاقة بينهما، اللهم إلا “الاستشعار عن بعد”، واحتمالات “قبول الآخر بعض الوقت فى المناسبات العابرة”. بثينة تحب الرئيس وخاصة وهو يشوّح بيديه، ويسأل أسئلة طيبة بسيطة مثل التى تسألها، وقد أحبته أكثر هو وعائلته حين رأته فرحانا مع الفرحانين يوم مباراة الأعلام الراقصة الهائصة بين رؤوس الشباب. يومها سألت أباها فجأة، لماذا لا يحب الرئيس؟ فأجاب دون تردد:” ومن قال لكِ أننى لا أحبه؟ أنا “أحبه موتْ”.
(3)
والد بثينة يعمل فى صحيفة مستقلة، سأله زميله دون مناسبة : “ماذا لو عرضوها عليك؟ هل تقبلها؟”، رد متعجبا متلِّمظا: “عرضوا من يا جدع انت؟ إنها متزوجة وتعول؟ وأنا كما تعلم”، قال زميله: “الله يخرب بيتك، أين ذهبت؟، أنا لا أتكلم عن “المُزّة” التى يسيل عليها لعابك كلما مرت أمام مكتبك، أنا أتكلم عن الوزارة، رد متحفزا لقافية سخيفة : “وزارة ماذا يا مجنون”؟ قال صديقه: “أية وزارة تختارها”، ثم أردف: “أراهن أنك سوف تنجز فيها أقل من أى وزير تمسخره ليل نهار”. رفض بشدة، واتهمه بالهزيمة والتراجع، لكنه أثناء عودته للمنزل قال لنفسه: “يجوز!!”
(4)
سألت بثينة أباها بعد أن انتهى المولد وكادت تنسى كل شىء حتى اسم “مصر”: سألته فجأة”: هل ربنا سيحاسب الرئيس وعائلته مثلما سيحاسبنا تماما؟، تعجب أبوها ولم برد، فأعادت عليه السؤال، فأجاب ودهشته تزداد: “طبعا، ربنا هو العدل نفسه، ويستحيل أن يكون لديه موازين مختلفة يحاسب بها الناس على حسب وظائفهم أو مكانتهم”. قالت بثينة: “وهل يعلم الأستاذ عبدالله مدرس العربى ذلك؟” قال أبوها :”طبعا، كل الناس تعلم ذلك”. مضت بثينة فى أسئلتها اللحوح” هل أنت متأكد يا والدى؟”، قال: متأكد من ماذا؟” قالت:”من أن مدرس العربى يعلم ذلك؟ قال لها: “أليس مدرس العربى هو مدرس الدين؟ “قالت: “نعم”. قال: “فمن باب أوْلى أنه يعلم ذلك أكثر منى ومنك”.
سكتت بثينة وبدا عليها أنها لم تقتنع، فزاد حب استطلاع أبيها برغم أنه لا يحب أسئلة بثينة منذ كانت تسأله عن الله عز وجل. ماذا يدور فى ذهن هذه البنت؟ كيف تفكر؟ سألها عن سبب سؤالها، فترددت ثم أجابت: “أصل لو أن الأستاذ عبد الله يعلم ذلك، ما قال لنا ما قاله فى حصة الدين عن عذاب القبر”.
(5)
كان صوت الكابح (الفرامل) ينبئ بكارثة حقيقية: الجسد ملقى إلى ناحية، والناس تحيط به، فى حين أن العربة انطلقت كالصاروخ. حاول بعضهم التقاط رقمها، فاكتشف أنه ممسوح تماما، فقرأ فقط أنها: “شـُرطة”. تقدم طبيب الامتياز، الذى لم يعرف فى حياته إلا كتب دراسته، تقدم من الجسد المسجى، وتحسس النبض وهو يقترب من الوجه ليتأكد من النفَـسْ، فتعرف على “بثينة” ابنة جاره، ثم لمح الدم وقد غطى ملابسه، فراح يدافع عن نفسه ضد شعور بالذنب نزل عليه كالصاعقة: أنه القاتل.
قال الشاب للمحيطين وهو ينظر إلى جهة اختفاء العربة: لا داعى للإسعاف، البقاء لله، ومضى قبل أن يلاحظ أن أحد الواقفين التقط بقايا قماش علم من الأعلام التى كانت تملأ الدنيا والشرفات منذ أيام، يغطى بها جثة الصغيرة وهو يتمتم:
منهم لله.