الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الدستور المصرية / … لا شىء دون ثمن !!! (تعتعة سياسية)

… لا شىء دون ثمن !!! (تعتعة سياسية)

نشرت فى الدستور

13-9-2006

… لا شىء دون ثمن !!!

..نحن  ننسى – أو نتناسى- باستمرار هذه البديهية التى هى القاعدة فى كل شىء.  نحن نعمى عن الثمن الحقيقى لأى قرار حقيقى. يتجلى ذلك أكثر حين  يبدو لنا الثمن باهظا.  النتيجة هى أننا ندفع ثمنا أفدح منه، ولمدة أطول، الأخطر أن  ندفعه  فى السر، أخطر الأخطر أن ندفعه بلا وعى، فندفع أضعاف ما كنا سندفعه أولا.

للحرية ثمن، وللديمقراطية ثمن، إذا أردت أن تكون حرا بحق عليك أن تجازف بكل شىء، حتى بما تتخيل أنها حريتك التى تتصور أنك ترفل فيها، وأنت لا تتحرك إلا فى سجن أفكار وحتى مشاعر ليست من صنعك، دع هذا جانبا ولنتذكر معا أن للديمقراطية التى يتغنى بها الجميع، ثمنا قد يكون باهظا ، لا يبرر دفعه إلا أن عكسها  ثمنه أكثر تكلفة ، وبضاعته أسرع فسادا .

  للحرب ثمنها، وللسلام ثمنه، لا يجوز أن نختار الحرب ونصر أن نقبض ثمن السلام، كما لا يجوز أن نختار السلام، أو حتى الاستسلام، ثم نطالب بنصيبنا فى مكاسب الحرب، وكأننا نحارب مع من يحاربون.

 الحرب قدرٌ قبيح، لكنها قدر.  لا أحد يريد الحرب ابتداء إلا ظالمٌ  غبى مستغل قاتل. بشاعة حرب هذه الأيام لا تصلح الكلمات لوصفها. حتى الصور فى الفضائيات هى أعجز من أن تنقل رائحة الدم، ولا عفن الجثث المتفحمة، ولا مشاعر طفل وهو يتعثر فى أشلاء أمه،  ولا ثكل أم لرضيعها.

حين يفرض قدر الحرب نفسه، فنختاره اضطرارا، علينا أن نتقن حساباتنا فنبادر باستثماره ودفع ثمنه بشجاعة الأحرار، ودون تحديد مسبق لعمره الافتراضى، قدر الحرب ليس له عمر محدد، ولا نهاية معروفة مسبقا ، علينا أن نصنع منه قدرا آخر، قدرا يعوضنا ما فقدنا من أرواح وخراب وبنية أساسية وتقشف وآلام وشقاء، ندفعها جميعا دون استثناء. حين تبين الشيخ حسن نصر الله حجم الثمن الذى دفعه الشعب اللبنانى كله، والبناء اللبنانى كله، مقابل أسر جنديين من جنود الاحتلال ، اعترف بأمانة أن الثمن كان باهظا فعلا، لكن ذلك لا يعنى أنها الهزيمة، أو أنه التراجع، بل إنه يعنى المصداقية، والتعلم، فهو أول من يدرك  أن استرداد الثقة، وتبين الطريق إلى الكرامة، هو الثمن الذى نقبضه جميعا مقابل ما دفعناه فى الحرب، فتكون الحسبة النهائية لصالحنا، لو أحسنا استثمارها.

السلام قدر آخر، نحن نختاره اضطارارا  أيضا رغم ظاهر الحسابات، وهو قدر أصعب وأغمض برغم صمت الانفجارات وظاهر السكينة، خاصة حين نخلط بين ما هو سلام وما هو استسلام، أوحين نتصور (أو يصورون لنا) أن للسلام ثمنا نقبضه، دونما ثمن ندفعه. هذا ليس سلاما، هذا تركيعٌ مقابل رشوة، لقد دفعنا ثمن سلام 56 بتمرير إسرائيل سرا فى مضايق تيران فمنحناها ولادتها الثانية، أما فى 67 فقد دفعنا ثمن الحرب دون حرب، وثمن السلام دون سلام، ثم كان ثمن سلام 78 (متضمنا فاتورة هزيمة 67 ونصر 73 معا)  أكثر التباساً حتى انتهت الصفقة إلى  ما نحن فيه الآن، (برغم تحرير الأرض، دون البشر). لو أننا انتبهنا أن علينا أن ندفع ثمن السلام، ذلك القدََر الآخر، إذن لتجرعناه بألم صابرين ثائرين، لا مهللين راقصين ننتظر وعود الرفاهية والأمان المستورد،  نتجرعه  بكل  مرارته  لننطلق منه إلى  تثوير التعليم، وبناء الاقتصاد، وتنمية البشر، ورعاية الإبداع، وإطلاق الحريات وتغيير آليات الدفاع حتى لا تعود قاصرة على  المؤسسة العسكرية التقليدية باهظة التكاليف، وإنما يعد الشعب كله للمقاومة على مدى العمر،  طول الدهر، بجدية يومية، ومحكات موضوعية، فى كل مجال.

ْ المؤسسات العالمية المفروض أنها مسئولة عن إحقاق الحق، ونشر العدل، ورعاية السلام، أصبحت مؤسسات مشبوهة مغرضة متحيزة. البضاعة المطروحة من السلام السهل الموصى عليه  هى  بضاعة مغشوشة غالبا، والشيكات المقدمة مقابل مثل هذا السلام هى بلا رصيد. النتيجة أننا نتصور أننا بقبولنا إياها نقبض الثمن فى صورة أننا  ننقذ أرواح بعض أبنائنا من الهلاك، فى حين أننا – إن لم نحسبها لندفع الثمن بعلانية مسئولة- فإننا نسلم أرواحنا كلنا إلى ظلام خطير لا يعرف الطريق فيه إلا الخفافيش.

 يكون السلام سلاما واقعا له معنى، وعمر، وضمان، وناتج، حين يتحقق بانتصار الشعوب على سلبياتها من واقع نتائح أدائها، بما فى ذلك أدائها فى الحرب، لتعرف كيف تستثمره بمزيد من الإيجابيات لها، ولكل البشر:  إبداعا وحضارة.

  قدر الحرب يصبح قدر الحياة الشريفة حين يكون خطوة نحو قدر سلام مؤلم رائع، له ثمنه جدا.

هكذا، وباستمرار !!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *