الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الدستور المصرية / قبلات وأحضان، وسط الدماء والأحزان

قبلات وأحضان، وسط الدماء والأحزان

الدستور

28-1-2009

 

                 تعتعة

قبلات وأحضان، وسط الدماء والأحزان

أنا طبيب نفسى – المفروض يعنى- وقد كررت مرارا قول الأخ الصديق أ.د. أحمد عكاشة لشقيقه صاحب الفضل على الثقافة ومصر أ.د. ثروت عكاشة أننى أمارس الطب النفسى فى أوقات فراغى، مع أننى أمارس حياتى كلها من خلال عيون مرضاى (اساتذتى الحقيقيين) دون أن أسمى ذلك طبا نفسيا. المهم: تصورت أحد شباب الصحفيين وهو يسألنى، ما هو التفسير النفسى لهذه القبلات والأحضان التى نشاهدها فى لقاءات الكبار هذه الأيام، فأعتذر مجيبا أننى ضد بدعة التفسير النفسى لكل الأحداث هكذا، وخاصة تفسيرا لتصرفات الكبار، ولهذا وقفت محذرا طول الوقت ضد الانسياق مع ما يسمى “الطب النفسى السياسى”، أو “علم النفس السياسى”، وإن كنت أتفهم هذا الأخير أكثر، (إقرأ مثلا مقال أ.د.  قدرى حفنى الرائع فى أهرام الخميس 22/ 1/ 2009 بعنوان “غزة ومخاض الانتماءات“، أفهم مثل ذلك أكثر بكثير من حشر تشخيصات وفتاوى الطب النفسى فى السياسة، وقد وصل الاحتفاء بذلك إلى اقتراح ضرورة الكشف النفسى على رؤساء العالم قبل أن يولوا مناصبهم، (ربما يحتاج الأمر إلى  توصية من المحكمة الجنائية الدولية!!! فيحتج الرؤساء – مثل إسرائيل الآن-  أنهم لم يوقعوا على ميثاقها!!)  موقفى هذا لا يمنعنى من متابعة الهواة الذين يفتون فى السياسة باستعمال أبجدية العلوم النفسية، فيبدون أقرب إلى التوفيق من بعض الزملاء. ومن أوائل هؤلاء كان الأستاذ الحرّيف (بالفصحى، والعامية) محمد حسنين هيكل، حين كتب سلسلة من المقالات فى أوائل الستينات، قبل هزيمة 1967، بعنوان “العقد النفسية التى تحكم الشرق الأوسط”، (فكانت الهزيمة)، وأيضا حين زعم المرحوم أنور السادات (فلاّحا منوفيا مناورا) أن ما بيننا وبين إسرائيل أغلبه هو لأسباب نفسية (وانتهى إلى زعم آخر الحروب)، ثم إننى حين توليت رئاسة قسم الأمراض النفسية، نظمت سلسلة من اللقاءات العلمية لربط الطب النفسى بالحياة العامة، وكان من بينها “الطب النفسى والسياسة”، وكان ضيف هذه الندوة هو المرحوم السفير تحسين بشير، وقد قدم يومها  تفسيرا  نفسيا، لتعيين الرئيس حسنى مبارك نائبا للرئيس المرحوم أنور السادات، كان تأويلا  نفسيا رائعا شمل الخلفية النفسية لأمور كثيرة كان سيادة السفير أدرى بها، لصلته بهما آنذاك، فقدم تفسيرا دقيقا ذكيا – لست فى حل من ذكره- لا أعتقد أن أحد الزملاء المختصين يقدر عليه، أو يجرؤ عليه.

نرجع مرجوعنا لعنوان التعتعة عن “القبلات والأحضان وسط الدماء والأحزان”، ردا على السؤال الذى لم يسأله ذلك الصحفى الشاب، رحت أراجع  ما طالعنى من صور فى الصحف ( فأنا لا أشاهد التليفزيون كما ذكرت: فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها)، وكان أقربها هى صور الدوحة والكويت وشرم الشيخ وتل أبيب، رصصت الصور أمامى، ورحت أتأمل المنظر بين العواصم الأربعة، وأغلب العظماء اشتركوا فى أكثر من واحدة بحسب الاتفاقات التحتية والفوقية!، أو حسب التطورات الاقتصادية والدبلوماسية!! وربما أيضا : حسب التقاليد الديمقراطية والقبَـلية (من القبيلة لا من القبلات) رحت أشاهد هذه الصور بدقة “نفسية”!، وحسابات متأدبة!!، تناسب المقامات الرفيعة التى يمثلها المتصوِّرون (من الصورة وليس من التصوّر)، ثم اضطررت لتفسيرها أن أعود مرغما لمقارنتها بما امتلأ به بريدى من صور رغما عنى، وبمجرد أن فتحت أول وثيقة “المجازر الصهيونية فى غزة” من ثمان وعشرين شريحة، على برنامج النقطة القوية (باور بوينت)، حتى فاحت منها رائحة الدم، وتعجبت لأننى أعلم أن هذا البرنامج لا يبعث روائح أصلا، وأن الدم ليس له رائحة خاصة إلا بعد أن يتخثر فى مكان ملوث بالسياسة، ولم أكد أنتقل إلى شريحة أخرى، حتى طالعتنى صورة طفل يحتضر بجواره طفلة تبكى جزعا ودمعة يتيمة تترقرق على خدها، وهى تقف وحيدة، وكفها أسفل خدها الأيمن، مددت يدى ومسحت دمعتها، فلم تتحرك ابنة ابنتى، مع أن يدى ابتلت بدمعتها، لأكتشف أنها على خدى أنا.

رجعت إلى صور الكبار أتملاها، بحثا عن التفسير “النفسى”  لهذه القبلات والأحضان وقلت للشاب الذى لم يسأل: ربما ضاق وقت هؤلاء الكبار العظام عن متابعة ما يجرى، ووقتهم أملأ وأثمن من وقتى آلاف المرات، مع أن الصور اقتحمتنى بالشم واللمس حالا كما ذكرت، أو ربما هم أقوى نفسيا جدا جدا-  بأمارة أنهم يحكمون بلادهم والعالم- وبالتالى هم أقدر منى ومنك على التحكم فى مشاعرهم، أو ربما أخيرا هم يتحاضنون ويتبادلون القبلات لأنهم حققوا النصر، فالجميع خرج منتصرا من هذه الأزمة العابرة!!!!، فلماذا لا ينتصر الزعماء والرؤساء أيضا ويتبادلون التهانى والقبلات بالأحضان هكذا؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *