الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الوفد / انتهى العمر الافتراضى، للحزب الوطنى

انتهى العمر الافتراضى، للحزب الوطنى

الوفد:20/12/2001

انتهى العمر الافتراضى، للحزب الوطنى

…. أتحسس وجهى، وأنا أشاهد الأخبار، فأشعر وكأن رذاذَ بصاق تصريحاتهم قد وصل إليه، تأكد لى ذلك بعد الفيتو الأمريكى الأخير. لا أمسحه بمنديل ورقىّ خشية أن يلتصق به ويفضحـنى. تصريحات مائعة أو كاذبة، وأشرطة أدلّة مزعمومة وملفقة، وبجاحة مُـذلة وجارحة. يتطايركل هذا فيثير فىّ الغثيان، والخزى، والفزع، جميعا.

هذه الحال السائدة الآن، إلا على من أنعم الله عليه بنعمة البلادة والتخلى، ليست فقط لأن شعبا عربيا مهدد بالإبادة مع الإذلال، ولا لأن الأطفال الأبرياء يموتون فى مدارسهم أو على أسرتهم، ولا لأن النساء تترمل، والجميع يجوعون، وإنما المصيبة الكبرى هى أننا نعيش فترة نرى فيها القانون وهو يحتضر. نشاهد العدل وهو يتشوّه ويزاح وتُـلصق لافتته على ضده، إنهم يغتالون المنطق البسيط الذى كنا نحكم به على الأمور.

مثلان صارخان يعلنان ما آل إليه إعدام المنطق وتلفيق التزوير : اتهام البطوطى رحمه الله – بالانتحار، وتلفيق شريط بن لا دن-خيبه الله-وخيّب أعداءه فى يوم أسود واحد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

ويا ليتهم رضوا

سئل أعرابى: ما أشد الأمور على النفس ؟ قال : وقوف الكريم بباب اللئىم ثم يرده. إن وقوفنا بأبوابهم نطلب المعونات ونسأل الرضا هو أمر مُذِلٌّ أصلا، قد يكون وقوفنا اضطرارا، “ماشى”. لكنه يظل مُذلا حتى لو أعطونا المعونات حبا وكرامة، حتى لو منحونا الرضا عفوا وتلطفا. فما بالك إذا وقفنا ببابهم وقدّمنا فروض الولاء والطاعة، ثم لم يعطونا شيئا. عرفات أغلق مقار الجهاد، وحماس، جميع المقار، أمر بالقبض على المئات، ماذا كان عليه أن يفعل أو يخون أكثر من ذلك؟ كيف يمكنه (أو لمخابرات أمريكا شخصيا) أن يحول دون شاب لم يستطع أن يواصل العيش ذليلا ففعلها مضحيا بحياته هنا أو هناك، وأخذ معه بعض هؤلاء الذين أذلّوا قومه، وبالُوا على دينه، وأسالوا دم ابنته، ومنعوه من الصلاة فى مسجده، وبصقوا فى وجه أمه، وانتهكوا حرمة أخواته؟

اتفقوا علينا

إن الفرقاء الذين كان اختلافهم لمصلحة الضعفاء،قد اتفقوا علينا أخيرا. هل يمكن أن يكون معنى ذلك أنهم على حق، وأننا نستأهل ؟ الاختيار المطروح علينا الآن – بكل أمانة – يقول (1) إما أن نقر ونعترف أنهم الرواد فعلا، وأن ما يمثلونه من نوع حياة ونوع حكم ونوع تخدير ونوع متعة ونوع علاقات: هو غاية ما يمكن أن يصل إليه الإنسان المعاصر، وبالتالى فإن دين، وأيديولوجيا، وحقوق إنسان الثنائى “دبليو ـ بلير” هو الحق الأوحد ولا شىء غير ذلك، وإما (2) أن نتحمّل، ونختلف، ونعمل طول الوقت، ونبدع، ونجرّب، ونخطئ، فنصحح، ونجرب، ونعبد، ونستلهم، حاملين مسئولية ضلالهم المفترِى، جنبا إلى جنب مع مسئولية تخلفنا وكسلنا وخيبتنا البليغة، حتى نجد – معهم أو بدونهم – حلا آخر.

نحن لا نفعل لا هذا ولا ذاك، تفاعل عامة الناس، رغم كل الصدق والألم، لا يبشر بخير. الغالبية اكتفت بأن تواصل ما اعتادت عليه. مع أنها هى التى تدفع الثمن، فراحت تمارس لعبة السب والشجب والندب والتشنج والفرجة والانسحاب (أغلب الانسحابات تجرى تحت شعارات دينية سطحية واعدة)، وقلة راحت تزيد من مكاسبها،ونفاقها، ووصوليتها، وتبريرارتها وزيفها،وتزييفها، من باب” “ما دام بعيدا عن مالى ومتعتى، خلاص”.

لمن يلجأ المقهورون ؟

كنّا زمان نحتمى بالاتحاد السوقيتى ضد أمريكا، ونحتمى بأيزنهاور ضد إيدن، ونحتمى بالله ضد الظلم فى كل مكان. كان ما يسمّى توازن القوى بين الناحيتين يطمئن “الغلابة” أمثالنا، كان الحياء (أو حتى الخوف) يلوح للممفترِى وهو يقدم على الظلم، كان ذلك يجعل أى معتد أو مستعمر أو ظالم يتردد قبل أن يفعلها. الآن لا فـرق بين بلير العمالى(!!!) المورد الخدين، والسيد دبليو المحافظ الرأسمالى المتعولم الذى يفكر بعضلات ساقيه وآلة دماره. لم يعد ثم فرق بين بوتن الروسى، ورئيس استراليا (لاأعرف اسمه). ما الحكاية ؟

علامَ اتفق الجميع – هكذا فجأة – علينا ؟ من نحن ؟ المسلمون ؟ العرب؟ العالم الثالث؟ الخدم؟ أولاد الجارية ؟ حتى لو كانوا قد اتفقوا علينا فنحن نستأهل ما جرى ويجرى بنا، نحن لا نفعل شيئا إلا أن نصرخ.

هيّا نحسن الظن

هل يمكن أن نحسن الظن قائلين: لعلهم اتفقوا أن يحضّرونا رغم أنفنا؟ إن كان الأمر كذلك فليكن، خير وبركة. ولكن أليس من حقنا أن نتساءل عن الطريقة التى سيحضّرونا بها، وعن الطريق الذى علينا أن نسلكه ونحن نضرب سلاما مربّعا تمام التمام ؟ ظاهر المنطق يقول: إنه ليس للمهزوم خيار، وبالتالى، فعلينا أن نقبل أن نتحضّر بالصورة التى يريدونها حرفيا، ما دمنا قد كُسِرنا وتراجعنا مفضوحين هكذا. لكنهم يحضروننا بأن يبيعونا سلاحا لا نستعمله، وبأن يضاعفوا أسعار الدواء مئات المرّات لناس لا يملكون ثمن الخبز لا الدواء الرخيص القديم (الذى سحبوه). ثم ما هو النموذج الذىن يريدون منا أن نكونه حتى يقبلونا أعضاء منتسبين (ليس لنا حق التصويت) فى نادى حضارتهم؟ يريدون منا أن نصبح مثل مَنْ ؟ مثل تركيا أم مثل يوغسلافيا سابقا ولاحقا ؟ مثل النيويوركيين أم مثل التايوانيين ؟ مثل المافيا أم مثل تجار السلاح والدواء والمجوهرات والمخدرات؟

…. وماذا عن مصر بالذات ؟

نحن فى مصر لسنا فى حالة حرب الآن،نحن لا نحارب الغرب، ولم نشترك – والحمد لله – فى التحالف الدولى مباشرة، نحن اكتفينا أن نؤيد ونستنكر، حالة كوننا فى استقرار ممتد، نحن فى أشد حالات الاستقرار، أعظم منتهى حالات الاستقرار، والاستقرار يشجع الشطار على الاستدانة فالاستمثار (هكذا ظـلوا يرددون طوال العشرين سنة الماضية)، ومع ذلك فأى واحد منا لا يقرأ حتى الصحف، يمكن أن يعرف ما آلت إليه أحوالنا الاقتصادية إذا دخل إلى أى “عمر أفندى” حتى مع تخفيضات العيد، يمكن لأى مواطن،بعد التغييرات الأخيرة، والبلبلة الأخيرة، والسعر المركزى الأخير، أن يدرك مباشرة كيف تتسارع الخطى نحو تفليسة زاحفة. صحيح أن الكارثة بدأت قبل تلك الأحداث الأخيرة، ولكن غطاء الستر لم يتطاير جدا بهذه الصورة إلا بعد المضاعفات الأخيرة. الجميع يتساءل: ماذا سوف يحدث لنا غدا؟ يبدو أننا نتقدم بعد كل هذا الاجتهاد ومزاعم الاستقرار ووعود الاستثمار إلى مصير لم يكن فى الحسبان، رغم أن علاماته كانت بادية منذ البداية، ورغم الخطوات الأولية الواعدة فعلا. هل لهذا علاقة مباشرة بما يجرى فى أفغانستان، وفلسطين، وبما جرى فى نيويورك وواشنطن؟ الإجابة عندى بمنطق بسيط “نعم” و “جدا”. إن هذه الأحداق قد سارعت بكشف اقتصادنا المتدهور، لكن يبدو أننا كنا سنصل إلى نفس الكارثة حتى لو لم تحدث هذه التسارعات العالمية.

حين تنكسرالنفوس، وتفرغ الجيوب، وتهرب الأموال، ويزيد الكذب، ويتبجح اللصوص، ويشرّع التزوير، ويتمادى النفاق، ويتأله الحكام، وتختل قواعد اللعبة السياسية حتى يصير كل شىء جائز، وكل شىء غير جائز، حين يحدث كل هذا فلا لوم على الحضارة الغربية ولا على الحضارة الشرقية.

الاقتصاد أهم علامات الطريق

كان المأمول، والواجب فى مصر (وكل مصر) أن نفيق مفزوعين من خلال أحداث فلسطين الممتدة، ثم أحداث نيويورك فأفغانستان الدالة، نفيق لنراجع حساباتنا جميعا، وليس فقط فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية أو التحالف الدولى ضد الإرهاب، إذا كان الرجل “عيبه جيبه” كما يقولون فى بلدنا، فإن الدولة عيبها اقتصادها. ما نحن فيه الآن يعلن أن فشل الدولة قد أُعــلِنَ فى أحرج وقت وأكثر المجالات دلالة (الاقتصاد!!).

الاقتصاد واقع لا يمكن إخفاء حقيقة أحواله طول الوقت، قد يمكن تأجيل إعلان الجارى لحكمة ذكية، أو بكذب خائب، لكن يبدو أن الأمورعندنا قد زادت وفاضت حتى أن الحكمة لم تعد تكفى، والكذب أصبح مفضوحا بحيث اضطر مقترفوه أن يعدلوا عنه. تحملنا احتمال خطأ التسرع بسلام منـفـرد (إن كان خطأ أصلا، أنا لا أظنه كذلك) فى سبيل التفرغ لبناء اقتصادنا، وناسنا، وحضارتنا، لكن يبدو أن الحـسبة لم تسر فى طريقها السوى. إن قراءة الجارى من خلال مؤشرات الاقتصاد من حيث قوة العملة، ورواج حركة البورصة، وحركية التجارة، وحجم الإنتاج الحقيقى، ومعدلات التصدير، كل ذلك يعلن أننا لا نتحرك فى الاتجاه السليم، ولا قريبا من الاتجاه السليم. إن موقفنا من السلام ومن فلسطين، ومن أفغانستان، بل ومن الإسلام الحقيقى ومن حكاية صراع الحضارات، وقبول الآخر، كل هذا لا يقاس بعيدا عن المسألة الاقتصادية كأساس تحتىّ لأى شىء، وكل شىء.

الحكومات العربية وحالة اللاحرب…!

إننا لا نملك رفاهية أن نتكلم عن السلام والحرب، دون أن نحسب قوة الاقتصاد وحقيقة الإنتاج. ليكن السلام هو الخيار الاستراتيجى !!!، ولكن ماذا عن التكتيك غير الاستراتيجى؟ ماذا عن الاستعداد لكل الاحتمالات؟ هل توجد لدينا حكومات عربية فعلا،حكومات لها رؤساء، ووزراء خارجية، ووزراء اقتصاد، ووزراء حربية (أو دفاع)؟ ما دورها الآن تحديدا؟ ما علاقة موقف إنفاقها على السلاح والإعلام المكرر المعاد على حساب الإنتاج والصحة والتعليم، ثم تكون النتيجة هذا الذى يجرى هكذا؟ ألم تشتر الحكومات العربية أسلحة بمليارات الدولارات فى العشرين سنة الأخيرة فقط؟ (بلغت مبيعات الأسلحة لدول الخليج فى العام الماضى فقط 60 مليار دولارا). ألم تتفاوض هذه الحكومات مع شركات السلاح المتنافسة بين فرنسا وإنجلترا وأمريكا بشأن من الأوْلى بتوريد أحدث الطائرات الفلانية المقاتلة، يوردونها للإمارات العربية، والممالك العربية، والجمهوريات العربية؟ لماذا كان هذا التفاوض يا ترى؟ لماذا تمّت هذه الصفقات؟ لماذا أُرسلت البعثات للتدريب على هذه الأسلحة الجديدة؟ أنا لا أدعو للحرب، ولاأريدها، ولا أتمنى أن تفرض علينا (لأن نتيجتها، ونحن هكذا، لا قدّر الله…. لن أقولها)، إنها ليست دعوة للحرب فعلا، لكنّه تساؤل من شخص متواضع الذكاء (أنا) لا يجيد الحديث فى السياسة، ولا فى الحرب، ولا فى الاقتصاد، لكنّه يحاول أن يتقن المواطنة.

همود الشارع وصمت الدولة

حين يختفى الشارع السياسى لتحل محله تجمعات عشوائية تجمعها مصالح سريعة عابرة ناقصة محبطة غالبا، حين يُستبعد الناس من المشاركة فى اتخاذ القرار، اللهم إلا بطقوس الموافقة فى مجلسى بطاقات التواصى، وتسهيلات الأعمال (رغم الأسماء الرسمية: مجلسى الشعب و الشورى )، حين لا يعرف شبابنا أين تقع رام الله، فى تونس أم فى فلسطين أم فى أفغانستان أم فى شمال العراق، حين يسود الغـش الجماعى كل مراحل التعليم، حين تصبح الجامعات مدارس لتحفيظ معلومات لا لزوم لها، حين يتراجع البحث العلمى ليصبح أرقاما وجداول تصلح أحيانا للنشر والترقى دون أى فائدة أخرى، حين يكون الأمركذلك يصبح الحديث عن الحرب الرسمية تهديد مباشر للنظم الحاكمة. خطورة خيار الحرب فى هذه الظروف، بعد هذه الهزائم المؤكدة، هى على هذه الحكومات الهشّة، إن الحرب تعرّى النظم التى لم تستعد لها. إذن فأبشر بطول سلامة يا شارون.

إعادة توزيع المصاريف

إذا كان الأمر كذلك، ولم يكن خيار الحرب مطروحا والحمد لله على كل حال، أليس الأولى أن توفر هذه الحكومات أموالها حتى لوصرفتها فى إعادة تأثيث المكاتب، إن التحفظ فى الدعوة للحرب لا يعنى الاستسلام لشروط الأقوى على طول الخط. أنا لا أريدها أن تخرب لنجلس على تلّها، لم يعد ينفع أن يقوم جيش مصر بكل العمل، لقد دفع ما عليه وزيادة، لم يعد واردا أن يدفع شعب مصر المدين المرهق كل التكاليف، لم يعد تنفع سلسلة من مؤتمرات القمة أو اجتماعات وزراء الخارجية، ولا ندوات المثقفين والتنويرين العرب، ولا أحلام المستقبليين العرب، والمتحررات العربيات. إن كل ذلك بلا إنتاج يدعمه، واقتصاد يسنده، وثقافة تبرره، لا يمكن إلا أن يفرز قرارات ليست أقل لزوجة ولااستفزازا من تصريحات السيد بوش والسيد بلير، وإن كانت أفتر اشتعالا.

ما أسهل التسليم والتعقل

ما أسهل التسليم للاستسلام تحت عناوين مختلفه، أنا لا أنكر أننى مع تمادى غطرسة القوة وفرض الظلم هكذا كدت أصبح “عاقلا” مثلى مثل غيرى، كدت أستسلم لجرعات متوازنة من السخط واليأس والفرجة. إن مسالك ومبررات الاستسلام بلا حصر، ما أسهل أن تكـتشف فجأة، بعد هذه الضربة العملاقة، أن الذى جرى هو فى مصلحتنا لأنه سوف يذل تلك الجماعات التى شوهت سمعتنا وسمعة الإسلام، وكادت تقلبنا إلى ماهو طالبان لكن الله سلّم. من هذا المنطلق يمكنك أن تتصور أن السيد دبليو بوش”هو أكتر واحد بيحبّّاك”، (مع الاعتذار لعمرو دياب). كذلك يمكن أن تكتشف أن ما تعرفه عن إسلامك، وعن إيمان قومك، وعن فجر الضميرحين بزغ فى وعى أجدادك قدماء المصريين، أن كل ذلك ليس كذلك تماما، أو أنه-على أحسن الفروض- تاريخ مضى وانقضى، ثم إن المطروح عليك بعد ذلك هو أن تذهب تتعلم الإسلام العولمى الجديد من المنتصرين الذين يكيلون له قصائد المديح الكاذب (والذى فى القلب فى القلب). كن مسلما فى مسجدك، أو فوق سجادة فى بيتك، واتبعنا فى كل ما عدا ذلك هذا هو معنى “قبول الآخر” !!وانْ كان عاجبك !!). ثم إنك يمكن أن تكتفى بالحرص على حياتك الخاصة جدا، المرفهة نوعا (إذا كنت من الأثرياء مثلى)، أو أن تصبر على فقرك وبطالتك وعدم أمانك، مكتفيا بالأمل فى الآخرة يوما ما(إن كنت كادحا مكبلا بالديون والهموم مثل كل الناس).

وما زال اليأس مرفوضا

بالرغم من كل ذلك، فإنى أتصوّر أن اليأس مرفوض مثلما كان دائما. و ليس من حق أحد منّا أن يستسلم له. صحيح أن ما أكتبه الآن لا قيمة له، وأنه لن يصل إلى أى مسئول بموضوعية مفيدة. صحيح أن الحكومة زوّدتها عدة حبّات (لا حبتين فقط)، وصحيح أن قوى العالم الذى يعلق لافتة المدنية موديل 2001 قد اجتمعت علينا، وصحيح أن أولى الأمر عندنا لم يعد لديهم إلا الشعارات والوعود، وصحيح أيضا أن الإسلام السياسى (بمعنى اقتناص سلطة أكبر لتحقيق مكاسب أخطر) ليس هو الحل، كماأن تهريب الأموال ليس هو الحل، والبكاء على ما فات ليس هو الحل، والمبالغة فى تصوير قوة إسرائيل و حلفائها تبريرا لمزيد من الاستسلام ليس هو الحل. وتعديل مناهج التعليم لتصبح أكثر بريقا وأتفه فاعلية وأسهل تغشيشا ليس هو الحل، والحديث عن ديمقراطية غير موجودة، وانتخابات ليس لها داع أصلا بهذه الصورة ليس هو الحل، والفرحة بأغلبية تدور حول 90% من أعضاء أعشار النيابية ليس هو الحل، واستعمال المعارضة لافتة “للتصوير الخارجى”ليس هو الحل.

إذن ماذا؟ أدعو الله أن أتمكن من تقديم بعض الأفكارفيما بعد، ولكننى أكتفى الآن بفكرة واحدة للحكومة.

نبدأ من الحكومة.

من فضـلـِك يا حضرة الحكومة، ربنا يخليكِ ويديم استقراركِ على خير، من فضلك صدّقينا أنه لا يوجد شىء عندنا اسمه الحزب الوطنى، انتهى عمره الافتراضى قبل أن يبدأ كما لا يوجد شىء اسمه الحياة النيابية، ولا يوجد شىء اسمه الرأى الآخر، إلا للزينة، ولا يوجد شىء اسمه المعارضة “بحق وحقيق”، إن كل ما عندنا هو عدد من الصحف، وكثير من المخلصين (مع وقف التنفيذ)، ثم رهط من المرتزقة، ودمتم. إن صلح ذلك فى الماضى، فهو لم يعد يصح الآن. إننى لا أنكر ما تم من إنجازات فى تدعيم البنية الأساسية المادية الحقيقية (مثل المجارى، ومترو الأنفاق، وكثير من الطرق والكبارى). تلك مرحلة، ونحن الآن فى مرحلة جديدة. إن كل شىء يحتاج إلى مراجعة بعد ما حدث على مستوى العالم، خاصّة وقد تواكب ذلك مع هذا الإعلان المنذر على المستوى المحلى، وهو إعلان عـمّا نمضى إليه بخطى حثيثة من كارثة اقتصادية غير مسبوقة. لقد تعرّى الوضع القائم بما تجاوز الاقتصاد إلى كل المجالات. إن هذه التعرية الشاملة قد كشفت حقائق كنا استسلمنا لها حتى اعتدناها من أول بقشيش عسكرى المرور، حتى مظاهر البحث العلمى الاغترابى إهدارا لطاقات العقول.

أول الإصلاح ـ يا حضرة الحكومة – هو أن نعترف بعدم وجود أحزاب سياسية أصلا، والبركة فى الحزب الوطنى ” الكومى” الذى يقش كل ما عداه، إنه لا يترك للمعارضة الفعلية أو الديكور إلا صحفا مجتهدة، وإخلاصا مجهضا. أمّـا تداول السلطة، وإبداع المعرفة، وحفز الإنتاج، ودراسة جدوى نشاط العقل المصرى، وحــقيقة توزيع المصاريف بين ما نشتريه لنضعه فى المخازن، أو ننفقه على إعلام متعملق لا يجد من يتابعه، وبين ما ننفقه لخدمة الإنتاج والإبداع. فهذه أمور ليست فى حسبانه، بل لعل الكلام فيها يجرح الحياء السياسى.

الاقتراح الآن هو إصدار قرار بحلّ هذا الشىء المسّمى “الحزب الوطنى”،دون إنشاء حزب حكومى جديد (لا حزب مصر، ولا حزب هيئة التحرير)، حتى لو اقتضى ذلك تشريعا جديدا. ربنا يخلّيكم (بحزب، وبدون حزب).

الحمد لله على كل حال.

أنـا لا أملك أن أسمح لليأس أن يقترب منى، إننى على يقين بقدوم الخير ولو بعد حين، لو لم تسمع الحكومة هذا الكلام الذى أعتقد أنه لصالحها، فإنها تكون قد اختارت مصيرها،وهذا يلزمنى أن أتوجه للناس، فأوجه دعوتى    للجميع، وأنا أولهم، أن يبدأ كل فى موقعه ولا ينتظر أى شىء من أى أحد إلا أن يرى الله عمله، ليصب فى ناسه، ثم نهب معا حين يتراكم الخير، وتتفر القدرة، فيصح الصحيح لا محالة لكل الناس. الحمد لله على كل حال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *