الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الوفد / آمال الوزراء، وأمعاء الواقع

آمال الوزراء، وأمعاء الواقع

الوفد: 29/11/2001

آمال الوزراء، وأمعاء الواقع

هل آن الأوان لنكف عن هذا الاستدراج الذى انساقت إليه كل العقول، والمشاعر، وربما إرادة الفعل، بعيدا عن مصائبنا القومية، وظروفنا الحرجة، وإنذارات خطر الخراب القادم؟

 منذ ذلك اليوم الأسود الذى هو ليس أسود من أيام أخرى كثيرة ، والأقلام (والعقول، والوعي، والمشاعر) لا تكف عن متابعة ست الكل (أمريكا) والتعاطف مع ضحاياها الأبرياء جدا، (غير كل الأبرياء الآخرين) الذين راحوا نتيجة تهور مجهولين لم يجدوا أمامهم إلا أن يهدموا رموز المعبد عليهم وعلى أعدائهم.

ليس أسود الأيام

إن جماعة فرنسية راحت تنبّه على أن يوم الثلاثاء الأسود ليس هو أسود الأيام على كل حال، وأن عدد من مات فى نيويورك (وهو يتناقص كل يوم حتى بلغ رقما حول الأربعة آلاف لا السبعة) لا يقارن بما يقارب المليون من أطفال العراق الذين انتهوا نتيجة التجويع والتشريد، ثم لا أحد يعرف حقيقة من مات ومن سوف يموت من أطفال وشيوخ ونساء أفغانستان وفلسطين، ثم من يصيبه الدور بعدهما، فالعرض مستمر. الذين ماتوا فى نيويورك كانوا أولاد “أميرة الزمان” البيضاء  الشقراء الحرّة، أما أى قتيل فى أى مكان آخر فى العالم ، حتى لو قتل بتوصية من أو موافقة ست الكل “أميرة الزمان”، فلا شيء يهم ، فهم من أولاد الجارية.

 إن اليوم الأسود على البشر كافة ليس هو يوم فقدان بضعة آلاف من البشر البيض الممتازين، ولكنه يوم أن يموت القانون، يوم أن يتفق الأقوياء فيما  بينهم على تشريع الظلم، ووأد الحريات، وتزييف المبادئ باستعمال نفس الشعار الجميل لممارسة ضده تماما، أصبحت الديمقراطية هى حق قتل الأضعف، وحقوق الإنسان هى حق الرجل الأبيض الذى هو على دين السادة أصحاب الأمر والنهي، كما يصبح اليوم أزرقا، ومتنيلا بستين نيلة، حين يتحول مجلس الأمن إلى مجلس لأمن نيويورك دون بغداد أو رفح أو كندهار …، اليوم الأسود من الثلاثاء الأسود هو يوم يفقد المواطن العادى فى أى مكان فى العالم شعوره بأنه يعيش فى مجتمع بشرى له قواعد عامّة دفع فى سبيل إرسائها ملايين من الضحايا، وعشرات الآلاف من السنين، اليوم الأسود هو اليوم الذى يفقد فيه أغلب البشر وعيهم بما يحاك لهم بوسائل الإعلام العملاقة التى أصبحت لعبتها أن تبرمج وعى الناس لخدمة أصحاب المال والأعمال الظاهرة والخفية.

لا أريد، فى هذه الأيام المفترجة أن أقلبها غمّا صرفا، فالتفاؤل المسئول هو الجهاد الأكبرالقادر على اختراق الأسود والأزرق والكحلى وكل ألوان النيلة، لا أريد أن أنكّد على الناس ثقة بالحق تبارك وتعالي، واستلهاما من انتصارات هذا الكائن البشرى العنيد على كل الكوارث التى حاقت به وهددت بقاءه، سواء كانت كوارث الطبيعة من زلازل وأعاصير، أم كوارث صنعها غباؤه التدميرى بالعدوان والتخريب والإبادة.

عيد ماذا ونحن فى هذا ؟

أكرر الاستشهاد بتوجيهات شيخى الجليل نجيب محفوظ حتى أخجل، ذلك أننى أبدو لنفسى وكأننى “أتمحّك” فيه، وأتباهى باقترابى منه بهذا القدر، إنه شرف حقيقى أن أكون كذلك، شريطة ألا أُقوّله ما لم يقل، ثم إننى أشعر أنه واجب قومى أن أنقل عن هذا الرجل الذى سيتم بإذن الله عامه التسعين بعد أقل من أسبوعين، وهو يعيش آلام هذا الشعب لحظة بلحظة، وهو يحمل همّ التغيير، وهم الغد، وهم الجوعي، وهم الضياع، ومصير الجهلاء، واغتراب المدّعين، يحمل كل ذلك على كاهله شخصيا بنفس الحماس والانتماء والمسئولية  التى حمّلها نفسه طوال تسعة عقود، وما زال يحملها أكثر من أى شاب يملك كل أدوات القول وما تيسّر من فرص الفعل. أتحمّل الشك فى نيتى وأنا أستشهد به، وأشرُف بذلك يعلم الله، وأدعو له بطول العمر وهو يرفض أن نحتفل، أو حتى أن نشير إلى عيد ميلاده التسعين  (11 ديسمبر).  عيد ماذا ونحن فى هذا؟ هذا رأيه. إن هذا الذى أكتبه هو مُسْتَـثَار ببعض فضل صحبته، وفائدته للناس، إن وجدت، ترجع إليه، وهذا بعض ما يرضيه فى عيد ميلاده.

وجّهـنى  شيخى محفوظ  يوم الخميس الماضى  وأنا أقرأ عليه نهاية مقالى فى الوفد فى نفس اليوم، وأختتمه بقولي: …. “المطلوب -كى ننتصر، نحن الناس- أن ننتبه  حتى لا يجرُّونا إلى معارك لم نخترها، أو يزعمون النصر فى معركة لم توجد أصلا.”…قال يا أخى : ما دمتَ ترى أن ديمقراطيتهم ليست ديمقراطية، ما رأيك أن تحاول أن تقول لنا كيف نجعل الديقراطية كذلك، ما دمتَ ترى أن ميزان العدل قد مال لصالح الأقوى ولا تقول لنا البديل فمعهم حق أن يحتجوا عليك ويتساءلون بعد كل مقال “مالبديل”.، سألته بدورى  إن كان عنده هو بديل، قال: إن البديل هو الواقع، ننظر فيه ونصححه، نلغى حق الفيتو من مجلس الأمن، وتعود للأمم المتحدة كلمتها، فإذا حالوا دون ذلك، فعندنا واقعنا ، نبدأ به، ونصلح ما يمكن فيه.

دعوة كريمة، وظروف قاهرة

فوجئت أننى أتذكر واقعا ألح على فى نفس اليوم، ظهر الخميس، كانت قد وصلتنى  دعوة كريمة، ربما فرصة لأختبر مدى جديتى فى الإسهام فى تحسين الواقع كما يوصينى شيخي، ذلك أننى عند وصولى إلى عيادتى ظهيرة ذلك اليوم أبلغنى رجلى أن مكتب معالى وزير التربية والتعليم قد اتصل بي، وأنا أُرعب من اتصال أى مسئول لأى سبب، من أول الباشجاويش “حظّـابِط النوبتجي” فى “نقطة” بلدنا، حتى أى شخص يدخل فى تصنيف وظيفته لفظ “نيابة”، حتى لو كنت أنا المدّعى لا المتهم، مرورا بعساكر المرور (زمان) والحارس الخصوصى لأى شخص خصوصى (الآن). أعترف بذلك كله، ولا أعرف مصدره أصلا، فأنا لم أذق ما ذاقه بعض الشرفاء منا الذين سبق أن تفاهمت معهم السلطات بما تيسر وما لم يتيسر، أنا فلاح  ناصح (لئين) أسير بجوار المسموح به. لم أتعرّض لأى زائر ليل أو نهار فى أى يوم من تاريخي. حتى أيام أن كنا نتدرب – إخواناً-  فى صحراء العباسية على حرب العصابات سنة 1951 استعدادا للمشاركة فى طرد الإنجليز بعد أن ألغى النحاس باشا المعاهدة،  يبدو أن أحدهم سجّل اسمى طالبا فى كلية الطب، ثم حين اختلف الإخوان مع الثورة، قبضوا على أخى بدلا منى لمجرد أنه كان يسمّى بين زملائه “الشيخ محمد” سخرية من صولاته وجولاته مع الزميلات الجميلات، كان هو فى كلية طب عين شمس، وأنا فى طب القاهرة، وهو أكبر منى بعامين، ولقبه الساخر هو “الشيخ”، فلا بد أنه هو الإخوانى الذى كان يتدرب، فكانت النتيجة أنهم  استضافوه بصفته “الشيخ” بضعة أيام  بدلا مني،  ولم أعرف أننى كنت المقصود إلا بعد مدّة .

المهم، وصلنى خبر الاتصال من مكتب من معالى وزير التربية والتعليم، أ.د. حسين كامل بهاء الدين، وهو زميل قديم، ومجتهد عظيم، وإذا به -شخصيا- يدعونى متفضلا للمشاركة فى ندوة من سلسلة اللقاءات التحضيرية للمؤتمر القومى لتطوير التعليم الثانوى والتى ستعقد فى 26/11/2001، وقد حاولت أن أعتذر، وأن أبيّن أننى قد أقول كلاما لا أحد يريد أن يسمعه، وإذا به يؤكد أنه لهذا دعاني، وأنه ينتظر من أى من الحضور رأيه الحقيقي، وأنه يسر لذلك  ويضعه فى الاعتبار، قلت خيرا، ووعدت بما يمكن، ثم تفضّل سيادته فأرسل لى صورة لما حدث فى اللقاء الثامن عشر (5/11/2001) كعينة من مثل هذه الندوات، لأحيط بما يجري، وأستطيع أن أتابع،  وأيضا صورة من تقارير أخرى منها “توصيات لجنة المناهج”، و”لجنة التربية الخلقية”، و”تطوير نظم التعليم فى ضوء ثقافة الإبداع”، وكلام عن التقويم المستمر الأفضل من التقويم مرّة واحدة….وغيرذلك  كثير. وقد وجدت بين المشتركين فى هذه الندوات أسماء لرواد وأساتذة  أعتز بمجرد أننى أنتمى إلى الوطن الذى ينتمون إليه،  وأفرح أننى حظيت يوما بلقائهم، حتى أننى أنتهز فرصة هزال أستاذنا د. حامد عمّار، فأشد يده وأنا أسلّم عليه حتى أقبلها حقيقة لا مجازا، كما وجدت بينهم ذلك  العقل الثائر المثابر أ.د.مراد وهبة. حقيقة الأمر أننى فرحت أن يستعين سيادة الوزير بكل هؤلاء، وفرحت أكثر أن يستجيب كل هؤلاء دون عوائق من التى تحول دونى والإسهام بما تيسّر، إذن فالأمر جد، والأمل قائم.

كما أن معالى الوزير قد أرسل لى أيضا مع هذه المجموعة من التقارير والمشاريع ذلك الكتيب الذى أصدرته وزارة التربية والتعليم عـمّا تم خلال عشرين عاما فى مسيرة تطوير التعليم.

فرصة للمراجعة أو التراجع

ثم طرأت على ظروف خارجة عن إرادتى حالت دون أن أشارك شخصيا فى هذه الندوة، فحمدت الله حتى أحتفظ بالأمل بعد أن أصبحت أشك فى أى مؤتمر لا أعرف آليات متابعة ما نتفق عليه فيه، كما أننى لم أعد  أثق فى أى ندوة  تخرج بوعود مستحيلة ، تستقيها من أرقام مشبوهة.  حمدت الله وأرسلت اعتذارى عن عدم الحضور وأنا خجلان من كرم الوزير وثقته. ثم رحت أكتب مقالى هذا قبل سفرى الاضطراري، فقلت أراجع بعض ما سبق كتابته فى موضوعه مما قد يكون قد وصل إلى معالى الوزير، وبالرغم من نقدى اللاذع فقد دعاني، إذن فلا بد أنه  جاد ومستمع جيد ، ويذلك يزيد  فضله عندي. وجدت أننى كتبت كلاما صعبا، وحقيقيا فى نفس الوقت، فرُحت أتساءل هل أنا أخطأت إلى هذا الحد، أم أن الوزارة والندوات ومشاريع التعديل فى واد، وما يجرى على أرض الواقع فى واد آخر. ثم  زاد همّى حتى شككت  فى نفسى حين رحت أتصفّح كتيب مسيرة التعليم فى عشرين عاما، وهو كتاب مصقول الورق جدا، فاخر الطباعة جدا جدا (لست أدرى لماذا؟)، تتصدره الآية الكريمة “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم..” كثر استعمال هذه الآية الكريمة فى غير موضعها لكن لعلها هنا فى موضعها إن شاء الله.. فالله سبحانه يرى هذا وذاك.

الكتاب رائع العناوين ، والأرقام برّاقة ولا يمكن الطعن فيها(لا أعرف طريقةً لذلك، ولا محكمة النقض، فلا بد أن مثل هذه الأرقام قد أصبحت سيدة قرارها هى الأخري). لكن يبدو أنه مسموح الشك فى دلالاتها من أى واحد عنده ابن أو بنت فى مدرسة. ثم إن  أى واحد يعمل عملا يجعله يباشر تقييم ناتج هذه الأرقام بعد التخرج من حقه أن يشك أيضا، حتى لو لم تكن عنده آلية تأتى بأرقام حقيقية (عكسية) ، ثم إنى وجدت أن بعض العناوين تصلح – بحق – أن تتجمع فى قصيدة شعر جيدة. نقرأ معا مثلا ” التعليم للتميّز، والتميّز للجميع”- من المسئولية التنفيذية إلى المسئولية الاجتماعية- من المسئولية الفردية إلى المشاركة فى اتخاذ القرار- من ديمقراطية التعليم إلى التعليم من أجل الديمقراطية (أى والله) المجتمعات المنتجة للمعرفة- الاستثمار الأمثل للسنوات الذهبية للطفولة المبكرة.  أنا ليس عندى أى اعتراض على هذه العناوين طبعا، ولا أحد يمكن أن يستنتج ما جاء تحت العنوان ، أو أن يحدد ما إذا كان عنوانٌ ما يحوى تحته ما تفيده ألفاظه أم العكس. كما أنه ليس هناك مجال لمناقشة ما جاء فى هذا الكتيب التوثيقى والحالم فى آن. لكن المفارقة الخطيرة لمن يقرأه تأتى من مقارنة  بعض ما جاء به بما يجرى فى أمعاء واقع مجتمعنا المتلبكة. .

مقتطفان من الوفد

قلت أرجع إلى ما سبق أن أثبتُّـُه فى هذه الصحيفة الغراء حول بعض موضوع التعليم، كان ذلك  قبل هذه الدعوة الكريمة بزمان، رحت أفعل ذلك لعلى أختشى على عرضي، وأرجع فى كلامي. وهذا بعض ذلك:

من  مقال “أين نهرب بأولادنا من الكذب اليومي” (26 مارس 2001) ” …..ليست الأزمة الاقتصادية هى ما يهدد مجتمعنا بالانهيار، ولا  حتى غباء إسرائيل الغاشم أو غطرستها العمياء. إنه الغش، وهو أخطر أنواع الكذب، وقد شاع منه عندنا نوع سريع الانتشار، مبَرَّر بأسباب تدعمه، وقدوة تشرِّّعه، حتى  أصبح أقرب إلى الفضيلة. إنه “الغش القومي”[ وضربت أمثلة للغش الجماعى فى الامتحانات]

 القيادة السياسية التنفيذية تمدّنا بالبيانات الغامضة، والأرقام الملتبسة. تخابثا، أو عجزا.

لقد دخل الغش فى عمق تركيبنا الواعى وغير الواعي. نحن نمارسه دون أن تهتز فينا شعره. إننا نغش وكأننا نتجشأ. بل إن منا من يفخر به، ومنّا من يخجل من عجزه عنه.

من  مقال ” من أين نبدأ” (أول نوفمبر 2001)

إن مقدار التصريحات التى تذاع ليل نهار، وخداع الأرقام التى يلوحون لنا بها، هى أبعد ما تكون عن الحقيقة على الأرض، ………إن كتابا يصدر عن التعليم فى مصر خلال عشرين عاما، لا يعلن فيه ما آل إليه  مستوى المتعلمين، كما يتجاهل الإشارة إلى دلالة الكارثة التى سادت فى هذه المدة ، وهي: الغش الفردى والجماعى طول مراحل التعليم،…إلخ

اكتفيت بذلك وأنا أقول لنفسى أن على أن أراجع ما سبق أن ورّطنى فيه غضبى وحماسي، أحاول أن أنسى ما وصلنى ويصلنى من ممارستى مهنتي، ومن مستوى  أحفادي، ومن معارفي، ومن طلبتى فى الجامعة ، ومن تخلفنا المعرفى والحضاري، ومن اغترابنا الثقافي، ومن تدهورنا الفني، ومما تنقله ابنتى المتخصصة فى علم نفس التربية والطفولة، تنقله لى من شكاوى أهل أطفال الابتدائى من ثقل وإغارة وأخطاء مناهج الدراسة، أحاول أن أتراجع وأن أنسى ما أبلغنى به ابنى عمّـا كان يدرسه أولاده فى نيوزيلاندة فى السنة التى أقامها هناك، مقارنة بما يدرسونه هنا، أحاول كل ذلك وأنا أتذكر رحابة صدر معالى الوزير، ومصقول أوراق كتيب التعليم هذا، ولا أستطيع التراجع عما سبق أن أشرت إليه .

قياسات الواقع

كنت قديما وأنا أمارس مهنتى أقدّر ذكاء المترددين علي، ليس باختبارات الذكاء،  وإنما بتقديراتهم فى الشهادات العامة، باعتبار أنها شهادات تعمّ القطر، والتصحيح فيها شبه مركزي، فمصداقيتها دالة على مستوى الطالب، وليس أفضل من مجموعه فى هذه الشهادات لتقييم قدرته التحصيلية ، ومن ثم مستوى ذكائه تقريبا. ثم لاحظت مؤخرا أن هذا الأسلوب لم يعد ينفع، فثم مريض يحكى لى أنه حصل على 75 % مثلا فى الابتدائية وهو لا يجيد القراءة والكتابة إلا بالكاد، وآخر حصل على الإعدادية فى سن 14 سنة بمجموع 65% (لم يرسب ولا سنة، بل قفز سنة) وهو لا يحفظ جدول الضرب. من كثرة ما تكرر هذا التباين بين التقدير المدرسى (حتى فى الشهادات العامة) وبين حقيقة ما أرى أمام  عينى أثناء الفحص الإكلينيكى ، رحت أضيف بعد سماع النسبة المئوية للمجموع، أضيف سؤالا يقول “هذا المجموع”  “بغش أم بدون غش”، والعجيب أننى قلتها فى البداية وأنا متردد وكأنى أمزح، إلا أن الإجابات جاءت جادة وصادقة فى أغلب الأحيان، ومن أمثلة هذه الإجابات، من الطالب أو من أحد والديه، “بغش طبعا يا دكتور”، “سعادتك عارف”. “طبعا زينا زى غيرنا”، ” بالغش والحمد لله “، “البركة فى حضرة الناظر هو مقدر ظروف الولد”، ” يا سعادة البيه الدكتور ، دا جوز خالته فى مجلس الشعب والكل زى ما حضرتك راسي”، يقولون كل هذا الصدق بأمانة ، لا يكذبون ، ولكنهم فى نفس الوقت لا يخجلون من عملية الغش نفسها.

حتى لا يعود غضبى يشوّش الأمل الذى وصلنى من الدعوة الكريمة، حاولت أن أتجنّب مقارنة ما جاء بالأوراق وبالكتيّب بتلك التصريحات السنوية التى تشارك الصحافة فى إثارتها وهى تنتقد – بغير وجه حق – صعوبة امتحان مادة كذا، أو تعلن بتهييج غريب ثورة الأهل على مستوى مادة كيت، فينبرى المسئولون يقسمون بأغلظ الأيمان أن الامتحان من داخل المقرر حرفيا، وأنهم يحبون الطلبة جدا، وليس أمامهم هدف إلا التخفيف عنهم. لم أقارن أيا من ذلك بأى من هذا، وقلت أنا غلطان ، ولا أفهم ، وأستأهل ….

رجعت أقلّب فى الأوراق التى وصلتنى من سيادة الوزير ومن بينها “لجنة التربية الخلقية” ، ومن بين عناوينها الفرعية “منظومة التربية الخلقية المتكاملة”. لم أستبشر خيرا من العنوان الفخم، رحت أشفق على أولادنا من التناقض والتمزق الذى قد يصل إليهم  وهم يرون ما يمارَس على أرض الواقع، بالمقارنة بما سوف يحفظونه عن تعريف الفضيلة كما سيرد فى مقرر مادة الأخلاق إنْ هم أقرّوها لتحسين الأخلاق.

أحلام فترة النقاهة

تقول لى يا شيخنا الجليل ، أطال الله عمرك، نبدأ من الواقع، هذا هو الواقع،  وأنت تعرف ما نحن فيه ، ولا تتردد فى تذكيرنا به ، لكنك لا تتركنا دون أمل.

فى حلمك رقم (31) من أحلام فترة النقاهة  قلتَ -يا شيخي- للمرأة التى تحيط بها الكلاب من كل جانب “إننى جئت للسلام لا للحرب،”..إلى أن قلت: “..وأفكر فى الدخول مع الكلاب فى معركة حياة  أوموت،”  ثم سرعان ما نبّـهتَنا وأنت تنتبه أنه ” ولكن يتغلب الأمل،  فأنتظر”.

 أنت  تنتظر  يا شيخنا هكذا مع أنك تدرك حقيقة ما نحن فيه كما جاء فى حلمك (حلم 33) فى حوار يقول فيه مخاطبك ” ستثبت لك الأيام أننا لسنا أسوأ من غيرنا”، فـتـتـساءل “….وهل يوجد ما هو أسوأ”، ومع ذلك تنتظر، وتوصينا بالصبر الجميل، الذى أوصاك به المعلم صاحب العمارة (حلم 41) وأنت تقول له “إنه الأمل الأخير”، فيقول لك بلهجة مشجعة  “عليك بالصبر الجميل “.

كيف أوصّل لوزيرنا الفاضل المرهق  المسئول، الذى أحسن الثفة بى رغم كل هذا،  أن ما يصله ليس هو ما ينبغى أن يصله (هذا على أحسن الفروض)،

 كيف أوصل لأعلى سلطة أننا لن ننتصر، ولن نتقدم، ولن نبدع، ولن نتحضر،  إذا حلّت الأرقام محل الواقع، وحلت الندوات محل تحسين حال المدرس من كل ناحية، (ماديا وخلقيا ودينيا)، وحلّت الوعود محل الفعل موضع الاختبار.

أحمد الله أن سفرى حال دون حضورى  هذه الندوة حتى أظل محتفظا بالأمل، كما أشكر- مرة أخرى – معالى الوزيرالأستاذ الدكتور الذى ساعدنى ألا أُستدرج أكثر فأكثر للحديث عن تلك المهزلة الأرضية التى تجرى على أرض أفغانستان.

هكذا  تنبهتُ إلى أننا إنما نفعل بأنفسنا أكثر مما يفعل الأمريكان  بالأفغان.

اللهم إنى صائم.، عذرا رمضان .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *