الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الدستور المصرية / “الموت لا يجهز على الحياة”: نجيب محفوظ

“الموت لا يجهز على الحياة”: نجيب محفوظ

الدستور

1-9-2010

تعتعة الدستور

“الموت لا يجهز على الحياة”: نجيب محفوظ

أول أمس كانت الذكرى الرابعة لرحيله، فهل رحل أصلاً، أليس هو القائل: “الموت لا يجهز على الحياة، وإلا أجهز على نفسه” (ملحمة الحرافيش ص 66).

أليس هو الدى كتب الفقرة التالية فى أصداء السيرة (فقرة 58)

همسة‏ ‏عند‏ ‏الفجر

“تسير‏ ‏وأنا‏ ‏فى ‏مقدمتها‏ ‏أسير‏ ‏حاملا‏ ‏كأسا‏ ‏كبيرة‏ ‏مترعة‏ ‏برحيق‏ ‏الحياة‏.‏ فى ‏مرحلة‏ ‏حاسمة‏ ‏من‏ ‏العمر.‏ ‏عندما‏ ‏تنسم‏ ‏بى ‏الحب‏ ‏ذروة‏ ‏الحيرة‏ ‏والشوق،‏ ‏همس‏ ‏فى ‏أذنى ‏صوت‏ ‏عند‏ ‏الفجر‏.‏

‏”هنيئا‏ ‏لك‏ ‏فقد‏ ‏حم‏ ‏الوداع”‏  وأغمضت‏ ‏عينى ‏من‏ ‏التأثر‏ ‏فرأيت‏ ‏جنازتى”.

يا ترى هل التقيت شيخى طاغور هناك؟ وهل كرر طاغور عليك شعره هذا؟

“قالت لى الغمامة: سأمّحى

وقال الليل: سأغيب فى الفجر المضطرم

وقال الألم: سألوذ بصمت عميق كآثار خطاه

وأجابت حياتى: سأموت وأنا فى منتهى الكمال

وقالت الأرض: إن أنوارى تلثم أفكارك فى كل لحظة

وقال الحب: وتمضى الأيام ولكننى أنتظرك

وقال الموت: سأقود زورق حياتك عبر البحر”

****

لا أشك فى أن شيخنا قد اختار الموت راضيا حين شاء الحق تعالى أن يختاره، كما أننى لم  أشك أن محفوظا قد اختار الحياة طول الوقت، حتى لحظة اختياره الموت، اختار الحياة كائنا بشريا جسديا متحركا حاضرا .. وأيضا اختارها أكثر: كيانا فاعلا جميلا مضيفا بما تيسر له، فأبدع فيه. وحين تيقن أن الله تعالى قد أراد أن يجعل الأدوات أضعف فأضعف، والمجال أضيق فأضيق، اختار شيخنا أن يقولها بملء وعيه أنْ “كفى”. لم يكن اختيار الحياة بديلا عن اختيار الموت، كان اختياراً متداخلا، متكاملا مكمِّلاً. حين آن الأوان: قالها شيخنا بملء وعيه أنْ: “كفى”، ومضى إليه راضيا مرضيا، ومع يقينى أن هذا حقه بلا منازع، فقد رحت أعاتبه وأنا أرثيه بقصيدتى: “لم قُلْتَها شيخى: “كفى” ؟

 من ذا الذى يرغب فى فراق من يحب؟

(أعيد) فى أوائل معرفتى به شخصيا، كان الرئيس فرانسوا متران قد تأكد من قرب النهاية بعد تمادى غول السرطان، سأله أحد الصحفيين بعشم (أو وقاحة) عن توقعاته بعد الموت، وعن مدى إيمانه أو رغبته فى الخلود فى الجنة، فأجاب بجدية وبكل شجاعة، أنه يرى أن الخلود فى الجنة بلا نهاية هو أمر يدعو للملل، نقلت للأستاذ هذا التصريح متعجبا، وربما مُعْجبا بشجاعة متران ومساحة الحرية التى تسمح بمثل هذا التصريح، أطرق الأستاذ رأسه مليَّا، صمتُّ منتظرا، وطال الانتظار حتى نبهته بكل العشم أنى أحتاج إلى تعليقه، قال: “أنا لا أوافقه”، قلت له “ألم تلاحظ شجاعته حتى لو اختلفنا معه؟ ألسنا نفتقد هذه المساحة من الحرية التى يتحركون فى إطارها بلا سقف يُقَزِّمهم؟، قال: “ليكن، لكنك تسأل عن رأيى فيما قال، لا عن ما أتاح له إبداء رأيه”. فأردفت أننى ما زلت  أنتظر تعليقه والسلام، قال بعد قليل: أنا لا أوافقه. إسمع يا سيدى: أنت حين تحب شخصا أَلاَ تكون حريصا على البقاء معه أطول مدة ممكنة؟ قلت نعم. قال: هل يمكن أن يخطر ببالك ما هو ملل وأنت تحبه فعلا ؟ قلت: لا، قال، فإذا كنت تحب الله سبحانه، فهل تشبع من قربه مهما امتد الزمن بلا نهاية، أم أنك تزداد فرحة وتَجدُّدًا طول الوقت؟”

علّمنى الدهر

قبل الحادث النذل بعام إلا قليلا نشر محفوظ فى الأهرام قصة قصيرة بعد أن غير الأهرام عنوانها دون استئذانه – كما أخبرنى شيخى شخصيا!!- حتى أصبح عنوانا ضحلا هو”علّمنى الدهر”، وصلنى من تلك القصة الباكرة أنه يعد نفسه “بهدوء” للرحيل، وإن استغرق ذلك أكثر من اثنتى عشر عاماً.

تبدأ القصة القصيرة هكذا: ” آن‏ ‏لنا‏ ‏أن‏ ‏نرحل” إلى أن قال:

“…. نصح‏ ‏الطبيب‏ ‏بذلك‏ ‏وإذا‏ ‏نصح‏ ‏الطبيب‏ ‏وجبت‏ ‏الطاعة‏, ‏كانت‏ ‏إقامة‏ ‏طيبة‏, ‏وشقة‏ ‏أنيقة”.

ثم تمضى القصة فى اتجاه أن الساكن الجديد الذى سيحل محل الراحل هو أولى بالمسكن، إلى آخر ما يشير إلى أن البقاء هو للأكثر فتوة، وأوفر شبابا وأصغر سنا.

ثم تنتهى القصة وهو يصعد إلى القطار، ليعلن رضاه :

‏- ‏من‏ ‏الإنصاف‏ ‏أن‏ ‏أذكر‏ ‏أنها (كانت)‏ ‏إقامة‏ ‏جميلة‏ ‏وأنها‏ ‏تستحق‏ ‏الشكر”

كتب محفوظ كل ذلك قبل الحادث النذل، ثم رحل بعد أكثر من عقد، فهل رحل أم انتقل، أم عاد، أم أنه باق بيننا، لكننا فقط لا نراه مجسدا.

وبعد

يا شيخى الجليل، هل تريد منى أن أمرّ عليك الليلة فى الثامنة أم الثامنة والربع؟

نعم؟!!! نعم؟!

 ليس بعد؟!! إذن متى؟

فى انتظار ردك والله العظيم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *