الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الوفد / ماذا بقى عند المصريين من شهامة وتضحية (حتى التهلكة)؟

ماذا بقى عند المصريين من شهامة وتضحية (حتى التهلكة)؟

نشرت فى الوفد

 23-12-2009

تعتعة الوفد

ماذا بقى عند المصريين من شهامة وتضحية (حتى التهلكة)؟

أحيانا، قبيل الفجر، أطالع عناوين الصحف على “النت” قبل أن تصلنى ورقية، بدءا بالأهرام، لم أجد اليوم فى الصفحة الأولى ما يشد انتباهى، فجميع العناوين – تقريبا- إما قديمة (مكررة- بايتة)، وإما رسمية، وإما تحصيل حاصل، ومع ذلك لم أستطع أن أكف عن هذه العادة ابدا، أنا قارئ صحف مزمن، عاصرت ولادة أخباراليوم وأنا بعد فى العاشرة (1944) ولم أكن أعرف قبل ذلك إلا الأهرام، الذى أكرمنى ورحب بقلمى دهرا، وربما لذلك ما زلت أتصفحه يوميا مرغما، برغم ما آل إليه، وبرغم تخلى معظم من أعرف عنه، اليوم كانت عناوين الصفحة الأولى كما هى كل يوم: مناقشات حول سياسات التعليم (انتهت برفض تسع استجوابات بسحب الثقة)، مبارك يلتقى اليوم بمجلس القضاء الأعلى، اتفاق غير ملزم لخفض الحرارة فى كوبنهاجن، الجمعية العامة تساند حقوق الشعب الفلسطينى بأغلبية ساحقة: (موافقة 176 ومعارضة 6 وامتناع 3:- إذن ماذا؟- !!)، مبارك يوجه كلمة غدا إلى معلمى مصر، ـ نظيف يبحث دعم مشروعات التنمية واستيراد اللحوم من أثيوبيا…،

حين وصلتنى النسخة الورقية قبل طلوع الشمس قرأت فى الصفحة الأولى خبرا صغيرا لم أصادفه فى النسخة الإلكترونية، (ربما لتفاهته!)، أرجوك أن تستحضر مداركك وذاكرتك البصرية لأن الخبر تجسد أمام عينى عند قراءته:

 تصور لو سمحت، بئرا للصرف الصحى يحتاج إلى تطهير، فى قرية مصرية جدا، إسمها جردو مركز إطسا، يذهب إليه ثلاثة مصريبن، عامل ومهنس وسائق، ينزل حمدى من السيارة يحمل أدوات االله أعلم بصلاحيتها أو تحديثها، ووراءه المهندس محمد، يعطيه تعليماته ويطمئن عليه، وربما رجع ليجلس فى المقعد المجاور للسائق ليمسك بمحموله يصبّح على خطيبته، أما السائق فلم يترك مقعده أصلا، بل مال على عجلة القيادة وأغفى، فهو لم ينم طول الليل، كان يقود ميكروباسا ليكمل مصاريفه (هل ما زلت معى بذاكرتك البصرية؟، تحمّـل المنظر لو سمحت وأنت تكمل):

 يتقدم العامل حمدى إلى البئر، وينزل بأدواته البالية، (هلا تحولتْ قراءتك الآن إلى تسجيل بالصوت والصورة): لا بد أنك – مثلى- سوف تسمع صوت الاستغاثة، وصوت الاستجابة لها، ووقع الأقدام الأربعة المهرولة نحو البئر، اثنين، فاثنين، ثم صوت السكون الذى خيم حول البئر (لانه لم يكن ثمة مارة آخرون، هكذا قرر خيالى).

 وإليكم نص الخبر، وهو محشور ببنط صغير بين الأخبار الأهم السالف ذكرها، بالإضافة إلى سطرين تحته هذا نصهما: “حبس مستشارين ورئيس قطاع بالشركة القابضة للمياه لتقاضيهم رشوة” (لاحظ: هى أيضا شركة مياه الشرب والصرف الصحى، لكن فى البحيرة).

الأهرام، الأحد، 20 ديسمبر، 2009

الفيوم- من أحمد طلعت: لقى مهندس وسائق وعامل من شركة مياه الشرب والصرف الصحى بالفيوم مصرعهم إثر سقوطهم فى بئر للصرف الصحى بقرية جردو مركز إطسا. وكان العامل حمدى شعبان يقوم بتطيهر البئر عنما سقط داخلها، فحاول المهندس محمد السيد جميل إنقاذه، لكنه سقط خلفه أيضا، وعندما شاهدهما السائق سيد عبد العظيم حاول إنقاذهما فسقط هو الأخر فى البئر، ولقى الثلاثة مصرعهم.

انتهى الخبر دون تعليق.

لن أدعوك لتجسيد المنظر من جديد، لأننى اشفق عليك أن يحدث لك ما حدث لى هذا الصباح، كما أفضل ان أخفى تساؤلاتى فى هذا المقال عن التقصير، وأدوات التطيهر البالية، وغياب مظلة التأمينات، فما لهذا كتبت المقال، ثم إننى انشغلت حيث حملنى خيالى إلى بيوتهم الواحد تلو الآخر، وحين قابلت أسرتى الأول فالثالث، فشلت أن أعلن اعتذارى لهم عن عجزى عن الحيلولة دون ما حدث، كما خجلت من النظر أطول فى وجه خطيبة المهندس الشاب.

ما لهذا أيضا كتبت المقال،

لقد كتبته لأذكر نفسى أن “هؤلاء هم المصريون”، أو هم أغلب المصريين، وليس أولئك الذين تسلخهم الأقلام، والفضائيات، والأرضيات، ودور النشر، ليل نهار، وهم لا يرون إلا سلبيات فى سلبيات، دون وعى مسئول بنبض الإنسانية والطيبة والشهامة والمغامرة والشرف الذى يملؤنا فردا فردا، كل هذا الذى شاع وساد مؤخرا وصفا للمصريين، هو قذف قبيح غير مسئول، فهو لا يتحدث إلا عن تدهور القيم، وغياب الشهامة، وتمادى العقوق، ونذالة الشباب المصرى خاصة..إلخ، هؤلاء الثلاثة – رحمهم الله– لا أظن أن أحدهم تجاوز الخامسة والثلاثين، لم يمتنع المهندس محمد السيد أن يلقى المحمول من يده ويقفز إلى صديقه العامل حمدى شعبان بمجرد أن سمع استغاثته، لم يكتف أن يمد له يده أو حبلا ويناديه أن يمسك به ليشده منه، نزل لتوه لينقذ حياة إنسان مصرى طيب صديق يكدح لأكل عيشه بما أعطوه من أدوات بدائية بالية، وحين اختفى المهندس الشاب وراء صديقه وزميله فى الشقاء وأكل العيش، أفاق السائق من غفوته ليقفز بدوره إليهما ةقد أصبح على يقين من مدى الخطر الذى ينتظره ما دامت “النداهة” الأحدث قد التهمتهما الواحد تلو الآخر، لم يعقه ذلك عن أن ينزل إليهما لفوره ليلتقى الثلاثة هناك تحت رحمة ربنا، ما دمنا لم نستطع أن نحميهم أو نرحمهم وهم معنا، ثم إننا لم نكتف بذلك، بل رحنا نلعن جيلهم، ونشجب أخلاقهم، ونتحسر على زماننا نحن الذى كان وكان….

أنا لا أنكر وجود سلبيات فى أخلاق بعضنا شبابا وشيوخا، وقد كانت موجودة دائما عبر التاريخ، كما أننى لا أقلل من ضرورة شجب الإهمال وفحص بدائية الأدوات، وغياب التأمينات، لكن ما لهذا كتبت اليوم ما كتبت.

إنما أنا كتبت ما كتبت، لأدعو أيا ممن ليس عنده إلا ما يعرف أو يتصور عن “ماذا حدث للمصريين” سلبا، أدعوه أن يتصور نفسه مكان أى من هؤلاء، لو استطاع، ثم يقول لنا ماذا تبقى عند المصرين من شهامة، وجمال، وتضحية حتى التهلكة، برغم كل معاناتهم، وما يلقون ليل نهار من الزمن والحكومة، ثم لا ينالهم إلا ما تحكون عنهم، عنا، من فوق مقاعدكم، ليس بالضرورة الوثيرة، تحكون عن ماذا حدث للمصريين، وأنت لا تحاولون التعرف على المصريين أصلا إلا من خلال إسقاطاتكم، أو مخاوفكم وتبريركم!!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *