الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الوفد / نجيب محفوظ: طاقة الإسلام تحرك عربة حياتنا…!! (2 من 2)

نجيب محفوظ: طاقة الإسلام تحرك عربة حياتنا…!! (2 من 2)

نشرت فى الوفد

9-9-2009

نجيب محفوظ: طاقة الإسلام تحرك عربة حياتنا…!! (2 من 2)

(كان ذلك بعد صدور الحكم على الجناة، وبعد تحفظنا من الذهاب لنفس المكان فى نفس اليوم) الاثنين ‏ 9/1/1995‏ (تكملة)

“…ركبنا‏ ‏العربة، ‏قال‏ ‏إلى‏ ‏أين؟‏ ‏قلت‏‏: ما‏ ‏رأيك‏ ‏فى ‏المعادي‏، ‏قال‏ ‏ليكن‏، أنت نفسك فيها منذ مدة، ‏ذهبنا‏ ‏إلى “كافتيريا” ‏أحد‏ ‏الفنادق‏ على النيل‏، شعرت بالحرج من أن نواصل حديث أمس (عن الإسلام والمستقبل) بهذا الصوت المرتفع، ولكن يبدو أنه لم يكن هناك خيار.

رجعت‏ ‏لاستفسارى‏ ‏الملح‏ ‏مستوضحا‏ ‏معنى ‏أن‏ ‏مستقبلنا‏ هو ‏فى ‏الاسلام‏ ‏حالة كونه يتحاور ‏ ‏مع‏ ‏العلم‏ ‏المعاصر، قال: ‘‏لكى ‏تكلم‏ ‏الناس‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏هناك‏ ‏ما‏ ‏يجعلهم‏ ‏يسمعونك‏، ‏والاسلام‏ ‏الآن‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يشغل‏ ‏الوعى ‏العام‏، ‏عندك‏ ‏خمسين‏ ستين ‏مليون‏ ‏بنى ‏آدم‏ ‏تريد‏ ‏أن‏ ‏تجعلهم‏ ‏يعملون‏، ‏وينتجون‏، ‏وقد‏ ‏رقدوا‏ ‏فى ‏الخط‏، ‏ولا‏ ‏شيء‏ ‏يحركهم‏ ‏وهم‏ ‏يرددون‏ ‏فرحتهم‏ ‏بأنهم مسلمون‏ ‏ويريدون‏ ‏أن‏ ‏يتمسكوا‏ ‏بدينهم‏، ‏ ‏ ‏فلتكن‏ ‏هذه‏ ‏هى ‏البداية‏، ‏ولتقل‏ ‏لهم‏ ‏إن‏ ‏المسلم‏  ‏يعمل‏ ‏ويتدرب‏ ‏ويتعلم‏ ‏ويُعلم‏، ‏المهم‏ ‏أن‏ ‏نحافظ‏ ‏على ‏استمرار‏ ‏عطاء‏ ‏وحركة‏ ‏العلم‏ ‏وليحكمنا‏ ‏من‏ ‏يقدر‏ ‏أن‏ ‏يسيـّرنا‏، ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏نخاطب‏ ‏الناس‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏ما‏ ‏يتمسكون‏ ‏به‏.‏

قلت‏ ‏له‏: ‏لكن‏ ‏أن ‏يكون‏ ‏الحكم‏ ‏إسلاميا،‏ ‏والعلم‏ ‏على‏ ‏أشده‏ ‏وفى ‏أوج‏ ‏توهجه، ‏هذه‏ ‏مسألة‏ ‏فيها‏ ‏نظر‏، خاصة وان العلم المعاصر جدا لم يعد هو العلم الذى نعرفه منذ بضعة عقود، والمناهج الأحدث تجعل ما كنا نسميه علما، مقولا بالتشكيك، ولم يعد ممكنا فصل ‏‏العالم‏ ‏الآن‏ ‏عن‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏علم‏، ‏وعن‏ ‏ما‏ ‏يعلمه‏، وكل هذا بعيد عن العلماء التقليديين، فما بالك بمن يحكم باسم الدين، وكأنه ولى أمر المعرفة علما ودينا وتفسيرا وإبداعا.

أقر ‏الاستاذ‏ ‏بشكل‏ ‏متواضع‏ ‏بعد‏ ‏تفكير‏ ‏صامت‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يتابع أيا من ذلك بشكل كاف، وأنه حتى إن كان ذلك كذلك، فلنأخذ‏ ‏من‏ ‏العلم‏ ‏ما‏ ‏لا‏ ‏يحتاج‏ ‏لكل‏ ‏هذه‏ ‏المناهج‏ ‏الجديدة‏،  ‏ولندع‏ ‏جانبا‏ ‏بعض‏ ‏الوقت‏ ‏الخوض‏ ‏فى ‏المسائل‏ ‏الفلسفية‏ ‏ونوع‏ ‏التفكير‏ ‏الذى ‏يمزج‏ ‏العلم‏ ‏بالعالم‏ بأنواع المعرفة الأخرى،

قلت‏ ‏له‏ ‏إن ما يصلنى منك وعنك هو هذا التقديس المبالغ فيه لكلمة العلم ووعودها، إن أغلب من لا يشتغل بالعلم يعطيه ويأمل فيه أكبر كثيرا من قدراته، فى حين أن العلماء الحقيقيون يحلمون ‏ ‏بالنهل‏ ‏من‏ ‏روافد‏ ‏الفن‏ ‏والأدب‏ ‏والإيمان‏ (وهو ليس مرادفا تماما للدين) يتكاملون به لخير الإنسان ودفع تطوره. وافقنى ‏بحذر‏، ‏ثم‏ ‏عاد‏ ‏يصر‏ ‏أن‏ ‏تضخم‏ ‏عطاء‏ ‏العلم‏، ‏حتى‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏منهج‏ ‏محدود‏ ‏سوف‏ ‏يتيح‏ ‏لأى ‏حكم‏ ‏كائنا‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏عصريا‏، ‏وأن‏ ‏يتقدم‏ ‏أكثر‏ ‏فأكثر‏ ‏حتى‏ ‏يصلح‏ ‏أخطاءه‏.‏

شككت‏ ‏وجادلت‏ ‏وضربت‏ ‏له‏ ‏مثلا‏ ‏للتسطيح‏ ‏الجارى من خلال تلك ‏المحاولات‏ ‏السطحية التعسفية‏ ‏بتفسير‏ ‏النص‏ ‏الدينى ‏بالعلم‏ ‏أو‏ ‏ما‏ ‏يتصورن‏ ‏أنه‏ ‏علم‏، ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏يدل‏ ‏على ‏أن‏ ‏مفهوم‏ ‏العلم‏ ‏فى ‏إطار‏ ‏حكم‏ ‏دينى ‏سيظل‏ ‏محكوما‏ ‏بنصوص‏ ‏من‏ ‏خارجه‏، ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏حرمان‏ ‏العالم‏ – ‏والمفكر‏ – ‏من‏ ‏حريته‏ ‏الحقيقية‏ ‏لن‏ ‏يسمح‏ ‏بإضافة‏ ‏حقيقية‏ ‏وسنظل‏ ‏تابعين‏ ‏لغيرنا‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏محدود‏ ‏نسميه‏ ‏العلم المحاط بسياج من الأحكام الفوقية، وهات يا تلفيق، وهات يا تعسف، وهات يا ادعاء، والمسألة تزداد ظلاما.

طال صمت شيخى مطأطئا، ثم رفع رأسه قائلا،‏ ‏إن‏ التجربة الواقعية، و‏الحرية‏ ‏الحقيقية‏ ‏هى التى سوف تسمح باختبار كل‏ ‏هذه‏ ‏الاحتمالات‏ ‏أمام‏ ‏الناس‏، ‏فإن صحت مخاوفك، فإن الناس لن ‏ ‏يعيدوا اختيار‏ ‏من‏ ‏أعاقهم ويعيقهم‏، ‏أما‏ ‏إذا‏ ‏اختاروه‏ ‏فعلينا‏ ‏أن‏ ‏نتحمل نتيجة اختيارنا حتى نتعلم ونحسن الاختيار من جديد، ولندع العلم يترعرع طول الوقت تحت مظلة أى نظام،  قلت‏: ‏كيف‏ ‏يترعرع‏ ‏العلم‏ ‏فى ‏جو‏ ‏محكوم‏ ‏بحدود‏ ‏من‏ ‏خارجه‏.‏ قال‏: ‏سيترعرع لان هذه طبيعته.

بصراحة: أعجبت‏ ‏إعجابا‏ ‏شديدا‏ ‏بصبره‏ ‏وعناده‏، ‏هذا‏ ‏الرجل‏ ‏يحترم كل ‏جزء‏ ‏من‏ ‏الوعى البشرى ‏ليضيف‏ ‏به‏ ‏ويتحرك‏ ‏معه‏، وهو ‏يرضى ‏بكل‏ ‏هذه‏ ‏القيود‏ والمخاطر ‏احتراما‏ ‏للواقع‏، ‏وأملا‏ ‏فى ‏المستقبل‏،

قلت له، فلندع العلم جانبا، فقد يمكن فصله ولو ظاهرا عن سلطة الحكم الدينى، فماذا ‏عن‏ ‏الفن‏ ‏والابداع‏ ‏فى ‏ظل‏ ‏الحكم‏ ‏الدينى ‏الذى ‏أرى أنه سوف يخنق الإبداع من كل جانب. أجابني‏: ‏قد‏ ‏يتوقف‏ ‏الإبداع قليلا‏، ‏لكن‏ ‏الناس‏ ‏لا‏ ‏تستطيع‏ ‏أن‏ ‏تعيش‏ ‏بدونه،‏ ‏وسوف‏ ‏يجدون‏ ‏له‏ ‏مخرجا‏ ‏مثلما‏ ‏وجدوا‏ ‏من‏ ‏قبل‏، ‏ألم‏ ‏يكن‏ ‏الطرب‏ ‏والفن‏ ‏والشعر‏ ‏بل‏ ‏والشرب‏ ‏والرقص‏ ‏موجودا‏ ‏فى ‏العصر‏ ‏العباسى‏ ‏وعبر‏ ‏العصور‏‏الإسلامية‏ ‏كلها؟‏ ‏وأضاف‏: ‏بعد‏ ‏فترة‏ ‏التشدد‏ ‏المبدئية‏ ‏سوف‏ ‏يرتخى ‏الحكام‏ ‏ويتصرف‏ ‏المحكومون‏، ‏الانسان‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يجد‏ ‏لنفسه‏ ‏متنفسا‏ ‏تحت‏ ‏كل‏ ‏حكم‏ ‏مهما‏ ‏كان‏، ‏لأن‏ ‏طبيعته‏ ‏غالبة‏ ‏ووسائله‏ ‏لا‏ ‏تنتهى.‏

من هذا الرجل؟ أهو هو الذى اعتدى عليه بعض هؤلاء الذين ينتمون إلى اسم يشبه الاسم الذى يدافع عنه، ويأمل فيه هكذا:  “الإسلام؟

بدا‏ ‏لى وكأنى  ‏مقتنع‏ ‏بما‏ ‏قال‏ ‏مع‏ ‏أننى ‏لم‏ ‏أكن‏ ‏كذلك‏ ‏تماما‏ ‏ ‏ ‏

بعد‏ ‏فترة‏ ‏صمت‏ ‏طالت حتى شعرت بمسئولية أن أكون معه وحدى Tete a tete‏ ‏ ‏سألنى فجأة:

‏- ‏ولكن‏ ‏ماذا‏ ‏ترى ‏أنت‏ ‏فى ‏مستقبلنا؟

دهشت‏ ‏للسؤال‏ ‏هكذا‏، ‏الآن‏، ‏قلت‏ ‏لنفسى‏: ‏هل‏ ‏بعد‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏الاختلاف، ‏وبعد أن صبر علىّ كل هذا الصبر، واحترم مخاوفى، وحاول أن يطمئننى، ما أمكن ذلك، يسألنى أنا عن مستقبلنا؟ ومع ذلك شعرت ‏أنه‏ ‏يسألنى ‏فعلا‏، وأنه  ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يعرف‏ ‏رأيى ‏تحديدا‏، ‏وأن‏ ‏يستمع‏ ‏إليه‏ ‏حقيقة‏، ‏وأنه‏ ‏لايمتحننى أو يتفرج‏ ‏علىّ‏.‏ قلت‏ ‏له‏: ‏مرعوب‏ ‏والله‏،  ‏لو‏ ‏لم‏ ‏يحدث‏ ‏شىء‏ ‏كبير‏ ‏آخر

صمت‏ ‏وهز‏ ‏رأسه‏، وقال: كبير جدا، ربنا يستر

(هل رحل هذا الرجل بالله عليكم؟)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *