أكون أو أصير

نشرت فى مجلة سطور

عدد فبراير – 2000

أكون أو أصير

أصبح البحث عن الهوية القومية، ناهيك عن الهوية الفردية، فرض عين لا فرض كفاية، حدث ذلك بعد ما زحف الإعلام المحلى والعالمى على وعى البشر بشكل منذر، وهذا الزعم يتفق تماماً مع ما يسرى من تساؤلات تزداد إلحالحاً حول “من الذى أصبح يحكم العالم”؟ بعد أن تضاءل دور الحكومات فى تسيير عجلة الاقتصاد القومى، فالعالمى، ومن ثم التحكم فى مجريات السياسة، فالتربية، فالثقافة، فهوية المجتمع، فالأفراد.

فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا نفتح هذا الملف أصلاً؟

لأن واجب البحث عن هوية أصبح فرض عين كما ذكرنا حالاً، نعم، على كل فرد أن يذود عن هويته حتى لو خالف العالم أجمع. إن الذى اعترض – رسمياً – على بداية الألفية الثالثة كان شخصا واحداً هو فيدل كاسترو، ولكن اعتراضه هذا ليس كافياً ليغفر لنا الانسياق وراء خطأ واضح كالشمس، لكن الذى يغفر لنا أن من حق الناس أن تفرح معاً، حتى دون مناسبة، نعم: فرحنا فرحة طفل لم يتعلم الكتابة، شدما منظر الأصفار الثلاثة بجوار بعضها، فرحنا نلعب بها، ونغنى لها وكأننا نتقاذف “بلْياً”، أو نرص كرات ملونة بجوار بعضها، فينحنى لها رقم أثنين بالعربية، أو يتلوى راقصاً بالإنجليزية، ولا اعتراض على ما اتفق عليه الناس حتى لو أعلنوا أنهم أجلوا الألفية الثالثة لتأتى بعد الرابعو، ولكن الدرس يقول: إن اتفاق العالم كله على شكل ما، وهوية ما، ونظام سوق ما، واحتفال ما، لا يعنى أن أياً من هذا هو الصواب، ولا هو الأصوب.

نرجع لموضوع الهوية: فليس معنى أنه لا توجد ملامح محددة لهوية بديلة عن النموذج المعروض – بلا صاحب صريح – أن أساير الجارى وأتبع المتاح الشائع، حتى لو كان عالمياً، فهذه مسألة جد لا لهو فيها، وهى تشكيل ممتد وليس فرحة عابرة، ومن يتصور أن ” النموذج الأمريكى” هو هوية إنسان النظام العالمى الجديد عليه أن يراجع نفسه لأن أمريكا ذاتها ومازالت، تاريخاً، وواقعاً، تبحث عن هوية. إن الفرد الأمريكى ليس له بعد ما يميزه من سمات “جامعة مانعة”، بل لعل ما يميزه فعلاً هو أنه يتمتع بأكبر قدر “اللاهوية”.

إن ما يشاع عما يسمى النظام العالمى الجديد إنما يشير إلى “الوسائل” وليس إلى ما تؤدى إليه هذه الوسائل من تحديد معالم بذاتها، إنه نظام يشير إلى الشكل لا يحدد المضمون: فالمفروض أن أهم وسائل هذا النظام هى: السوق الحرة، والديمقوقراطية، وحقوق الإنسان، وإمكانيات التوصيل والتواصل دون حواجز (مما يسمى أحياناً، ربما من باب المزاح: الشفافية). أما إلى ماذا يؤدى كل هذا، فلا أحد يستطيع الجزم، مثلاً: نحن نتكلم عن حقوق الإنسان دون أن ننتبه إلى حاجتنا إلى مزيد من التعرف على هذا الإنسان الذى نحاول أن نحق له حقوقه، لا أحد يستطيع أن يجزم فعلاً بمدى ما أحرزناه من تعرف على طبيعتنا الحالية،و الواعدة تطورياً، بل إن ما بدا لنا يوماً ما مزية بديهية تميز ماهية الإنسان وتحافظ على إنسانيته ونوعه، مثل دافعية ودلالات غريزة الجنس بين ذكر وأنثى، أصبح الآن محل شك، بل ومحل سخرية، فالشاذ الآن هو من ينظر شذراً، أو حتى عجباً، إلى الشاذ جنسياً، وعلى من يتصور أن الإنسان لم يخلق “شاذ بطبعه”، أن يلم نفسه وإلا اعتبر وقحا وقاهراً ومتخلفاً، وراسباً فى مادة ما هو: “حرية شخصية”، وانتهى الأمر إلى أنه من حقوقك كإنسان الآن أن تكون شاذاً، وأن تعلم ذلك ذلك على الملأ، وأنا لا أريد بذلك أن أثير حفيظتنا الأخلاقية، أو ان أحرك رفضاً انفعالياً بإثارة مشاعر متخلفة تغلب على ثقاقتنا (!!) ولكنى أنبه فقط إلى أن كل شئ حتى الغرائز ومتطلبات حفظ النوع، أصبح مفتوحاً للمناقشة.

ولنا أن نتساءل هنا: هل الهوية التى تتشكل فى تلك المجتمعات الحرة جداً، الجرئية فعلاً، الشديدة الحقوقية الإنسانية هى هى التى تتكون، أو ينبغى أن تتكون عند متخلفين أمثالنا؟

بل أن للمسألة بعداً سابقاً لذلك يطرح تساؤلاً يقول:

هل الهوية هى غاية محددة المعالم يمكن الوصول إليها أصلاً، أم أنها حالة مرحلية فى تشكل مستمر؟

موقف النظريات النفسية:

نبدأ من مدخل مدرسة علم النفس الإنسانى، التى ظلت تمارس كأحدث صيحة حتى الستينيات، وهى مدرسة إنسانية فعلاً تتجاوز مدرسة التحليل النفسى والمدرسة السلوكية، وهى  تُعلى من قيم الإنسان مما يتفق مع الشائع فى المواثيق العالمية الإنشائية المعلنة (مثل حقوق الإنسان، حقوق الطفل، حقوق المرأة، حقوق المريض النفسى، حقوق الشواذ .. إلخ)، ويؤكد هذا العلم بوجه خاص على أهمية “تحقيق الذات” Self actualization، وكأن الذات (الهوية) قيمة محددة تحتاج إلى جهد مرتب، ومسار معروف، فتتحقق، وكأن كل فرد يمكنه أن يحقق ذاته إذا ما وصل إلى هذه المحطة، محطة (غاية) تحقيق الذات.

 وقد عارضت هذا المفهوم مدارس نفسية لاحقة حيث راحت تؤكد على مفهوم امتداد الذات Self expansion لا مجرد تحقيق الذات، بمعنى أن الذات كيان متجدد أبداً، وأن أى تحقيق لها إنما يتضمن موقفاً استاتيكيا مقفول النهاية، فى حين أن الإنسان فى حالة تشكل مستمر، أكد هذا بوجه خاص “سيلفانو أريتى” (صاحب نظرية لم تأخذ حظها من الشيوع وهى المسماة: النظرية المعرفية الإرادية Cognitive Volitional Theory)، وأيضا أكده علم النفس التجاوزى (عبر الشخصية Trans personal) إذا يقول بأن الهوية (الشخصية) هى مجرد مرحلة من مراحل النمو، وهى رحلة متوسطة وليست غاية فى ذاتها، ولا يكون الإنسان نامياً بحق إلا إذا تخطاها إلى ما أسماه “عبر الشخصية”، أو عبر الهوية Transpersonal. ومن هذا المنطلق يصبح تحقيق الذات (الهوية) مجرد هدف مرحلى هام لا أكثر، لذلك ينبغى تجاوزه، هنا نتساءل: تجاوزه إلى أين، لنكون ماذا؟ والرد البسيط يقول: لتكون لنا ذات (هوية) لها معالم مميزة لكل فرد بذاته فى ثقافة بذاتها.

وهكذا تقفز إلينا حتمية النظر فى الفروق الثقافية (قبل أن تمحى نهائياً فى زحمة دلالات الاحتفالات بالألفية التى لم تبدأ بعد)، وسوف أكتفى باجتهادات تخص ما هو مصرى (عربى) كمثال:

نبدأ بالقضية الأساسية التى ما لبثت تتردد منذ أن وضعها شكسبير على لسان “هاملت” منذ بضعة قرون “أكون أو لا أكون، هذا هو السؤال”. وقد شاع هذا السؤال بشكل مسطح أدى إلى اختزال الوجود البشرى إلى تصورات سطحية وخاصة بعد سوء فهم بعض شعب الفلسفة الوجودية، وتمادى هذا الاختزال حتى بدا أن الرد على هذا التساؤل بالإيجاب “أن أكون” هو غاية المراد، وتأكد هذا بشكل خاص فى مواجهتنا لأزمة الهوية فى مرحلة المراهقة، حيث نكرر بلا كلل أن التأكيد على ما هو “أن أكون” هو التفسير الجاهز لشكل ومسار الاختلاف بين الأجيال، الذى يسمى أحياناً، أو عادة ما نرجع به إلى الصراع بين الأب وابنه فيما يسمى “عقدة أويب” التى روج لها سيجموند فرويد (ربما لأسباب شخصية) والتى ضخمت من مسألة التنافس على الأأم والخوف من الخصاء .. إلخ.

لكن هذا المستوى من التساؤل (أكون أو لا أكون) هو المستوى الأدنى (أو قل المستوى البداية) لمسيرة الهوية، ذلك لأن المنظور النمائى لامتصل يقول: إن الإنسان إنما “يكون ليصير”، لا ليكون، فبمجرد تحقيق الكينونة الأولية “أكون”، ومع استمرار جدل النمو: يقفز تساؤل أرقى يقول “أكون أو اصير”، بل إننى أكتشفت (فى مداخلتى عن الإبداع والحرية) ان هذا المستوى هو أيضا مرحلى، وهو يختص بالهوية القومية والفردية، فانتبهت إلى أن مستوى “أكون أو أصير” ليس هو، بدوره، غاية المظاف، بل إنه يلحقه مستوى “أنقرض أو أَطْفٌر” بما يؤثر فى الهوية الإنسانية من منظور تطورى ممتد.

إذن فالمطروح ليكون الإنسان كياناً نامياً بحق هو أن يواصل مراحل التشكل نحو صيرورته المفتوحة النهاية، ما دام على قيد الحياة، بل وما أمتد فى نوعه بعد حياته فرداً.

فهل يحق النموذج الغربى هذا الطموح البشرى الذى هو: المسار التطورى الطبيعى للإنسان؟

ينبنى المفهوم الغربى فى هذا الصدد على أساسين: الأول: الحرية الفردية مؤكدة الاستقلالية. والثانى: تآليه الإنسان باعتباره هو محور الوجود ومنتهاه. ولا يمانع النموذج الغربى أن يضع مع هذا وذاك، وبجوارهما، بعض الديكورات التدينية أو الممارسات الغيبية الشاذة.

وفى المقابل فالإنسان المصرى (كمثال لا أكثر) يختلف فى كلتا المسألتين، فلا هو يتمتع بـ، أو حتى يقدس، الحرية الفردية، ولا وجوده يتوقف هامته فرداً أو نوعاً، (ولا هو عاد يمتد إلى ما بعد كادحاً إليه كدحاً ليلاقيه)، ومع ذلك فهو مختلف مازال، ومن حقنا أن ننظر كيف ذلك.

وسوف أقدم فى هذه المداخلة بُعداً واحداً لهذا التميز المحتمل.

الهوية والحرية والاعتمادية:

يبدو لأول وهلة أن الحرية هى الأساس الضرورى عندهم لتحقيق الهوية، لا تتفق مع الاعتمادية، بمعنى أن الانسان الحر هو الإنسان المستقل فعلا جداً، وهذا جائز فى الثاقفة التى نبع منها هذا المفهوم، أما ما خبرناه من واقعنا نحن، وبالنسبة لى: من خلال معايشة مأزق المرض النفسى فى واقعنا الخاص، فهو أن ثمة اختلافات ثقافية جذرية بإعادة النظر فى هذه المسألة.

قضية الحرية الغربية – كما ذكرنا – تتبلور معالمها نم خلال مقولات ظاهرة ومتكررة مثل “أزمة الهوية فى المراهقة” وحفز الاستقلال المبكر فى أوائل منتصف العمر، الاقتصار على العائلة النواة أو العائلة الصغيرة المغلقة الحدود،و التأكيد على تقدير الذات، والطلاق المتكرر، وحق الشذوذ واحترامه، وكلها قضايا ليست معيشة فى شرقنا الأدنى، أو الأقصى، بنفس الصورة.

فالاعتمادية على الكبير فى ثقافتنا (قبل التشوية الذى لحق بها فى العقود الثلاثة الأخيرة تقريباً) هى حق معلن لا نتهرب ولا نخجل منه، ورعاية الكبير للصغير (الصغير حتى سن الخمسين وأكثر) هى ممارسة طبيعية سلسة، وهذا وذاك يرتبط بغلبة ما يسمى “الأسرة الممتدة” التى لا تقتصر على الوالدين والإخوة، بل تمتد إلى الأعمام والخالات والأجداد والجدات، وأحياناً إلى الجيران، كل ذلك يجعل الاعتمادية أمراً وارداً، بل مشروعا، بل محبباً فى أحيان كثيرة، وأن “اللى مالوش كبير يشتريله كبير” فهل يتعارض ذلك مع ممارسة الحرية، وتكوين الهوية؟.

إن الصراع بين الأجيال كما صوره فرويد خاصة فى عقدة أوديب ليس حتماً جيلياً، ثم إن هذا الصراع لا ينتهى بانتصار الولد على الوالد، ولا بتقمص الولد لوالده، وإنما هو ينتهى (أو يحل) بتصالح بينهما، هذا ما قالت به مدرسة لاحقة هى مدرسة التحليل التفاعلاتى (إيريك بيرنTransactional Analysis ) التى اعتبرت أن تمثل الأب، ليصبح جزءاً لا يتجزاً مما أسمته (اليافع المتكاملIntegrated Adult ) هو فى النهاية الطيبة لمسار النمو، أى أن الفرد يصبح ناضجا حين يتصالح مع والده فى الخارج والداخل، لا حين ينتصر عليه، أو ينفصل عنه.

جدل إسماعيل / إبراهيم:

 ومن منطلق ثقافتنا نحن: أعرض ما أسميته جدل “إسماعيل – إبراهيم” (بديلاً عن عقدة أوديب، وأيضا عن تصالح تسوياتى مشبوه).

وهو جدل يبدأ بفرض يقول: إن العلاقة بين البشر فى الثقافة المؤمنة (أو حتى المتدينة) ليست علاقة مواجهة ثنائية ” أنا ↔ أنت”، بل هى علاقة من خلال عامل مشترك أعظم، هو الله (تحابا فى الله، اجتمعا عليه، وافترقا عليه .. إلخ)، وبالتالى تصبح مسائل مثل: حتمية التنافس، والتهديد بالهجر فالضياع، وثنائية الوجدانambivalence  تجاه الوالد ( = كره وحب الوالد – الأب أو الأم أو كليهما- فى نفس الوقت) تصبح كل تلك المسائل أقل أهمية وحدة: ععما يصورها ويعيشها العالم الغربى، وتصبح ممارسة الحرية ليست مرتبطة بالثقة فى هذا القاسم المشترك الذى يستظل بظله كل من يمارس علاقة مع “آخر”، وبتعبير آخر نقول: إن الاعتمادية الطبيعية والمعلنة تحت ومظلة أمان حرية التوحيد إن صح التعبير، وبالتالى فإنها تخلق حرية من نوع آخر، بعكس المتصور لأول وهلة من ضرورة التعارض بين الاعتمادية (على الكبير خاصة) من ناحية، وبين الحرية والاستقلال على الجانب الآخر.

ومثل هذه الاعتمادية توجد بوضح أيضاً – أو أصلاً – فى ديانات وايديولوجيات الشرق الأقصى، وخاصة الكنفوشيوسية، ولقد لفت انتباهى إلى مثل ذلك ما جاء فى مقدمة كتاب عن “تشريح الاعتمادية Anatomy of Dependency” حين ذكر مؤلفه : تاكيو دوا Take Doi (1978) اليابابى أن فكرة الكتاب جاءته بعد أن تعجب من مضيفه الأمريكى وهو يدعوه فى بيته “أن يساعد نفسه Help yourself”، وكيف أنه وجد ذلك مناقضاً لثقافته تماماً، ثم جاءته فكرة تأليف ذلك الكتاب، أقول: إن هذه الاعتمادية على الكبير، سواء كان الله – سبحانه – عندنا، أم التقاليد والأعراف فى جنوب شرق آسيا، لا تتعارض مع نوع أعمق من الحرية، وهى من المقومات الأساسية لتكوين الهوية الفردية من خلال قيم ثقافة مغايرة لقيم ثقافة الغرب، وهذا أمر لا يميزنا بالضرورة، لكنه يعلن اختلافاً يجب وضعه فى الاعتبار حيث لا نملك ولا نعيش نحن هنا ذلك السياق المتكامل الذى يمارسون فيه قيمهم، ويحققون من خلاله هويتهم.

ثم نعود بتفصيل أكثر إلى فرضية “جدل إسماعيل – إبراهيم” بديلا عن عقدة  فرويد.

أننا لو تعمقنا مغزى حكاية اضحية إسماعيل – إبراهيم، لوجدنا تمثل أقصى صور الطاعة حتى القبول بالذبح، إلا أن هذا التمادى فى الطاعة لم يكن إلا سعياً إلى ما يمكن أن يعتبر “إعادة الولادة” التى نستنتجها من معنى الفداء بالقربان الذى نزل له من السماء، فالاعتمادية فى هذا الرمز هى طاعة الصغير للكبير حتى قبول الموت ذبحاً، ولكن ليس باعتبار أن الكبير هو الأعرف والأقدر لمجرد أنه كبير، ولكن باعتباره الأقرب إلى الأكبر فالأكبر، فإسماعيل حين أطاع أباه إبراهيم لم يقل له “افعل ما ترى” أو ما تريد، وإلا فإن ذلك يصبح تشريعاً للاستسلام المهدد لتكوين الهوية أصلاً، وإنما قال له “أفعل ما تؤمر” وكأنه ما أطاعه إلا لأن إبراهيم بدروه إنما يطيع الحق الأكبر (إنى أرى فى المنام أنى أذبحك).

فالإنسان فى مجتمع كهذا إنما يحصل على حريته حين يختار التبعية والاعتمادية حتى نهايتها، بوعى كامل وإعلان بسيط وشجاع، فينعتق بالتوحيد أساساً وبالطاعة المشروطة، فمن الواضح أن شرط الطاعة هنا فى جدل إسماعيل – إبراهيم هو أن يكون الكبير ليس هو الأكبر، وإنما هو عبد مثله لمشترك أعظم.

أعرف جيداً ما يمكن أن يثار من اعتراضات وتحذيرات ورفض فى هذه المرحلة من تقديم هذا الفرض نتيجة لغلبة سوء استعمال فكرة الاحتماء بالمتشرك الأعظم، وخاصة إذا اختص الكبير باحتكار الحق فى تقديم تفسيرات متحيزة للنصوص المقدسة، إلا أن سوء الاستعمال وتدهور التدين لا ينبغى أن يكون حائلاً دون التفكير العلمى، ولا دون البحث عن المميزات الثقافية الحقيقية لماهيتنا حتى لو كانت قد صارت إلى عكس ما نستلهمه من أصولها. (ثم أنى لا أتكلم لا فى التفسير، ولا فى السياسة!!).

ويمكن أن نتابع هذا الفرض القائل بإمكانية الحصول على “هوية متميزة” من خلال “اعتمادية مختارة” فى ظل “قاسم مشترك ضامن” بأن ننظر فى بعض التراث الأدبى الذى اعتبره مصدراً أكثر مصداقية من كثير من الدراسات المنهجية، وهذه بعض الأمثلة:

أولاً: صورة الأب فى إبداعات نجيب محفوظ: وأشهر أب عند محفوظ هو “السيد أحمد عبد الجواد” فى الثلاثية، فنلاحظ أن حضوره الأبوى العملاق لم يمنع أولاده الثلاثة أن يشبوا متميزين جميعاً، لكل منهم هويته الخاصة، التى هى ليست أباهم، ثم إننا لا نجد أياً منهم صورة للآخر، على الرغم من أن الأب واحد، والاعتمادية عليه: ظاهرة أو خفية هى فى أوج تجليها، ولا واحد منهم يشبه أباه (بما فى ذلك ياسين)، ولا واحد منهم لم يعتمد على أبيه صراحة وضمناً، ولا واحد منهم ارتضى أ، يتوقف عند ماهية عادية رمادية، تعلم تسوية ماسخة تبهت معها هوية الأب والابن على حد سواء، بل إن كل أبناء “سى السيد” تميزوا، على اختلافهم فيما بينهم، تميزوا بما هو يميز كل واحد منهم عن الآخر، وعن أبيه، (ينطبق هذا أيضا على البنتين: عائشة وخديجة).

ثم نتابع الأب الإله عند محفوظ  سواء كان زعبلاوى، أو الجبلاوى أو الرحيمى، كل أب من هؤلاء: حضر أم غاب، كان يغرى ويعد بالكشف فى نفس الوقت، فالاعتمادية فى ثقافتنا هذه كما تبدت فى هذه الأمثلة ليست متعارضة لا مع الهوية، ولا هى معوقة لها. كما أنها ليست مانعة للإبداع الذاتى ومواصلة السعى لمزيد من الكشف والنمو، وحتى الصوفى الغامض الذى تكرر فى أدب محفوظ، كان يبدو بمثابة الوسيط بين الأب والإله وبين العبد الجائع إلى الاتباع، وكان يبدو دوره كأنه يفتح باب نوع جيد من التبعية، نوع رائق وإرادى وغير مشوه.

ثانياً: إذا انتقلنا إلى ديستويفسكى واجهتنا صورة الأب المباشر بطريقة مختلفة تماماً، ومع ذلك فثمة مكان للتعرف على نوع مقلوب من الاعتمادية فأغلب آباء وأجداد روايات ديستويفسكى فيهم قدر من الطفولة لا يخفى، بل إن أبناء وبنات روايات ديستويفسكى كانوا يقومون بدور الأأب فى كثير من لأحيان، من أول “نيتوشكا نزفانونا” حتى الفارس الصغير، ثم الطفلة “نللى” فى “مذلون مهانون” وكذلك “أليوشا” فى “كارامازوف” ومع ذلك فإن الاعتمادية هنا – على الابن – كان لها نفس الدلالة التى شرحناها لوظيفة الاعتمادية على الأب، فكلتاهما تؤكدان الاعتمادية التى نريد هنا الاعتراف بإيجابيتها، حيث لا تتعارض مع الحرية التى نزعم أنها فى شرقتنا إنما تنبع من قبول “الاعتمادية لتجاوزها” وليس من “أزمة الهوية” كما تظهر لديهم مقترنة بحتمية الصراع بين الطفل وأحد والديه أو لكليهما، وكذا بالسعى الحثيث إلى التبكير فى الاستقلال عنهما.

ثم إن لدينا أمثلة أخرى للاعتمادية، التى قد يمارسها المبدع (ليبدع)، وهو يعلنها، ويفخر بها، بغير أن تحول دون تميز هويته مبدعاً متفرداً، ونتذكر هنا دون تفصيل اعتمادية المتنبى على سيف الدولة  التى لم تعق إبداعه، ولم ترهق حركية توجهه، كذلك اعتمادية محمد عبد الوهاب على أحمد شوقى مما يحتاج إلى عودة.

وأخيراً فإن الاعتمادية المطلقة فى الإبداع الصوفى الحقيقى: إبداع الذات فى الكون (العبودية التوحيدية المولدة للحرية إن صح التعبير) يمكن أن تعتبر فصل الخطاب فى هذه المسألة.

ونخلص من هذا كله إلى بعض الافتراضات الجديرة بالنظر كما يلى:

إن إعلان الاعتمادية وقبولها حتى احتمال الموت (إسماعيل / إبراهيم) تحت مظلة التوحيد / التحريرى الحقيقى. خليق بان يفوت الفرصى على غش الاعتمادية الخفية بكل صورها المحورة والعكسية والتعويضية والمزاحة، فحرية “إسماعيل” بإعادة الولادة تتم فى سياق إيمانية تحريرية تجعل القاسم المشترك الأعظم شريكاً فى كل علاقة.

وبألفاظ أخرى: إن الشبع من الاعتمادية جهاراً نهاراً خليق بأن يفتح الباب للطرفين: الأكبر والأصغر أن ينتقلوا منها إلى ما بعدها، إذا يمكن أن ينال كل مهما ما شاء لتحقيق “هويته” تحت مظلة مشتركة، بدلاً من التحايل لمحو الهوية الخاصة المتميزة بتسويق سريع لهويات زائفة وسطحية ( مثل الوجبات السريعة).

كما أن مواجهة هذه الاعتمادية الصريحة، وإعلانها مرحلياً، ثم الجدل معها، كل ذلك خليق بأن يعفينا من اللجوء إلى ميكانزمات خفية مثل  التقمص بالمعتدى، أو الخف التشنجى، ونحن نستعير معالم قشرة هوية ليست لنا ولسنا لها، لا هى نحن، ولا هى تقليد جيد لما هم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *