الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الدستور المصرية / كيف استطاع نجيب محفوظ أن “يحِب”: كل هذ الحب ؟!!

كيف استطاع نجيب محفوظ أن “يحِب”: كل هذ الحب ؟!!

الدستور

9-12-2009

تعتعة الدستور

كيف استطاع نجيب محفوظ أن “يحِب”:  كل هذ الحب ؟!!

بعد غد، فى مثل يوم 11 الجارى سنة 1911، ولد إنسان مصرى فعلا، طيب ورائع وفريد، اسمه نجيب محفوظ. يشاء السميع العليم أن أرافقه قريبا جدا لمدة أكثر من عشر سنوات قبل رحيله، تعلمت منه، وما زلت أتعلم، تعلمت من كتاباته، ونقدها، ونقدى لها، ثم تعلمت من صحبته وريادته وحضوره وغيابه. فى بداية صحبتى له، ولمدة الثمانية أشهر الأولى، اعتدت أن أسجل يوميا بعض ما يتبقى فى ذاكرتى من لقائى معه، رحت أقلب فى تلك الأوراق فوجدت  ما يستأهل أن أقتطفه نتعلم منه معا الآن، هكذا:

الجمعة‏ 3 / فبراير / 1995‏

….. ثالث‏ ‏أيام‏ ‏رمضان‏، ‏المكان‏ ‏جديد‏، ‏لكنني‏ ‏أحسست‏ ‏أن‏ ‏الاستاذ‏ ‏اطمأن‏ ‏إلى‏ ‏الأماكن‏ ‏التي‏ ‏أقترحها‏ وأعدّها، ‏ ‏حضر‏ ‏أحد‏ ‏مريدى الأستاذ ‏ القدامى ‏من‏ ‏الذين‏ ‏كانوا‏ ‏يواظبون‏ ‏على‏ ‏جلساته‏ ‏في‏ ‏قصر‏ ‏النيل‏، ‏الصديق‏ ‏يوسف‏ ‏عزب‏، ‏وذكّـره‏ ‏بنفسه‏، ‏وبالصحبة‏ ‏التي‏ ‏كانت‏ ‏تحضر‏ ‏تلك‏ ‏الجلسات‏، ‏وكنت‏ ‏قد‏ ‏اتفقت‏ ‏مع‏  د. ‏زكي‏ ‏سالم‏ على‏ ‏مثل‏ ‏ذلك‏ ‏ما‏ ‏أمكن‏ ‏ذلك‏، ‏حين‏ ‏حضر‏ “‏يوسف”: ‏ ‏تذكرت‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏قد‏ ‏قال‏ ‏لي‏ ‏أن‏ ‏الأستاذ‏ ‏لا‏ ‏يحب‏ ‏جمال‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏، انتهزتها فرصة لأستوضح ذلك مع استبعادى له،  لعلمى بقدرة الأستاذ على الحب بتشكيلات متعددة، هو لا يحب هكذا والسلام، علما بأنه لا يستعمل “كلمة الحب” إلا نادرا، هو يمارس الحب، يفعل الحب، لا يحكيه، كنت – غصبا عنى – أقيس مشاعرى بمشاعره، وحين أعجزعن أحب أحدا ممن يجلسون معنا، ثم أجده يحيط نفس هذا الشخص  بكل رعاية ويتحمله بكل صبر، يملؤنى الغيظ من نفسى، وأفرح – مغيظا- بهذه القدرة التى لا أملكها: “مِنْ كلٍّ بحسب ما هو، وإلى كلٍّ بحسب ما يحتاج“، دون أدنى مجاملة أو تعالٍ.  كيف هذا؟ كيف يستطيع ذلك؟

 ‏فى كثير من الجلسات اليومية، وخاصة جلسة “فرح بوت” كل ثلاثاء، يجيء ذكر ‏عبد‏ ‏الناصر‏،  ‏مصحوبا‏ ‏بزيادة صفة‏ ‏”‏العظيم” من يوسف القعيد‏، ‏كان‏ ‏الأستاذ‏ ‏يشاركنا‏ ‏الضحك‏ ‏على‏ ‏الجانبين‏: ‏مرة‏ ‏ويوسف‏ ‏القعيد‏ ‏متحمس‏ ‏أشد‏ ‏الحماس‏، ‏ومرة‏ ‏وعماد‏ ‏عبودي‏ أ‏وحسن‏ ‏ناصر‏ ‏منتقدين‏ ‏حاد‏ ‏الإنتقاد‏، ‏لاحظت‏ ‏أن الأستاذ  ‏يعرف‏ ‏عيوب‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏ ‏بشكل‏ ‏محدد وواضح‏‏، ‏ولكني‏ ‏لم‏ ‏ألاحظ‏ ‏حكاية‏ ‏أنه‏ ‏لايحبه‏ ‏هذه‏، ‏سألته‏ ‏مباشرة‏:  ‏هل‏ ‏تحب‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏، ‏قال‏ ‏بلا‏ ‏ترد‏، “‏نعم‏ ‏أحبه”‏، ‏قلت‏ ‏له‏ ‏أنا‏ ‏أعرف‏ ‏أنك‏ ‏تحب‏ ‏كل‏ ‏الناس‏، ‏ولكنني‏ ‏أسأل‏ ‏هذا‏ ‏السؤال‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏السياسة‏ ‏وحتى عن‏ ‏أخطائه‏ ‏وعن‏ ‏إنجازاته‏، ‏أسأل‏ ‏عن‏ ‏شيء‏ ‏لا‏ ‏أعرف‏ ‏له‏ ‏تعريفا محددا، وهو ‏ ‏الحب‏ ‘‏هكذا‏’ ‏والسلام‏، ‏قال مرة أخرى مؤكدا: ‏‏”طبعا‏ ‏أحبه‏، ‏أليس‏ ‏زعيما‏ ‏لأ‏‏متي؟‏ ‏كيف‏ ‏لا‏ ‏أحبه !!”‏، ‏قلت‏ ‏له‏ – ‏وأنا‏ ‏أشعر‏ ‏بسخفي‏ ‏يتزايد‏: أنا لا أقصد‏ ‏واجب‏ ‏أن‏ ‏يحب‏ ‏المواطن‏ ‏الصالح‏ ‏زعيمه‏ ‏أيا‏ ‏كان‏، ‏ولكنني‏ ‏أسأل‏ ‏تحديدا‏ ‏عن‏ ‏شخص‏ ‏محدد‏، ‏هل ‏تحبه؟‏ ‏قال من جديد بحسم دون تردد:  “‏نعم‏ ‏أحبه‏”، ‏واكتفيت‏ ‏بهذا‏ ‏القدر‏ ‏ولم‏ ‏ألفت‏ ‏نظر‏ ‏يوسف،‏ ‏إذ‏ ‏يبدو‏ ‏أنني‏ ‏أعجبت‏ ‏بهذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏العواطف‏ ‏النظيفة‏ ‏إعجابا‏ ‏خاصا‏، ‏خصوصا‏ ‏وأنا‏ ‏أكره‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏ ‏كرها‏ ‏خاصا‏‏، ‏برغم‏ ‏اعترافي‏ ‏بفضله‏ أحيانا، إلا أن كم الكذب والوصاية اللذان وصلانى منه وهو يطل علينا من أعلى، حافظ على كراهيتى له هو ومن ضلـَّـلَه من مستشاريه الذين لم ينتبهوا إلى ما فعلوا ويفعلون حتى الآن، نجيب محفوظ يعرف كل ذلك، لكنه ‏ ‏قادر‏ ‏على‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الحب‏ بكل هذا الصدق، ‏رحت‏ ‏أبحث‏ ‏في‏ ‏نفسي‏ ‏عن عواطف إيجابية نحو عبد الناصر لأقتدى بشيخنا‏، ‏فما‏ ‏وجدت‏ ‏الا‏ ‏شفقة‏ ‏عليه ‏ ‏وهو‏ ‏مريض‏ فى آخر أيامه….‏، ‏

(انتهى النص القديم، ولم أسجل فيه تصالحى المحدود مع عبد الناصر بعد دراستى لملف حرب الاستنزاف)

تشكيلات أخرى من الحب وصلتنى من نجيب محفوظ خلال تلك السنوات، قبلتُ أغلبها، وتحفظت على بعضها حين كانت تختلط عندى بجرعة مفرطة من الحرية والطيبة والسماح والديمقراطية جدا، لكننى كنت أتعلم من جميع ما أقبل وما أرفض.

ومن فرط ما بلغنى من قدرته على الحب، صالحنى على نفسى، وناسى، وأيامى، كما سجلت ذلك  فى عيد ميلاده الثانى والتسعين هكذا: (مع تحديث بسيط جدا)

صالحتَـنِى ‏شيخى ‏على ‏نفسىَ ‏حتى ‏صرتُ‏ ‏أقرب‏ ‏ما‏ ‏أكون‏ “‏إليه”‏ ‏”فينـا”،‏

صالحتَـنِى ‏شيخى ‏على ‏ناسي‏، ‏وكنت‏ ‏أشك‏ ‏فى ‏بــله‏ِ ‏الجماعة‏ ‏يُخدعون‏ ‏لغير‏ ‏ما‏ ‏هـم‏.‏

‏ ‏ صالحتَـنِى ‏شيخى ‏على ‏حريتى‏، ‏فجزعت‏ ‏أكثر‏ ‏أن‏ ‏أضيع‏ ‏بظلِّ‏ ‏غيري‏.‏

صالحتَـنِى ‏شيخى ‏على ‏أيامنا‏ ‏المرة‏ ‏مهما‏ ‏كان‏ ‏منها‏. ‏

ذكـّرتنى ‏شيخى ‏بأنّا‏ ‏قد‏ ‏خُـلقنا‏ ‏فى كـبَدْ‏ِ

 ‏ما دام كرّمنا لنحملَ وعينـَا لنكونَهُ، ‏ ‏كدْحا‏ ‏إليهِ‏.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *